الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

36/11/09

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ إطلاق الجزئية لحالة النسيان.
كان الكلام في الاستصحاب، حيث أنه استُدل على وجوب الإتيان بالأقل في حالة تعذر أحد أجزاء المركب بالاستصحاب، وكما بيّنا أن الاستصحاب إنما يُتصور له وجه فيما لو فرضنا أن التعذر حصل في أثناء الوقت؛ ......... حينئذٍ يمكن أن يقال أن وجوب الأجزاء الأخرى غير الجزء المتعذر كان أيضاً ثابتاً بالتقريبات الآتية، فإذا تعذر أحد الأجزاء في أثناء الوقت يمكن أن يقال بالتقريبات الآتية بأن هذه الأجزاء الباقية بعد تعذر أحد الأجزاء كانت واجبة، والآن كما كانت؛ لأن وجوب هذه الأجزاء كان فعلياً ومتحققاً في زمان سابق، وهو زمان دخول الوقت، والمفروض أنه متمكن من كل الأجزاء. وأما إذا فرضنا أن التعذر كان موجوداً قبل الوقت، لا يتم جريان الاستصحاب، وهكذا لو كان التعذر حاصلاً بالتقارن مع دخول الوقت، لا يمكن إجراء هذا الاستصحاب؛ لأن هذا الاستصحاب لابدّ فيه من فرض اليقين بالمستصحب، ومع كون التعذر قبل الوقت لا يقين بوجوب الأقل، فلا يقين بهذا الوجوب الذي يتعلّق بالأقل في ضمن المركب؛ لأنه إذا كان التعذر قبل الوقت ودخل الوقت وهو غير قادر على أحد الأجزاء، لا يوجد عنده يقين بوجوب الأقل، لا قبل الوقت؛ لعدم دخول الوقت وعدم فعلية التكليف قبل دخول الوقت، ولا حين دخول الوقت؛ لأنه عاجز عن أحد الأجزاء، ويُحتمل على أساس هذا العجز أن يسقط عنه الأمر بالمركب بتمامه، فلا يبقى وجوب للأجزاء ما عدا الجزء المتعذر في زمان سابق، ولا يقين بذلك في زمان سابق حتى يجري فيه الاستصحاب.
قد يقال: أن هذا إنما يتم عندما نريد استصحاب الحكم الشخصي، الحكم الجزئي، حينئذٍ يأتي هذا الكلام؛ لأن استصحاب الحكم الجزئي يتوقف على تحقق الموضوع، ويتوقف على تحقق الشرائط خارجاً، حتى يكون الحكم الجزئي متحققاً وفعلياً وثابتاً فلابدّ من فرض تحقق الموضوع وجميع الشرائط، فيتم هذا الكلام ويقال إذا كان التعذر قبل الوقت فهذا معناه عدم تحقق جميع الشرائط المعتبرة في فعلية التكليف. لكن عندما يكون المستصحب هو الحكم الكلي الذي يكون استصحابه من وظيفة المجتهد، في هذه الحالة لا يتوقف جريان الاستصحاب على تحقق الموضوع وشرائط التكليف خارجاً؛ ولذا المجتهد يُجري ــــــــ كما ذكرنا في الدرس السابق ــــــــ استصحاب حرمة الوطء في المرأة الحائض التي انقطع عنها الدم وقبل الاغتسال، فيحكم بحرمة وطئها اعتماداً على استصحاب حرمة الوطء حتى مع عدم تحقق الموضوع خارجاً وعدم توفر الشرائط خارجاً، وهكذا استصحاب نجاسة الماء المتغير بالنجاسة الذي زال عنه التغير من قبل نفسه ـــــــــ مثلاً ـــــــــ المجتهد أو من يجري استصحاب النجاسة ويحكم بنجاسة هذا الماء استناداً إلى استصحاب النجاسة، ولو مع عدم تحقق الموضوع خارجاً وعدم توفر الشرائط خارجاً، فيُعترض على ما ذكرناه بأنه في المقام المستصحب ليس هو الحكم الجزئي، وإنما هو الحكم الكلي، الوجوب الشرعي الثابت للأقل، يعني للأجزاء الأخرى ما عدا الجزء المتعذر، هذا حكم شرعي يمكن استصحابه ولا يتوقف جريان الاستصحاب فيه على تحقق الموضوع خارجاً ولا على تحقق الشرائط خارجاً، فيجري فيه الاستصحاب، فسواء كان التعذر حاصلاً بعد دخول الوقت، أو كان حاصلاً قبل دخول الوقت، أو كان مقارناً لدخول الوقت، في كل هذه الحالات لا مانع من جريان استصحاب الحكم الكلي؛ لأن استصحاب الحكم الكلي لا يتوقف على تحقق الشرائط خارجاً؛ بل ولا يتوقف على تحقق الموضوع خارجاً. أشير إلى هذا الإشكال في بعض كلمات السيد الخوئي(قدس سره).
