الموضوع: الأصول
العمليّة / شرائط
جريان الأصول العملية
كان الكلام في الوجه الخامس من
وجوه منع الإطلاق في أدلة البراءة الشرعية لحالة ما قبل الفحص، وقلنا أنّه قد
اعترض على هذا الوجه وذكرنا الجواب على هذا الاعتراض في الدرس السابق.
في الحقيقة لابد من التوقف عند
جواب هذا الاعتراض، بمعنى أنّ الكلام يقع في أنّ الإمارة إذا كانت في معرض الوصول،
وبعبارة أكثر دقة: الإمارة غير الواصلة إلى المكلّف، وإنّما هي فقط في معرض
الوصول، هل تشملها أدلة الحجّية، أو لا ؟
من الواضح أنّ
هذا الوجه مبني على افتراض شمول أدلة حجّية الإمارة للإمارة التي هي في معرض
الوصول، وأمّا إذا أنكرنا ذلك، وقلنا بأنّ الإمارة التي في معرض الوصول ما لم تصل
إلى المكلّف لا تشملها أدلة الحجّية، وإنّما أدلة الحجّية يستفاد منها حجّية
الإمارة الواصلة بالفعل إلى المكلّف ولا يُستفاد منها حجّية الإمارة في معرض
الوصول من دون أن تكون واصلة إلى المكلّف. إذا قلنا بهذا؛ حينئذٍ أصل هذا الوجه لا
يكون تامّاً؛ لأنّ المفروض في محل كلامنا قبل الفحص وبعد الفحص عدم وصول الإمارة
إلى المكلّف بالفعل، صحيح أنّ عدم وصول الإمارة له هو بسبب تركه الفحص، لكن
بالنتيجة لم تصل إليه الإمارة، وهذا معناه أنّ مثل هذه الإمارة ما دامت غير واصلة
إليه لا تكون معتبرة؛ لأننا نتكلّم بناءً على أنّ أدلة الحجّية لا تشمل إلاّ
الإمارة الواصلة إلى المكلّف بالفعل، وقبل الفحص الإمارة غير واصلة إلى المكلّف،
فإذن: لا تكون معتبرة، وهذا معناه أنّ أدلة البراءة ليست مقيدة بعدمها، لما قلناه
من أنّ أدلة البراءة مقيدة بعدم قيام إمارة معتبرة على الخلاف، والإمارة التي
يحتملها المكلّف قبل الفحص ليست معتبرة، ولا تشملها أدلة الحجّية، وإنّما أدلة
الحجّية تشمل الإمارة الواصلة بالفعل، وما يحتمله المكلّف قبل الفحص إمارة غير
واصلة، وإن كانت في معرض الوصول، فهي ليست معتبرة، فإذا لم تكن معتبرة لا تكون أدلة
البراءة مقيّدة بعدمها، وبالتالي لا يكون الشك فيها داخلاً في مسألة التمسك بالعام
في الشبهة المصداقية للمخصص، نظير ما ذكرناه في مقام التفرقة بين ما قبل الفحص وما
بعد الفحص؛ لأنّه بناءً على أنّ الحجّية تختص بخصوص الإمارة الواصلة؛ حينئذٍ لا
فرق بين ما قبل الفحص وبين ما بعد الفحص، في كلٍ منهما الإمارة المعتبرة لا تكون
حجّة، والإمارة المحتملة لا تكون معتبرة؛ لأنّ اعتبار الإمارة منوط بالوصول، وفي
كلٍ منهما لا وصول للإمارة. صحيح أنّ عدم الوصول بعد الفحص هو لا بتقصير من
المكلّف؛ لأنّه فحص ولم يعثر، وعدم الوصول قبل الفحص بسبب تركه للفحص، لكن هذا لا
يعني أنّ الإمارة التي تكون غير واصلة تكون حجّة؛ لأنّ المفروض أنّ أدلة الحجّية
لا تشمل غير الإمارة الواصلة إلى المكلّف، والإمارة غير واصلة إلى المكلّف في كلا
الموردين، فلا تكون أدلة البراءة مقيدة بعدمها، وبالتالي لا يمكن إدخال الشك فيها
في مسألة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص.
