الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

37/02/08

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة / الزيادة في الواجب

عرفنا ممّا تقدّم أنّ التكليف لا يتنجّز بالعلم الإجمالي بلحاظ كل واحدٍ من الفردين؛ لأنّ الأمر فيه يدور بين المحذورين؛ لأنّ كل فعل هو يدور أمره بين الوجوب والتحريم، لكن كون العلم الإجمالي ــــــــ بلحاظ كل واحدٍ من الفعلين بحياله ــــــــ غير منجّز للتكليف في كل واحدٍ منهما لا ينافي أن يكون هناك علم إجمالي آخر يُلحظ بالنسبة إلى مجموع الفعلين ويكون هذا العلم الإجمالي منجّزاً للتكليف، في نفس الفعل الأمر يدور بين المحذورين، هذا الفعل إمّا واجب أو حرام، فيدور أمره بين المحذورين، لكن إذا لاحظنا كِلا الفعلين المكلّف عنده علم إجمالي بوجوب أحدهما، وعنده علم إجمالي بحرمة أحدهما، هذان العلمان الإجماليان ينجّزان التكليف فيهما؛ لما تقدّم من أنّ المخالفة القطعية ممكنة بالنسبة إلى كل واحدٍ من العلمين الإجماليين. وقلنا أنّ مقتضى تنجيز هذين العلمين الإجماليين هو أنّهما ينجزان حرمة المخالفة القطعية، ومعنى تنجيز هذا العلم وحرمة المخالفة القطعية هو أنّه لا يجوز للمكلّف تركهما معاً، ومقتضى تنجيز العلم الإجمالي الآخر الذي هو العلم الإجمالي بحرمة أحدهما هو حرمة مخالفته القطعية التي تكون بفعلهما معاً، بالنتيجة هذا المكلّف لا يجوز له فعلهما معاً، ولا يجوز له تركهما معاً؛ وحينئذٍ يأتي كلام الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) الذي ذكره بأنّ التخيير فيهما ابتدائي، بمعنى أنّه يتخيّر بين أن يأتي بهذا، فلابدّ أن يترك الآخر، أو يعكس بأن يأتي بالآخر، فلابدّ أن يترك الأول. وهذا هو معنى التخيير الابتدائي.
أشكل المحقق النائيني(قدّس سرّه) على إطلاق الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) القول بالتخيير في محل الكلام، وذلك باعتبار أنّ الدليل الذي استدلّ به الشيخ(قدّس سرّه) على التخيير الابتدائي بالمعنى المتقدم كان هو أنّ الموافقة القطعية للتكليف في أحد العلمين تستلزم المخالفة القطعية للتكليف الحاصل من العلم الآخر وحيث لا يتمكن المكلف من الموافقة القطعية لكلٍ منهما، فيدور الأمر بين الموافقة القطعية لأحدهما ومخالفة الآخر، وبين العكس, ولا مرجّح في المقام لأحد الطرفين؛ وحينئذٍ يُصار إلى الموافقة الاحتمالية التي هي عبارة عن التخيير الابتدائي الذي ذكره. المحقق النائيني(قدّس سرّه) يقول أنّ هذا الكلام وإن كان تامّاً لإنتاج التخيير الابتدائي، لكنّه لابدّ من تقييده بما إذا لم يكن أحد التكليفين أقوى ملاكاً من الآخر، أما إذا فرضنا أنّ أحد التكليفين أهم وأقوى ملاكاً من الآخر، فلابدّ من تقديم موافقته القطعية وإن استلزمت المخالفة القطعية للآخر، باعتبار أنّ التكليف فيه اهم من التكليف في الاخر, كما لو فرضنا أنّ الوجوب اهم من التحريم فلابدّ من موافقته ويأتي بكلا الفعلين وإن كان في ذلك مخالفة قطعية للتكليف الآخر, والعكس ايضاً صحيح، أي عندما تكون الحرمة هي الأهم لابدّ من ترك الفعلين وإن استلزم المخالفة القطعية للتكليف الآخر(الوجوب).
