الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
37/01/18
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / قاعدة الميسور.
كان الكلام في الدليل الرابع الذي استُدل به على مفاد قاعدة الميسور، أي وجوب الباقي عند تعذّر بعض أجزاء المركب. وكان هو عبارة عن التمسّك بعمومات الاضطرار والحرج، وأمثال هذه العمومات. وبيّنّا في الدرس السابق كيفية الاستدلال بهذه العمومات على المُدّعى وذكرنا أن الاستدلال يكون بهذا الشكل: بالنسبة إلى عمومات الاضطرار الواردة بلسان(ما من شيء ـــــــــ أو نحو هذا التعبير ــــــــــ حرّمه الله، فقد أحلّه لمن اضطر إليه). وذكرنا أن حلّية الشيء الذي يضطر المكلّف إلى فعله أو تركه، المراد بها في الاستدلال الحلّية الوضعية؛ ولذا قلنا أنّ الاستدلال بعمومات الاضطرار مبني على ان تكون الحلّية في هذه العمومات لا تختص بالحلّية التكليفية، وإنما هي أعم من الحلية التكليفية والحلّية الوضعية، فحينما يقال ــــــــ مثلاً ـــــــ أنّ الجزء الذي يضطر المكلف إلى تركه، أو المانع الذي يضطر المكلّف إلى فعله، هو حلال في حالة الاضطرار، معنى الحلّية هو في الحقيقة نفي الجزئية في حالة الاضطرار، أو نفي المانعية بالنسبة إلى المورد الثاني في حالة الاضطرار. معنى أنّ هذا المانع حلال ــــــــــ مثلاً ــــــــــ التكفير في الصلاة حلال، يعني أن لا يكون مانعاً، ولا يضر بالصلاة، كذلك الجزئية عندما يقال أنّ ترك الجزء في حالة الاضطرار حلال، هذا معناه أنه ليس جزءً من الصلاة، فيثبت المطلوب؛ لأنّ المفروض في المقام هو أننا نريد أن نثبت إنّ جزئية الجزء لا تشمل حالة التعذّر وإنّما تختص بحالة التمكّن، هذه الأدلة تقول في حالة الاضطرار يجوز ترك الجزء المضطر إلى تركه، بمعنى أنّه ليس جزءً في حالة الاضطرار والتعذر. هذه كيفية الاستدلال بهذه العمومات.
ذكروا أنه يمكن تأييد هذا الاستدلال ببعض الروايات التي يُفهم منها أنّ الإمام(عليه السلام) يستدل بهذه العمومات على وجوب الإتيان بالباقي، ممّا يُفهم منه أنّ هذه العمومات التي ذُكرت في هذه الروايات الآتية ليست فقط يستفاد منها نفي الجزئية في حالة الاضطرار، وإنما يُستفاد منها أيضاً وجوب الباقي الذي يتمكّن منه المكلّف على اختلاف هذه الموارد، بحيث أنّ وجوب الباقي، ووجوب ما يتمكّن منه المكلّف بعد تعذّر الشرط أو الجزء على اختلاف الموارد مستفاد من نفس العمومات.
ذكرنا الرواية الأولى التي هي رواية عبد الأعلى مولى آل سام المعروفة، وذكرنا كيفية الاستدلال بها. الرواية الأخرى واردة في باب القيام، وهناك رواية وردت في المريض لا يستطيع الجلوس، قال: فليصلِ وهو مضطجع، ولن يكلّفه الله ما لا طاقة له به. فيقال: أنّ الإمام(عليه السلام) استدلّ بهذه القاعدة الكلية(إن الله لا يكلّف الإنسان بما لا طاقة له به). وهذه القاعدة فقط ترفع وجوب الجلوس في حال عدم التمكّن من الجلوس. وقلنا أنّ رفع الوجوب وحده هو أعم من وجوب الباقي؛ لأنه قد لا يجب عليه الجلوس، باعتبار أنّ أصل الواجب يسقط عنه لا أنه يجب عليه الباقي، والرواية تقول(فليصلّ وهو مضطجع، ثم تقول: ولن يكلّفه الله ما لا طاقة له به). فكأنه يُفهم منها أنّ الإمام(عليه السلام) يستدل بهذه القاعدة على وجوب الإتيان بالباقي(فليصلّ وهو مضطجع)، ويترك السجود، يترك جزءً من أجزاء الصلاة، مستدلاً بهذه القاعدة، بمعنى أنّ القاعدة ليس فقط تنفي وجوب السجود في حالة العجز، وعدم القدرة؛ بل أنها تنفي وجوب السجود في حالة العجز وعدم القدرة ويُستفاد منها أيضاً وجوب الإتيان بما يتمكن منه، وهذا هو المطلوب في محل الكلام.
