الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

36/11/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العمليّة / قاعدة الميسور.

الإشكال الثاني على الاستدلال بالرواية في المقام هو ما ذكره السيد الخوئي(قدس سره)، ذكر أنّ الرواية يدور أمرها بين أمرين، بين حملها على المركب إذا تعذر بعض أجزائه؛ حينئذٍ يكون الوجوب المستفاد منها وجوباً مولوياً، باعتبار أنّ وجوب الباقي وجوب جديد؛ لأنّ الوجوب الذي كان ثابتاً سابقاً غير الوجوب الذي يثبت للباقي من الأجزاء، فإذن: وجوب الباقي على تقديره، هو وجوب جديد، وعلى تقدير أن يكون هذا ثابتاً، فهو وجوب مولوي ثابت لدليل، وليس وجوباً يدركه العقل حتى يقال أنّ الوجوب المستفاد من الرواية في مورده يكون إرشادياً؛ بل هو وجوب مولوي، وبين حمل الرواية على الكلّي إذا تعذر بعض أفراده؛ حينئذٍ يكون الوجوب المستفاد من الرواية، أي وجوب الباقي بعد تعذر بعض الأفراد من الكلّي، يكون وجوباً إرشادياً وليس وجوباً مولوياً، باعتبار أنّ هذا الوجوب يكون إرشاداً إلى ما يحكم به العقل، العقل يحكم في المقام بأنه لا موجب لسقوط شيءٍ لتعذر شيءٍ آخر؛ لأنّ المفروض في الكلّي أنّ الوجوبات بلحاظ الأفراد وجوبات استقلالية، كل واحدٍ منها له وجوب مستقل، تعذر بعض الأفراد وسقوط بعض الوجوبات عن بعض الأفراد بالتعذر لا يوجب سقوط وجوب الباقي، فوجوب الباقي وجوب يدركه العقل ويحكم به، فيكون الوجوب المستفاد من هذه العبارة الصادرة من الشارع وجوباً إرشادياً إلى ما يدركه العقل؛ لأنه لا مبرّر لسقوط وجوب شيءٍ لتعذر شيءٍ آخر وسقوط وجوب شيءٍ آخر، فيكون الوجوب وجوباً إرشادياً، وحيث أنه لا جامع بين الوجوبين المولوي والإرشادي حتى تكون الرواية شاملة لكلا الموردين، للكلّي مع أفراده إذا تعذر بعض أفراده، وللمركب إذا تعذر بعض أجزائه، لا جامع بينهما، ولا قرينة لتعيين أحدهما في مقابل الآخر؛ حينئذٍ تكون الرواية مجملة، وتسقط عن صلاحية الاستدلال بها في محل الكلام.[1]

ثم أنه(قدس سره) أورد على نفسه: والظاهر أنّ الإيراد يرتبط بما ذكره أخيراً من عدم وجود قرينةٍ لتعيين أحد الاحتمالين، فأشكل على نفسه بأنه لماذا لا يجري الأصل الذي هو أنّ الكلام الصادر من الشارع ظاهر في المولوية، إلا أن يقوم دليل على خلاف ذلك، فتُحمل على الإرشاد، وإلا الأصل في كلام الشارع أنه يُحمل على المولوية، هذا الظهور في كلام الشارع في أنّ الأمر الصادر منه ظاهر في المولوية، هذا الظهور يكون مرجّحاً لأحد الاحتمالين على الآخر، يعني يكون مرجّحاً لحمل الرواية على المركّب ذي الأجزاء؛ لأنّ الوجوب بناءً على هذا كما ذكر يكون وجوباً مولوياً، بينما إذا حملناها على الكلّي ذي الأفراد؛ حينئذٍ يكون الوجوب وجوباً إرشادياً.

فإذن: كون الأصل في كلام الشارع هو كونه مولوياً، وخطابه والأمر الصادر منه ظاهر في المولوية يُرجّح هذا الاحتمال على ذاك الاحتمال، وبذلك يصح الاستدلال بالرواية؛ لأننا عيّنّا أنّ الرواية تُحمل على المركّب ذي الأجزاء إذا تعذر بعض أجزائه، فيصح الاستدلال بالرواية.