إذن: أصل الوجه
والجواب عن الاعتراض الذي أورد عليه يبتنيان على القول بأنّ أدلة حجّية الإمارة
تشمل الإمارة التي في معرض الوصول وإن لم تكن واصلة بالفعل. إذا قلنا بهذا؛
فحينئذٍ يتم هذا الجواب والاعتراض عليه مدفوع بما ذُكر من أنّ هناك فرقٌ بين ما
قبل الفحص وما بعد الفحص؛ لأنّ الإمارة قبل الفحص في معرض الوصول، فتكون معتبرة، فأدلة
البراءة مقيّدة بعدمها؛ وحينئذٍ يدخل الشك فيها في مسألة التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية للمخصص. أمّا بعد الفحص وعدم العثور عليها، فالإمارة ليست في معرض
الوصول، فلا تكون معتبرة، وأدلة البراءة ليست مقيدة بعدمها؛ وحينئذٍ لا يدخل
المقام في باب الشك في الشبهة المصداقية للمخصص، فيتم الفرق بينهما. أمّا إذا
أنكرنا هذا وقلنا أنّ الحجّية ثابتة للإمارة الواصلة؛ فحينئذٍ لا فرق بين
المقامين، فكما يمكن إجراء البراءة بعد الفحص، لا مانع من إجرائها قبل الفحص. (نحن
نتكلّم في حدود ما نتكلّم عنه بقطع النظر عن الموانع والأدلة الأخرى). فالمسألة
مبتنية على تحقيق أنّ أدلة الحجّية للإمارة هل تشمل الإمارة التي هي في معرض
الوصول، أو لا تشملها، وإنّما تختص بخصوص الإمارة الواصلة بالفعل ؟
قد يقال بالثاني، يعني
تختص بخصوص الإمارة الواصلة بالفعل ولا تشمل الإمارة التي في معرض الوصول، وذلك
باعتبار أنّه في قضية من هذا القبيل، عندما يُطرح هذا السؤال: أنّ الأدلة تشمل هذه
الحالة، أو لا ؟ أدلة الحجّية كخبر الثقة ـــــــ مثلاً ـــــــ هل تشمل الإمارة
التي هي في معرض الوصول، أو لا ؟ لكي نعرف ذلك لابدّ أن نراجع هذه الأدلة، إذا
رجعنا إلى أدلة الحجّية سنجد أنّ أدلة الحجّية هي عبارة عن بناء العقلاء أو ارتكاز
العقلاء، وإمّا أدلة لفظية تدل على حجّية خبر الثقة، وقد تمّ جملة من الأدلة
اللّفظية، إذا رجعنا إلى هذه الأدلة سنجد أنّه لا يوجد فيها إطلاق يشمل حالة ما
قبل وصول الإمارة، القدر المتيقن منها هو ما إذا وصلت الإمارة إلى المكلّف، الأدلة
تدل على حجّية هذه الإمارة الواصلة، وليس فيها إطلاق يشمل حالة ما قبل الوصول حتى
إذا كانت في معرض الوصول، مثلاً: آية النبأ ــــــ إذا قبلنا الاستدلال بها على
حجّية خبر العادل والثقة ــــــ يُستدل بمفهومها، ومنطوقها هو(إن جاءكم فاسق بنبأ،
فتبيّنوا) ومفهومها هو(إن جاءكم عادل بنبأ، فلا تتبينوا)، فإذا تم الاستدلال بها،
من الواضح أنّ هذا مقيد بالوصول، (لا يجب التبيّن) الذي ينتزع منه عنوان الحجّية
لخبر العادل إنّما يكون حجّة إذا جاءكم عادل بنبأ، ومن الواضح أنّ المقصود به هو
الخبر الواصل الذي يجيء به العادل إلينا، وهذا يعني الوصول، فالدليل يدل على
الحجّية للخبر الواصل الينا، وليس فيه دلالة على ما هو أكثر من ذلك، أي على الخبر
حتى إذا لم يجئ به العادل. والأدلة اللّفظية الأخرى هي أيضاً من هذا القبيل(فما
أديّا إليك عني، فعني يؤديان) الذي هو من أهم أدلة حجّية خبر الثقة، فجملة(فعني
يؤديان) التي يُفهم منها جعل الحجّية لما أدّيا عنه موضوعها هو(ما أدّيا إليك عنه)
وهذا يساوق الوصول، فالحجّية مجعولة للخبر الذي أداه ناقله إليك، أي للخبر الواصل،
ولا نفهم منها أكثر من هذا، أي أنّه حتى إذا لم يؤديا إليك تكون الأدلة دالة على
حجّية ذلك الخبر الذي يرويه هذا العادل أو الثقة، فهذه الأدلة ليس فيها إطلاق
لإثبات الحجّية لما قبل الوصول.
أمّا بناء العقلاء،
فيمكن أن يُبيّن عدم الإطلاق باعتبار أنّ الارتكاز العقلائي هو دليل لبّي وليس
دليلاً لفظياً، فمع الشك يُقتصر فيه على القدر المتيقن، والمتيقن منه هو ما إذا
وصلت الإمارة إلى المكلّف بالفعل، أكثر من هذا لا نستطيع أن نثبت الحجّية به
استناداً إلى هذا الدليل اللّبّي.
وبعبارةٍ أخرى: أنّ
المفروض في محل كلامنا أننا نشك أنّ أدلة الحجّية هل تشمل الإمارة التي في معرض
الوصول، أو لا ؟، وإلاّ لما وقع هذا الكلام، ومن جهة أخرى لا إشكال في أنّ بناء
العقلاء هو دليل لبّي، والقاعدة في مثل ذلك مع الشك وكون الدليل لبّي هي أن يُقتصر
فقط على القدر المتيقن، والمتيقن هو ما إذا وصلت الإمارة إلى المكلّف، فلا يمكن أن
نثبت ببناء العقلاء حجّية ما هو أكثر من ذلك، فيُقتصر على هذا المقدار.
