الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

37/02/02

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة / مبطلية الزيادة في الواجب .

قلنا أنّ الكلام يقع في عدّة أمور:
الأمر الأول: ما ذكره بعضهم من حكومة الاستصحاب على البراءة وأنّه يمنع من جريان البراءة.
الأمر الثاني: هل يجري الاستصحاب عند الشك في المانعية، أو لا ؟
الأمر الثالث: هل يجري الاستصحاب عند الشك في القاطعية، أو لا ؟
أمّا بالنسبة إلى الأمر الأوّل: ورد في تقريرات المحقق النائيني(قدّس سرّه) بأنّ الاستصحاب على تقدير جريانه ــــــــــــ وإن كان هو قد منع من جريانه عند الشكّ في المانعية على ما سيأتي ــــــــــــ يكون حاكماً على البراءة، وبالتالي مانعاً من جريانها، وهذا المطلب مبني على ما يذكروه من أنّ الاصل المحرز يلغي موضوع الأصل غير المحرز, والاستصحاب من الأصول المحرزة والبراءة من الأصول غير المحرزة, ومن هنا تكون الحكومة بهذا الاعتبار، ولم يفرّقوا خصوصاً المحقق النائيني(قدّس سرّه) بين ما اذا كان الأصلان متوافقين أو متخالفين.
هذا الكلام محل مناقشة مبنىً وبناءً, أما المناقشة المبنائية فهي في أصل جريان الحكومة في حالة التوافق, كما هو في محل الكلام؛ لأننا نتكلّم عن أصلين متوافقين، فكل من استصحاب الصحّة والبراءة يثبت نتيجة واحدة وهي صحة العمل المأتى به, فأصل الحكومة في حالة التوافق هي محل مناقشة، والسرّ في ذلك هو أنّ المأخوذ في موضوع دليل الأصل غير المحرز الذي هو البراءة في محل الكلام هو عدم العلم بالخلاف, فإذا كان براءة أو أصالة الاباحة فالمأخوذ في موضوعها عدم العلم بالحرمة، واذا كان الأصل هو أصالة الطهارة فالمأخوذ في موضوعها هو عدم العلم بالنجاسة......وهكذا، والذي يجمعها كلّها هو عدم العلم بالخلاف, ومن الواضح بأنّ الموضوع إذا كان عدم العلم بالخلاف، فالرافع له هو العلم بالخلاف, ومن الواضح أنّه في محل الكلام الاستصحاب الموافق، أو أيّ شيءٍ آخر موافق لا يكون علماً بالخلاف حتى يكون رافعاً لموضوع الأصل غير المحرز, بل هو علم بالوفاق؛ لأنّ المفروض انهما متوافقان, فالاستصحاب في محل الكلام وفي غيره ليس علماً بالخلاف، حتى لو قلنا بأنّ الاستصحاب يورث العلم، لكنّه يورث العلم بالوفاق تعبّداً لا العلم بالخلاف، والمفروض أنّ موضوع الأصل العملي هو عدم العلم بالخلاف، وعدم العلم بالخلاف لا يرتفع إلاّ بالعلم بالخلاف، ولو كان تعبّداً بالاستصحاب مثلاً، وهذا إنّما يكون حينما يكون الاستصحاب مخالفاً لأصالة البراءة، فيرتفع موضوع الأصل العملي وتثبت الحكومة، أمّا إذا كان على تقدير أن يكون علماً، فهو علم بالوفاق؛ حينئذٍ هذا لا يكون رافعاً لموضوع الأصل العملي ــــــــــ اصالة الطهارة، أو أصالة البراءة ــــــــــ فكيف يكون حاكماً.
