الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

36/12/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العمليّة / قاعدة الميسور.

أما بالنسبة للأمر الثالث الذي تتوقف عليه تمامية الإشكال الذي ذكره السيد الخوئي(قدس سره)، قلنا أنه يتوقف على عدم وجود قرينة لترجيح أحد الاحتمالين على الآخر، والجامع غير موجود، فتكون الرواية مجملة من هذه الجهة. قد يقال هنا، كما هو ذكر وأجاب عنه: بأنّ الأصل أنّ ظهور الأمر والنهي الصادر من الشارع في المولوية يوجب ترجيح جانب حمل الرواية على المركّب ذي الأجزاء، وبالتالي يصح الاستدلال بها، باعتبار أنّ الأصل في كلام الشارع يقتضي حمله على المولوية، وافتراض أنه صدر منه لا بما هو مولى يحتاج إلى إثباتٍ وقرينة، فإذا تردد الأمر بينهما كما هو المفروض في الإشكال؛ حينئذٍ يقال: توجد قرينة موجبة لترجيح أحد الاحتمالين على الآخر، وبالتالي يصح الاستدلال بالرواية.

وأجاب عن هذا الإشكال بما تقدّم، وكان مقصوده هو: أنّ ظهور الكلام في المولوية ليس ظهوراً وضعياً، وإنما هو ظهور سياقي حالي تابع لظهور حال المتكلّم؛ لأنّ المتكلّم عندما يُفترَض أنّ ظاهر حاله أنه في مقام التشريع والجعل يكون لكلامه ظهور في المولوية، فهو ظهور سياقي حالي وليس ظهوراً وضعياً، لو كان ظهوراً وضعياً؛ حينئذٍ يمكن تعيين أحد الاحتمالين في مقابل الاحتمال الآخر استناداً إلى هذا الظهور الوضعي، لكن عندما يكون ظهوراً سياقياً مستنداً إلى ظاهر حال المتكلّم في أنه في مقام الجعل والتشريع؛ حينئذٍ لا يمكن الاعتماد على هذا الظهور والأصل لإثبات إرادة هذا المعنى في مقابل المعنى الآخر. قلنا أنّ محل الكلام من قبيل المثال الذي مثّلنا به سابقاً وليس من قبيل(إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمّى فاكتبوه). هنا واضح لا يوجد تردد في المتعلّق كما يعبّر عنه، ولا يوجد تردد في الموضوع، وإنما نحن لا نعلم أنّ الأمر صدر من المولى بما هو مولى، أو بما هو مرشد ومخبر، الأصل هنا ينفع لتعيين أنه صدر منه بما هو مولى، أنّ الأصل في كلام المتكلّم ــــــــــ الشارع ـــــــــ أن يكون كلامه صادراً منه بما هو مولى. وأمّا في مثل المثال السابق، هو أمر بشيء وتردّد عندي متعلّق الأمر بين أن يكون هو الصلاة حتى يكون الأمر بها مولوياً حتماً، وصدر منه بما هو مولى، أو يكون ــــــــ مثلاً ـــــــــ مراجعة الطبيب حتى يكون الأمر المتعلّق به إرشادياً حتماً. محل الكلام من هذا القبيل؛ لأنّ الموضوع مردّدٌ بين الكلّي ذي الأفراد وبين المركّب ذي الأجزاء، الرواية مردّدة بينهما، إن حملناها على الكلّي ذي الأفراد، فالأمر بالباقي إرشادي لا محالة، وإن