أشكل(قدس سره) على نفسه بهذا، وأجاب: بأنه لا يصح في المقام التمسّك بهذا الظهور؛ لأنّ هذا الظهور والأصل إنما يصح التمسك به فيما إذا عُلم متعلق الأمر، ويُشك في كونه مولوياً، يعني أنّ هناك حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون متعلّق الأمر معلوماً وواضحاً وليس فيه تردد، لكن نشك في أنه هل أمر به على نحو المولوية، أو أمر به على نحو الإرشاد ؟ لكن الموضوع واضح وليس فيه ترديد. في هذه الحالة يأتي هذا الظهور لتعيين أنّ الكلام صدر منه بما هو مولى، فيكون الأمر مولوياً. (مثلاً): في قوله تعالى:﴿إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مُسمّى، فاكتبوه﴾.[2] نشك في أنّ(فاكتبوه) هل صدر من الشارع بما هو مولى، أو أنه إرشاد إلى وجود مصلحةٍ في كتابة الدَين وتوثيقه. في هذه الحالة يأتي الأصل وهذا الظهور يحتّم علينا أن نحمل الكلام على المولوية لا على الإرشاد؛ لأنّ الأصل في كلام الشارع أن يكون على نحو المولوية، وأنه صدر منه بما هو مولى وبما هو ناصح أو مرشد.

الحالة الثانية: أن يكون متعلّق الأمر مردّداً بين أمرين، على تقدير أن يكون المراد به أحد هذين الأمرين يكون الأمر مولوياً لا محالة، وعلى التقدير الآخر يكون الأمر إرشادياً لا محالة، بحيث في هذه الحالة لا يجري هذا الظهور، ولا يمكن التمسّك بهذا الأصل، وما نحن فيه من هذا القبيل، حيث لا يوجد عندنا شكٌ في المولوية والإرشادية، وإنما لدينا تردّد في أنّ هذا الأمر المستفاد من قوله(لا يسقط الميسور بالمعسور) ماذا يُراد به ؟ على أحد التقديرين، وهو في ما إذا كان أمراً بالباقي من الكلّي بعد تعذر بعض أفراده، فهو أمر إرشادي لا محالة، لكن على تقدير أن يكون أمراً بوجوب الباقي من أجزاء المركّب بعد تعذر أجزاء أخرى، فهو أمر مولوي لا محالة، عندما نتردّد في موضوع الأمر، هل هو الباقي من الكلّي ذي الأفراد، أو هو الباقي من المركب ذي الأجزاء، على أحد التقديرين يكون الأمر مولوياً، وعلى التقدير الآخر يكون الأمر إرشادياً، يقول: في هذه الحالة لا يعمل هذا الظهور والأصل لإثبات أنّ هذا الأمر يُراد به ما يناسب المولوية، يعني يُراد به المركّب ذو الأجزاء لا الكلّي ذا الأفراد؛ لأنّ هذا الأصل إنما يجري عندما نشكّ في المولوية والإرشادية، وفي محل الكلام الأمر ليس هكذا، يعني هذا يكون من قبيل ما إذا فرضنا أنه أمرنا بشيءٍ، وتردّد هذا الأمر بين شيئين، تردّد بين أن يكون صلاة حتى يكون أمره مولوياً، وبين أن يكون مراجعة الطبيب ـــــــــ مثلاً ــــــــــ حتى يكون أمره إرشادياً، في هذه الحالة يقول: لا يجري هذا الأصل ولا يمكن إثبات أنه مولوي لإثبات أنّ ما أمر به هو الصلاة لا مراجعة الطبيب. يقول: ما نحن فيه من هذا القبيل؛ ولذا لا فائدة في هذا الأصل، فلا ينفع في محل الكلام. هذا خلاصة ما يمكن أن يقال في تقريب ما ذكره.

