الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

36/11/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العمليّة / قاعدة الميسور.

تبيّن مما تقدم أن المشكلة التي تواجه الاستدلال بالرواية على قاعدة الميسور هي مسألة التطبيق على مورد الرواية، باعتبار أن الاستدلال بالرواية مبني على افتراض أنّ(من) للتبعيض والتبعيض لا يلائم الكلي وفرده الذي هو مورد الرواية، وإنما يلائم الكل وجزئه، ومن هنا حمل الرواية على قاعدة الميسور لا يمكن حينئذٍ تطبيقه على مورد الرواية، وهذا مما لا يمكن الالتزام به، لوضوح أنّ السائل سأل الرسول(صلى الله عليه وآله) سؤالاً محدداً عن أنّ الحج هل يجب في كل عام يا رسول الله ؟ ولابدّ أن يكون الجواب جواباً عن هذا السؤال، وحمل الرواية على أنها في مقام بيان قاعدة الميسور، كأنه يكون الجواب لا علاقة له بمورد السؤال، هذه هي المشكلة التي تواجه الاستدلال في هذه الرواية.

الذي يمكن أن يقال: أن الرواية فيها احتمالات كما لعله اتضح مما تقدم، وفي كل هذه الاحتمالات هناك مشكلة، يعني بعض الاحتمالات يصح الاستدلال بالفقرة على ضوئها على قاعدة الميسور، لكنها تواجه المشكلة السابقة وهي أنّ تطبيقها على المورد غير ممكن، وبعض الاحتمالات بالعكس، يعني يمكن تطبيقها على المورد ويمكن أن تكون جواباً عن هذا السؤال، ولكن لا يُستفاد منها قاعدة الميسور. إذن: الاحتمالات التي لا يُستفاد منها قاعدة الميسور لا فائدة فيها في المقام؛ لأن الغرض هو الاستدلال بالرواية على هذه القاعدة، والاحتمالات التي يمكن الاستدلال على القاعدة على ضوئها تواجه المشكلة السابقة.

الذي يمكن أن يقال كتلخيص لما تقدم، أو كبيانٍ لما تقدم هو: نحن لا يمكن أن ننكر كون(من) لها ظهور في التبعيض. نعم، يمكن أن يُصار إلى غير ذلك إذا دل عليه الدليل واقتضته الضرورة، لكن بشكل عام مهما أمكن إبقاء(من) على ظهورها في التبعيض لابد من الالتزام به؛ حينئذٍ يقال: نأتي إلى(ما) التي هي أسم موصول. (ما) إن كانت اسماً موصولاً وقلنا بعدم إمكان تعدّي الفعل(الإيتاء) إلى مفعوله بنفسه ــــــــــــ هذه المشكلة التي ذكرناها في الدرس السابق ـــــــــــ إن الإتيان لا يتعدى إلى المأتي به بنفسه، وإنما يتعدى بالباء، إذا تجاوزنا هذه المشكلة بشكلٍ من الأشكال، وقلنا بأنه يمكن أن تكون(ما) مفعولاً به للإتيان بطريقة من الطرق، ولو بتقدير نزع الخافض ـــــــــــــــ مثلاً ــــــــــــ بأن يكون الإتيان في الواقع متعدياً إلى(ما) بالباء، لكنه نُزع. إذا قلنا بإمكان تعدي هذا الفعل إلى الموصول ويمكن أن تكون (ما) أسماً موصولاً؛ حينئذٍ يكون معنى الجملة واضحاً، إذا أمرتك بشيءٍ، يعني بمركب له أجزاء، فأتوا ما استطعتم منه، ومن الواضح أنّ هذا يكون فيه دلالة على قاعدة الميسور؛ لأن(من) تبعيضية، و(ما) أسم موصول مفعول به لـــ (فأتوا)، يعني فأتوا ما استطعتم من أجزائه. هذا يمكن أن يكون له مفادان، يعني يمكن أن يدل على وجوب جميع أجزاء المركب عندما تكون كلها مقدورة، كما أنه يدل في الوقت نفسه على وجوب الإتيان بالأجزاء المقدورة عند تعذر الأجزاء الأخرى، وهو قاعدة الميسور يعني إذا أمرتكم بمركب فأتوا بما استطعتم من أجزائه، فإذا كان هو مستطيعاً من كل الأجزاء، فيجب عليه الإتيان بكل الأجزاء، لكن في نفس الوقت أيضاً تدل على أنه إذا تعذر عليه بعض الأجزاء، وكان قادراً على الإتيان بالبعض الآخر، فيجب عليه الإتيان بالبعض الآخر وهو قاعدة الميسور. هذا مشكلته هي المشكلة السابقة؛ لأنه لا يمكن تطبيقه على مورد الرواية؛ لأن تطبيقه على مورد الرواية بنحوٍ من الأنحاء المتقدمة بأن نتصور للتبعيض معنىً يشمل حتى الكلي وفرده ــــــــــ مثلاً ـــــــــ مشكلة هذا التطبيق هي أنه يقتضي التكرار، فأنّ معنى شموله للكلي وفرده يكون هكذا: إذا أمرتكم بكلي له أفراد، فأتوا ما استطعتم من أفراده، على غرار الأجزاء، فكما كنا نقول فأتوا ما استطعتم من أجزائه، هنا أيضاً نقول فأتوا ما استطعتم من أفراده، وهذا معناه التكرار، يعني معناه أن الحج يجب على المكلف في السنة الثانية إذا كان قادراً، وهكذا في السنة الثالثة، وهذا مما لا يمكن الالتزام به؛ لأنه منافٍ لصدر الرواية التي هي صريحة في عدم وجوب تكرار الحج والاكتفاء بالحج في سنة واحدة. فإذن: افتراض أنّ(من) تبعيضية، وأنّ(ما) أسماً موصولاً، الذي نتيقن منه هو أنه يشمل الكل وأجزائه، أما شموله للكلي وأفراده، فهذا غير واضح إذا تصورنا أنّ التبعيض له معنىً عام يشمل الكلي وفرده والكل وجزئه، لكنه يواجه هذه المشكلة، وهي مشكلة التكرار والإتيان بالأفراد الممكنة من الحج، أو من غير الحج في الأمثلة الأخرى.