حملناها على المركّب ذي الأجزاء، فالأمر بالباقي هو أمر مولوي لا محالة، فيكون ما نحن فيه من قبيل المثال الثاني، في المثال الثاني أو في ما نحن فيه هذا الأصل لا ينفع، ظهور كلام الشارع أنّ ما صدر منه صدر منه بما هو مولى لا ينفع لتعيين أحد الاحتمالين في مقابل الاحتمال الآخر، هو لم يذكر وجهاً لهذا، لكن يُذكر في هذا المجال أنّ الوجه في ذلك هو مسألة أنّ هذا الظهور لا ينعقد في حالةٍ من هذا القبيل، في محل الكلام وفي المثال الذي ذكرناه هذا الظهور لا يكون له ثبوت حتى يُستند إليه؛ لأن هذا الظهور كما قلنا ظهور حالي سياقي يعتمد على ظاهر حال المتكلّم، وفي ما نحن فيه الكلام احتفّ بما يصلح أن يكون قرينةً على إرادة خلاف هذا الظهور، وهذه القرينة هي احتمال أن تكون الرواية ناظرةً إلى الكلّي ذي الأفراد، وبناءً على هذا الاحتمال سيكون الأمر إرشادياً لا محالة، إذن: هذا يصلح أن يكون قرينةً على أنّ المتكلّم لم يصدر منه الكلام بما هو مولى، يعني يكون قرينةً على خلاف هذا الظهور. إذن: كلام المتكلّم في هذه الرواية احتفّ بما يصلح أن يكون قرينةً على خلافه؛ لأنه على تقدير أن تكون الرواية ناظرةً إلى الكلّي ذي الأفراد، فالأمر إرشادي، بمعنى أنّ المتكلّم لم يصدر منه هذا الكلام بما هو مولى، وبعبارةٍ أخرى: أنّ المتكلّم ليس في مقام التشريع والجعل حتى يكون ما صدر منه أمراً مولوياً، وإنما هو في مقام الإرشاد، فالظهور في المولوية الذي يستند إلى ظاهر حال المتكلّم سوف لا يبقى حينئذٍ؛ لأنه يستند إلى ظهور حال المتكلّم في أنه في مقام التشريع والجعل، هذا الظهور لا ثبوت له في محل الكلام؛ لوجود ما يصلح أن يكون قرينةً على خلافه، وهو نفس أحد الاحتمالين الذَين يتردّد بينهما الأمر، أنه هل هو ناظر إلى الكلّي ذي الأفراد، أو أنه ناظر إلى المركّب ذي الأجزاء، على تقدير أن تكون الرواية ناظرةً إلى الكلّي ذي الأفراد؛ حينئذٍ لا يبقى هذا الظهور؛ لأنّ هذا الظهور كما قلنا يعتمد على ظهور حال المتكلّم في أنه في مقام الجعل والتشريع. نعم، على التقدير الآخر يبقى هذا الظهور. إذن: في المقام نستطيع أن نقول أنّ هذا الكلام الصادر من المتكلّم احتفّ بما يصلح أن يكون قرينةً صارفةً لهذا الظهور ولا يمكن الاعتماد على هذا الظهور في مثل محل الكلام وفي مثل المثال السابق الذي ذكرناه، بخلاف المثال الأوّل الذي ذكرناه ﴿إذا تداينتم بدين فاكتبوه[1] ليس هناك تردّد، واضح أنه أمر بكتابة الدين، وشكّنا منحصر في أنه هل صدر منه بما هو مولى، أو صدر منه بما هو مرشد، فنقول: أنّ الأصل في كلام المتكلّم أنه يصدر منه بما هو مولى. هذا ما يمكن أن يُقرّب به ما ذكره(قدس سره) كجواب على الإشكال.