هذا الإشكال ذكره في الاحتمال الأول من الاحتمالات الثلاثة في تفسير العبارة، الذي هو أنّ المقصود بــــ (لا يسقط) هو النهي، وليس أنها إخبار في مقام النهي، وإنما هي نهيٌ مباشرة، من قبيل ﴿لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج﴾.[3] في هذا الاحتمال ذكر هذا الإشكال، وكأنه يظهر منه أنّ الإشكال يبتني على الاحتمال الأول، فيقال: أنّ هذا النهي هل هو مولوي، أو هو إرشادي ؟ إذا كان نهياً عن ترك الباقي من الأفراد في الكلّي، فالنهي إرشادي، وأمّا إذا كان نهياً عن ترك الباقي من الأجزاء في المركّب، فيكون نهياً مولوياً، دخل هذا الإشكال في هذا المقام، وكأنه يظهر من كلامه أنّ هذا الإشكال لا يجري على الاحتمالين الآخرين، بينما الصحيح هو أنّ الإشكال لا يبتني على الاحتمال الأول؛ بل يمكن أن يجري حتى على الاحتمال الثاني. صحيح، هو لا يجري على الاحتمال الثالث؛ لأنّ الاحتمال الثالث يقول أنّ جملة(لا يسقط) هي إخبارٌ محضٌ، إخبار عن عدم سقوط الوجوب، أو عدم سقوط الباقي، فهي إخبار محض؛ وحينئذٍ لا مجال لأن يقال أنّ هذا يتردّد بين أن يكون مولوياً، أو يكون إرشادياً، هو إخبار وهو إرشاد بلا إشكال وليس فيه مولوية، هذا التردّد إنما يكون عندما يكون هناك نهي عن شيءٍ، أو أمر بشيءٍ؛ حينئذٍ يتردّد بين الإنشائية والمولوية، وهذا موجود في الاحتمال الأول والاحتمال الثاني؛ لأنّنا في الاحتمال الثاني بالنتيجة وإن فسّرنا(لا يسقط) بأنها نفي، لكنها نفي في مقام النهي، من قبيل الإخبار في مقام الأمر، فإذن: هناك نهي في المقام، وهذا النهي يقال أنه يتردّد بين أن يكون إرشادياً، وبين أن يكون مولوياً. أمّا على الاحتمال الثالث، فهذا التردّد لا يأتي، فهذا الإشكال لا يرِد على الاحتمال الثالث، لكنه لا يبتني على الاحتمال الأول؛ بل يمكن توجيهه على الاحتمال الثاني أيضاً.

هذا الإشكال كأنه يبتني على تسليم أمورٍ حتى ينتج الإجمال في الرواية وعدم صحة الاستدلال بها:

الأمر الأول الذي يبتني عليه هذا الإشكال: دعوى أنّ الوجوب يكون إرشادياً إذا حملنا الرواية على الكلّي ذي الأفراد إذا تعذرت بعض أفراده، هذا لا محالة يكون الوجوب إرشادياً في مقابل أن نحمل الرواية على المركّب ذي الأجزاء حيث يكون الوجوب فيها على ما ذكر وجوباً مولوياً. لابدّ أن نسلّم هذا حتى يتم الإشكال، أما إذا لم نسلّمه، وقلنا أنّ الوجوب على كل حالٍ، سواء حملنا الرواية على المركّب ذي الأجزاء، أو حملنا الرواية على الكلّي ذي الأفراد، على كل حالٍ هو وجوب مولوي صادر من المولى بما هو مولى؛ حينئذٍ لا يتمّ هذا الإشكال؛ لأنه لا تردّد حينئذٍ بين المولوية وبين الإرشادية، وأنه لا جامع بينهما ولا قرينة على تعيين أحدهما، فالرواية تكون مجملة، كلا، هذا أمر مولوي لا يتردّد بين أن يكون مولوياً وبين أن يكون إرشادياً؛ بل هو مولوي على كل حال، سواء حملنا الرواية على الكلّي، أو حملنا الرواية على المركّب، فإذن: لابدّ من تسليم أنّ الوجوب على تقدير حمل الرواية على الكلّي يكون وجوباً إرشادياً.

الأمر الثاني: أن نسلّم عدم وجود جامعٍ بين الوجوب الإرشادي وبين الوجوب المولوي، لا جامع بينهما حتى يكون اللّفظ مستعملاً فيه، وبالتالي تكون الرواية شاملة لكلا الأمرين، فيصح الاستدلال بها. يقول: لا يوجد جامع؛ بل هذا إمّا أن يُستعمل في هذا فقط، أو يُستعمل في هذا فقط، وحيث لا مُعيّن، فتكون الرواية مجملة. الوصول إلى هذه النتيجة، وهي إجمال الرواية، باعتبار عدم وجود قرينةٍ على تعيين أحد الأمرين، هذا يتوقف على عدم وجود جامعٍ بين الوجوب الإرشادي والمولوي يُستعمل فيه اللّفظ، وإلا لكانت الرواية شاملة لكلا الأمرين.

