الموضوع: الأصول
العمليّة / شرائط
جريان الأصول العملية
الكلام يقع في الشرط الأوّل من
شروط جريان البراءة: في الدرس السابق بيّنا أنّ هذا الاشتراط قد يُبيّن بوجهين،
الوجه الأول: أن يُبيّن اعتبار قصور المقتضي. الوجه الثاني: أن يُبيّن باعتبار
وجود المانع. ولازال الكلام في الوجه الأول، أي في قصور المقتضي.
فُسّر هذا الوجه في
بعض الكلمات بأنّ اختصاص أدلة البراءة الشرعية بما بعد الفحص وعدم شمولها لصورة ما
قبل الفحص، منشأه هو أنّ قبح العقاب بلا بيان فيه جانبان: جانب إيجابي مُعبّر عنه
بمعذورية الجاهل بعد الفحص، وفيه جانب سلبي وهو عدم معذورية الجاهل قبل الفحص،
كأنّه يُدّعي أنّه كما أنّ معذورية الجاهل بعد الفحص أمر ارتكازي عند العقلاء، عدم
معذورية الجاهل قبل الفحص أيضاً هو أمر ارتكازي عند العقلاء، يعني أنّ العقلاء في
مرتكزاتهم يرون الجاهل معذوراً بعد الفحص ولا يرونه معذوراً قبل الفحص، والجانب
السلبي هو الذي يكون موجباً لاختصاص أدلة البراءة بما بعد الفحص، باعتبار أنّ
الارتكاز قائم على عدم المعذورية قبل الفحص، وهذا الجانب السلبي ـــــــــ عدم
المعذورية قبل الفحص ـــــــــ هو الذي يكون موجباً لمنع شمول أدلة البراءة لما
قبل الفحص، فيُحمل لا محالة على ما بعد الفحص ويختص بما بعد الفحص ولا يشمل صورة
ما قبل الفحص.
لكن الظاهر أنّ
هذا التفسير ليس هو المقصود بالوجه الأول؛ لأنّ وجود ارتكاز على معذورية الجاهل
بعد الفحص لا يلازم بالضرورة وجود ارتكاز على عدم المعذورية قبل الفحص، الشيء
المسلّم هو أنّ نقول في صورة ما بعد الفحص، إذا فحص المكلّف ولم يعثر على تكليف من
قبل المولى هناك ارتكاز قائم على معذورية الجاهل بعد الفحص، لكن هل هذا يعني وجود
ارتكاز على عدم المعذورية في صورة ما قبل الفحص ؟ هذا يحتاج إلى إثبات، فالشيء
الذي يُسلّم به هو عد وجود ارتكاز على المعذورية قبل الفحص، لكن ليس هناك ملازمة
بين عدم وجود ارتكاز على المعذورية قبل الفحص، وبين وجود ارتكاز على عدم المعذورية
قبل الفحص حتى يكون هذا الارتكاز على عدم المعذورية قبل الفحص هو الموجب لتخصيص أدلة
البراءة بصورة ما بعد الفحص، ومانع من شمولها لصورة ما قبل الفحص.
لكن هذا ليس مهماً؛ لأنّ
العقل يحكم بعدم المعذورية في صورة ما قبل الفحص، فحتى لو فرضنا عدم وجود ارتكاز
على عدم المعذورية قبل الفحص، المهم أنّ هذه القاعدة ممّا يحكم به العقل، فالعقل
يحكم بوجوب الاحتياط قبل الفحص وعدم جريان البراءة قبل الفحص. هذا الحكم العقلي هل
يصلح أن يكون مانعاً من شمول دليل البراءة لصورة ما قبل الفحص ؟ هل يصلح أن يكون
موجباً لتقييد دليل البراءة الشرعي بصورة ما بعد الفحص ؟ الظاهر أنّه لا يصلح لأن
يكون موجباً لانصراف دليل البراءة الشرعية لصورة ما بعد الفحص، باعتبار ما تقدم
سابقاً من أنّ هذا الحكم العقلي بعدم معذورية الجاهل قبل الفحص. أو بعبارة أخرى:
حكم العقل بوجوب الاحتياط قبل الفحص لا محالة يكون حكماً تعليقياً وليس تنجيزياً،
بمعنى أنّه معلّق على عدم ورود الترخيص من قبل نفس المولى بارتكاب الشبهة قبل
الفحص، هذه أحكام ـــــــــ على ما تقدّم سابقاً ـــــــــ يدركها العقل من باب
رعاية شأن المولى(سبحانه وتعالى)، من الواضح أنّ العقل يحكم بوجوب مراعاة شأن
المولى حتى إذا رخّص نفس المولى في المخالفة، فدائماً حكم العقل بالاحتياط وبحق
الطاعة وبعدم معذورية الجاهل، هي أحكام تعليقية، بمعنى أنّها معلّقة اساساً على
عدم ورود ترخيص من المولى في ارتكاب الشبهة قبل الفحص، فإذا ورد ترخيص من قبل
الشارع بارتكاب الشبهة قبل الفحص، هذا الترخيص لا ينافي الحكم العقلي؛ لأنّ
