الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول
36/07/07
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي.
بعد أن أكملنا الكلام في دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي، يقع الكلام في دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي، المحقق النائيني(قدّس سرّه) ذكر أنّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي يمكن تقسيمه إلى أقسام ثلاثة:
القسم الأوّل: ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مرحلة الجعل في الأحكام الواقعية، مثّل لذلك بما إذا شككنا في أنّ صلاة الجمعة في عصر الغيبة هل هي واجبة تعييناً، أو هي واجبة تخييراً بينها وبين الظهر. أو شككنا في أنّ العتق الواجب عند الإفطار العمدي هل هو واجب تعييناً، أو أنّ المكلّف مخير بينه وبين إطعام ستين مسكيناً، هذا سمّاه دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مرحلة الجعل في الأحكام الواقعية.
القسم الثاني: ما إذا دار الأمر بينهما في مرحلة الجعل لكن في الأحكام الظاهرية ومقام الحجّية، وهو الذي يُسمى بدوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجيّة لا في الحكم الواقعي كما إذا شككنا في أنّ تقليد الأعلم بالنسبة للعامي الغير القادر على الاحتياط، أنّه هل هو واجب تعييناً، أو هو تخييراً بينه وبين غير الأعلم. العامي هل هو مخيّر بين أن يقلد الأعلم أو يقلد غير الأعلم، أو أنّ قول الأعلم هو الذي يكون حجّة في حقه، ولا يجوز له مع التمكن من تقليد الأعلم أن يقلد غير الأعلم ؟ هنا الدوران بين التخيير والتعيين، بين الأعلم وبين غيره، لكن هذا التخيير في مقام الجعل بالحكم الظاهري وفي مقام الحجّية، أيّهما هو الحجّة ؟ الحجّة أمّا أن يكون هو قول الأعلم فقط تعييناً، أو يكون الحجّة هو أحد القولين: إمّا الأعلم أو غير الأعلم. من هذا القبيل أيضاً يدخل تعارض النصّين مع احتمال وجود مزية توجب الترجيح في أحدهما دون الآخر بحيث يُحتمل أن تكون هذه المزية موجبة لترجيح صاحب المزية على النص المعارض له. هنا أيضاً يدور الأمر بين أن يكون صاحب المزية حجّة تعيناً، وبين أن يكون حجّة تخييراً، إذا كانت هذه المزية موجبة للترجيح، فيكون حجّة تعييناً، وإن لم تكن موجبة للترجيح فهما متساويان، فيكون المكلّف مخيراً بينهما، فصاحب المزية يدور أمره بين أن يكون حجّة تعييناً أو يكون حجّة تخييراً.
القسم الثالث: دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال من أجل التزاحم كما إذا كان هناك واجبان يُعلم بكلٍ منهما ولا شك في مقام الجعل من جهتهما، هذا واجب وهذا واجب، كل منهما تام الوجوب وتام الملاك، لكن المكلّف غير قادر على امتثالهما معاً كما إذا كان هناك غريقان لا يتمكن المكلّف إلاّ أن ينقذ احدهما، إنقاذ هذا الغريق واجب، وإنقاذ هذا الغريق أيضاً واجب، لكن المكلّف غير قادر على الجمع بين امتثالهما؛ لأنّ قدرته قدرة واحدة إمّا أن يصرفها في امتثال هذا وإمّا أن يصرفها في امتثال ذلك، فإذا فرضنا أنّ أحدهما كان أحدهما محتمل الأهمية كما إذا احتملنا أنّ أحدهما ولياً من الأولياء، أو نبياً من الأنبياء، في حالة التزاحم وعدم إمكان امتثالهما أيضاً يدور الأمر بين التعيين والتخيير، إمّا يجب عليه إنقاذ هذا الغريق الذي يحتمل كونه نبياً وإمّا أن يكون مخيّراً بينه وبين الآخر، فوجوب إنقاذ هذا إمّا أن يكون ثابتاً تعييناً، وإمّا أن يكون ثابتاً تخييراً، فيدور الأمر بين التعيين وبين التخيير، لكن في مقام الامتثال لا في مقام الجعل، لا بلحاظ الأحكام الواقعية، ولا بلحاظ الأحكام الظاهرية، هذه الأمور واضحة ولا شك فيها، وإنّما المسألة مسألة تزاحم في مقام الامتثال، فأيّهما يقدّم، فيدور أمر محتمل الأهمية بين التعيين وبين التخيير.