الأمر الثالث: أن نسلّم عدم وجود قرينةٍ على تعيين أحدهما.

هذه الأمور الثلاثة إذا سلّمناها يكون هذا الإشكال وارداً على الاستدلال بالرواية، لكنّ الظاهر أنّ هذه الأمور كلّها ليست مسلّمة، كلّها يمكن التأمّل فيها، ويمكن المناقشة فيها.

أمّا الأمر الأول، وهو مسألة الملازمة بين حمل الرواية على الكلّي والأفراد وبين كون الوجوب المستفاد من الرواية إرشادياً. هذا الأمر قابل للمناقشة، باعتبار أنّ الميزان في كون الوجوب مولوياً، أو كونه إرشادياً ما هو ؟ لابدّ أن نحدد الميزان حتى نعرف أنّ هذا الوجوب على تقدير حمل الرواية على الكلّي ذي الأفراد هل يتوفر فيه ميزان الإرشادية حتى يكون إرشادياً، أو لا ؟ ما هو الميزان ؟ الميزان الذي نعرفه هو أنّ الوجوب المولوي هو الذي يصدر من المولى بما هو مولى بحيث يكون من شئون مولويته، في مقابل الأمر أو النهي الذي يصدر من المولى لا بما هو مولى، وإنما بما هو مخبر أو ناصح وليس من شئون مولويته، هذا الثاني نُسمّيه بالوجوب الإرشادي، والأول نسمّيه بالوجوب المولوي، هذا هو الميزان في تعيين أنّ الوجوب مولويٌ، أو أنه إرشاديٌ، في مقابل أن يقال أنّ الميزان هو تارةً نفترض أنّ الحكم المستفاد من الرواية مُبيّنٌ في خطابٍ آخر، فيكون إرشادياً، أو لا يكون مُبيّناً في خطابٍ قبله، فيكون مولوياً، هذا الميزان الثاني. كأنّ الكلام في الأمر الأول مبنيٌ على كون الميزان هو الميزان الثاني؛ لأنه يقول: إذا حملنا الرواية على الكلّي ذي الأفراد إذا تعذرت بعض أفراده، وجوب الأفراد المقدورة هو وجوب قد بُيّن في خطابٍ آخر، وهو نفس الخطاب الذي يأمر بالكلّي، باعتبار أنه استغراقي انحلالي ينحل إلى وجوبات متعدّدة بعدد الأفراد. إذن: وجوب الباقي قد بُيّن في خطابٍ آخر؛ ولذا لابدّ أن يكون هذا الوجوب وجوباً إرشادياً، بينما عندما نحمل الرواية على المركب ذي الأجزاء إذا تعذر جزء منه؛ حينئذٍ وجوب الباقي الذي هو الوجوب الاستقلالي يكون مولوياً؛ لأنه لم يُبيّن بخطابٍ قبله، الذي بُيّن سابقاً هو وجوب الباقي في ضمن المركّب كوجوبٍ ضمني، وهذا الوجوب الضمني سقط وزال بزوال الأمر بالمركّب بعد تعذر بعض الأجزاء، وهذا الوجوب الاستقلالي الذي يتعلّق بباقي الأجزاء هو وجوب جديد لم يُبيّن في خطابٍ سابقٍ، وإذا لم يُبيّن في خطابٍ سابقٍ، فيكون هذا الوجوب وجوباً مولوياً. هنا هذا هو الميزان، بينما الميزان ليس هو هذا، الميزان هو أنّ الوجوب صدر من المولى بما هو مولى، أو صدر منه بما هو مخبر، تارةً يقول(راجع الطبيب) هذا صدر منه بما هو مرشد وناصح، إذا لاحظنا الأمر بالباقي من الأفراد فيما لو حملنا الرواية على الكلّي، هذا الباقي من الأفراد هل هو أمر إرشادي ؟ يعني هل صدر من المولى بما هو مخبر ومرشد، أو صدر منه بما هو مولى ؟ صدر منه بما هو مولى، ومن شئون مولويته، غاية الأمر أنّ هذا الوجوب يكون وجوباً تأكيدياً؛ لأنه أُمر به في خطابٍ آخر، لكن كونه تأكيداً لا يعني أنه ليس مولوياً وأنه إرشادي؛ بل من شئون المولى أن يأمر بالشيء تأسيساً أو تأكيداً، هذا ليس شيئاً ليس من شأن المولى، الخطابات التأكيدية تصدر من الشارع بما هو شارع وبما هو مولىً بحيث يُعمل مولويته ويُصدر هذا الخطاب للتأكيد، فهذا الخطاب تأكيدي وليس تأسيسياً، كون الخطاب تأكيدياً لا يعني أنه إرشادي ليس مولوياً، وإنما الميزان في كونه إرشادياً كما قلنا هو أن يصدر الخطاب منه لا بما هو مولى، أصلاً ليس من شئون مولويته أن يقول: (راجع الطبيب)، هذا إخبار عن وجود مصلحة في ذلك، أو وجود مفسدة في ذلك في حالة النهي، الخطاب في محل الكلام إذا حملنا الرواية على أنها ناظرة إلى الكلّي ذي الأفراد، الوجوب الذي نستطيع أن نقوله هو أنّ هذا الوجوب عند تعذر بعض الأفراد الأخرى هو وجوب بُيّن في خطابٍ سابقٍ، فهو خطاب وأمر تأكيدي، لكن كون الأمر تأكيدياً هل يعني أنه ليس مولوياً ؟ هذا غير واضح؛ بل ممنوع؛ لأنّ الأمر التأكيدي هو أمر شرعي صادر من المولى بما هو مولى، فهو أمر مولوي، وإن كان تأكيدياً. التأكيدية والتأسيسية كلٌ منهما خطابات شرعية مولوية صادرة من المولى بما هو مولى وليست إرشاداً، وإنما هي خطاب تأكيدي، الشارع يرى المصلحة في أن يؤكد هذا الأمر، فيُعمل مولويته، فيؤكد هذا الأمر، فهو خطاب مولوي، ولا ملازمة بين حمل الرواية على الكلّي ذي الأفراد، وبين كون الوجوب المستفاد منها وجوباً إرشادياً؛ بل يكون أمراً مولوياً على القاعدة. هذا بالنسبة إلى الأمر الأول. ومن هنا يظهر أنّ الفرق بين حمل الرواية على هذا أو حملها على هذا هو أنه إذا حملنا الرواية على الكلي الخطاب يكون تأكيدياً، وإذا حملناها على المركب الخطاب يكون تأسيسياً، وكل منهما يكون خطاباً مولوياً، فليس الفرق بينهما أنه إذا حملناها على الأول يكون الخطاب إرشادياً، وإذا حملناها على الثاني يكون الخطاب مولوياً.

