الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

36/12/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العمليّة / قاعدة الميسور.

كان الكلام في الرواية الثالثة: وهي قوله(عليه السلام):(ما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه) [1] ، تكلّمنا في كيفية الاستدلال بهذه الرواية ودخلنا في بحث أنها هل تشمل المستحبات أو أنها تختص بالواجبات على تقدير تمامية الاستدلال بها ؟

قلنا: أنّ الظاهر أنها تختص بالواجبات ولا تشمل المستحبات، وذلك باعتبار أنّ (لا يترك كله) لها ظهور في النهي عن الترك؛ لأنّ(ما لا يدرك كله) يعني يحرم تركه كله؛ بل يجب الإتيان بالبعض المقدور، وهذا لا يناسب المستحبات، وجوب الإتيان بالباقي وتحريم ترك الكل(لا يترك كله) سواء قلنا أنّ( لا ) ناهية أو قلنا أنها نافية، على كلا التقديرين هي تدلّ على المنع من ترك الكل عند تعذر الإتيان بالكل، إذا تعذّر عليك الإتيان بالكل بتعذّر الإتيان ببعض أجزائه لا تترك الكل؛ بل يجب الإتيان بالأجزاء المقدورة، وهذا المعنى لا يمكن أن ينطبق على المستحبات، وإنما يختص بالواجبات.

قلنا: أنّ الجمع بين ظهور(لا يترك) في المنع من الترك وبين تعميم اسم الموصول للمستحبات مشكل، فإما أن نلتزم بعموم اسم الموصول للمستحبات، فلابدّ أن نتصرّف في ظهور(لا يترك) في المنع من الترك، فنرفع اليد عن هذا الظهور، كما التزم به البعض وأشار إليه الشيخ(قدس سره) في الرسائل، حمل(لا يترك) على مطلق الرجحان، أي رجحان الترك، أو حسب تعبيره على مطلق المرجوحية، يعني مرجوحية الفعل، فيُحمل على مطلق الرجحان لا على خصوص الرجحان الواصل حد الإلزام بالإتيان بالباقي، فلابدّ أن نرفع اليد عن ظهور (لا يترك) في الوجوب، وإمّا أن نحافظ على ظهور (لا يترك) في الوجوب، فلابدّ أن نخصص اسم الموصول بخصوص الواجبات، فالأمر يدور بين هذين الأمرين. الاستدلال مبني على أن نحافظ على ظهور (لا يترك) في الوجوب، وفي المنع من الترك، ونخصص اسم الموصول بخصوص الواجبات.

ذكرنا في الدرس السابق أنّ بعض المحققين حاول أن يقول: لا منافاة بين المحافظة على ظهور (لا يترك) في الوجوب، والمنع من الترك، وفي نفس الوقت نلتزم بشمول اسم الموصول للمستحبات، لا مانع من الجمع بينهما بالبيان الذي ذكرناه، ولا داعي للتكرار. وكان الإشكال عليه هو أنّ الممكن هو الجمع بين استعمال (لا يترك) في الوجوب وبين تعميم اسم الموصول للمستحبات مع كون الوجوب ليس مراداً للمتكلم، لا مانع من أن نجمع بينهما كما هو الحال في الأمثلة التي ذكرها نفس هذا المحقق، أو الأمثلة التي ذكرناها في باب الكنايات، هناك اللّفظ يستعمل في معناه المطابقي، لكن هذا المعنى ليس هو المعنى المراد، وإنما المراد هو المعنى الكنائي، في الأمر الوارد عقيب الحظر الأمر مستعمل في معناه الحقيقي، (فــاصطادوا) مستعمل في معناه الحقيقي، لكن هذا المعنى الحقيقي ليس هو المراد، وإنما المراد هو رفع الحظر المتقدم، أو المتوهّم وجوده، هذا هو المقصود الحقيقي من الكلام، وهذا لا يجعل للكلام ظهور في الوجوب، وإنما فقط هناك استعمال اللّفظ في معناه الحقيقي.