وأما إذا كانت(ما) مصدرية ظرفية، بأن لم نقبل السابق وقلنا بأنّ فعل(الإيتاء) لا يتعدى إلى مفعوله(المأتي به) بنفسه، ولازم كون(ما) أسماً موصلاً أنّ الفعل يتعدى إليه بنفسه، وهذا لا يمكن الالتزام به، فيكون هذا قرينة على أن(ما) ليست أسماً موصولاً حتى نتخلص من هذه المشكلة، وإنما تكون(ما) مصدرية ظرفية. بناءً على هذا، إذا كانت(ما) مصدرية ظرفية؛ حينئذٍ(من) لا تكون بيانية، يعني احتمال كونها بيانية يكون منتفياً؛ لأنه حينئذٍ سوف تعود نفس المشكلة؛ لأنّ(فأتوا منه) تعني (فأتوه)، فيكون الفعل قد تعدّى إلى المأتي به بنفسه، فنقع في نفس المشكلة، فلابدّ من استبعاد كون(من) بيانية، فيدور الأمر بين أن تكون(من) بمعنى الباء ـــــــــ إن ثبت هذا ـــــــــ وبين أن تكون تبعيضية، إذا كانت بمعنى الباء، وثبت أنّ(من) تكون بمعنى الباء؛ حينئذٍ سوف يكون مفاد الجملة هو(إذا أمرتكم بشيءٍ، فأتوا به ما دمتم مستطيعين)، وهذه فيها دلالة على اشتراط القدرة والاستطاعة في امتثال التكليف؛ وحينئذٍ تكون أجنبية عن قاعدة الميسور، ولا يصح الاستدلال بها على هذه القاعدة، لكن هل يمكن تطبيقها بهذا المعنى على مورد الرواية ؟ نعم، يمكن تطبيقه على مورد الرواية، لكن بافتراض أن التكرار غير مستطاع؛ لأننا قلنا أن القدرة والاستطاعة لا يُراد بها القدرة العقلية حتى يقال أن التكرار مقدور عقلاً، وإنما المراد بها قدرة واستطاعة من نوعٍ آخر، وعبّرنا عنها ـــــــــــ إن صح التعبير ـــــــــ بالقدرة العرفية، إما أن نجعلها في مقابل العسر والحرج، يعني المقدور هو الذي لا عسر فيه ولا حرج، وإما أن نجعلها قدرة في مقابل المشقة التي تحصل أزيد من المشقة التي يقتضيها أصل التكليف، هذه المشقة التي هي أزيد من المشقة التي يقتضيها أصل التكليف يُعبّر عنها بغير المقدور. على كل حال، إذا افترضنا أن التكرار غير مقدور وغير مستطاع باعتبار أن فيه مشقة وكلفة وحرج، أو فيه مشقة أزيد مما يقتضيه أصل التكليف، أصل التكليف يقتضي الإتيان بالحج في سنة واحدة، هذه المشقة لابد من تحمّلها، وما زاد على ذلك مشقة زائدة، فيُعبّر عنها بالمشقة الزائدة والفعل الذي يلزم منه المشقة الزائدة بالفعل غير المقدور وغير المستطاع. إذا افترضنا إمكان أن يكون تكرار الحج غير مستطاع، فالرواية تكون جواباً عن السؤال وتدل على عدم تكراره والاكتفاء بمرة واحدة، فتنطبق على مورد الرواية.