الرواية الأخرى وردت في المريض، (هل تمسك له المرأة شيئاً، فيسجد عليه، فقال: لا، إلا أن يكون مضطراً ليس عنده غيرها وليس شيء ممّا حرّم الله إلاّ وقد أحلّه لمن اضطر إليه). فكأنّ الإمام(عليه السلام) يقول في حالات الاضطرار يجوز أن يصلي بهذه الكيفية، وهي أن ترفع له المرأة شيئاً يسجد عليه، يعني يترك السجود. والدليل على أنه يصلي بهذه الكيفية هو مسألة(ليس شيء ممّا حرّم الله إلاّ وقد أحلّه لمن اضطر إليه).
هناك أيضاً من العمومات العموم الوارد في الروايات المعتبرة مثل صحيحة مرازم، (قال: سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن المريض لا يقدر على الصلاة؟ قال: فقال: كل ما غلب الله عليه، فالله أولى بالعذر) [1] . لكن الإمام(عليه السلام) طبّق هذا العموم ــــــــــ وهذا هو الذي ينفعنا في المقام ــــــــ على المسلوس الذي لا يقدر على حبس البول، ورد في الرواية الواردة في نواقض الوضوء، وهي رواية صحيحة سنداً، عن منصور بن حازم، قلت لأبي عبدالله ( عليه السلام ): (الرجل يعتريه البول ولا يقدر على حبسه ؟ قال: فقال لي: إذا لم يقدر على حبسه، فالله أولى بالعذر يجعل خريطة).[2] يعني يأمر بالإتيان بالشيء الذي يتمكن منه وهو أن يجعل خريطة ولا مشكلة في خروج قطرات من البول، ويجب عليه الإتيان بالصلاة بهذه الكيفية ولا تسقط عنه الصلاة، فيجب عليه الإتيان بما يتمكن منه عند تعذر الحفاظ على هذا الشرط وهو عدم خروج البول أثناء الصلاة. كأنّه نفس هذه العمومات هي تدل على وجوب الإتيان بما يتمكن منه. هذه هي عمدة الروايات التي تُذكر في المقام ويقال بأنها تدل على هذا المطلب.
الملاحظة التي يمكن إبداءها في هذا الدليل هي أنه قد يقال: أنّ الاستدلال بعمومات الاضطرار في المقام مبني على أن تكون الحلّية فيها حلّية عامّة لا تختص بالحلّية التكليفية، وإنما تشمل الحلّية التكليفية والحلّية الوضعية حتى نستطيع أن نقول أنّ الجزء الذي يتعذر على المكلف الإتيان به تركه في غير حالة التعذر حرام، الله أحلّه في حالة الاضطرار، هذا مفاد عمومات الاضطرار، ترك الجزء حرام، لكنه يكون حلالاً في حالة الاضطرار، والذي ينفعنا ليس هو أن يكون حلالاً حلّية تكليفية فقط، الحلال تكليفاً معناه أنك إذا تركت هذا الجزء لا تُعاقب وليس عليك مسئولية، هذا لا ينفعنا في المقام، وإنما الذي ينفعنا هو أن نقول ترك الجزء حلال بمعنى نفي الجزئية في حالة الاضطرار، يعني ليس جزءً في حالة الاضطرار، كما قلنا في باب الناقض، كيف أنّ الناقض، كالتكفير، حلال في حالات التقية، يعني لا يمنع من الصلاة وليس من موانع الصلاة؛ بل الصلاة تصح مع هذا المانع. أذن: هو ليس مانعاً، كذلك الجزء عندما نقول: ترك الجزء حلال، بمعنى أنّ هذا الجزء ليس جزءاً، لا يُعتبر جزءاً من الصلاة؛ بل الصلاة من دونه تقع صحيحة. هذه الحلّية بمعنى نفي الجزئية في مثال الجزء، ونفي المانعية، هي حلّية وضعية وليست حلّية تكليفية، ومن هنا يتوقف الاستدلال بالحديث على أن تكون الحلّية في الحديث يُراد بها الأعم من الحلّية التكليفية والوضعية، وهذا قد يُناقش فيه؛ لأنّ الظاهر من الحلّية في الحديث هي الحلّية التكليفية، وتعميمها للحلّية الوضعية خلاف الظاهر، قول الإمام (عليه السلام):(فقد أحلّه الله) يعني أنّ هذا شيء حرّمه الله على المكلف، فقد أحلّه الله؛ حينئذ يكون الشيء حلالاً تكليفاً لا أكثر من ذلك، وهذا لا ينفع في مقام الاستدلال.