في محل الكلام إذا كان المُدّعى هو الجمع بين استعمال(لا يترك) في الوجوب مع عدم إرادته حقيقة، ومع عدم كونه هو المراد الأصلي وإنما المراد الأصلي هو إبقاء الأمر الأول لا وجوب الإتيان بالباقي. هذا لا مانع من أن نجمع بينه وبين بقاء اسم الموصول على إطلاقه شاملاً للمستحبات؛ لأننا نقول: (لا يترك) مستعمل في الوجوب، لكن المراد به ليس الوجوب، والمتكلّم لا يريد به الوجوب، وإنما يريد ـــــــــ حسب تعبير هذا المحقق ـــــــــــ إبقاء الأمر الأول؛ وحينئذٍ لا مانع من أن يشمل الواجبات ويشمل المستحبات؛ لأن الغرض من(لا يترك كله) هو أنّ الأمر الذي كان موجوداً سابقاً نفسه يبقى، وهذا يشمل المستحبات ويشمل الواجبات. هذا لا مانع من الجمع بينهما. وأمّا أن يقال: نجمع بين ظهور (لا يترك) في الوجوب، وهذا الظهور يكون حجّة وبين تعميم اسم الموصول للمستحبات. هذا الذي ذُكر أنه لا يمكن الجمع بينهما؛ بل نحن إمّا أن نلتزم بالتعميم، فلابدّ من رفع اليد عن هذا الظهور، وإمّا أن نلتزم بهذا الظهور، ولابدّ من تخصيص اسم الموصول بخصوص الواجبات.

إذن: الشيء الممكن هو استعمال(لا يترك) في الوجوب، ولا نرفع اليد عنه ولا نقول أنها مستعملة في معنى آخر؛ بل هي مستعملة في معناها الحقيقي وهو الوجوب، لكنّه ليس هو المراد الأصلي. هذا لا مانع من الجمع بينه وبين تعميم اسم الموصول للمستحبات. لكن المشكلة في هذا أنه يحتاج إلى دليل وقرينة، لما قلناه في الدرس السابق من أنه على خلاف أصالة التطابق بين المدلول التصوري وبين المدلول التصديقي، فأصالة التطابق تقول أنّ المدلول التصوري هو نفس المدلول التصديقي مالم تقم قرينة على التفكيك بينهما، أنّ المدلول الاستعمالي شيء بينما المدلول التصديقي هو شيء آخر، إذا قامت قرينة على ذلك لا بأس، فنلتزم بهذا التفكيك، لكن حينما لا تكون هناك قرينة، فهذا التفكيك بينهما خلاف الظاهر. ومرجع هذا الكلام الذي يقوله، والذي قلنا أنه لو تم يمكن حينئذٍ الجمع بينهما، مرجعه في الحقيقة إلى التفكيك بين المدلول التصوري الاستعمالي وبين المدلول التصديقي. يقول: (لا يترك كلّه) مستعمل في الوجوب، في المنع من الترك، لكن المنع من الترك ليس هو المراد الأصلي؛ بل المراد الأصلي هو شيء آخر، وهو إبقاء الأمر الأول. هذا التفكيك بينهما أمر ممكن، لكنه بحاجة إلى قرينة ودليل، وهي مفقودة في محل الكلام، خصوصاً إذا التفتنا إلى أنّ النهي أو النفي لم يرد في المقام بعنوان عدم السقوط كما ورد في الرواية السابقة(الميسور لا يسقط بالمعسور)، لم يرد هنا بهكذا عنوان حتى نقول أنّ هذا إشارة أو قرينة على أنّ المقصود الحقيقي هو عدم سقوط الأمر الأول. أو بعبارة أخرى: إبقاء الأمر الأول، هنا لم يرد بعنوان عدم السقوط، وإنما ورد بعنوان(ما لا يدرك كله لا يترك كله)، يعني يجب الإتيان بالباقي، بناءً على الاستدلال بالرواية. هذا كان الجواب عمّا ذكره بعض المحققين.

ذكرنا في ذيل البحث السابق أنه قد يقال: أنّ القرينة على هذا التفكيك موجودة، وهي نفس إطلاق اسم الموصول وشموله للمستحبات والواجبات، وهو قرينة على أنّ (ما لا يدرك كله) وإن استُعمل في الوجوب، لكنه لا يراد به الوجوب، وإنما يُراد به ما ذكره من إبقاء الأمر الأول، فيكون إطلاق اسم الموصول هو القرينة.