وأما الأمر الثاني، الذي هو عدم وجود جامعٍ بين الوجوب الإرشادي والوجوب المولوي، مع التنزّل عن الأمر الأول، بأن نسلّم بأنه إذا حملنا الرواية على الكلّي، فالوجوب وجوب إرشادي. هذا الكلام الذي ذكره مرجعه في الحقيقة إلى دعوى أنّ شمول الرواية لكلا الأمرين، يعني للكلّي والمركّب، يتوقف على وجود جامعٍ بينهما يُستعمل فيه اللّفظ حتى تكون الرواية شاملة لكلا الأمرين، وإلا يجري استعمال اللّفظ في معنيين لا جامع بينهما، بحيث أنّ اللّفظ الواحد يُستعمل في الوجوب الإرشادي وفي الوجوب المولوي، ولا جامع بينهما، فيلزم استعمال اللّفظ في معنيين. هذا هو المحذور. فلكي نثبت شمول الرواية لكلا الأمرين ولا نقع في محذور استعمال اللّفظ في معنيين لابدّ من وجود جامعٍ يُستعمل فيه اللّفظ، إذا وجد جامع يُستعمل فيه اللّفظ؛ فحينئذٍ تشمل الرواية كِلا الأمرين، وفي نفس الوقت لا نقع في محذور استعمال اللّفظ في أكثر من معنى. إذن: لابدّ من فرض وجود جامعٍ حتى نثبت الشمول، وإلا سنقع في محذور استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، هذا ما يُفهم من كلامه.