والجواب عن هذا الإشكال واضح: وهو أن هناك فرقاً بين استصحاب الحكم الجزئي وبين استصحاب الحكم الكلي، استصحاب الحكم الجزئي الذي هو وظيفة المقلد يتوقف على تحقق الموضوع خارجاً وتحقق الشرائط خارجاً عندما يُراد استصحاب الحكم الجزئي، وأما استصحاب الحكم الكلي، فهو وإن كان لا يتوقف على تحقق الموضوع والشرائط خارجاً، لكنه لا إشكال في أنه يتوقف على فرض تحقق الموضوع والشرائط خارجا، بمعنى أن المجتهد لابد أن يفترض تحقق الموضوع والشرائط، ثم يفترض اختلال بعض الشرائط التي توجب الشك في بقاء الحكم أو ارتفاعه، ثم يجري الاستصحاب مبنياً على ذلك الافتراض. هذا لابد منه، في مثال استصحاب حرمة الوطء، المجتهد لابد أن يفترض امرأة حائض، بناءً على هذا الفرض يقول أن حرمة وطئها تكون حرمة ثابتة وفعلية، ثم يفترض اختلال بعض الشرائط بأن انقطع الدم وقبل الغسل، وهذا يوجب الشك في بقاء هذه الحرمة، فهو يجري استصحاب حرمة الوطء مبنية على فرض تحقق الموضوع والشرائط للحكم الشرعي وفرض اختلال بعض الشرائط الموجبة للشك في بقاء الحكم أو ارتفاعه، ثم يجري الاستصحاب مبنياً على هذا الافتراض. هذا لابد منه، وإلا لو لم يفترض المجتهد امرأة حائضاً، بأن افترض امرأة طاهرة، لا يمكنه إجراء الاستصحاب، ولا يمكنه إثبات الحرمة لها، وتحقق الحرمة بالنسبة إليها إلا على نحو الاستصحاب التعليقي الذي هو ليس محل كلامنا، نحن نتكلم عن الاستصحاب التنجيزي لا عن الاستصحاب التعليقي، عندما لا يفترض كون المرأة حائضاً، فحرمة الوطء لا تكون فعلية في حقها إلا  على نحو التعليق، ويقال هذه المرأة الطاهرة لو حاضت لحرم وطؤها، إذن: هذه قضية تعليقية، ونحن نتكلم عن استصحاب تنجيزي وحكم فعلي تنجيزي، حرمة وطء المرأة لا تكون فعلية حتى يمكن استصحابها إلا إذا فرض المجتهد تحقق الموضوع خارجاً وتحقق الشرائط خارجاً، ويفترض بعد ذلك اختلال بعض الشرائط، فيقول: يُشك في بقاء هذا الحكم، فيجري استصحابه مبنياً على هذه الفروض، الصحيح أنه لا يتوقف على تحقق الموضوع خارجاً، لكنه يتوقف بلا إشكال على افتراض تحققه، وافتراض تحقق الشرائط كافتراض اختلال بعض الشرائط التي تكون موجبة للشك.