وأما إذا كانت تبعيضية كما هو الظاهر، فالمعنى يكون (إذا أمرتكم بشيءٍ، فأتوا ببعضه ما دمتم قادرين)[1] ؛ حينئذٍ، إذا قلنا بأنّ التبعيض لا يلائم الكلي وفرده كما استقربناه، فتختص الرواية بالكل وجزئه؛ وحينئذٍ يكون المعنى(إذا أمرتكم بمركّب له أجزاء، فأتوا ببعضها ما دمتم قادرين) لأن(من) تبعيضية، و(ما) موصولة، و(الشيء) هو المركب الذي له أجزاء. هذا المعنى لا يدل على قاعدة الميسور، إلا بإضافة قيد وهو تعذر البعض الآخر من الأجزاء، بحيث يكون مفاد الجملة هو(إذا أمرتكم بمركّب وتعذر عليكم بعض أجزائه، فيجب عليكم الإتيان بالبعض ما دمتم قادرين عليه). أما إذا كان غير قادر على الكل يسقط عنه الوجوب، لكن إذا تعذر بعض الأجزاء، وهذا قيد لابد منه حتى تدل الجملة على قاعدة الميسور. وأما إذا لم نضف هذا القيد؛ فحينئذٍ يكون معنى الجملة(الواجب عند الأمر بالمركب هو الإتيان ببعضه عند القدرة) وهذا لا يمكن الالتزام به، هذا لا يُفهم منه قاعدة الميسور، وإنما يُفهم منه الأمر بالإتيان ببعض المركب عند القدرة عليه، وهذا ليس مرادنا حتماً، ولا ينبغي الالتزام به. على كل حال، حتى إذا قلنا أنّ الجملة حينئذٍ فيها دلالة على قاعدة الميسور، لكنها لا تنطبق على المورد، لما قلناه سابقاً من أن التبعيض لا يلائم الكلي وفرده، ومورده الرواية هو الكلي وفرده، فالرواية حينئذٍ ـن تنطبق على موردها، فيرجع الإشكال السابق.

وأما إذا قلنا: أن التبعيض يكون متصوراً وله معنى عام يلائم الكلي وفرده والكل وجزئه كما يقول السيد الخوئي أو كما يقول المحقق الأصفهاني(قدس سرهما)، بأي معنى كان؛ حينئذٍ، هذا المعنى هل ينطبق على مورد الرواية ؟ يعني هل يمكن أن نقول أنّ ما قاله الرسول(صلى الله عليه وآله) في ذيل الرواية هو جواب عن السؤال ؟ حتى إذا افترضنا هذا المعنى العام الذي على ضوئه يكون مفاد الجملة(إذا أمرتكم بشيء ـــــــــــ اي شيءٍ كان، سواء كان كلياً له أفراد، أو كان مركباً له أجزاء ــــــــــ فأتوا ببعضه ما دمتم قادرين. ونضيف إليه القيد السابق الذي قلنا لابد من تقديره، عند تعذر بعضه، سواء كانت أفراداً أو أجزاءً؛ فحينئذٍ يجب عليكم الإتيان بالبعض الآخر ما دمتم قادرين عليه. بناءً على هذا، هذا ينطبق هذا على المورد، فيرجع الإشكال السابق الذي يقول أن انطباقه على المورد يستلزم وجوب التكرار؛ لأنه يقول عند تعذر البعض، فالبعض الباقي الذي يكون مقدوراً يجب عليك الإتيان به، في باب الكلي وفرده الحج في السنة الثانية مقدور للمكلف، فإذا كان مقدوراً للمكلف يجب عليه، وفي السنة الثالثة إذا كان مقدوراً أيضاً يجب عليه. وهذا ليس فقط لا يمكن الالتزام به، وإنما هو خلاف صريح صدر الرواية من أن الحج لا يجب في كل عام، وإنما يجب مرة واحدة.

