الموضوع: الأصول
العمليّة / شرائط
جريان الأصول العملية
نظيف شيئاً جديداً إلى ما
تقدّم في
الدرس السابق، وهو يمكن أن يكون اعتراضاً على ما ذُكر أخيراً، وحاصله أنّه قد
يقال: أنّ أدلة الحجّية ما يُستفاد منها هو حجّية خبر الثقة في الواقع، بمعنى أنّ
الحجّية المستفادة من أدلة الحجّية ليست مقيّدة بأي شيءٍ حتى بالوصول، فضلاً عن أن
تكون في معرض الوصول، فالحجّية ثابتة للإمارة الواقعية، إذا كان الشخص ثقة فخبره
حجّة من دون أن تكون الحجّية الثابتة له مقيّدة بالوصول أو بكونها في معرض الوصول
بحيث أنّها إذا لم تكن في معرض الوصول لا تكون حجّة، أو إذا لم تصل إلى المكلّف لا
تكون حجّة، الحجّية تثبت لنفس الإمارة الواقعية. والوجه في ذلك هو أنّه لا إشكال
في أنّ نكتة الحجّية الثابتة لخبر الثقة هي عبارة عن كاشفية خبر الثقة عن الواقع
بدرجةٍ معيّنة من الكاشفية، من الواضح جداً أنّ الكاشفية مرتبطة فقط بكون المخبر
ثقة، عندما يكون المخبر عادلاً ثقة؛ حينئذٍ يكون لإخباره درجة معينة من الكاشفية
عن الواقع، في قبال خبر الفاسق غير الثقة؛ حينئذٍ تمام هذه النكتة ترتبط فقط وفقط
بكون المخبر ثقة في حديثه ضابطاً في نقله، وأمّا وصول خبره، أو كون خبره في معرض
الوصول هذا ليس له دخل في الكاشفية، يعني هل يمكن أن نصدق أنّ خبر الثقة إذا وصل
إلى المكلّف يكون كاشفاً عن الواقع بالدرجة المعينة التي لاحظها الشارع، وإذا لم
يصل إلى المكلّف لا يكون كاشفاً ؟! إذا كان في معرض الوصول تكون له تلك الدرجة من
الكشف، أمّا إذا لم يكن في معرض الوصول لا تكون له تلك الدرجة من الكشف ! هذا شيءٌ
لا يصدق، بمعنى أنّ تمام النكتة في الحجّية هي الكاشفية، والكاشفية ليست منوطة
بالوصول ولا بكون الإمارة في معرض الوصول، وإنّما هي منوطة بأن يكون المخبر ثقة
عادلاً ضابطاً في نقله، متى ما تحققت هذه الأمور يكون خبره كاشفاً، يعني تكون فيه
تلك الدرجة من الكاشفية عن الواقع التي لاحظها الشارع عندما جعل الحجّية لتلك
الإمارة وهي خبر الثقة، فلا معنى لأن نقيّد الحجّية الثابتة لخبر الثقة بكون الخبر
في معرض الوصول بحيث أنّ الخبر إذا لم يكن في معرض الوصول لا يكون حجّة، أو نقيّد
حجّية تلك الإمارة المنوطة بالكاشفية بكون الإمارة في معرض الوصول بحيث إذا لم تكن
في معرض الوصول لا تكون حجّة، هذا شيء لا يمكن التسليم به؛ بل الظاهر هو ما قلناه
من أنّ الحجّية ثابتة لخبر الثقة الواقعي وللإمارة الواقعية، سواء وصلت إلى
المكلّف أو لم تصل، وسواء كانت في معرض الوصول أو لم تكن في معرض الوصول. هذا هو
الظاهر من الأدلّة.