حينئذٍ نأتي إلى محل الكلام: صحيح أن الاستصحاب هو استصحاب حكم كلي، لكن هذا الاستصحاب لا يمكن إجراؤه إلا إذا فُرض تحقق الموضوع والشرائط، يعني لا يمكن إجراء استصحاب الوجوب الثابت سابقاً للأجزاء ما عدا الجزء المتعذر، إلا إذا فرضنا سابقاً كون التعذر بعد دخول الوقت، إذا كان التعذر بعد دخول الوقت، معناه أننا افترضنا مكلفاً دخل عليه الوقت وهو متمكن من كل الأجزاء، فافترضنا مكلفاً قادراً على الإتيان بجميع الأجزاء، ودخل عليه الوقت؛ حينئذٍ يكون الحكم فعلياً في حقه، فيجب عليه الإتيان بذلك المركب ويكون وجوب المركب التام فعلياً في حقه، وقلنا أن وجوب المركب التام يستبطن وجوب الأجزاء الأخرى ما عدا الجزء الذي سيتعذر بعد ذلك، لكن الحكم الذي يستبطن وجوب الأجزاء يكون فعلياً حينئذٍ، ثم يُفترض اختلال بعض الشرائط، والشرط الذي يختل في محل كلامنا هو تعذر بعض الأجزاء، تعذر بعض الأجزاء بعد ذلك يجعلنا نشك في أن هذا الوجوب الثابت للأجزاء سابقاً بعد دخول الوقت وحينما كان المكلف متمكناً من كل الأجزاء، هذا الوجوب للأجزاء ما عدا الجزء المتعذر هل يرتفع بارتفاع الأمر بالمركب التام، أو يبقى ؟ فنشك في بقائه، فنستصحب بقاءه. وأما إذا لم نفترض التعذر أثناء الوقت، لم نفترض مكلفاً دخل عليه الوقت وهو قادر على كل الأجزاء، وإنما افترضنا التعذر قبل دخول الوقت، وأن المكلف حينما دخل عليه الوقت هو غير قادر على جزء من أجزاء هذا المركب، هنا لا يقين بوجوب الأجزاء سابقاً؛ لأنه لا يقين بوجوب مركب؛ لأنه منذ البداية عاجز عن الإتيان بالمركب التام، فلا يُكلّف بالمركب، وإذا لم يُكلف بالمركب، فكيف نقول بأننا على يقين من وجوب الأجزاء سابقاً؟! في أي زمان سابق نقول نحن على يقين من وجوب الأجزاء ؟ قبل الوقت ؟ لا معنى له، حين دخول الوقت؟ المفروض أنه عاجز عن الإتيان بأحد الأجزاء، فلا يمكن حينئذٍ أن يقال بأن هذا يجري فيه الاستصحاب، هذا بالضبط من قبيل ما إذا فرضنا امرأة طاهرة، هذا لا يثبت لها الحكم بحرمة الوطء إلا على نحو القصية التعليقية، أو فرضنا ماءً لم يتغير بالنجاسة، هذا لا يمكن إجراء الاستصحاب فيه إلا على نحو تعليقي، أي لو تغير لكان نجساً، ونحن نتكلم عن استصحاب تنجيزي في محل الكلام، فالصحيح أن جريان الاستصحاب في المقام يتوقف على افتراض حصول التعذر في أثناء الوقت؛ حينئذٍ يكون للاستصحاب صورة، بقطع النظر عن المناقشات والتقريبات الآتية.