قد يقال أيضاً في هذا الصدد: في مقام دكر القرائن المعيِّنة لأحد الاحتمالين؛ لأنه قال بعدم وجود قرينة، فيكون الكلام مجملاً. في مقابله قد يقال أنّ هناك قرينة غير ما تقدّم تقتضي حمل الرواية على المركب ذي الأجزاء، وهذه القرينة هي أن يقال: نفس استبعاد حمل الرواية على الكلّي ذي الأفراد يكون قرينة على حملها على المركب ذي الأجزاء، فيصح الاستدلال بها. وهذا الاستبعاد ناشئ من دعوى أنّ وجوب الباقي في باب الكلّي ذي الأفراد هو من الأمور الواضحة وبيانها يدخل في بيان الأمور الواضحة البديهية، وجوب الباقي بالنسبة للكلّي ذي الأفراد، باعتبار ما تقدّم من أنّ وجوب الكلّي ذي الأفراد ينحلّ إلى وجوباتٍ مستقلةٍ غير مترابطة، ولا ربط لوجوب هذا بوجوب ذاك، فإذا تعذّر إكرام بعض العلماء لا موجب لسقوط وجوب إكرام الباقي، فتبيين وجوب إكرام الباقي بعد التعذّر من قِبل الشارع يكون من توضيح الواضحات، بخلاف ما إذا حُملت الرواية على المركّب ذي الأجزاء، فأنّ وجوب الباقي ليس هكذا، ليس هناك وضوح في وجوب الباقي؛ بل بالعكس، بالنظرة الأولية يسقط وجوب الباقي ولا يبقى، فعندما يتصدّى الشارع لبيان وجوب الباقي، فأنه يكون أمراً مقبولاً ومعقولاً وليس من باب توضيح الواضحات، وهذا يكون قرينةً مرجّحةً لاحتمال حمل الرواية على المركّب ذي الأجزاء في مقابل حملها على الكلّي ذي الأفراد. ذكرنا في الدرس السابق أنّ هذه القرينة الظاهر أنه لابدّ أن نشترط في دخول المورد في هذه القاعدة، لابدّ أن تكون هناك جهة مشتركة بين الميسور وبين المعسور، هذه الجهة المشتركة هي التي توجب توهّم السقوط حتى يكون مفاد هذه الرواية هو دفع هذا التوهّم، وأنه لا موجب للسقوط في المقام، فيبقى الأمر بالباقي على حاله. إذن: لابدّ من وجود جهة مشتركة بين الميسور والمعسور حتى يكون سقوط المعسور موجباً لتوهّم سقوط وجوب الميسور، وهذا كما قلنا لا يتحقق في مثل وجوب الصلاة ووجوب الكفارة ــــــــــ مثلاً ـــــــــ ليس هناك جهة توهّم أنّ سقوط وجوب الكفارة عند العجز عنها يوجب سقوط وجوب الصلاة حتى يتصدّى الشارع لدفع هذا التوهّم وبيان وجوب الباقي وبيان أنّ الميسور لا يسقط بسقوط المعسور، لا وجه لذلك، إذن: لكي يدخل المورد في القاعدة لابدّ من افتراض أنّ هناك توهّم سقوط للميسور بسبب تعذّر البعض، إذا اشترطنا هذا في القاعدة، وفرضنا أنّه في باب الكلّي ذي الأفراد يوجد هذا التوهّم، ولو باعتبار اشتراكهما في دليلٍ واحد، قد يحصل تخيّل أنّ هذا الدليل الواحد يسقط لتعذّر بعض أفراده، فلا يجب إكرام الباقي، أو يجمعها عنوانٌ واحد، هنا أيضاً قد يقال: هذا العنوان الواحد أيضاً إذا تعذّر امتثال بعض أفراده يسقط العنوان، وبالتبع يسقط الأمر المتعلّق به. إذا فرضنا أنّ لدينا كلّي ذي أفراد، أصلاً توهّم السقوط غير موجود فيه، هذا لا يدخل في القاعدة اساساً، وليس الكلام فيه، وإنما الكلام في شمول الرواية للكلّي ذي الأفراد، أو اختصاصه بالكلّي ذي الأفراد فيما إذا كان هناك توهّم السقوط بالتعذر، هذا شرط لابدّ منه، فعندما نشترط هذا في شمول الرواية للكلّي ذي الأفراد، أو دلالتها على وجوب الباقي فيه؛ حينئذٍ لا يمكن أن نقول أنّ هذه العبارة من باب توضيح الواضحات، بحيث يكون الكلام لغواً وبلا فائدة ولا يترتب عليه أي أثر، كلا، هذه العبارة صدرت لداعي ولغرض دفع هذا التوهّم الموجود في باب الكلي، وأيّ ضيرٍ في أن نقول أنّ الشارع يتصدّى لدفع هذا التوهم، فيقول أنّ الميسور من الكلّي يجب الإتيان به إذا تعذّرت بعض أفراده ؟! هذا أمرٌ مقبولٌ ولا يدخل في باب توضيح الواضحات، وإنما هناك توهّم ولبس وتردد، الشارع يريد أن يزيل هذا بقوله أنّ الميسور لا يسقط بالمعسور لو حملناه على الكلّي ذي الأفراد. إذن: المسألة ليست من باب توضيح الواضحات بحيث يكون الكلام لغواً وعبثاً وبلا فائدة، ليس هكذا، هناك توهم السقوط، وهذا موجود في باب الكلّي ذي الأفراد، باعتبارات متعددة وهذا يصحح أن يصدر بيان لدفع هذا التوهم بعنوان أنّ الميسور لا يسقط بالمعسور. فهذا وحده لا يصلح أن يكون قرينة لترجيح هذا الاحتمال على الاحتمال الآخر.