بناءً على هذا؛ حينئذٍ
سوف تنعكس النتيجة، بمعنى أنّ التمسّك بأدلّة البراءة حينئذٍ لا يكون جائزاً في
كلتا الصورتين ــــــــ بقطع النظر عن الأمور الأخرى التي سنذكرها ــــــــ قبل الفحص
وبعد الفحص، حتى بعد الفحص ما دام هناك احتمال بوجود إمارة معتبرة على الخلاف لا
يجوز التمسّك بدليل البراءة؛ لأنّه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ وذلك لأنّ
المفروض أنّ أدلّة البراءة مقيدة بعدم قيام إمارة معتبرة على خلاف أدلّة البراءة،
وبناءً على ما ذكرناه أخيراً الإمارة تكون معتبرة بوجودها الواقعي، وصلت أو لم
تصل، كانت في معرض الوصول، أو لم تكن في معرض الوصول، ما دام المكلّف يحتمل وجود
إمارة معتبرة واقعية على الخلاف لا يجوز له التمسّك بدليل البراءة؛ لأنّ التمسّك
بدليل البراءة هو تمسك بالعام في الشبهة المصداقية له؛ لأنّ دليل البراءة مقيد
ومخصص بقيام إمارة معتبرة على الخلاف، فإذا شك المكلّف بنحو الشبهة المصداقية في
هذا المخصِص، هناك إمارة واقعية على الخلاف، أو لا ؟ لا يجوز له التمسّك بدليل
البراءة؛ لأنّه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية. هذا المطلب من دون فرقٍ بين أن
يكون ذلك قبل الفحص أو بعد الفحص. أمّا قبل الفحص، فواضح، المكلّف قبل الفحص يحتمل
قطعاً وجود إمارة واقعية على الخلاف، فإذا احتمل والمفروض أنّ دليل البراءة مقيد
بعدمه، فإذا احتمل هذا وشك في وجود إمارة بنحو الشبهة المصداقية يكون التمسك بالدليل
تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وهو غير جائز. هذا قبل الفحص.
أمّا بعد الفحص،فنقول نفس الكلام، فيما إذا فرضنا أنّ فحص المكلف
ورجوعه إلى مظان وجود تلك الإمارة على الخلاف، وعدم عثوره على تلك الإمارة قد
نفترض في بعض الأحيان أنّه يوجب زوال حالة الشك بأن يحصل عند المكلّف اطمئنان بعدم
وجود إمارة حتى في الواقع على الخلاف، إذا حصل عنده اطمئنان أو علم بعدم الإمارة،
فلا إشكال في أنّه يجوز له الرجوع إلى أدلّة البراءة؛ لأنّه يحرز موضوع دليل
البراءة الذي هو الشك وعدم وجود إمارة على الخلاف، والمفروض أنّه علم بعدم وجود
إمارة على الخلاف نتيجة الفحص وعدم العثور على إمارة من هذا القبيل. هذا ليس محل
كلامنا، كلامنا فيما إذا فحص ولم يعثر على إمارة معتبرة على الخلاف وبقي محتملاً
لوجود إمارة في الواقع، لنفترض أنّه بقي يحتمل وجود إمارة واقعية على الخلاف، هذا
كيف يجوز له التمسّك بدليل البراءة ؟ التمسك بدليل البراءة بالنسبة إليه كالتمسّك
به في حالة ما قبل الفحص هو تمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ لأنّ المفروض أنّ
دليل البراءة مقيد بعدم قيام إمارة واقعية معتبرة على الخلاف، والمفروض أنّه يحتمل
وجود إمارة واقعية معتبرة على الخلاف، فما دام يحتمل ذلك ويشك في ذلك بنحو الشبهة
المصداقية لا يجوز له التمسك بالعام؛ لأنّه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية وهو
غير جائز، فلا فرق حينئذٍ ــــــ بناءً على هذا الكلام ـــــــ بين ما قبل الفحص
وبين ما بعد الفحص، هذا بقطع النظر عن الأمور الأخرى.
ومن هنا يظهر أنّ
هذا الوجه الخامس الذي ذُكر لإثبات قصور المقتضي ومنع إطلاق الأدلة الشرعية على
البراءة لحالة ما قبل الفحص، هذا الوجه بالصيغة الأولية له التي عُرض فيها هذا
الوجه ـــــــ إذا آمنا بأصل الوجه ــــــــ هذا ينتج التفصيل بين ما قبل الفحص
وبين ما بعد الفحص، فلا يجوز التمسك بالبراءة قبل الفحص؛ لأنّه تمسك بالعام في
الشبهة المصداقية، ويجوز بعد الفحص. هذا التقريب الأوّلي لهذا الوجه مبني على
مسألة أنّ الحجّية تثبت للإمارة التي هي في معرض الوصول، قبل الفحص الإمارة في
معرض الوصول موجودة فهي حجّة، فإذا شك فيها يكون التمسك بالعام تمسّكاً بالعام في
الشبهة المصداقية، بعد الفحص وعدم العثور على إمارة، إذن لا توجد إمارة في معرض
الوصول؛ لأنّه لو كانت موجودة لعثر عليها؛ لأنّه فحص في مظان وجودها، فإذن لا توجد
إمارة في معرض الوصول، يعني لا توجد إمارة على الخلاف معتبرة، فهو يحرز عدم وجود
إمارة معتبرة على الخلاف، فيجوز له التمسّك بدليل البراءة ولا يكون التمسك به من
باب التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. هذا التقريب الأوّلي للوجه.