اُعترض على هذا الاستصحاب باعتراض وارد، فيحتاج إلى جواب، وهو أنه ماذا تستصحبون ؟ نفترض في فرض المسألة وهو ما إذا كان التعذر حاصلاً في أثناء الوقت، لكن ما نحن على يقين منه هو وجوب الأجزاء ما عدا الجزء المتعذر في ضمن وجوب المركب التام، هذا الذي نحن على يقين منه سابقاً بدخول الوقت، دخل عليه الوقت وهو متمكن من كل الأجزاء وجب عليه المركب التام، في ضمن وجوب المركب التام هناك وجوبات ضمنية تتعلق بالأجزاء، فالأجزاء ما عدا الجزء المتعذر كان وجوبها المتيقن سابقاً هو وجوب ضمني، ما نريد إثباته بالاستصحاب هو الوجوب الاستقلالي للأجزاء الباقية بعد التعذر، ولا نريد أن نثبت الوجوب الضمني لأنه لا ينفعنا، الوجوب الضمني يزول بزوال الأمر بالمركب التام باعتبار تعذر بعض الأجزاء، فإذا تعذر بعض الأجزاء فالمكلف ليس قادراً على الإتيان بالمركب التام فيرتفع وجوب المركب التام، وإذا ارتفع وجوب المركب التام ير تفع الوجوب الضمني للأجزاء. فإذن، الوجوب الضمني يرتبط بوجوب المركب، هناك وجوب ينبسط على الوجوب المركب وتنشأ منه وجوبات ضمنية بعدد الأجزاء، فإذ تعذر بعض الأجزاء؛ فحينئذ لا يكون هناك وجوب ضمني للأجزاء؛ لأن الوجوب للمركب ارتفع، فإذن: ما نريد إثباته بالاستصحاب والذي ينفعنا في محل الكلام هو الوجوب الاستقلالي للأجزاء ما عدا الجزء المتعذر؛ وحينئذٍ ينشأ الأشكال، وهو أن ما كنا على يقين منه غير ما نشك في ثبوته ووجوده، ما كنا على يقين منه هو الوجوب الضمني للأجزاء بينما ما نشك فيه ونريد إثباته بالاستصحاب هو الوجوب الاستقلالي للأجزاء الأخرى ما عدا الجزء المتعذر، وهذا معناه أن القضية المتيقنة غير القضية المشكوكة وفي مثله كيف يجري الاستصحاب ؟!
وبعبارة أخرى: أن ما نريد استصحابه ليس له حالة سابقة، ماله حالة سابقة لا نريد إثباته بالاستصحاب، وما نريد إثباته بالاستصحاب ليس له حالة سابقة، فكيف يجري هذا الاستصحاب ؟!
في مقام الجواب عن هذا الإشكال طرحوا تقريبات للاستصحاب حاولوا فيها التخلص من هذا الإشكال، ومعظم التقريبات تحاول التخلص من الإشكال بأن تحوّل مجرى الاستصحاب من الفرد إلى الجامع، وكأنهم بتحويل مجرى الاستصحاب من الفرد إلى الجامع يمكن التخلص من الإشكال، كأن الإشكال مبني على استصحاب الفرد، يعني ماذا تستصحب ؟ الوجوب الضمني، أو نسميه الفردي ؟ أو الوجوب الاستقلالي؟ الوجوب الاستقلالي ليس له حالة سابقة، الوجوب الضمني نحن نعلم بزواله وارتفاعه وارتفاع الأمر بالمركب، فمثل هذا الاستصحاب لا يجري؛ لأن أحد الفردين له حالة سابقة، لكننا نعلم بارتفاعه، والفرد الآخر يُشك فيه، لكنه ليس له حالة سابقة، فلا تجتمع شرائط الاستصحاب في فرد واحد حتى يجري استصحابه. هذا الإشكال.
فإذا حوّلنا مجرى الاستصحاب ومركز الاستصحاب من الفرد إلى الجامع، كأنه يرتفع هذا الإشكال، ولذلك نرى التقريبات في هذا المجال ويراد التخلص بها من هذا الإشكال:
التقريب الأول: أن يقال أن نستصحب الجامع بين الوجوب الضمني الوجوب الاستقلالي، الجامع معلوم سابقاً، فالجامع يتحقق ونعلم بوجوده ولو بوجود فرد من إفراده، ولا إشكال أن الوجوب الضمني كان موجوداً سابقاً، إذ،، الجامع أيضاً موجود سابقاً، ونعلم بتحققه سابقاً، ويُشك في بقاء الجامع؛ لأننا نشك في حدوث الوجوب الاستقلالي للأجزاء الباقية ما عدا الجزء المتعذر. هذا تصوير الاستصحاب، جامع الوجوب متيقن سابقاً في ضمن الوجوب الضمني، والآن نشك في ارتفاعه؛ لأننا نحتمل أنه عندما يرتفع الوجوب الضمني للأجزاء يحل محله وجوب استقلالي للأجزاء، فنستصحب جامع الوجوب الأعم من الوجوب الضمني والوجوب الاستقلالي، وهذا الجامع تتوفر فيه شرائط الاستصحاب، من اليقين السابق والشك اللاحق فيجري استصحاب وجوب الجامع.