الشيء الآخر هو أنّ الاستدلال بهذه الروايات يتوقف على أن نفترض أن الإمام (عليه السلام) استشهد بهذه العمومات، سواء كان في رواية عبد الأعلى أو في باقي الروايات، لغرض إثبات وجوب الباقي، لا أن نقول بأنّ الإمام (عليه السلام) استشهد بهذه العمومات فقط لنفي الجزئية في حال التعذر، ونفي الشرطية في حالة التعذر، وأما وجوب الباقي فهذا يُستفاد من دليلٍ آخر، ولو يُستفاد من قوله(أمسح عليه)، أو في قوله:(يجعل خريطة) وأمثال هذه العبارات، بأن يقال: وجوب ما يتمكّن منه المكلف في حالة تعذّر الجزء أو الشرط لا يُستفاد من نفس العمومات، وإنما يستفاد من شيءٍ آخر. أذا قلنا هكذا؛ حينئذٍ لا يمكننا الاستدلال بهذه العمومات في موردٍ آخر على وجوب الباقي؛ لأن هذه العمومات بناءً على هذا الاحتمال لا تدلّ إلا على نفي الجزئية، أنّ هذا ليس واجب في حال التعذر، وليس جزءً في حال التعذر. أما وجوب الإتيان بالباقي، فيحتاج إلى إثبات. لكن المُدّعى في المقام أنّ الاستدلال يقول أنّ الإمام (عليه السلام) استشهد بهذه الروايات على وجوب الإتيان بالباقي، وأنّ الواجب على المكلف في حال التعذّر هو هذا المركب الناقص من ذلك الجزء المتعذر أو الشرط المتعذر. ذكرنا في رواية عبد الأعلى مولى آل سام أنّ هذا المطلب يمكن استفادته من الرواية، لا يبعُد أنّ الإمام (عليه السلام) استدلّ بالآية الشريفة: ﴿ما جعل عليكم في الدين من حرج﴾[3] على كيفية الوضوء التي بيّنها بقوله(أمسح عليه) حيث كانت مشكلته هي كيف يتوضأ؛ لأنّ السؤال وقع عن كيف أتوضأ ؟ الإمام (عليه السلام) قال له:(هذا وأشباهه يُعرف من كتاب الله، قال الله تعالى.......الخ، أمسح عليه). يعني وجوب الإتيان بما يتمكّن منه، ويسقط اعتبار المباشرة؛ لأنه لا يتمكن من المسح على البشرة مباشرة، فيجب عليه أن يمسح على المرارة. فتبقى روايات الاضطرار التي ورد فيها عنوان(وقد أحلّه الله) بحيث يكون الاستدلال بحلّية ما يضطر المكلّف إلى فعله، أو تركه، موقوف على تعميم الحلّية إلى الحلّية الوضعية والحلية التكليفية، وقلنا: أنّ الظاهر من الحلّية هي الحلية التكليفية، فلا يكون هذا الاستدلال واضحاً. وهذه الروايات الأخرى التي لم يرِد فيها عنوان(الحلّية) يكون الاستدلال بها موقوفاً على أن نفهم منها ـــــــ وقلنا أن هذا ليس بعيداً بالنسبة إلى بعض الروايات ـــــــ أنّ الإمام (عليه السلام) استدلّ بهذه العمومات على سقوط الجزئية ووجوب الإتيان بالباقي. هذا ما يمكن أن يقال في هذا المقام.