قد يقال أيضاً: أنّ القرينة على حمل الرواية على المركّب ذي الأجزاء، وبالتالي صحة الاستدلال بالرواية في محل الكلام هي ظاهر العبارة نفسها، فالعبارة ظاهرة في المركّب ذي الأجزاء بقطع النظر عن أي شيءٍ آخر، العبارة ظاهرة في هذا، وحملها على الكلّي ذي الأفراد خلاف الظاهر ويحتاج إلى بذل عنايةٍ حتى تكون الجملة صادقة في مورد الكلّي ذي الأفراد، وإلا هي بدون عناية هي ظاهرة في المركّب ذي الأجزاء، وهذا الظهور يأتي من دعوى أنّ المستفاد من الرواية هو أنّ هناك شيئاً واحداً له ميسور ومعسور، والرواية تقول أنّ الميسور من هذا الشيء لا يسقط بالمعسور منه، إذن: لابدّ أن يكون المأمور به شيئاً واحداً له ميسور وله معسور، معسوره هي المرتبة العليا منه، وهي الإتيان بتمام الأجزاء، هذا معسور؛ لأنّ المفروض تعذّر البعض. وميسوره هو الباقي من الأفراد أو الأجزاء، الرواية تقول: أنّ الميسور من ذلك الشيء لا يسقط بسقوط المعسور الذي هو المرتبة العُليا من ذلك الشيء والذي هو عبارة عن الإتيان بتمام الأجزاء، المرتبة الدانية من الشيء التي عُبّر عنها بالميسور منه لا تسقط بسقوط المعسور. إذن: لابدّ أن يكون المأمور به شيئاً له ميسور ومعسور، والرواية تقول أنّ الميسور من هذا الشيء لا يسقط بسقوط المعسور. هذا هو الذي يُفهم من الرواية، وهذا المعنى لا ينطبق إلا على المركّب ذي الأجزاء بقطع النظر عن إعمال العناية؛ لأنه في المركّب ذي الأجزاء هناك شيء، ونستطيع أن نقول أنّ الباقي ميسور من ذلك الشيء، المأمور به هو المركّب كالصلاة، وفرضاً تعذّر التشهد عليه، نستطيع أن نقول أنّ الباقي من أجزاء الصلاة هو ميسور من الصلاة، مرتبة من الصلاة ولو كانت مرتبة دانية؛ لأنه ميسور منها، وهذا الميسور من الصلاة لا يسقط بسقوط المعسور، يعني المرتبة العليا التامة للصلاة التي هي عبارة عن الإتيان بجميع أجزائها، إذا تعسّر عليك ذاك؛ حينئذٍ لا يفوتك الإتيان به بمرتبته الدانية التي عُبّر عنها بالميسور، هذا ينطبق انطباقاً حقيقياً وبلا عناية وبلا أيّ مسامحة. أما إذا أردنا تطبيقه على الكلّي ذي الأفراد، هنا لابدّ من بذل عنايةٍ، ولا يمكن تطبيقه بشكلٍ عادي وبلا بذل عناية، في باب الكلّي ذي الأفراد ليس لدينا شيء يبرّر لنا أن نقول أنّ الباقي ميسور من ذلك الشيء، ليس ميسوراً من ذلك الشيء، الأفراد لها وجوبات مستقلة، والباقي ليس ميسوراً من شيء، لا يوجد شيء هناك في باب الكلّي ذي الأفراد نعبّر عنه بأنّ هذا الباقي ميسور منه، بعبارة أخرى: (أكرم العلماء) هو بمثابة أن يقول أكرم هذا، وأكرم هذا، وأكرم هذا .......وهكذا. أيّ معنى في أن نقول بأنّ إكرام هذا هو ميسور من إكرام هذا الفرد، أو من إكرام هذا الفرد ؟ ليس ميسوراً من شيء، بخلاف الباقي في المركّب ذي الأجزاء، هناك شيء مأمور به، نستطيع أن نقول أنّ الباقي ميسور منه، الرواية تقول أنّ الميسور من شيءٍ لا يسقط بتعذر المعسور منه، هذا لا ينطبق على الكلّي ذي الأفراد؛ لأنه في باب الكلّي ذي الأفراد هناك وجوبات متعددة بعدد الأفراد وليس هناك شيء يجمعها، وإنما هي وجوبات متعددة بتعدد الأفراد، وليس الباقي ميسوراً من شيءٍ حتى نقول أنّ هذا الباقي ميسور من ذلك الشيء والرواية تشمله وتدل على عدم سقوطه بتعذر المعسور منه. نعم، لابدّ من بذل عنايةٍ حتى يصح هذا، والعناية هي أن نأخذ العام هو الشيء المأمور به، ونفترض وحدة الأمر بالعام، فإذا افترضنا له وحدة؛ حينئذٍ يمكننا أن نقول: أنّ الباقي ميسور من ذلك العام الذي تعلّق به الأمر والذي اعتبرنا له وحدة؛ حينئذٍ يكون الباقي ميسوراً منه، فتكون الرواية شاملة له، وإلا من دون بذل هذه العناية ليس لدينا شيء في باب الكلّي ذي الأفراد يكون الباقي ميسوراً منه، إلا ببذل عناية، فإذا قلنا أنّ هذه عناية، والأصل عدمها؛ حينئذٍ تُحمل الرواية على معناها الظاهر الذي لا يحتاج إلى عنايةٍ وهو المركّب ذي الأجزاء، فيكون هذا قرينةً على ترجيح حمل الرواية على المركّب ذي الأجزاء في مقابل حملها على الكلّي ذي الأفراد. أما هذه العناية ما هي درجتها؟ وهل يمكن توجيهها ؟ يمكن أن يقال أنها مفترضة في نفس المقام، فهذا مطلب آخر، لكن بالنتيجة هذه عناية يحتاجها حمل الرواية على الكلّي ذي الأفراد، لابدّ من افتراض وحدة حتى تكون الرواية ناظرة إلى هذا الشيء الواحد، وتقول بأنّ الميسور منه لا يسقط بالمعسور، ومن دون افتراض هذه الوحدة يكون حمل الرواية عليه خلاف الظاهر.