بناءً على هذا تختص أدلة
الحجّية بالإمارة الواصلة، ولا تشمل الإمارة الغير واصلة حتى إذا كانت في معرض
الوصول، وبناءً عليه، فأدلة البراءة التي هي مقيدة بعدم قيام الإمارة المعتبرة على
الخلاف، أدلة البراءة موضوعها محرز في المقام قبل الفحص؛ لأنّه لا توجد إمارة
معتبرة؛ لأنّ الإمارة غير واصلة إلى المكلّف، والمفروض أنّ اعتبار الإمارة متقوّم
بالوصول، وقبل الفحص لا يوجد وصول. إذن: ما يحتمله هو إمارة غير معتبرة، فيستطيع
المكلّف أن يقول: لم تقم الإمارة المعتبرة على خلاف البراءة؛ لأنّه لم تصله إمارة
على الخلاف حتى تكون معتبرة، فموضوع البراءة يكون محرزاً قبل الفحص؛ وحينئذٍ لا
مانع من جريان البراءة قبل الفحص.
نعم، هناك
شيء آخر يجب الالتفات إليه وهو أنّه لا إشكال في أنّه يجب الرجوع إلى الثقات
والأخذ منهم، قبل وصول الإمارة إلى المكلّف يجب عليه أن يتصدّى لمعرفة أخبار
الثقات وأن يرجع إليهم ويأخذ منهم، لكنّ وجوب الرجوع إليهم قبل الوصول ـــــــ
بناءً على القول بأنّ الإمارة المعتبرة هي الإمارة الواصلة بالفعل ــــــ فقد
يُشكل بأنّه إذا كانت الإمارة الحجّة هي الإمارة الواصلة، فهل يجب عليه أن يرجع
إلى أخبار الثقة قبل الوصول ويأخذ من الثقات ؟ نقول نعم قد يقال بأنّه يجب عليه أن
يرجع إلى الثقات ويأخذ منهم، لكن هذا لا يعني أنّ الخبر غير الواصل، أو الذي في
معرض الوصول حجّة حتى يكون منافياً للاحتمال الثاني الذي بيّنّاه الآن، هذا مبني
على أنّ المكلّف قد يتنجز عليه الواقع كما في موارد العلم الإجمالي بحيث لا يجوز
له المخالفة، أو أن تكون الشبهة قبل الفحص، أيضاً يتنجز الواقع على المكلّف، عندما
يتنجّز الواقع على المكلف يُطالَب بتحصيل المؤمّن من الواقع الذي تنجّز عليه،
العقل حينئذٍ يُلزم هذا المكلّف بأن يأخذ من الثقة ويفحص عن أخبار الثقات لكي يحصل
على المؤمّن من الواقع الذي تنجّز عليه، سواء تنجّز عليه بالعلم الإجمالي، أو
تنجّز عليه الشك قبل الفحص، فيجب عليه الرجوع إلى الثقات والأخذ منهم، فإذا أخذ
منهم؛ حينئذٍ حصل على المؤمن وكان ما أخذه منهم حجّة؛ حينئذٍ يكون هذا حجّة بعد
وصوله لا أنّه يكون حجّة قبل الوصول، لكن هذا لا يُعفي المكلّف عن أن يفتش عن
مؤمّن من ناحية الواقع الذي تنجّز عليه بالعلم الإجمالي أو بالشك قبل الفحص. واقع
تنجّز عليه وهو مسئول تجاهه، ويؤاخَذ إذا لم يحصل على مؤمّن عندما يريد أن يخالف
هذا الواقع المنجّز عليه؛ فحينئذٍ يُلزم بأن يفحص عن المؤمّن، ويفحص عن أخبار
الثقات لعلّ فيها ما يكون مؤمّناً له إذا لم يرد أن يحتاط، فإذا فحص ورجع إلى
الثقات وعثر على خبر ثقة مؤمّن؛ حينئذٍ يكون هذا حجّة بعد الوصول ويكون مؤمّناً،
وبهذا يتخلّص مما تنجّز عليه سابقاً عن طريق العثور على المؤمّن. هذا لا يعني
حجّية خبر الثقة قبل الوصول، وإنّما يعني أنّ هناك واقعاً تنجّز على المكلّف
والمكلّف بحكم العقل ملزم بأن يحصل على مؤمّن تجاه هذا الواقع الذي تنجّز عليه،
فيجب عليه الرجوع إلى الثقات، يجب عليه الفحص حتى يحصل على مؤمن حجّة بعد وصوله،
وهذا كما هو واضح لا يلازم القول بأنّ الخبر قبل الوصول، أو كونه في معرض الوصول
يكفي لإثبات حجّيته وشمول أدلة الحجّية له نظير العلم الإجمالي، ففي باب العلم الإجمالي
يتنجّز الواقع على المكلّف، فإذا لم يُرِد المكلّف أن يحتاط؛ فحينئذٍ يجب أن يحصل
على مؤمّن .