الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

37/02/04

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة / الزيادة في الواجب

في الدرس السابق قلنا أنه يرد على الاستصحاب المذكور سابقاً مضافاً إلى ما تقدّم أنه لو سلّمنا كل الأمور التي يتوقف عليها هذا الاستصحاب، وافترضنا وجود يقين سابق بهذه القضية، قلنا: لا يثبت باستصحاب هذه القضية التعليقية الصحة الفعلية للمركب بعد فروض عروض ما يُشك في كونه مانعاً؛ لأنّ الملازمة بينهما ــــــــــ على تقديرها ــــــــــ هي ملازمة عقلية ويكون الاستصحاب بلحاظها مثبتاً،
يضاف إلى ذلك أنّ القضية المستصحبة ليست من المجعولات الشرعية لكي يجري فيها الاستصحاب، ولا موضوع لمجعولٍ شرعي، وإنما هي قضية عقلية انتزاعية، وهي أنّ الأجزاء السابقة إذا انضمّت إليها الأجزاء اللاحقة يترتب عليها حصول المركب التام ويكون هذا مسقطاً للأمر.
قد يقال: ـــــــــــ كما قيل ــــــــــ بأنّا لا نجري الاستصحاب في الصحة لترِد الإشكالات السابقة، وإنما نجريه في عدم وجوب الإعادة وعدم وجوب الاستئناف الذي كان ثابتاً قطعاً قبل عروض ما يشك في مانعيته وبعد عروضه يشك بأنّ هذا الفعل ــــــــــ الصلاة ــــــــــ هل تجب عليه اعادته، أو لا، فيستصحب عدم وجوب الاعادة.
ويرِد عليه: ما تقدم من أنّ وجوب الاعادة وعدمها ليس من الاحكام الشرعية, فلا يتوجّه خطاب شرعي بوجوب الاعادة لمن كان عمله فاسداً, وإنما العقل يحكم بأنّ المكلف اذا لم يؤدِ ما يراد منه شرعاً لابدّ أن يؤديه, فإذا كان ما جاء به باطلاً يحكم العقل بلزوم الامتثال, لأنّ التكليف لم يُمتثل بعد عندما يكون ما جاء باطلاً.
قد يقال بجريان استصحاب عدم الإتيان بالزائد، كاستصحاب موضوعي: لأنّ المكلف يشك في أنه جاء بالزائد، أو لا، فيستصحب أنه لم يأتِ بالزائد، أي العدم المتيقن سابقاً قبل أن يأتي بما يشك في مانعيته.
ويلاحظ عليه: أنّ الإتيان بالزائد متيقن، فنحن على يقين بأنه زاد في الركوع ــــــــ مثلاً ــــــــ وإنما الكلام والشك في مبطلية ومانعية ما جاء به, فالشك ليس في أصل الإتيان بالزائد، وإنما الشك في الاتيان بالزائد الذي تكون زيادته مبطلة للصلاة؛ وحينئذ إذا رجع هذ الشك إلى الشك في مبطلية ما جاء به، نقول: لا يجري الاستصحاب؛ لأنه لا يقين بعدم المبطلية سابقاً؛ لأنه مشكوك من البداية وليس هناك حالة متيقنة لعدم المبطلية. هذا تمام الكلام في الأمر الثاني (استصحاب الصحة عند الشك في المانعية).
الأمر الثالث: وهو جريان الاستصحاب عند الشك في القاطعية.