ملخّص ما ذُكر في هذا الإشكال: قلنا أنّ هذا الإشكال يتوقف على أمور:

بالنسبة للأمر الأوّل الذي يتوقف عليه الإشكال، الظاهر أنّ ما ذكره السيد الخوئي(قدس سره) صحيح، بمعنى أنّ هناك ملازمة بين حمل الرواية على الكلّي ذي الأفراد وبين كون الأمر المستفاد من الرواية إرشادياً. الظاهر أنّ هذا هو الصحيح بناءً على ما ذكرنا من أنّ الأمر بالباقي في باب الكلّي ذي الأفراد هو أمر إرشادي لغرض التنبيه على بقاء الباقي وأنه لم يحدث ما يوجب سقوطه لدفع توهّم السقوط، وهذا المعنى يناسب الإرشاد.

وأما الأمر الثاني وهو أنّ شمول الرواية لكلا الأمرين مع عدم وجود جامعٍ يستلزم استعمال اللّفظ في معنيين، فقد تبيّن أنه يمكن الخدش فيه، باعتبار أنه لا يلزم من الجمع استعمال اللّفظ في معنيين؛ بل هو استعمالٌ للّفظ في معنىً واحد حتى إذا قلنا بشمول الرواية لكلا الأمرين؛ لأنّ المولوية والإرشادية ليست من المداليل التصوّرية التي يُستعمل فيها اللّفظ.