هذا أيضاً كأنه مبتنٍ على أنّ حمل الرواية على الكلّي ذي الأفراد الذي تنزّلنا وسلّمنا بكونه ملازماً لكون الوجوب المستفاد من قوله(لا يسقط) وجوباً إرشادياً، فكأنه يفترض أنّ هذا الأمر بالإتيان بالباقي من الأفراد المستفاد من(لا يسقط) الذي هو أمر إرشادي، كأنه مستعمل في الإرشادية، وإذا حملناه على المركّب ذي الأجزاء يكون الأمر مستعملاً في المولوية، بحيث تكون الإرشادية في الأوّل، والمولوية في الثاني داخلة في المعنى المستعمل فيه اللّفظ؛ ولذا إذا لم يكن هناك جامع بينهما يُستعمل فيه اللّفظ، فسوف نقع في محذور استعمال اللّفظ في أكثر من معنى؛ لأننا نستعمله في المولوية وفي الإرشادية، فكأنه يفترض أنّ المولوية هي جزء من المعنى المستعمل فيه اللّفظ، والإرشادية أيضاً كذلك، فعند عدم وجود جامعٍ يلزم محذور استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، بينما الصحيح ليس هكذا، المولوية والإرشادية ليسا من قيود المعنى الذي يستعمل فيه الأمر، أو يستعمل فيه النهي، الأمر مستعمل في معناه، إن كان الأمر صيغة، فهي مستعملة في البعث والتحريك بنحو المعنى الحرفي، وإن كان مادةً، فهو يدلّ على البعث والتحريك بنحو المعنى الاستقلالي، وهكذا بالنسبة للنهي، دلالته مقصورة على الدلالة على البعث والتحريك بنحو المعنى الحرفي، أو بنحو المعنى الاسمي، أمّا كونه مولوياً، أو كونه إرشادياً، فهذا ليس شيئاً موضوعاً له اللّفظ، صيغة الأمر ومادة الأمر ليست موضوعة للإرشادية والمولوية، وإنما هذه أمور سياقية تستفاد من كون المتكلّم في مقام التشريع، المولوية تستفاد باعتبار أنّ المتكلّم في مقام إعمال المولوية، وليست أموراً موضوعاً لها اللّفظ، والمعنى الموضوع له صيغة الأمر، أو المعنى الموضوع له مادة الأمر حتى نقول أنه عند عدم وجود جامعٍ بينهما يلزم استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، الأمر مستعمل في كلا الموردين في معنىً واحد، وليس هناك أكثر من معنىً واحد استُعمل فيه اللّفظ، هذه مداليل تصديقية تتبع السياق، وتابعة لكون المتكلّم في مقام التشريع، أو كونه في مقام الإرشاد، هذه مداليل تصديقية لا علاقة لها بالمدلول التصوري المستعمل فيه اللّفظ؛ بل المستعمل فيه اللّفظ، يعني صيغة الأمر، أو مادة الأمر، سواء حملنا الرواية على الكلّي وأفراده، أو حملناه على المركّب هو معنىً واحد، اللّفظ لم يُستعمل إلا في معنىً واحد وهو البعث والتحريك بنحو المعنى الاسمي أو بنحو المعنى الحرفي، فيما إذا قال(راجع الطبيب)، أو قال(صلِ) لم يستعمل إلا في معنى واحد، كونه إرشادياً هنا، وكونه مولوياً هنا، هذا يستفاد من ظهور حال المتكلّم في أنه في مقام التشريع، أو في مقام الإرشاد، فلا يلزم من شمول الرواية لكلا الأمرين، لا يلزم استعمال اللّفظ في أكثر من معنى.


[1] دراسات في علم الأصول، تقرير بحث السيد الخوئي للسيد الشاهرودي، ج3، ص468.
[2] البقرة/السورة2، الآية282.
[3] البقرة/السورة2، الآية197.