عندما نتكلّم في التعيين والتخيير الشرعي، محل الكلام هو القسم الأول، يعني ما إذا كان الأمر دائراً بين التعيين والتخيير في مقام الجعل بلحاظ الأحكام الواقعية، بأن يكون هناك حكم لا شك فيه، وإنّما يكون الشك فقط من ناحية أنّ هذا هل هو واجب تعييناً، أو يكون واجباً تخييراً ؟ صلاة الجمعة واجبة قطعاً وليس هناك شك في ذات الواجب وإنّما يتمحّض الشك في أنّه هل هي واجبة تعييناً، أو واجبة تخييراً ؟ فالمناط في محل الكلام هو ما إذا علمنا بتعلّق تكليف بأمرٍ معيّن وشككنا في أنّه هل هو واجب بخصوصه، أو أنّه ليس واجباً بخصوصه ؟ وإنّما له عِدل أو بديل يمكن أن يقوم مقامه، أي أنّه هل هو واجب تعييناً، أو هو واجب تخييراً ؟ هذا هو محل الكلام .
ومن هنا يظهر الفرق بين محل الكلام وبين المسألتين المتقدمتين، يعني دوران الأمر بين الأقل والأكثر في باب الأجزاء، ودوران الأمر بين الأقل والأكثر في باب الشرائط، الفرق بينهما هو أنّه في محل الكلام لا نفترض أيَّ شكٍ في الواجب، هذا واجب قطعاً وليس لدينا شك فيه في أخذ خصوصية فيه أو عدم أخذ خصوصية فيه بحيث تجعلنا في شكٍ من أنّ الواجب ما هو، هل هو هذا أو ذاك ؟ كلا، هذا هو الواجب، صلاة الجمعة واجبة ولا يوجد عندنا شكٌ في أخذ خصوصيةٍ فيها، هي واجبة قطعاً، ويتركّز شكّنا في أنّه هل هو واجب وحده، أو هو أحد طرفي التخيير ؟ وإلاّ هو في ذاته واجب، نعلم بوجوبه ونفرغ عن وجوبه، وإنّما نشك في أنه واجب تعييناً أو تخييراً ؟ هل له عِدل يقوم مقامه، أو ليس له عِدل يقوم مقامه ؟ هذا محل الكلام . بينما في المسألتين السابقتين الأمر ليس هكذا، كنّا نشك في الواجب نفسه من ناحية أنّه هل هذه الخصوصية مأخوذة فيه، أو ليست مأخوذة فيه ؟ وهذا معناه أننا عندنا شك في الواجب، وحدود الواجب مشكوكة لا نعلم أنّ هذا الواجب هل هو مقيّد بخصوصية الإيمان، كما في عتق الرقبة ؟ أو هل هو الأقل مقيّد بالجزء العاشر، أو هو الأقل لا بشرط الجزء العاشر ؟ فنفس الواجب يكون هناك شك فيه، وهو غير واضح عندنا من ناحية أنّ الخصوصية هل اُخذت فيه أم لم تؤخذ فيه الخصوصية ؟ الشك هنا كان من هذه الجهة، سواء كان في باب الأجزاء أو في باب الشرائط، كلٌ منهما الواجب ليس معلوماً وليس مفروغاً عنه، وإنّما الشك في نفس الواجب، وفي حدود الواجب وسعته، وإن كان هناك أيضاً نستطيع أن نقول أنّ الأمر يدور بين التعيين والتخيير؛ لأنّه على تقدير أن يكون الواجب هو عتق الرقبة المؤمنة، أو يكون الواجب هو عتق الرقبة مطلقاً، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير، بين أن يكون الواجب هو عتق رقبة مؤمنة فقط، أو يتخير المكلّف بين عتق الرقبة المؤمنة، أو عتق الرقبة الكافرة، فأيضاً بالنتيجة يمكن إرجاعه إلى الدوران بين التعيين والتخيير، لكن الفرق هو أنّه هناك كان الشك في نفس الواجب وما اُخذ فيه، هناك شك في أخذ شيء في الواجب، أو عدم أخذه، هل اُخذت هذه الخصوصية في الواجب، أو لم تؤخذ في الواجب ؟ في باب الأجزاء كذلك، الجزء الزائد هل اُخذ في الواجب على نحو الجزئية، أو لم يؤخذ ؟ هل اُخذ الإيمان في الواجب على نحو القيدية، أو لم يؤخذ ؟ بينما في محل الكلام لا يوجد عندنا مثل هذا الشك، الواجب واضح بحدوده ولا يوجد عندنا شك في أخذ خصوصية فيه، العتق عند الإفطار في شهر رمضان واجبٌ لا شك في أخذ خصوصية فيه أو عدم أخذ خصوصية فيه، وإنّما الشك فقط في أنه واجب بخصوصه، أو أنّ هناك شيئاً يقوم مقامه ويؤدي غرضه، فيكون الفرق بين ما نحن فيه وبين المسألتين السابقتين من هذه الجهة. إذن: محل الكلام هو القسم الأول من الأقسام الثلاثة التي ذكرها المحقق النائيني(قدّس سرّه).