   وذكر المحقق النائيني(قدّس سرّه) في مقام التوجيه لهذا التقييد أنّ هذا يندرج في باب التزاحم في حالة وجود أهمية في البين، ويكون أحد التكليفين أهم من الآخر وأقوى ملاكاً، فأنهما يندرجان في باب التزاحم، وفيه يُقدّم الأهم والأقوى ملاكاً، ويكون العمل عليه وإن استلزم المخالفة للمهم المزاحم له, لكن هذا التزاحم تزاحم من جهة تأثير العلم الإجمالي، فكل واحدٍ من العلمين الإجماليين يقتضي تنجيز التكليف المعلوم إجمالاً، ويُلزم المكلف بالخروج عن عهدته خروجاً يقينياً, وهذا شأن كل علمٍ إجمالي, ومن هنا يحصل التزاحم بين هذا العلم الإجمالي بلحاظ تأثيره في لزوم الامتثال القطعي للتكليف المنجّز به، وبين العلم الإجمالي الآخر في مقام تأثيره في لزوم الامتثال القطعي للتكليف المنجز به، فيتزاحمان في مقام التأثير فيقدم الاقوى ملاكاً، فتجب موافقته القطعية وان استلزم المخالفة القطعية للآخر. [1]
لوحظ على كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّ التزاحم اذا كان بهذا الشكل سوف يعطي نتيجة قد لا يلتزم بها المحقق النائيني(قدّس سرّه)، وهي ما يكون في صورة التساوي وعدم وجود اهمية في البين, فأنّ إدخال المقام في باب التزاحم ــــــــ ولو بالمعنى الذي ذكره أي التزاحم في مقام تأثير العلم الاجمالي ــــــــ  في هذه الصورة لازمه أن يكون تخيير المكلف بين الموافقة القطعية للعلم الاجمالي الاول وبين الموافقة القطعية للعلم الاجمالي الثاني, وهذا شيء آخر غير ما يقوله الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه), فالتخيير الذي ذهب إليه الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) هو أن يتخير بين فعل احدهما وترك الاخر وبين العكس, وفي المقام حيث أنّ التزاحم وقع في تأثير العلم الاجمالي في إدخال التكليف في العُهدة والزام المكلف بامتثاله قطعاً، ووقع التزاحم بين تأثير العلم الاجمالي الأول في وجوب الموافقة القطعية لهذا، وبين تأثير العلم الإجمالي الثاني في وجوب الموافقة القطعية للآخر, فإذا كانت الاهمية موجودة؛ فحينئذٍ نقدّم بالأهمية, ولكن عندما نفرض التساوي وعدم وجود أهمية، فلابدّ أن يتخيّر بين الموافقتين؛ لأنّ التزاحم وقع بلحاظهما، فيتخيّر بأن يوافق العلم الاجمالي الاول فيأتي بكلا الفعلين، وبين أن يختار الموافقة القطعية للعلم الاجمالي الثاني فيترك كلا الفعلين, أي أنّ التخيير أصبح بين الاتيان بهما معاً، وبين تركهما معاً, وهذا غير ما يقوله الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، فأنه خيّر المكلف بين أن يأتي بالفعل ويلتزم بترك الاخر أو يعكس, ورفض مسألة فعل كل منهما أو ترك كل منهما واعتبره مخالفاً للقواعد.
هذه الملاحظة الاخيرة على كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) يمكن أن يقال فيها أنّ هذا الكلام صحيح، الا أنّ الظاهر أنّ المفروض في كلام المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّ العقل يحكم في المقام وحكمه هو أنّ الموافقة الاحتمالية لهما أولى من الموافقة القطعية لأحدهما المستلزمة للمخالفة القطعية للآخر؛ وحينئذٍ يدور الأمر بين الموافقة القطعية لأحدهما المستلزمة للمخالفة القطعية للآخر، وبين الموافقة الاحتمالية، والمحقق النائيني(قدّس سرّه) يقول أنّ العقل يحكم في المقام بأنّ الموافقة الاحتمالية لهما أولى من الموافقة القطعية لأحدهما المستلزمة للمخالفة القطعية للآخر، فإذا ضممنا هذا الحكم العقلي لما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) سوف ينتج التخيير الذي ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه).
هذا تمام الكلام في هذه المسألة والى هنا تمّ الكلام في البراءة والاشتغال من الاصول العملية، وقد جرت العادة بعد الانتهاء من ذلك ذكر خاتمة يُذكر فيها شرائط جريان هذه الاصول المتقدمة (البراءة والاشتغال). فعنوان الخاتمة هو:
 شرائط جريان الأصول
 والمقصود من الأصول في المقام البراءة الاشتغال وليس الاستصحاب من ضمنها. وعندما دخلوا في هذه الخاتمة تكلّموا في مقامين:
المقام الاول: في شرائط جريان الاشتغال والاحتياط. فهل يستطيع المكلف الاحتياط في كل الأمور ــــــــ التوصّليات والعبادات، سواء استلزم التكرار أم لم يستلزم ذلك، وسواء تمكّن من تحصيل الموافقة القطعية، أم لم يتمكّن ـــــــــ أم إنه توجد فيه شرائط خاصّة ولا يجوز الاحتياط إلاّ بتوفّر هذه الشرائط ؟
المقام الثاني: في شرائط جريان البراءة. ويُقال فيه نفس الكلام  الذي قيل في المقام الأول، لكن هنا بلحاظ البراءة.
أما بالنسبة إلى المقام الاول: وهو شرائط العمل بالاحتياط، فقد ذكروا أنه لا يعتبر في العمل بالاحتياط؛ بل في حكم العقل بحسن الاحتياط لا يشترط أزيد من تحقق موضوعه وهو احتمال التكليف، فإذا احتمل المكلف التكليف جاز العمل بالاحتياط؛ بل يحكم العقل بحسنه؛ وذلك لأنه يدرك به الواقع سواء كان الواقع المطلق أو الواقع النسبي، كما لو فرضنا دوران الأعلمية بين شخصين، فالحكم بالاحتياط هو الأخذ بأحوط القولين وهو احتياط نسبي وليس مطلقاً.