اعترضوا على هذا التقريب:
الاعتراض الأول: اعترضوا عليه بأن هذا من استصحاب الكلي من القسم الثالث، عندما نستصحب الكلي الذي يدور أمره بين فرد يُعلم بارتفاعه بعد حدوثه وبين فرد يُشك في حدوثه من البداية، أنا أعلم بوجود إنسان كلي جامع في المسجد في ضمن زيد وأنا أعلم بأن زيد خرج من المسجد، لكن احتمل أنه عندما خرج من المسجد دخل عمرو بحيث أن المسجد لم يخلو من الجامع(الإنسان) فالجامع يدور أمره بين ما هو معلوم الارتفاع وبين ما هو مشكوك الحدوث من البداية، وهذا يُعبر عنه بالقسم الثالث من استصحاب الكلي تقريباً بالاتفاق واستقر الرأي على أن الاستصحاب لا يجري فيه لعدم توفر أركان الاستصحاب في مثله. وما نحن فيه يكون من هذا القبيل، أنت تعلم بكلي الوجوب الذي هو وجوب الجامع في ضمن الفرد المعين الذي هو الوجوب الضمني، وهذا قد ارتفع قطعاً لتعذر بعض الأجزاء، ويُشك في أنه حين ارتفاعه هل حدث وجوب استقلالي يتعلق بالأجزاء لما عدا الجزء المتعذر، أو لا ؟ فيكون من استصحاب الكلي من القسم الثالث وهو باطل ولا يجري بلا إشكال.
الاعتراض الثاني: ما هو المقصود من استصحاب الجامع ؟ مع قطع النظر عن أنه من استصحاب الكلي من القسم الثالث، لكن ما هو المقصود من استصحاب هذا الجامع بين الوجوب الضمني والوجوب الاستقلالي للأجزاء ما عدا الجزء المتعذر ؟
تارة نفترض أن الغرض من استصحاب هذا الجامع هو إثبات الفرد، يعني إثبات الوجوب الاستقلالي، فإذا استصحبت الجامع، لابد بعدها من إثبات الوجوب الاستقلالي للأجزاء ما عدا الجزء المتعذر كما هو المطلوب، فإذن: يكون الغرض من استصحاب الجامع هو إثبات الوجوب الاستقلالي لهذه الأجزاء. فإذا كان هذا هو الغرض؛ فحينئذٍ يكون الأصل مثبتاً ولا يجري مثل هذا الاستصحاب، لوضوح أن ترتب الوجوب الاستقلالي لهذه الأجزاء على استصحاب الجامع ترتب عقلي وليس ترتباً شرعياً؛ لأن الجامع له فردان، ضمني، واستقلالي، فإذا ارتفع الضمني قطعاً ليس هناك حل إلا أن يتحقق في ضمن الاستقلالي، لكن هذا ترتب عقلي، والاستصحاب بلحاظه يكون أصلاً مثبتاً.