وأمّا القسم الثاني الذي ذكره، وهكذا القسم الثالث الذي ذكره فالظاهر أنّه ليست هي محل الكلام، وإن تكلموا فيها استطراداً، لكن محل الكلام ليس القسم الثاني وليس القسم الثالث، القسم الثاني هو عبارة عن دوران الأمر بين التخيير والتعيين في الحجية، حجية النص صاحب المزية عندما يعارضه نص آخر، هنا يدور الأمر بين التعيين والتخيير في الحجية، هل قول الأعلم حجّة تعييناً، أو هو حجّة تخييراً بينه وبين قول غير الأعلم ؟ هذه المسألة خارجة عن محل الكلام، في هذه المسألة الظاهر أنهم يتفقون على أنّ الحكم هو التعيين، يعني المكلّف لا يكون معذوراً إذا أخذ بالحجة الأخرى؛ بل لابدّ أن يأخذ بما حجة إمّا تعييناً أو تخييراً ويترك الطرف الآخر والسر في ذلك واضح؛ لأنّ قول الأعلم في المثال الأول، أو النص صاحب المزية التي يُحتمل أن تكون موجبة لترجيحه على معارضه بحيث هذه المزية غير موجودة في النص الآخر، وإنما هي موجودة في أحد النصّين، هذا النص صاحب المزية، قول الأعلم، هذا مقطوع الحجية، قطعاً هو حجة على كل تقدير، سواء كانت هذه المزية موجبة للترجيح، أو لم تكن موجبة للترجيح، إذا كانت موجبة للترجيح، فيكون قوله حجّة تعييناً، وإن لم تكن موجبة للترجيح، فهما متساويان والمكلف مخيّر بينهما .
إذن: الأخذ بقول صاحب المزية، بقول الأعلم في المثال الأول، العمل بالنص صاحب المزية قطعاً حجة ومبرء للذمة، مقطوع الحجية على كل تقدير، بينما الطرف الآخر ليس هكذا، وإنّما الطرف الآخر يكون حجة في صورة كون المزية في ذاك الطرف ليست موجبة للترجيح، إذا لم تكن موجبة للترجيح يتساويان، فيكون كل منهما حجّة، فيتخيّر المكلّف بينهما، أمّا على تقدير أن تكون المزية موجبة لترجيح ذاك، فلا يكون هذا حجّة حينئذٍ. إذن: لا يقطع بكون الطرف الآخر حجة، بينما صاحب المزية، أو قول الأعلم في المثال الأول هو حجّة قطعاً وهو مقطوع الحجية على كل تقدير، سواء كانت المزية الموجودة فيه موجودة حقيقة وموجبة لترجيح قوله، أو لم يكن كذلك؛ لأنّه إذا لم يكن كذلك، فأنه يتساوى مع الآخر، إذن: هو حجة على كل حال، بخلاف الآخر، فأنه ليس كذلك. ومن هنا قالوا بأنّ الثاني لا يكون حجّة؛ لأننا نشك في حجيته بالوجدان؛ لأنّه على أحد التقديرين لا يكون حجّة، فنشك في حجيته، والشك في الحجية يساوق القطع بعدمها، فإذا شككنا في حجّية شيء لا يمكن الاعتماد على ذلك الشيء ولا ترتيب آثار الحجية عليه، فيجب بحكم العقل الأخذ بما هو مقطوع الحجية، ومقطوع الحجية هو قول الأعلم في المثال الأول، والنص صاحب المزية التي يحتمل أن تكون موجبة للترجيح في المثال الثاني؛ لأنّ المكلّف حينئذٍ يكون مأموناً من المؤاخذة ومن استحقاق العقاب لو عمل بهذا؛ لأنّه حجة على كل تقدير، وهذا معناه الحكم بالتعيين في القسم الثاني، وهذه المسألة خارجة عن محل الكلام ومتّفق عليها ظاهراً.