آخر مطلب من هذا البحث هو مسألة تعرّضوا لها في ذيل كلامهم عن هذه المسألة، قالوا: إذا كان للمركّب من أجزاء بدل اضطراري وتعذّر أحد أجزائه، كالوضوء، فهو مركب من أجزاء، وتعذر أحد أجزائه، وكان للوضوء بدل اضطراري الذي هو التيممّ. الكلام هو عندما يتعذر الإتيان بهذا المركب التام ــــــــ الوضوء المؤلف من عشرة أجزاء ـــــــــ باعتبار تعذر بعض أجزائه؛ حينئذٍ ما هي وظيفة المكلّف ؟ أدلة بدلية التيمم تقول انتقل إلى التيمم، باعتبار أن التيمم بدلٌ عن الوضوء. قاعدة الميسور أو الأدلة الأخرى التي يُستدل بها عليها تقول انتقل إلى الناقص. هذا الوضوء المركب من عشرة أجزاء عندما يتعذر أحد الأجزاء يجب عليك الإتيان بالميسور منه، يعني يجب عليك الإتيان بالناقص، هناك فرق بين التيمم وبين الوضوء الناقص، فماذا يفعل المكلّف ؟ هل ينتقل إلى التيمم، أو يأتي بالوضوء الناقص؟ هذا يُفرض عندما يكون للمركب بدل اضطراري، فيقع الكلام هنا في أيهما يُقدّم ؟ هل يُقدّم البدل الاضطراري الذي هو التيمم في هذا المثال على الإتيان بالوضوء الناقص، فيتيممّ ؟ أو يقدّم الوضوء الناقص على البدل الاضطراري، فيجب عليه الإتيان بالوضوء ناقصاً من دون ذلك الجزء المتعذر ؟
الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) ذكر في هذه المسألة أنّ هناك وجهين: وجه يقتضي تقديم البدل الاضطراري الذي هو التيمم في المثال. ووجه يقتضي تقديم الوضوء الناقص. وجه تقديم البدل الاضطراري الذي ذكره الشيخ(قدّس سرّه) هو أنه يقول: أنّ مقتضى كون التيمم بدلاً عن الوضوء هو أنّ التيمم بدل عن الوضوء بتمام المعنى، أي بدل عنه في كل شيءٍ، يعني كل شيء يثبت للمبدل يثبت للبدل، ومن جملة الأشياء التي تثبت للمبدل هو أنه يتقدّم على الوضوء الناقص، بمعنى أنّ المبدل الذي هو الوضوء التام الذي جُعل التيمم بدلاً عنه من الأشياء التي تثبت للوضوء التام هو أنه يتقدّم على الوضوء الناقص، بدله أيضاً يأخذ هذا الأثر، فيتقدّم على الوضوء الناقص، فعند تعذّر الإتيان بالوضوء التام ينتقل إلى البدل الاضطراري الذي هو التيمم ولا ينتقل إلى الوضوء الناقص؛ لأنّ هذا من آثار البدلية، من آثار جعل التيمم بدلاً عن الوضوء. هذا وجه يمكن أن يُفسّر به كلام الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه).[4]
الوجه الثاني، يعني وجه تقديم الوضوء الناقص على التيمم هو أنّ الناقص في حال الاضطرار تام. نعم الناقص في حال التمكّن ليس تاماً، لكنه في حال الاضطرار والتعذر يكون تاماً، باعتبار أنّ قاعدة الميسور ـــــــــ إذا تمّت ــــــــ تقتضي أنّ جزئية الجزء تنتفي في حالة التعذر، فلا يكون جزءاً من المركب، وإنما المركب في حال التعذر يتألف من تسعة أجزاء. نعم، في حال التمكن يتألف من عشرة أجزاء، لكن في حال التعذر يتألف من تسعة أجزاء. هذا هو المركب التام في حال التعذر. إذن: ما نسميه بالناقص هو في الواقع تام في حال التعذر. ومن هنا يكون هذا الوضوء الذي نعبّر عنه بالناقص والذي تقتضي قاعدة الميسور أنه تام في هذه الحالة لابدّ أن يتقدّم على التيمم؛ لأنه وضوء تام في هذه الحالة؛ فحينئذٍ يتقدّم على البدل الاضطراري، ولا تصل النوبة إلى البدل الاضطراري مع التمكّن من الإتيان بالوضوء التام في هذه الحالة. هذا وجه لتقديم الوضوء الناقص على البدل الاضطراري. ذكر الشيخ(قدّس سرّه) وجهين ولم يرجّح احدهما على الآخر.