المفروض أنّ الحكم العقلي معلّق على عدمه، معنى ذلك أنّ الحكم العقلي لا وجود له
إلاّ مع عدم الترخيص، أمّا مع وجود الترخيص، فلا وجود لحكم العقل؛ بل ينتفي الحكم
العقلي بانتفاء موضوعه؛ لأنّ هذا الترخيص من قبل المولى أُخذ في موضوع الحكم
العقلي، فمع وجود الترخيص ينتفي الحكم العقلي بانتفاء موضوعه، فلا يكون له وجود
حتى يكون مانعاً؛ وحينئذٍ نطبّق هذا في محل الكلام، يقال أنّ دليل البراءة الشرعية
في حدّ نفسه المفروض أنّ له إطلاق ـــــــ بقطع النظر عن هذا الوجه الذي نتكلّم
فيه ـــــــ يشمل حالة ما قبل الفحص وحالة ما بعد الفحص، وهذه البراءة الشرعية
الشاملة لحالة ما قبل الفحص وحالة ما بعد الفحص هي عبارة عن ترخيص شرعي لارتكاب
الشبهة قبل الفحص كما هي ترخيص شرعي لارتكاب الشبهة بعد الفحص بناءً على إطلاقه
وبقطع النظر عن هذا الوجه؛ حينئذٍ ينتفي الحكم العقلي، فإذن: لا معنى لأن يقال أنّ
الحكم العقلي يكون موجباً لتقييد الدليل بصورة ما بعد الفحص، ويكون مانعاً من شمول
دليل البراءة لصورة ما قبل الفحص. هذا التفسير الأوّل للوجه الأول.
التفسير الثاني للوجه الأول:
هو أن تتم ملاحظة الارتكاز العقلائي على معذورية الجاهل بعد الفحص؛ وحينئذٍ يقال
أنّ أدلة البراءة الشرعية حيث أنّها وردت بنفس مضمون هذا الارتكاز تكون ظاهرة في
إمضاء هذا الارتكاز، فقهراً تتحدد بحدوده سعةً وضيقاً، فلا تشمل دائرة أوسع مما
استقر عليه الارتكاز، والمفروض أنّ الارتكاز يختص بصورة ما بعد الفحص، فدليل
البراءة الشرعية الإمضائي أيضاً يتحدد بهذا الحد، فيختص لا محالة بصورة ما بعد
الفحص ولا يشمل صورة ما قبل الفحص. هذ هو ظاهر الوجه الأول المدّعى في المقام.
هذا التفسير الثاني هو
أقرب من التفسير الأول. نعم، ذُكر في أصل الوجه أنّ هذا الوجه مبني على إنكار
البراءة العقلية والقول بأنّ قبح العقاب بلا بيان هو أصل من الأصول العقلائية التي
بنا عليها العقلاء في مولوياتهم العرفية ولا يمتد إلى المولى الحقيقي الذي تكون
مولويته مولوية حقيقية ذاتية، وكأنّه يقال أنّ هذا الوجه لا يجري إذا قلنا
بالبراءة العقلية، فهل صحيح أنّ هذا الوجه لا يتم بناءً على الإيمان بالبراءة
العقلية، وأنّها حكم عقلي يحكم به العقل العملي وليس مجرد شيءٍ بنا عليه العقلاء
فيما بينهم؛ بل هو ممّا يدركه العقل ؟ قد يقال: هذا الوجه يتم حتى إذا آمنا
بالبراءة العقلية وقلنا بأنّها حكم من الأحكام العقلية التي يدركها العقل ويستقل
بها، وذلك بأن يقال: كما أنّ هناك افتُرض أنّ أدلة البراءة إمضائية بناءً على
إنكار البراءة العقلية والقول بأنّها ارتكاز على قبح العقاب بلا بيان، فتكون أدلّة
البراءة الشرعية إمضاءً لهذا الارتكاز، هنا بدلاً من الإمضاء نقول إرشاد، وأن يقال
أنّ العقل يحكم بالبراءة، والعقل يستقل بإدراك قبح العقاب بلا بيان، والدليل
الشرعي الوارد بهذا المضمون يكون إرشاداً إلى ما حكم به العقل، فيتحدد أيضاً
بحدوده، فيأتي نفس البيان السابق هنا، فأنّ ما يحكم به العقل هو البراءة بعد
الفحص، كما أنّ الارتكاز يختص بما بعد الفحص، ما يحكم به العقل من البراءة بناءً
على أنّها قاعدة عقلية أيضاً هو يختص بما بعد الفحص بلا إشكال، أمّا قبل الفحص
فالعقل يحكم بوجوب الاحتياط، قطعاً لا يحكم بالبراءة قبل الفحص؛ وحينئذٍ يقال أنّ
هذا الوجه ليس مبنياً على إنكار البراءة العقلية؛ بل يمكن أن يجري حتى بناءً على
القول بالبراءة العقلية بالالتزام بأنّ أدلة البراءة الشرعية هي إرشاد إلى ما يحكم
به العقل، والمفروض أنّ ما يحكم به العقل يختص بما بعد الفحص ولا يشمل حالة ما قبل
الفحص.