وأمّا بالنسبة للقسم الثالث الذي هو عبارة عن دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال؛ لأجل التزاحم، عندما يحتمل كون أحد الواجبين المتزاحمين أهم، إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين معلوم الأهمية؛ فحينئذٍ يكون هو الواجب فقط، أي الوجوب الفعلي يكون له، ويسقط الوجوب الفعلي عن الآخر، فيجب تقديم معلوم الأهمية بلا إشكال، لكن هذا حينما يكون معلوم الأهمية؛ حينئذٍ لا يدور الأمر بين التعيين والتخيير؛ بل هو يجب تعييناً عندما يكون معلوم الأهمية، وإنّما الكلام في ما إذا كان احدهما محتمل الأهمية، في هذه الحالة يدور الأمر بين التعيين والتخيير؛ لأنّ هذا إمّا يجب إنقاذه تعييناً، وإمّا أن يتخيّر المكلف بين انقاذه وبين إنقاذ الغير. هنا أيضاً لا كلام عندهم في أنّ الحكم هو التعيين، بمعنى أنّ هذا المكلّف في هذا المثال يجب عليه أن ينقذ من توجد فيه هذه المزية الموجبة لاحتمال أهمية الملاك، هذا أيضاً واضح عندهم وخارج عن محل الكلام، والسر في هذا ــــــــــ على ما يُذكر في محله ــــــــــ هو أنّ الواجبين المتزاحمين إذا كان أحدهما معلوم الأهمية، لا إشكال في أنّ الوجوب الفعلي ينعقد على طبقه ويسقط الوجوب الفعلي عن الواجب الآخر، باعتبار أنّ المكلّف يكون معذوراً في تفويت الواجب الآخر وفي تفويت ملاكه، وإن كان ملاك الواجب الآخر أيضاً ملزم، لكن المكلّف عندما يعلم بأهمية هذا، هذا معناه أنّ الشارع نفسه يأمره بصرف قدرته في امتثال هذا الأهم؛ لأنّه ليست لديه قدرة على امتثال كل منهما بحسب الفرض، باعتبار التزاحم، فالشارع عندما يكون أحدهما معلوم الأهمية عند الشارع، معناه أنّ الشارع يأمر المكلف بأن يصرف قدرته لامتثال هذا، فيصبح بذلك عاجزاً عن امتثال الطرف الآخر؛ لأنه عاجز عن امتثال الطرف الآخر تشريعاً لا تكويناً، هو قادر تكويناً على امتثال الطرف الآخر، لكن تشريعاً هو عاجز عن امتثال؛ لأنّ الشارع أمره أن يصرف قدرته في امتثال التكليف الأول، في إنقاذ الغريق الذي يعلم بكونه أهم في نظر الشارع؛ فحينئذٍ يسقط الوجوب الفعلي عن ذاك ولا يكون تفويت ذاك الواجب، ولا يكون تفويت ملاكه بالنسبة إلى المكلف موجباً لاستحقاق العقاب؛ بل المكلف يكون معذوراً في هذا التفويت وليس عليه شيء أصلاً من ناحية العقل، فيمتثل هذا التكليف ويترك ذاك التكليف وليس عليه شيء، باعتبار عجزه كما قلنا، عجزه التكويني عن امتثال كلا التكليفين، وعجزه التشريعي عن امتثال هذا التكليف؛ لأنّ الشارع أمره بصرف قدرته في امتثال هذا التكليف. هذا إذا كان يعلم بأهمية أحدهما في باب التزاحم. وأمّا إذا كان يعلم بتساويهما في الأهمية، في هذه الحالة ليس من المعقول افتراض أن يتعلّق التكليف الفعلي بأحدهما دون الآخر؛ لأنّه ترجيح بلا مرجح وهو قبيح، وفي هذه الحالة إمّا أن يُلتزم بتعلّق التكليف بكلٍ منهما مشروطاً بترك الآخر، وإمّا أن يُفترض وجوب كلٍ منهما تخييراً، وسيأتي توضيح هذا عند التكلم عن تفسير حقيقة الوجوب التخييري، على كلا التقديرين لا إشكال ولا خلاف بحكم العقل في أنّه يجوز للمكلف أن يكتفي بامتثال أحد التكليفين باعتبار أنّ قدرته لا تسع لامتثال كلٍ منهما، فلا محالة يكون مكلفاً بأن يمتثل أحدهما، إمّا هذا وإمّا هذا، سواء قلنا بوجوبين مشروطين بترك الآخر، أو قلنا بالوجوب التخييري كما سيأتي، على كل حال، هو يمكنه أن يكتفي بامتثال أحدهما؛ لأنه غير قادر على أن يأتي بما هو أكثر من ذلك. أو بعبارة أخرى هو غير قادر على تحصيل كلا الغرضين الملزمين في هذين الواجبين لضيق قدرته، وإنما هو قادر على تحصيل أحد الغرضين، فيجب عليه تحصيل أحد الغرضين بلا ترجيح، فيتخيّر بينهما.