الذي يُلاحظ على وجه تقديم البدل الاضطراري هو أنّ ما ذُكر في هذا الوجه هو في واقعه تمسّك بإطلاق دليل البدلية، ونقول لدينا دليل يدلّ على أنّ التيمم بدلٌ عن الوضوء، مقتضى إطلاق دليل البدلية هو أنه بدلٌ عنه في جميع الآثار والخصائص الثابتة له، ومنها تقدّمه على الوضوء الناقص؛ إذ لا إشكال أنّ هذه خصيصة وأثر ثابت للوضوء التام، أنه يتقدّم على الوضوء الناقص، التيمم جُعل بدلاً عن الوضوء التام بلحاظ كل آثاره، ومنها تقدّمه على الوضوء الناقص، فالتيمم أيضاً يتقدّم على الوضوء الناقص، وهذا في الحقيقة تمسّك بإطلاق دليل البدلية، وهذا ليس واضحاً. أصل البدلية قد تكون موجودة في بعض الأمور، لكن ليس كل بدل جُعل في دليله بعنوان أنه بدل. صحيح الفقهاء يعبّرون عنه بالبدل، لكن في لسان دليله لم يُجعل بعنوان أنه بدل، الأدلة دلّت على وجوب التيمم: ﴿ فتيمموا صعيداً طيباً ﴾[5] ليس بعنوان أنه بدلٌ حتى نتمسّك بإطلاق دليل البدلية لإثبات أنه يقوم مقامه حتى في هذا الأثر، وهو أنه يتقدّم على الوضوء الناقص، أصلاً وجوب التيمم، وهكذا سائر الأمور الأخرى ما جُعل بلسان وعنوان البدلية، أنّ هذا بدل عن ذاك حتى نتمسّك بإطلاق دليل البدلية لإثبات هذا المُدّعى. هذا من جهة.
حتى لو فرضنا أنّ وجوب البدل الاضطراري في لسان دليله ثبت بعنوان أنه بدلٌ عن الوضوء، لكن دعوى إطلاق هذه البدلية على نحو تشمل حتى مثل هذا الأثر غير واضح، المتيقن من البدلية هو كون التيمم بدلاً عن الوضوء في حصول الطهارة، وفي جواز الدخول في الصلاة وغير الصلاة مما يُشترط فيه الطهارة، إذا دلّ الدليل على أنه يجب بعنوان البدل فالمتيقن منه هو هذه الآثار وليس حتى بلحاظ كونه متقدماً على الوضوء الناقص، ليس واضحاً أن البدلية فيها إطلاق وسعة تشمل حتى مثل هذا الأثر. ومن هنا يكون هذا الوجه مخدوشاً من هذه الجهة.
وأيضاً لوحظ على وجه الاحتمال الثاني الذي ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) أنّ قاعدة الميسور لا يُستفاد منها إلا أنّ الوجوب الثابت للأجزاء سابقاً لا يسقط حتى بعد تعذر الجزء كما تقدم سابقاً.
وبعبارة أخرى: أنّ المستفاد من قاعدة الميسور وسائر الأدلة هو وجوب الباقي في حالة تعذّر بعض الأجزاء، لكن لا يستفاد من قاعدة الميسور تنزيل الباقي منزلة التام كما ذُكر في وجه الاحتمال الثاني والذي كان يقول أنّ الناقص تام بقاعدة الميسور، فكأنّ قاعدة الميسور يُستفاد منها تنزيل الناقص منزلة التام، أو اعتبار الناقص تامّاً؛ حينئذٍ هذا الوجه يقول: الناقص في حال الاضطرار صار تامّاً، فلا تصل النوبة إلى البدل الاضطراري، فيكون الناقص هو الواجب، فيُقدّم الناقص على البدل الاضطراري الذي هو الاحتمال الثاني الذي ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه). هذا مبني على افتراض أنّ قاعدة الميسور يُستفاد منها اعتبار الناقص تامّاً، وتنزيل الناقص منزلة التام حتى يُذكر هذا المعنى ويُستدل بهذا الدليل. بينما الظاهر أن قاعدة الميسور ليس هذا هو مفادها، وليس فيها هذا التنزيل، وإنما هي تقول أنه في حالة التعذر يجب عليك الإتيان بما تتمكن منه، مفادها عدم سقوط الوجوب الثابت سابقاً للأجزاء الباقية من دون أن يُستفاد منها تنزيل الناقص منزلة التام حتى يقال أنّ هذا صار تامّاً، فاستفادة التنزيل واعتبار الناقص تاماً ليس متاحاً بالنسبة إلى قاعدة الميسور حتى يقال أنّ الناقص صار تامّاً بقاعدة الميسور، فلا تصل النوبة إلى البدل الاضطراري.