تقدّم أنّ الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)فرّق بين الشك في المانع وبين الشك في القاطع, والتزم بجريان الاستصحاب عند الشك في القاطعية, أي استصحاب الصحة وبقاء الهيئة الاتصالية التي يُحتمل أنّ ما جاء به يكون قاطعاً لها, وليس استصحاب صحة الأجزاء السابقة كما كان الكلام عنه في المانعية. وقرّب الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) جريان الاستصحاب في المقام بهذا التقريب وهو: أن الهيئة الاتصالية المعتبرة في بعض المركبات تحدث بحدوث الجزء الأول من المركب وتستمر إلى آخر جزءٍ منه؛ وحينئذ اذا حصل ما اعتبره الشارع قاطعاً للهيئة الاتصالية، فأنه سيكون رافعاً لهذه الهيئة أي يكون قاطعاً للاتصال المعتبر في هذا المركب ـــــــــــ بحسب الفرض ـــــــــــ  هذا في حال العلم بالقاطع، أمّا إذا فرضنا أنه شك في القاطع، فأنه سيشك في بقاء الهيئة الاتصالية قهراً, فأنه على تقدير أن يكون ما جاء به قاطعاً فأنّ الاتصال ارتفع، وعلى تقدير أن لا يكون ما جاء به قاطعاً، فأنّ الاتصال غير مرتفع؛ وحينئذ يكون على شك في بقاء الهيئة الاتصالية وارتفاعها، وحيث أنه كان على يقين منها سابقاً قبل الإتيان بما يشك في قاطعيته، والآن يشك في بقاء ما تيقّن به سابقاً، فيجري استصحاب بقاء الاتصال(الهيئة الاتصالية)، وحيث أنه ليس لديه شك من جهةٍ اخرى، فأنّ هذا يعني الحكم بصحّة ذلك المركب وعدم وجوب الإعادة وأمثالها, هذا ما يُفهم من كلام الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) في مقام تقريب جريان هذا الاستصحاب في محل الكلام.[1]
وبقطع النظر عن المناقشات التي ذُكرت مع الشيخ(قدّس سرّه) في أصل اعتبار الهيئة الاتصالية واكتشاف وجودها واعتبارها من مجرّد التعبير بالقاطع في الروايات، فهو يعترف بأنّ اعتبار الهيئة الاتصالية في المركب يحتاج إلى دليل، ويرى بأنّ الدليل عليه هو التعبير عن شيءٍ بأنه قاطع لهذا المركب, فالتعبير بالقاطع يدل على وجود الاتصال المعتبر, وقد نوقش الشيخ(قدّس سرّه) بأنّ هذا التعبير لا يدل على المدّعى(اعتبار الهيئة الاتصالية في المركب) فيمكن أن يكون ـــــــــــ هذا التعبير ــــــــــ من باب المسامحة أو التجوّز, ولا نناقش أيضاً فيما ذكره الشيخ(قدّس سرّه) لاستكشاف كون الشيء قاطعاً من كونه موجباً لفساد المركب حتى في حال السكون، كالالتفات في الصلاة في قبال المانع الذي لا يوجب الفساد حال الإتيان به في حال السكون كلبس الحرير, وقد نوقش ايضاً في هذا الكلام باعتبار أنه يمكن أن يكون الشيء مانعاً، لكن مانعيته تتسع لتشمل حالة السكون, أي أنّ الموانع على قسمين فبعضها تكون مانعة من صحة المركب عند الإتيان بها عند الاشتغال بالأجزاء, وبعضها تكون مانعة من صحة المركب مطلقاً، سواء جاء بها في حال الاشتغال بالأجزاء، أو حال السكون. وبقطع النظر عن كل ذلك يقع الكلام في الاستصحاب الذي افترض جريانه في محل الكلام بالتقريب الذي ذكره, ومن الواضح أنّ هذا الاستصحاب يعتمد على افتراض أنّ الهيئة الاتصالية تحدث بحدوث الجزء الأول وتستمر إلى نهاية الاجزاء، ويزول هذا الاتصال بحدوث القاطع, فإذا حصل القاطع في منتصف العبادة يزول الاتصال, والاستدلال مبني على أنّ زوال الاتصال يكون من حين حدوث القاطع، وبناءً على ذلك يجري الاستصحاب؛ لأنه قبل حدوث القاطع كانت هناك هيئة اتصالية مستمرة عند تتابع الأجزاء ولا تزول هذه الهيئة إلّا عند حدوث القاطع؛ وحينئذ إذا جاء بشيءٍ وشك في كونه قاطعا، ًفإنّ هذا يعني أنّ أركان الاستصحاب متوفرة، فهو على يقين من وجود الهيئة الاتصالية قبل الإتيان بهذا الشيء، وبعد الإتيان به يشك في بقاء الهيئة الاتصالية وزوالها؛ لأنّ هذا الشيء إن كان قاطعاً، فأن الهيئة الاتصالية مرتفعة، وإن كان غير قاطع فإنّ الهيئة الاتصالية باقية؛ وحينئذٍ يجري الاستصحاب. والشيخ(قدّس سرّه) يجري الاستصحاب بنكتة أنّ القاطع يوجب زوال الهيئة الاتصالية من حين حدوثة, وهذا يعني وجود يقين ٍبالهيئة الاتصالية قبل حصول ما يشك في قاطعيته.