بناءً على ما ذكرناه أولاً وهو
أن يقال أنّ الحجّية لا تثبت للحجّية التي هي في معرض الوصول، وإنّما هي تختص بالإمارة
الواصلة، ما ذكرناه أولاً ينتج عدم التفصيل بين ما قبل الفحص وبين ما بعد الفحص،
بمعنى أنّه تجري البراءة في كلٍ منهما، وذلك لعدم وصول الإمارة في كلٍ منهما،
الإمارة المعتبرة هي الإمارة الواصلة، والمكلّف في كلتا الحالتين لم تصله الإمارة،
صحيح أنّه في الحالة الثانية لم تصله الإمارة لأنّه ترك الفحص، لكن بالنتيجة لم
تصله الإمارة، والمفروض على هذا الوجه أنّ الإمارة الحجّة هي الإمارة الواصلة إلى
المكلّف، والمكلّف لم تصله الإمارة، إذن هو يحرز عدم وجود إمارة معتبرة على
الخلاف، فلا مانع حينئذٍ من التمسك بدليل البراءة لإثبات البراءة قبل الفحص وبعد
الفحص. هذا الوجه الذي ذكرناه في الدرس السابق.
الوجه الذي ذكرناه اليوم
أيضاً يقتضي عدم التفصيل بين الحالتين لكن مع منع جريان دليل البراءة في كلٍ
منهما؛ لأنّ الذي ذكرناه هو أنّ الحجّية تثبت لخبر الثقة الواقعي، إذا كان المخبر
ثقة ضابطاً، فخبره حجّة من دون أن تكون هذه الحجّية مقيدة لا بالوصول ولا بكونها في
معرض الوصول، المكلّف في كلتا الحالتين يحتمل وجود خبر ثقة في الواقع على الخلاف،
قبل الفحص ويمكن أيضاً فرض الاحتمال بعد الفحص، وفي كلتا الحالتين حينئذٍ إذا
احتمل وجود إمارة حجّة معتبرة على الخلاف بنحو الشبهة المصداقية لا يجوز له التمسك
بدليل البراءة؛ لأنّه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ لأنّ دليل البراءة مقيد
بعدم وجود إمارة معتبرة على الخلاف بوجودها الواقعي، المكلّف قبل الفحص يحتمل وجود
مثل هذه الإمارة ويشك في وجودها بنحو الشبهة المصداقية، وأيضاً يحتمل ويشك في
وجودها بعد الفحص، أو لنفترض أنّه يحتمل وجودها، فيكون التمسك بالعام غير جائز،
فلا يجوز التمسك بأدلة البراءة. إذن: البراءة لا تجري في كلتا الصورتين.
قد يقال: هل
يمكن الالتزام أساساً بأن نقول أنّ أدلة البراءة لا تشمل لا حالة ما قبل الفحص ولا
حالة ما بعد الفحص ؟ إلا يلزم من هذا بقاء أدلة البراءة بلا مورد ؟! لأنّ المكلّف
في الشبهة لا يخلو إمّا أن يفحص، أو لا يفحص، إذا لم يفحص يقال له أنّ أدلّة
البراءة غير شاملة لك، يعني لا يجوز لك التمسك بأدلّة البراءة؛ لأنّه تمسك بالعام في
الشبهة المصداقية، وإذا فحص ولم يعثر أيضاً نقول له لا يجوز لك التمسك بأدلّة
البراءة. إذن: من الذي يجوز له التمسّك بأدلّة البراءة لكي نثبت البراءة ؟ في أي
شبهةٍ من الشبهات الحكمية يمكن التمسك بالبراءة ؟
يمكن أن يقال:
في مقام دفع هذا الإشكال، في حالة ما بعد الفحص وعدم العثور على إمارة على الخلاف،
حالة زوال احتمال وجود إمارة على الخلاف ليست حالة نادرة، بمعنى أنّ افتراض أنّ
المكلّف بعد أن يفحص في مظان وجود الإمارة على الخلاف ولا يعثر على الإمارة على
الخلاف على الأقل إذا لم يحصل له علم يحصل له اطمئنان بعدم وجود إمارة على الخلاف.