فأصل الحكومة في حالة التوافق بين الاصلين محل نقاش, نعم في حالة التخالف لها وجه، بأن يقال أنّ هذا اصلٌ محرز، فينزّل الشك منزلة اليقين، فيكون موجباً لليقين والعلم التعبدي بالخلاف، فيمكن أن يكون على هذا الاساس رافعاً لموضوع الاصل العملي تعبّداً، وهذا هو معنى الحكومة. أمّا في حالة التوافق، فهذا لا مجال له، فيبقى موضوع الأصل العملي على حاله، وهذا يعني أنّ الاستصحاب لا يكون حاكماً عليه ورافعاً لموضوعه تعبّداً. هذا مضافاً إلى أنّ هناك محاذيراً مذكورة في محلّها تترتب على الالتزام بالحكومة في حالات التوافق، من جملتها أنّ اصالة الطهارة واصالة البراءة واصالة الإباحة تبقى مختصّة بمواردٍ نادرةٍ جداً بناءً على هذا الالتزام، وذلك لا يناسب الاهتمام بها من قبل الشارع بألسنة مختلفة، فمثلاً اصالة الطهارة اذا قلنا بأنّ استصحاب الطهارة يحكم عليها، واستصحاب النجاسة أيضاً يحكم عليها بلا اشكال، فإذا قلنا في صورة التوافق أنّ الاستصحاب يكون حاكماً عليها ومانعاً من جريانها، فأنها سوف تختص بمواردٍ نادرةٍ جداً, مثل موارد توارد الحالتين، وفي غير هذا المورد أمّا أن يجري استصحاب النجاسة أو يجري استصحاب الطهارة, فإذا قلنا أنّ كلا الاستصحابين حاكم على اصالة الطهارة، فسوف لا يبقى لها الا موارد نادرة( توارد الحالتين التي لا يجري فيها كل من الاستصحابين ) وهذه الموارد نادرة لا يناسب أن تُحمل عليها اصالة الطهارة التي كثرت رواياتها وهكذا الكلام في اصالة البراءة واصالة الاباحة, وهذا المحذور لا يلزم اذا خصّصنا الحكومة بحالات التخالف؛ لأنّ اصالة البراءة تجري في موارد اخرى وهي موارد التوافق. 
هذا بالنسبة إلى اصل المبنى, ولو تنزّلنا عنه والتزمنا بالحكومة حتى في موارد التوافق كما في محل الكلام، مع ذلك نقول: نلتزم كبروياً بأنّ الاصل المحرز كالاستصحاب يكون حاكماً على البراءة مطلقاً سواء كان موافقاً لها أو لا, فتأتي حينئذٍ مناقشة مختصّة بالمقام وهي أنّ هذه الحكومة إنّما يصحّ الالتزام بها حينما يكون ظرف جريان كل واحدٍ من الأصلين واحد، أي يكون ظرف جريان اصالة الاستصحاب نفس ظرف جريان البراءة وفي مورد واحد؛ حينئذٍ يكون هناك مجال للالتزام بالحكومة حتى إذا كانا متوافقين بناءً على التنزّل عن المناقشة السابقة وتسليم المبنى كما هو الحال في اصالة الطهارة واستصحاب الطهارة، فظرف جريان اصالة الطهارة هو نفس ظرف استصحاب الطهارة؛ فالمكلّف الذي يشك في طهارة هذا الماء ونجاسته، ويريد أن يتوضأ به تجري في حقه اصالة الطهارة كما يجري فيه حقه استصحاب الطهارة ايضاً لو كانت الحالة السابقة له هي العلم بالطهارة, فظرفهما واحد؛ وحينئذٍ هناك مجال للحكومة. وأمّا إذا فرضنا تعدّد الظرف بأن كان ظرف جريان أحد الأصلين غير ظرف جريان الأصل الآخر، كما