ولكن، إذا فرضنا أنّ الهيئة الاتصالية التي هي عبارة عن هيئة اتصالية اعتبارية شرعية ومرجعها إلى اعتبار الشارع للاتصال وليست حقيقية، فالشارع اعتبر الاتصال في هذا المركب بما له من الاجزاء, وإذا سلّمنا مقدّمات هذا المطلب تكون الهيئة الاتصالية قضية اعتبرها الشارع وأخذ في هذا الاعتبار عدم القاطع، أي أنّ الهيئة الاتصالية تكون موجودة عندما لا يحصل القاطع، وتزول عند حصوله، وهذا يعني أنّ هناك هيئة اتصالية واحدة قائمة بالمركب بلحاظ تمام اجزاءه، وعندما يحصل القاطع تزول هذه الهيئة الاتصالية من أول الأمر لا من حين حصول القاطع، وهذا يعني أنّ الاستصحاب لا يجري؛ لأنّ هذا يلازم علمنا بزوال الهيئة الاتصالية من أول الأمر حين علمنا بالقاطع، وإذا شككنا به، فهذا يعني اننّا نشك في وجود هيئة اتصالية من البداية وليس من حين حصول القاطع وحينئذ لا يكون عندنا يقين بوجود الهيئة الاتصالية للأجزاء السابقة بعد حدوث ما يشك في قاطعيته.
المحقق الاصفهاني(قدّس سرّه) يصرّ على المعنى الثاني، ويقول: أنّ الظاهر من القاطع ــــــــــ اذا سلّمنا به ــــــــــ بأنّ هناك اعتباراً واحداً لهيئة اتصالية موضوعها المركب بتمام اجزائه, فإذا حصل القاطع، فأنه يرفع الهيئة الاتصالية من أول الأمر لا من حين حصوله، والذي يقوله(قدّس سرّه) غير بعيد، ولعلّه هو الأقرب. هذا بالنسبة إلى الملاحظة الاولى على استصحاب الهيئة الاتصالية عند الشك في القاطعية.[2]
الملاحظة الثانية: على أصل كلام الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) في الوحدة الاعتبارية في بعض المركبات، فيمكن أن يقال بعدم وجود وحدة اعتبارية في الصلاة ـــــــــ مثلاً ـــــــــ غير الموالاة بين أجزاء الصلاة التي تعني أن لا يكون هناك فاصل طويل بينها التي دلّت عليها الادلّة، فالموالاة قام الدليل عليها ولم يدل على اكثر من ذلك، فليس واضحاً أنّ هناك هيئة اتصالية معتبرة بقطع النظر عن كل اجزاء الصلاة بما فيها الموالاة, ومن الواضح أنّ الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) لا يقصد بالقاطع عدم الموالاة, فالهيئة الاتصالية يعتبرها غير الموالاة والرافع للهيئة الاتصالية الذي يسميه القاطع غير الفصل الطويل بين الأجزاء الذي يوجب عدم المولاة, والذي يبدو أنّ سر تسمية هذه الأمور بالقاطع مع انها في الحقيقة ترجع إلى المانع وقد أُخذ عدمها في الصلاة, يمكن أن يوجّه الاختلاف في التسمية بين القاطع والمانع بأنّ هذا المانع تارةً يُفترض حصوله بعد الفراغ من العمل، ويعبر عنه بالناقض وبالرافع، ومن هذا القبيل الحدث بعد الوضوء، فأنه يعتبر رافعاً للطهارة التي حصلت من الوضوء، لكن عندما يحصل المانع في أثناء العمل، فأنه يُعبَر عنه بالقاطع، فكأنه عندما يحصل يفصل الاجزاء السابقة عن الاجزاء اللاحقة, أي يفصلها بشيءٍ اعتبر الشارع عدمه في هذا المركب, ومن هنا سُمّي قاطعاً، وهذا يحتاج إلى تتبع في الروايات ومعرفة اطلاق المعنى، فهل أنّ القاطع يطلق على اشياء معينة من قبيل الالتفات والضحك، أو يطلق حتى على الموانع العادية التي تحدث أثناء الصلاة, لكن هذا الاحتمال ــــــــــ عدم الفرق بين المانع والقاطع ـــــــــــ موجود وقائم، وأنّ كل منهما أُخذ عدمه في المركب، فالشك في القاطع كالشك في المانعية ولا مجال لأن يقال بأنّ هذا يتميّز عن الشك في المانعية, بأنّ الاستصحاب لا يجري في المانعية ويجري فيه.       




[1].فرائد الأصول، الشيخ الأنصاري، ج 2، ص375.
[2].نهاية الدراية في شرح الكفاية، الشيخ محمد حسين الأصفهاني، ج 4، ص 363.