وأما إذا كان الغرض من استصحاب الجامع هو إثبات الجامع فقط، ولا ينزل من الجامع إلى الفرد حتى يكون أصلاً مثبتاً، وإنما الغرض فقط هو إثبات جامع الوجوب، وإثبات أن هذا الجامع الذي استصحبناه يكون منجزاً. إذا كان هذا هو الغرض، فالجواب هو أن هذا الجامع لا يكون منجزاً على المكلف، هذا لو كان معلوم بالعلم الوجداني يكون منجزاً، فضلاً عن أنه يثبت بالاستصحاب، لو علم المكلف وجداناً بهذا الجامع بين الوجوب الضمني والوجوب الاستقلالي، هذا لا يكون منجزاً مع العلم الوجداني به فضلاً عن الاستصحاب؛ لأنه جامع بين ما يقبل التنجيز وبين ما لا يقبل التنجيز، هو جامع بين الوجوب الاستقلالي الذي يقبل التنجيز، وبين الوجوب الضمني الذي لا يقبل التنجيز، باعتبار أن فرض الوجوب الضمني مع فرض العجز عن بعض الأجزاء، فأننا نفترض العجز عن بعض الأجزاء فلا ينفعه الوجوب الضمني، الوجوب الضمني إنما يقبل التنجيز مع فرض القدرة على كل الأجزاء؛ حينئذ يكون هذا الوجوب الضمني منجزاً، بمعنى أن مخالفته توجب استحقاق العقاب والمؤاخذة، لكن هذا عندما يكون المكلف متمكناً من كل الأجزاء، فالركوع يكون وجوبه الضمني قابلاً للتنجيز، والسجود وجوبه الضمني قابلاً للتنجيز .....وهكذا، أما مع العجز عن بعض الأفراد وسقوط الأمر بالمركب نتيجة لهذا العجز، الوجوب الضمني لا يكون قابلاً للتنجيز، فالجامع الذي يُراد إثباته هو جامع بين ما يقبل التنجيز وبين ما لا يقبل التنجيز، ومثل هذا الجامع لا يكون قابلاً للتنجيز، فلا معنى لأن يقال بأننا نريد استصحاب الجامع وإثباته لإثبات كونه منجزاً؛ لأن مثل هذا الجامع لا يكون قابلاً للتنجيز. هذا هو التقريب الأول للاستصحاب.
التقريب الثاني: هو نفس فكرة التقريب الأول تقريباً، لكن فقط بإبدال الوجوب الضمني بالوجوب الغيري، بأن يُستصحب جامع الوجوب الأعم من الوجوب النفسي والوجوب الغيري، والتقريب هو نفس التقريب السابق، فيقال: بعد دخول الوقت وقدرة المكلف على الإتيان بجميع الأجزاء يكون وجوب المركب عليه فعلياً، هذا الوجوب النفسي الذي يتعلق بجميع الأجزاء يكون له وجوبات غيرية تتعلق بكل جزء من هذه الأجزاء؛ فحينئذٍ تكون الأجزاء واجبة بالوجوب الغيري بناءً على أن الأجزاء تكون واجبة بالوجوب الغيري؛ فحينئذ هذه الأجزاء ما عدا الجزء المتعذر سابقاً كانت واجبة بالوجوب الغيري، فالآن هذا الوجوب الغيري ارتفع بلا إشكال بارتفاع وجوب المركب التام، لكن نحتمل حدوث وجوب نفسي لهذه الأجزاء بعد تعذر بعضها، فتأتي نفس الفكرة السابقة، أن جامع الوجوب كنا على يقين منه سابقاً في ضمن الوجوب الغيري والآن نشك في بقائه لأننا نحتمل أنه بزوال الوجوب الغيري عن الأجزاء حدث وجوب نفسي يتعلق بالأجزاء، فنستصحب كلي الوجوب. نفس الفكرة السابقة.
هذا أيضاً يرد عليه ما تقدم من أن هذا من استصحاب الكلي من القسم الثالث بالبيان المتقدم نفسه بلا فرق بينهما، ويرد عليه أيضاً أنه يبتني على فكرة تعلق الوجوب الغيري بالجزء، وهو محل مناقشة والمتأخرون لا يرون أن الجزء يتصف بالوجوب الغيري، الجزء يتصف بالوجوب الضمني لكنه لا يتصف بالوجوب الغيري، فأصل فكرة أن الجزء واجب بالوجوب الغيري هي فكرة محل كلام ومناقشة.