هو الحال في محل الكلام، فظرف جريان استصحاب الصحة هو ظرف ما بعد الإتيان بالجزء الزائد الذي يُشك في كونه مانعاً، أو ليس مانعاً, وأمّا قبل ذلك، فلا مجال لجريان الاستصحاب، لعدم الشك في الصحة, فقبل أن يأتي بالركوع الثاني لا يوجد لديه شكٌ في الصحّة حتى يستصحب الصحّة المتيقنة سابقاً، وإنّما يكون شاكاً بعد أن يأتي بالركوع الثاني ويشك في كونه مانعاً، فيحصل عنده شكٌ في الصحة المتيقنة سابقاً، فسيتصحبها, بينما البراءة ليست هكذا، فالبراءة في محل الكلام عن مانعية هذا الزائد، وهذا يمكن فرضه قبل الإتيان بالجزء الزائد، فهو قبل أن يشرَع بالعمل يشك في أنّ الإتيان بالركوع الثاني هل يبطل العمل ــــــــــ الصلاة ـــــــــ ؟ فتأتي البراءة لنفي المانعية, كما هو الحال في الجزئية عندما يشك في جزئية شيء في المأمور به، فيجري البراءة لنفي الجزئية، فإنّ هذا ظرفه قبل الإتيان بالعمل, فقبل أن يأتي بالعمل هو يشك في أنّ السورة واجبة، أو لا ؟ وهل هي جزء من الصلاة، أو لا ؟ فيُجري البراءة لنفي وجوب الاكثر؛ لأنّ الأمر يدور بين الأقل والأكثر، ثمّ يشرع بالعمل، فظرف جريانه هو ظرف ما قبل الإتيان بما يشك في كونه جزءً، أو يشك في كونه مانعاً، أو يشك في كونه شرطاً، ومع اختلاف الظرف لا معنى للحكومة؛ لأنه قبل الإتيان بالجزء الزائد المشكوك مانعيته تجري البراءة فقط, ولا مجال لجريان الاستصحاب قبل الإتيان بما يشكّ في مانعيته؛ لأنّه لا شكّ حتى يجري الاستصحاب، ولا تُعارَض البراءة باستصحاب الصحّة, واذا جرت البراءة؛ حينئذٍ يثبت عدم المانعية؛ لأنّ اصالة البراءة تجري لنفي المانعية كما تجري لنفي الجزئية والشرطية؛ وحينئذٍ لا يبقى شك في الصحة بعد الإتيان بهذه الزيادة لكي يرجع إلى الاستصحاب، أصلاً لا معنى للرجوع إلى الاستصحاب بعد ذلك؛ لأنّ الدليل الشرعي قام في مرتبة سابقةٍ كان الاستصحاب لا يجري فيها حتى يمنع من جريانها؛ وحينئذٍ يمكن أن يقال أنّ القضية معكوسة حيث أنّ اصالة البراءة هي الحاكمة على الاستصحاب ولا نقول بذلك، ولكنها تمنع من جريانه؛ لأنها موجبة لارتفاع الشك في الصحة ولأنّها أثبتت عدم مانعية الجزء الزائد.
الأمر الثاني: هل يجري استصحاب الصحّة عند الشكّ في المانعية، أو لا ؟
وقد تقدّم أنّ الشيخ الاعظم(قدّس سرّه) منع من ذلك؛ لأنّ المراد استصحابه إن كان المقصود به صحة المجموع، فأنه لم يحصل بعد. إذن: لابدّ أن يكون المقصود بالصحة هو الشق الثاني الذي ذكره الشيخ(قدّس سرّه)، وهو عبارة عن صحّة الاجزاء السابقة؛ لأنها عندما وقعت، وقعت صحيحة، ومعنى الصحة كما ذكر الشيخ(قدّس سرّه) إما معنى مطابقتها لأوامرها، وإما ترتب الاثر عليها، وذكر أنّ المقصود بالأثر الذي يترتب على الأجزاء السابقة هو حصول المركب بها لو انضمّت اليها سائر الاجزاء.