هذا كلّه ليس محل كلامنا، وإنّما محل كلامنا فيما إذا احتملنا أهمية أحد الواجبين المتزاحمين، ليس لدينا علم بالأهمية ولا علم بالتساوي، وإنّما لدينا احتمال أهمية أحد الواجبين المتزاحمين، هذا الذي نتكلم عنه، هنا يدور الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال. هنا أيضاً الظاهر أنّه لا إشكال عندهم في أنه يجوز للمكلف أن يأتي بهذا الواجب الذي يحتمل أن يكون أهم، ولا شيء عليه في تفويت الملاك الملزم الموجود في الواجب الآخر، باعتبار أنّ هذا الذي فيه احتمال الأهمية أمره يدور بين أن يكون واجباً تعييناً، أو يكون واجباً تخييراً، وعلى كل حال لا محذور في الإتيان به ولا يستتبع شيئاً إطلاقاً، إذا انقذ الغريق الذي يحتمل كونه نبياً، هذا لا يستتبع شيئاً بلا إشكال وليس فيه محذور؛ لأنّه إمّا واجب تعييناً، أو أنه واجب تخييراً، على كلا التقديرين لا محذور في الإتيان به، بخلاف العكس، بخلاف ما إذا أراد امتثال انقاذ الغريق الآخر، فأنّ الإتيان به وتفويت الملاك الملزم في الطرف الآخر فيه محذور، وهو احتمال أنّ الشارع لا يريده منه؛ لاحتمال أنّ الشارع يريد إنقاذ هذا الغريق؛ لأنّ فيه خصوصية تستدعي احتمال الأهمية، فالإتيان به يكون فيه محذور، لا يكون مأمون الجانب، بينما لا محذور في الإتيان بالطرف الأول، فيتعين الإتيان به؛ لأنّه لا محذور فيه على كل تقدير، سواء كانت الأهمية المحتملة موجودة واقعاً، أو غير موجودة، على كل حال يجوز الإتيان به، فيُكتفى به، ولا يترتب عليه أي محذور، بخلاف العكس.
على كل حال، يمكن أن نقول في هذه الحالة الأمر يدور بين التعيين والتخيير، والعقل هنا يحكم في هذا المثال بلزوم انقاذ الغريق الذي يُحتمل كونه أهم؛ لأنّه لا يستتبع استحقاق العقاب ولا محذور فيه، بينما الاكتفاء بالآخر فيه احتمال محذور المخالفة، فيه محذور تفويت الغرض الملزم؛ لأنّه عندما يأتي بهذا الثاني هو قادر تكويناً وتشريعاً على الإتيان بالأول؛ لأنّ الشارع لم يأمره بامتثال هذا حتى يصبح عاجزاً عن امتثال الأول؛ بل المحتمل أن يأمره بالإتيان بالأول؛ لأنّه محتمل الأهمية، فالشارع يأمره بصرف قدرته في إنقاذ من يحتمل كونه نبياً؛ إذ كيف للمكلف أن يترك امتثال هذا ويترك امتثال الطرف الآخر والحال أنه يحتمل أنّ الشارع لا يجوز له ترك الغرض الملزم الموجود في الواجب الأول المحتمل الأهمية، فيحكم العقل بالتعيين في هذه الحالة؛ وحينئذٍ يكون هذا الحكم في القسم الثالث هو نفس الحكم الموجود في القسم الثاني، وهو الحكم بالتعيين.