نعم، قد تُذكر شرائط في المقام لجريان الاحتياط هي في الحقيقة ليست شرائط لحكم العقل بحسن الاحتياط بعد فرض صدق عنوانه, فلا معنى لتوقف العقل للحكم بحسن الاحتياط على شرائطٍ بعد أن يكون إحرازاً للواقع على كل حالٍ؛ بل يحكم العقل بحسنه بلا شرائط, فالشرائط التي تُذكر في هذا المقام ترجع إلى شرائط في صدق عنوان الاحتياط لا في حكم العقل بحسنه بعد فرض صدق عنوانه, ومثال ذلك ــــــــ شرائط في صدق عنوان الاحتياط ـــــــــ كما قالوا بأنّ الاحتياط يشترط في حكم العقل بحسنه وفي جوازه أن لا يكون مخالفاً لاحتياطٍ آخر من جهةٍ اخرى، وهذا في الحقيقة شرطٌ في أنّ هذا ليس احتياطاً، لا أنه احتياط لكن العقل لا يحكم بحسنه؛ بل أنه ليس احتياطاً لأنّ فيه احتمال مخالفة للواقع من جهةٍ اخرى, ومثال ذلك أيضاً ما يشترطونه في أن لا يكون الاحتياط موجباً لاختلال النظام, وإذا كان كذلك فهذا يعني بأنه ليس احتياطاً، فإنّ اختلال النظام مما لا يرضى به الشارع ومما يبغضه الشارع، فكيف يكون هذا العمل احتياطاً مع إنه يُقدم به على ما هو مبغوض للشارع. فكل الشرائط التي تُذكر في المقام هي في الحقيقة شرائط لصدق عنوان الاحتياط وليست شرائط في حكم العقل بحُسنه وجوازه بعد فرض صدق العنوان.
ذكر المحقق النائيني(قدّس سرّه) كلاماً في المقام وهو أنّ الاحتياط إذا كان على خلافه حجّة معتبرة؛ حينئذٍ يعتبر في حسنه أن يعمل المكلف أولاً بمؤدّى الحجّة المعتبرة، ثمّ بعد ذلك يعمل بالاحتياط، أي يعمل بعد ذلك على خلاف ما تقتضيه الحجة المعتبرة, ولم يجوّز العكس، أي لم يجوّز بأن يعمل المكلف على خلاف ما تقتضيه الحجة المعتبرة اولاً، ثمّ يعمل بما تقتضيه الحجة المعتبرة.
 وقال: أنّ هذا لا يحكم العقل بحسنه, ومثّل لذلك ـــــــ وإن كان هذا المثال في باب العباديات وكلامنا أعمّ من ذلك ـــــــ بما إذا دلّ الدليل المعتبر على وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة، واحتمل المكلف وجوب صلاة الظهر ـــــــ مثلاً ـــــــ فهنا تارة يصلّي صلاة الجمعة، ثمّ يصلّي صلاة الظهر، يقول المحقق النائيني(قدّس سرّه): أنّ هذا هو ما يحكم  العقل بحسنه؛ لأنه عمل بما تقتضيه الحجّة المعتبرة التي دلّت على وجوب صلاة الجمعة، ثمّ احتاط بلحاظ صلاة الظهر التي يحتمل وجوبها بعد ذلك, وأمّا إذا عكس، فصلّى الظهر اولاً، ثم عمل بما تقتضيه الحجّة المعتبرة التي دلّت على وجوب صلاة الجمعة، فيقول(قدّس سرّه): إنّ هذا ليس احتياطاً حسناً ولا يحكم العقل بحسنه. وذكر في مقام تعليل ذلك بأنّ هذه الحجّة معتبرة ــــــــ بحسب الفرض ــــــــ ومعنى اعتبار الإمارة وحجيتها هو إلغاء احتمال الخلاف, وبعبارة اخرى: عدم الاعتناء باحتمال الخلاف, والمكلّف في محل الكلام إذا صلّى الظهر أولاً، فهذا يعني أنه لم يلغِ احتمال الخلاف في الأمارة القائمة على وجوب صلاة الجمعة، وهذا يعني أنه اعتنى باحتمال الخلاف, أما إذا عمل بالأمارة اولاً وصلّى الجمعة، ولم يعتنِ باحتمال الخلاف كما هو المطلوب منه ــــــــ وهو معنى الحجّية ــــــــ وبعد أن أكمل صلاة الجمعة صلّى الظهر، فلا مشكلة حينئذٍ؛ لأنّه عمل بالإمارة ولم يعتنِ باحتمال الخلاف في البداية. وهذا الكلام يظهر فيما اذا كان الفعل يستلزم التكرار, أمّا فيما لا يستلزم التكرار، كما لو احتمل وجوب السورة في الصلاة، ودلّ الدليل على عدم وجوبها، وأراد أن يحتاط في المقام، فمقتضى الاحتياط هو الإتيان بالسورة ولا مشكلة في المقام. [2]      








[1].فوائد الأصول، تقرير بحث الميرزا النائيني للشيخ الكاظمي الخراساني، ج 4، ص 263.
[2].فوائد الأصول، تقرير بحث الميرزا النائيني للشيخ الكاظمي الخراساني، ج 4، ص 265.