وأما الأمر الثالث وهو عدم وجود قرينة لتعيين أحد الاحتمالين، الظاهر أنّ هذه أيضاً غير تامّة لوجود ظهور، ولو ظهور في الجملة التي تصلح أن تكون قرينة لتعيين إرادة المركّب ذي الأجزاء في مقابل إرادة الكلّي ذي الأفراد، وهي ظهور الجملة بالمعنى الذي ذكرناه، وقلنا أنّ الجملة فيها ظهور في هذا المعنى، والمقصود هو أنّ الميسور من الشيء لا يسقط بسقوط المعسور، وهذا يستلزم افتراض شيء هو المأمور به، ويكون الباقي ميسوراً منه. هذا الكلام كلّه بناءً على الاحتمال الأوّل، أو الاحتمال الثاني في تفسير جملة(لا يسقط)، الاحتمال الأوّل الذي يقول أنّ الجملة هي نهيٌ ابتدائي، أو الاحتمال الثاني الذي يقول هو نفيٌ، لكنه مسوقٌ لبيان إنشاء حكمٍ تكليفي، نفيٌ، لكن يُراد به النهي. وأما بناءً على ما هو الصحيح في تفسير هذه العبارة وهو أن نفسّرها بالتفسير الثالث، وهو أنها إخبارٌ محضٌ عن عدم السقوط، أصلاً لا تستبطن أيّ إنشاء تكليف، هي أخبار عن عدم السقوط، بمعنى أنّ حكم الميسور لا يسقط بتعذر بعض الأجزاء أو بعض الأفراد على الخلاف في شمولها للأفراد أو عدم شمولها. إخبار محض ليس فيها جنبة إنشاء، ولا تستبطن إنشاء تكليف، ولا يُقصد بهذا الإخبار إنشاء تكليف، نهي أو أمر، وإنما هي إخبار عن عدم السقوط. وبناءً على هذا؛ حينئذٍ لا موضع للإشكال الذي ذكره السيد الخوئي(قدس سره) أساساً، وهو أيضاً ذكر بأنّ هذا الإشكال مختصٌ بالاحتمال الأوّل، وقلنا أنه لا داعي لتخصيصه بالاحتمال الأول؛ بل يجري حتى على الاحتمال الثاني، لكنه لا يجري على الاحتمال الثالث؛ لأنّ الجملة تكون جملة خبرية وليس فيها إنشاء أو طلب، فلا معنى لأن نقول أنّ هذه الجملة مردّدة بين أن يكون الأمر فيها إرشادياً على تقدير حملها على الكلّي ذي الأفراد، أو مولوياً على تقدير حملها على المركب ذي الأجزاء، هذا الكلام لا موضع له؛ لأنّ المفروض أنّ الجملة خبرية تخبر عن عدم السقوط، فإذا استظهرنا من الرواية معنىً يناسب كلاً من الأمرين لا مانع من شمول الرواية لكلا الأمرين، فإذا أمكن تطبيق الرواية على كلٍ منهما، على المركّب ذي الأجزاء وعلى الكلّي ذي الأفراد، يكون للرواية معنى واحد وهو الأخبار عن عدم سقوط الباقي بتعذر البعض، وإذا استفدنا من الرواية معنىً لا يناسب الكلّي ذي الأفراد، وإنما يناسب المركّب ذي الأجزاء؛ حينئذٍ تكون الرواية دالة على هذه القاعدة ولا يرِد هذا الإشكال. على كل حال، على الاحتمال الثالث ليس هناك إعمال مولوية إطلاقاً، إخبارٌ صِرف عن عدم السقوط. نعم، لازم عدم السقوط هو بقاء الوجوب، لكن هذا شيء آخر ليس معناه أنّ الشارع هو أنشأ حكماً تكليفياً بالجملة الخبرية؛ بل هو لم يُنشأ حكماً تكليفياً، يعني ليس نفياً يُقصد به النهي، كلا، هذا الاحتمال الثاني، الاحتمال الثالث يقول أنه إخبارٌ صِرفٌ، إخبار عن عدم السقوط، ولازم عدم السقوط هو بقاء الوجوب.

على كل حال. تبيّن ممّا تقدّم أنّ الرواية تشمل المستحبات والواجبات ولا داعي لتخصيصها بخصوص الواجبات، باعتبار ما تقدّم من أنّ مفاد الرواية هو إبقاء ما كان، شبيهة جداً بدليل الاستصحاب، الميسور لا يسقط، وقلنا لا يسقط بلحاظ حكمه، لا يسقط عن موضوعيته لحكمه، نحن رجّحنا أنه لا يسقط بلحاظ حكمه، بالدقة يختلف عن هذا أو هو نفسه ؟ هذا ليس مشكلة، لكن بالنتيجة أنه لا يسقط بلحاظ حكمه، وهذا المعنى ينطبق على الواجبات والمستحبات، ويختلف باختلاف الحكم مثل الاستصحاب(لا تنقض اليقين بالشك) هذا يختلف باختلاف المتيقن سابقاً، إن كان واجباً، يُستصحب الواجب، وإن كان مستحبّاً يجري استصحاب المستحب، هنا أيضاً يقول(ابقِ ما كان) هذا الميسور السابق لا يسقط بلحاظ حكمه، يعني يبقى حكمه، فإن كان حكمه السابق هو الاستحباب، وكان الكل مستحب، فيبقى حكمه، وإن كان واجباً وكان الكل واجباً؛ فحينئذٍ أيضاً يبقى حكمه، فالظاهر أنّ الرواية تشمل الواجبات وتشمل المستحبات. بالنسبة إلى شمولها إلى الكلّي ذي الأفراد، قلنا أنّ هذا يحتاج إلى إعمال عناية، إذا استُظهر أنّ العناية موجودة؛ حينئذٍ لا مانع من شمولها لهما، وإلا فالظهور الأولي أنها تختص بالمركّب ذي الأجزاء، ومنه يظهر أنه يمكن الاستدلال بهذه الرواية على قاعدة الميسور في محل الكلام.


[1] البقرة/السورة2، الآية282.