يمكن أن يقال في المقام بقطع النظر عن أنّ مفاد قاعدة الميسور هو تنزيل الناقص منزلة التام، وإنما نفترض أنه ليس فيها هذا التنزيل والاعتبار، بالرغم من هذا قد يقال أنّ المستفاد من قاعدة الميسور هو وجوب الباقي، وهذا يقتضي تخصيص أدلة الجزئية بحال التمكّن؛ لأنّ معنى وجوب الباقي في حال الاضطرار والتعذر أنّ هذا الجزء المتعذر ليس جزءاً من المركب في حال الاضطرار والتعذر، وإنما يكون جزءاً في حال التمكّن، فهو يقتضي في الحكومة ونحو الحكومة تخصيص أدلة الجزئية بحالة التمكّن، وهذا معناه أنّ المأمور به شرعاً في حالة الاضطرار والتعذّر هو المركب من تسعة أجزاء لا أكثر من ذلك؛ فإذا كان كذلك، أي أنّ جزئية الجزء مختصة بحالة التمكّن، أما في حالة الاضطرار فهو ليس جزءاً من المركب، وإنما المأمور به في حال الاضطرار هو المركب من تسعة أجزاء؛ وحينئذٍ يقال: النوبة في هذه الحالة مع التمكن من الإتيان بهذا المركب المأمور به شرعاً في حال الاضطرار، لا تصل إلى البدل الاضطراري الذي هو التيمم؛ لأنّ المركب المأمور به شرعاً في حال الاضطرار هو المركب من تسعة أجزاء، الذي نعبّر عنه بالناقص، فلا تصل النوبة حينئذٍ إلى البدل الاضطراري، باعتبار أنّ البدل الاضطراري يتوقف على ــــــــ هذه الملاحظة مهمة في الاستدلال ـــــــــ عدم التمكن من المبدل بتمام مراتبه، وفي محل الكلام المكلف متمكن من المبدل ببعض مراتبه. صحيح، مرتبته الكاملة التي هي عشرة أجزاء هو غير متمكن منها، لكن ببعض مراتبه يتمكن منها، والدليل أيضاً يدل على أنّ هذا هو الواجب عليه في حالة الاضطرار. إذن: هذا وضوء بمرتبةٍ من مراتبه، وهو متمكن منها، فلا يُنتقل إلى البدل الاضطراري؛ لأنّ البدل الاضطراري فرع عدم التمكن من المبدل بتمام مراتبه؛ حينئذٍ لا تصل النوبة إلى البدل الاضطراري، ويجب عليه الإتيان بالناقص، ويكون هذا وجهاً لتقديم الإتيان بالناقص على الإتيان بالبدل الاضطراري.
نعم، إذا نوقش في هذا، وقيل من أين نأتي بهذا، أنّ البدل الاضطراري هو فرع عدم التمكن من المبدل بتمام مراتبه؛ بل نقول أنّ البدل الاضطراري فرع عدم التمكن من المبدل بمرتبته الكاملة، إذا لم تتمكن من المبدل بمرتبته الكاملة انتقل إلى البدل الاضطراري، أي التيمم، في هذه الحالة لا يمكننا أن نقدّم الوضوء الناقص على البدل؛ بل هنا في الحقيقة يقع التعارض بين الدليلين، دليلان، أحدهما يقول: إذا لم تتمكن من الوضوء بمرتبته الكاملة يجب عليك التيمم. والثاني يقول: إذا لم تتمكن من الوضوء بمرتبته الكاملة يجب عليك الناقص. هذان الدليلان يتعارضان؛ لأنّ كلاً منهما يقتضي تعيّن مفاده، أنّ الواجب في حالة العجز عن المرتبة الكاملة للوضوء، الأول يقول هذا هو الواجب، والثاني يقول هذا هو الواجب.