واشكل الشيخ(قدّس سرّه) على هذا الاستصحاب بأنّ هذه القضية ـــــــــــــ صحة الاجزاء السابقة بهذا المعنى ـــــــــــ متيقنة ولا شك فيها, وقلنا بأنّ مقصود الشيخ(قدّس سرّه) هو أننا ندّعي بأنه حتى على فرض كون القضية متيقنة ــــــــــــ كما هي كذلك ـــــــــــــ فأنها لا تنفع لأثبات المطلوب، يعني لإثبات صحّة العمل الذي يشك في مانعية الزيادة فيه.
أما بالنسبة إلى كونها متيقنة فعلاً كما كانت متيقنة سابقاً، فأنه اثبت ذلك بدعوى أنّ القضية تعليقية، وصحة الاجزاء السابقة بمعنى ترتب الاثر عليها لو انضمّت إليها سائر الاجزاء, وهذا نحن على يقين منه الآن حتى بعد عروض ما يشك في مانعيته؛ بل ترقّى اكثر وقال: حتى بعد عروض ما يقطع بكونه مانعاً, يبقى القول بأنّ الاجزاء السابقة لو انضمّت اليها الاجزاء اللاحقة تكون الصلاة صحيحة ومسقطة للأمر, غاية الأمر أنّ البطلان الذي يحصل في العبادة يحصل نتيجة عدم الانضمام، أي من جهة عدم حصول المعلّق عليه, فالشك إنما يكون في الانضمام وعدمه لا في بقاء القضية التعليقية المتيقنة سابقاً, فأنها باقية بنفس المرتبة من اليقين بعد الإتيان بالجزء الزائد, هذا ما ذكره الشيخ(قدّس سرّه)، وذكره غيره ايضاً.
ولكن يمكن أن نفترض حصول الشك في نفس القضية المتيقنة لا في المعلق عليه كما ذكر, وذلك بتبديل القضية المتيقنة سابقاً ــــــــــ القضية التعليقية، أو ما يُعبّر عنه بالصحة التأهلية ـــــــــ واذا كان المانع من جريان الاستصحاب هو عدم الشك في القضية المتيقنة، فهذا يمكن الجواب عنه بأن يقال: أنّ القضية التعليقية ليست كما فُرض في كلام الشيخ(قدّس سرّه) من أنّها عبارة عن صحة الاجزاء السابقة لو انضمت اليها الاجزاء اللاحقة بالشرائط الواقعية المعتبرة شرعاً، فهذه متيقنة حتى بعد الإتيان بالجزء الزائد؛ بل حتى بعد الإتيان بالمانع المتيقن, لكن اذا قلنا أن القضية المتيقنة سابقاً هي صحة الاجزاء السابقة لو انضمت اليها الاجزاء اللاحقة بالشرائط المعلومة، هنا يكون الشك في نفس القضية المتيقنة لا في المعلّق عليه؛ وذلك لأنّ هذه القضية تكون متيقنة قبل الإتيان بالجزء الزائد, لكن بعد الإتيان بالجزء الزائد الموجب للشك في المانعية تكون أصل القضية المتيقنة سابقاً مشكوكة؛ لأنني فعلاً أشك في أنّ الأجزاء السابقة لو انضمت اليها الأجزاء اللاحقة بالشرائط المعلومة عندنا، هل تكون الصلاة صحيحة، أو لا ؟ فعلى تقدير أن تكون الزيادة مانعة لا ينفع ضم اللاحق للسابق, وعلى تقدير أن لا تكون مانعة ينفع ضم اللاحق للسابق لأثبات الصحة, فشكي فعلاً في نفس القضية المتيقنة سابقاً؛ وحينئذٍ يمكن إجراء استصحاب الصحة التأهلية.
وبعبارة اخرى: أنه لو كان المانع من جريان الاستصحاب هو أن هذه القضية المتيقنة ليست مشكوكة، وإنما هي متيقنة بعد الاتيان بالجزء الزائد والاستصحاب يحتاج إلى شك، فأنه يمكن تلافيه ودفعه بتغيير ما هو المتيقن سابقاً.