قلنا: أنّ هذا:

أولاً: تقدم سابقاً بأنّ الأمر معكوس، أو لا أقل نقول: لماذا نجعل هذا قرينة على ذاك؟ بل يمكن أن نجعل ذاك قرينة على هذا، والصحيح هو أنّ(لا يترك كله) يكون هو القرينة على تقييد اسم الموصول بالواجبات لا أن نجعل إطلاق اسم الموصول قرينة على رفع اليد عن ظهور(لا يترك) في الوجوب، وإنما الأمر معكوس كما تقدم سابقاً.

ثانياً: أنّ هذا لا يُحتّم أن يكون المعنى الأصلي المقصود من(لا يُترك) هو بقاء الأمر السابق كما ذكر حتى لو سلّمنا مقدمات ما ذُكر، على ما ذكروا هم، موجود في الرسائل وغيرها أنه لو قدمنا إطلاق اسم الموصول والتزمنا بشموله للمستحبات، فلابدّ من التصرّف في ظهور(لا يترك كله)، لكن نتصرّف فيه بأن نحمله على مطلق رجحان الفعل، أو مرجوحية الترك الذي يناسب المستحبات ويناسب الواجبات كما ذكر الشيخ(قدس سره)، لماذا نحمله ــــــــــ كما هو ذكر ـــــــــ على خصوص إبقاء الأمر الأول وعدم سقوطه، هذا لا داعي له حتى لو سلّمنا بأنّ اسم الموصول يبقى على إطلاقه، ويكون قرينة على التصرّف في(لا يترك) لكن هذا لا يقتضي إلا رفع اليد عن ظهور (لا يترك) في الوجوب بحمله على مطلق الرجحان؛ وحينئذٍ نصل إلى نفس النتيجة التي يريدها، وهي الحمل على الواجبات والمستحبات؛ لأنه بعد حمله على مطلق الرجحان هذا كما يناسب الواجبات يناسب المستحبات.[2] الغرض هو أنه لا تنحصر القضية بافتراض أنّ المراد الأصلي هو إبقاء الأمر الأول، خصوصاً أنّ النهي والنفي لم يرِد بعنوان(عدم السقوط)، وإنما ورد بعنوان(لا يترك كله)، جملة ظاهرة في وجوب الباقي والمنع من تركه؛ فحينئذٍ نقول: إذا اضطررنا، فأننا نحمله كما نحمل صيغة أفعل، فقد نضطر إلى حملها على مطلق الرجحان المناسب للمستحبات وللواجبات، لا أن نحملها على أنّ المقصود به هو إبقاء الأمر الأول وعدم سقوطه حتى نعمّمه للمستحبات، الأمر لا يتوقف على هذا؛ بل بالإمكان حمله على مطلق الرجحان وتعميمه إلى المستحبات.

ومن هنا يظهر أنّ الصحيح في المقام بالنسبة إلى مسألة تعميم الحديث إلى المستحبات، الظاهر أنّ الحديث لا يعمّ المستحبات ويختصّ بالواجبات، باعتبار أنّ (لا يترك) سواء كانت ( لا ) ناهية أو نافية، لها ظهور واضح في المنع من الترك وفي وجوب الإتيان بالباقي المقدور عند تعذر بعض الأجزاء، الشيء الذي لا تدركه كله، بأن تعذّر عليك بعضه يجب عليك الإتيان بالباقي، يُمنع من ترك الكل، فلا يمكنه ترك الكل بحجة تعذّر البعض عليه، الحديث يقول: يجب عليك الإتيان بالباقي، وهذا لا يناسب المستحبات، ولا موجب لرفع اليد عن هذا الظهور، وقلنا أنّ التمسك بهذا الظهور هو الذي يكون قرينة على أنّ الحديث مختصّ بخصوص الواجبات.

 

 

 

 

 


[1] عوالي اللئالي، محمد بن علي بن ابراهيم ابن ابي جمهور الأحسائي، ج4، ص58.
[2] فرائد الأصول، الشيخ الأنصاري، ج2، ص393.