هذه الحالة ليست حالة نادرة بحيث لا تقع إلا نادراً؛ بل قد تقع، المكلّف إذا يفحص
في مظان وجود الإمارة، وخصوصاً هذه الأيام بعد أن ترتبت وتنظمت الأدلة وأمكن
الوصول إليها، إذا يفحص المكلّف فحصاً كاملاً في مظان وجودها قد يصح أن أقول عادة
يحصل له اطمئنان ووثوق بعدم وجود إمارة على الخلاف، في هذه الحالة الغير النادرة
يمكن التمسك بأدلّة البراءة. وحينئذٍ لا تكون بلا مورد. هذا كلّه نقوله بقطع النظر
عمّا سيأتي .
الصحيح،
حتى بناءً على ما ذُكر أخيراً من أنّ الحجّية ثابتة لخبر الثقة الواقعي والإمارة
الواقعية، هو أننا لا نصل إلى النتيجة التي تقول يمنع التمسك بالبراءة في كلتا
الحالتين؛ وذلك لما سيأتي من أننا في المقام يمكننا أن نحرز موضوع البراءة
بالاستصحاب، ما دمنا شاكين في وجود إمارة معتبرة على الخلاف؛ يمكننا حينئذٍ أن
ننفي وجود هذه الإمارة المحتملة على الخلاف تعبّداً بالاستصحاب، وإذا أجرينا
الاستصحاب بأنّه هل هناك إمارة معتبرة على الخلاف ؟ لا إشكال أنّ هذه الإمارة
مسبوقة بالعدم، فنستصحب عدم وجود إمارة من هذا القبيل، فالاستصحاب يعبّدنا بعدم
وجود إمارة معتبرة على الخلاف، وبهذا نحرز موضوع أدلّة البراءة بضم الوجدان إلى
التعبّد، موضوع أدلّة البراءة هو الشك وعدم العلم زائداً عدم وجود إمارة معتبرة
على الخلاف، الشك وعدم العلم محرز بالوجدان، وعدم قيام إمارة معتبرة على الخلاف نحرزه
بالاستصحاب، فإذا أحرزنا موضوع البراءة ولو بضم التعبّد إلى الوجدان؛ فحينئذٍ يمكن
التمسّك بأدلّة البراءة. وهل نفرّق حينئذٍ بين ما قبل الفحص وبين ما بعد الفحص ؟
كلا، حتّى قبل الفحص يمكن التمسك بالاستصحاب لإحراز موضوع دليل البراءة كما هو
الحال في كثير من الشبه التي يكون العام مقيداً بقيد وجوديٍ مسبوقٍ بالعدم، هناك
يقال نفس الكلام، (يجب عليك إكرام العلماء إلاّ الفاسقين)، هنا إذا شككنا في فسق
أحدهم لا يجوز التمسك بالعام؛ لأنّه تمسك بالعام في شبهة مصداقية، لكن ذكروا أنّ
هذا إذا لم يكن هناك استصحاب يجري يحرز لنا عدم الفسق، وهنا يمكن أن يجري
الاستصحاب؛ لأنّ الفسق حالة مسبوقة بالعدم، فإذا شككنا في تحققها في ضمن هذا الفرد
من العام يمكن استصحاب عدمها، فنقول هذا عالم وليس فاسقاً، وبضم الاستصحاب إلى
الوجدان؛ حينئذٍ نحرز موضوع الحكم بوجوب الإكرام، فيمكن التمسك بدليل(يجب إكرام
العالم). هذا لا مشكلة فيه، وإنما يقال بأنّه لا يجوز الرجوع إلى العام؛ لأنّه تمسك
بالعام في الشبهة المصداقية حيث لا يكون هناك ما يحرز لنا عدم وجود هذا المخصص،
نفس الكلام يطبّق في المقام، لدينا عام وهو أدلّة البراءة، وهي مقيّدة بعدم وجود
إمارة معتبرة على الخلاف، فإذا أمكن إجراء الاستصحاب لنفي وجود إمارة معتبرة على
الخلاف، باعتبار أنّ المكلف شاك في ذلك؛ حينئذٍ يمكن إحراز موضوع البراءة وموضوع أدلّة
البراءة بضم الوجدان إلى التعبّد، وبذلك لا نصل إلى هذه المشكلة التي هي أنّه في
كلتا الحالتين لا تجري البراءة؛ بل نقول أنّه بمقتضى ما ذكرناه في كلٍ منهما تجري
البراءة بمعونة الاستصحاب، كما تجري بعد الفحص كذلك يمكن أن تجري قبل الفحص.