نطرح احتمالاً طرحه السيد الخوئي(قدس سره) وهو أنّ(من) زائدة، يعني(إذا أمرتكم بشيءٍ، فأتوه حين استطاعتكم)، وهذه إشارة إلى اشتراط الاستطاعة والقدرة في امتثال التكليف، وهذا لا علاقة له بقاعدة الميسور، ولا يصح الاستدلال به على قاعدة الميسور، وهذا واضح، وهل تنطبق على المورد أم لا ؟ يأتي فيه الكلام السابق من أنه يمكن تطبيقها على المورد بالفرض السابق وهو أن نفترض أن تكرار الحج غير مقدور، فإذا كان تكرار الحج غير مقدور وغير مستطاع معناه أن الرواية تدل على عدم وجوب التكرار والاكتفاء بالمرة الواحدة، فيكون جواباً عن سؤال السائل.

من هنا يظهر أنه على بعض الاحتمالات يصح الاستدلال بالفقرة على قاعدة الميسور، لكن تطبيقها على المورد مشكل، وإخراج المورد مستهجن، وعلى بعض الاحتمالات الأخرى يمكن تطبيقها على المورد، لكن لا يصح الاستدلال بها على قاعدة الميسور. على كل حال يبدو أن الاستدلال بالرواية على قاعدة الميسور مشكل. الأقرب في تفسير الرواية هو أن نلاحظ صدر الرواية، فصدر الرواية لابد أن يؤخذ بنظر الاعتبار؛ لأن من الواضح أن ما ذُكر في صدر الرواية كأنه مقدمة لبيان حكم المسألة التي سُئل عنه الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، هو سُئل(أفي كل عام يا رسول الله ؟)، الذي يظهر من الرواية من سكوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جواب السائل ثلاث مرات، إعراضه عنه ثلاث مرات، ثم وبخه وقال(ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم)[2] هذه كلها مقدمة، وبلا فصل يأتي بعده(إذا أمرتكم بشيءٍ، فأتوا منه ما استطعتم)، واضح أن هذا لابد أن يكون جواباً عن سؤال السائل؛ لأن كل ما قبله كان مقدمة، على الأقل نقول لم يرضَ بهذا السؤال، ووبخه على سؤاله. الذي يُفهم من الجملة حتى تكون جواباً واضحاً عن هذا السؤال هو أنّ كل أمر يصدر من الشارع المقدس، فامتثاله بحسبه، هناك قواعد مقررة هي تقرر كيفية امتثال الأمر في أنه كيف يكون امتثال الأمر بالطبيعة المأخوذة على نحو العام الاستغراقي ؟ وكيف يكون امتثال الأمر بالطبيعة المأخوذة على نحو العام المجموعي، أو امتثال الأمر بالمركب كيف يكون؟ .... وهكذا. أنّ امتثال الأمر يكون بحسب ذلك الأمر، بمعنى أن الشارع إذا أمر بشيءٍ، فعلى المكلف الإتيان بذلك الشيء بالنحو الذي يقتضيه ذلك الأمر، وأنه لا حاجة إلى التكلّف ولا حاجة إلى تكلّف المشقة والعسر، وإنما يجب عليكم امتثاله بالمقدار المستطاع، تكلّف أكثر من المقدار المستطاع مرفوض وفي ذيل الرواية قال (وإذا نهيتكم عن شيءٍ فاجتنبوه) مقابل (إذا أمرتكم بشيء، فأتوا به ما استطعتم). يُفهم من الرواية أنّ هناك فرقاً بين النهي وبين الأمر، النهي يقتضي ترك المنهي عنه، وهو يتوقف على ترك جميع أفراده، أما الأمر بالشيء، فيكفي الإتيان به مرة واحدة، الإتيان به مرة واحدة عبّر عنه بهذا التعبير، بأنّ هذا هو القدر المستطاع للمكلف، وما زاد عليه فيه مشقة، سواء كانت المشقة بمعنى العسر والحرج، أو بمعنى أزيد مما يقتضيه أصل التكليف، وأنا لا أطلب منكم امتثال التكليف الذي يكون في امتثاله مشقة أزيد مما يقتضيه أصل التكليف من مشقة؛ حينئذٍ يكون هذا جواباً عن السؤال.


[1] موسوعة الامام الخوئي، ج14، ص419.
[2] مختصر تفسير ابن كثير، محمد علي الصابوني، ج1، ص105.