الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ دوران
الأمر بين التعيين والتخيير العقلي.
الكلام في دوران الأمر بين
التعيين والتخيير العقلي. في هذا المقام ذكر السيد الخوئي(قدّس
سرّه) أنّ مرجع ذلك إلى كون ما يحتمل دخله في الواجب مقوّماً له بأن تكون نسبته
إليه نسبة الفصل إلى الجنس، أو نسبة النوع إلى الجنس بحيث يكون هذا الشيء الذي
يُحتمل دخله في الواجب مقوّماً للواجب، وذكر بأنّ صاحب الكفاية والمحقق النائيني(قدّس
سرّهما) ذهبا إلى عدم جريان البراءة في المقام، وذكر بأنّ صاحب الكفاية(قدّس سرّه)
ذهب إلى ذلك بناءً على ما تقدّم منه في بحث دوران الأمر بين الأقل والأكثر في
الشرائط، هناك ذكرنا رأي صاحب الكفاية(قدّس سرّه) الذي كان يتلخّص في أنّ الطبيعي
في ضمن المقيّد هو متّحد معه؛ بل هو عينه خارجاً، كما أنّ الطبيعي في ضمن غير
المقيد أيضاً كذلك متّحد معه؛ بل هو عينه خارجاً، وهذا ينتج التباين بين الطبيعي
في ضمن المقيّد والطبيعي في ضمن غير المقيّد، ومن هنا لا يكون هناك قدر مشترك
بينهما؛ بل الأمر يدور بين المتباينين، فيجب الاحتياط ولا يمكن الرجوع إلى البراءة؛
لعدم وجود قدر متيقّن، يكون هذا القدر المتيقن معلوم الوجوب ومتيقن الوجوب، وإنّما
يُشَك في الزائد عنه حتّى تجري فيه البراءة، الأمر ليس هكذا، وإنّما الأمر يدور
بين هذا المقيّد وبين ذاك غير المقيّد، يعني بين الطبيعي الموجود في ضمن المقيّد
وبين الطبيعي الموجود في ضمن غير المقيّد وهما متباينان، فلابدّ من الاحتياط. هذا
رأي صاحب الكفاية(قدّس سرّه).
[1]وأمّا المحقق النائيني (قدّس
سرّه)،
فقد نقل عنه البيان الذي ذكرناه في الدرس السابق،
[2]
وحاصله هو : أنّ الجنس لا يتحصّل في الخارج إلاّ في ضمن فصل، أصلاً لا يُعقل تحقق
الجنس في الخارج إلاّ في ضمن فصلٍ من الفصول، وبناءً على هذا لا يُعقل تعلّق
التكليف بالجنس وحده، وإنّما المعقول أن يتعلّق التكليف بالجنس مع فرض تميّزه بفصلٍ،
فيدور أمر الجنس الذي يتعلّق به التكليف حينئذٍ في محل الكلام بين كونه متميزاً
بفصلٍ معيّن وبين أن يكون متميزاً بواحدٍ من فصوله، واقع المطلب في المقام هو هذا،
في محل كلامنا في مثال(أذبح حيوان) مثلاً، دار الأمر بين أن يكون التكليف متعلّقاً
بمطلق الحيوان، أو بخصوص الحيوان الخاص البقر ــــــــــــ مثلاً ـــــــــــ هنا
يقول بعد فرض أنّ التكليف لا يُعقل أن يتعلّق بالجنس وحده من دون فصلٍ، إذن: لابدّ
أن يتعلّق التكليف بالجنس مع فصلٍ، والشك يكون في أنّ هذا الفصل الذي لابدّ أن
يتميز به الجنس عندما يتعلّق به التكليف، هل هو فصل معين، أو هو واحد من فصول هذا
الحيوان، أيّ واحدٍ تحقق الجنس بواحدٍ من هذه الفصول تعلّق به التكليف والنتيجة
أنّ المكلّف يكون مخيّراً بين أن يذبح بقراً، أو غنماً، أو........الخ؛ لأنّ
المأمور به هو الجنس المتميّز بأي فصلٍ من فصوله، هذا طرف للشك، والطرف الآخر أن
يكون المأمور به هو الجنس المتميّز بفصلٍ خاصٍ، يقول: أنّ هذا عندما يكون الأمر
دائر بين هذين النحوين الذين ذكرهما؛ حينئذٍ يكون المقام من باب دوران الأمر بين
التعيين والتخيير وليس من باب دوران الأمر بين الأقل والأكثر، وإنّما من باب دوران
الأمر بين التعيين والتخيير، ويقول: أنّه لا مجال لأن نقول أنّ تعلّق التكليف
بالجنس متيقّن وإنّما نشك في تقيّده بالفصل حتى نطبق عليه أنّه يدخل في دوران
الأمر بين الأقل والأكثر، هذا غير صحيح، أن نقول أنّ تعلّق التكليف بالجنس متيقّن؛
لما تقدم سابقاً من استحالة تعلّق التكليف بالجنس وحده، وإنّما يُعقل تعلّق
التكليف بالجنس في ضمن فصلٍ من فصوله، فلا يصح أن نقول أنّ التكليف يتعلّق قطعاً
بالجنس، وإنّما نشك في تقيّده بفصلٍ حتّى يدخل في دوران الأمر بين الأقل والأكثر،
وإنّما الصحيح أن نقول بأننا نعلم بتعلّق التكليف بالجنس بفصلٍ، وهذا الفصل يدور
بين أن يكون هو عبارة عن فصلٍ معيّن، وبين أن يكون هو واحد من الفصول التي يمكن أن
يتحقق بها ويتحصّل بها الجنس، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير ويقول: في مثله
يحكم العقل بالتعيين، ولا يجوز إجراء البراءة لنفي التعيين ونفي كلفة التعيين. هذا
البيان الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) نقلاً عن المحقق النائيني (قدّس سرّه).
هذا البيان لمنع جريان
البراءة في المقام قد يُلاحظ عليه: بأنّ غاية ما فعله المحقق
النائيني (قدّس سرّه) في المقام هو أنّه أدخل محل الكلام في دوران الأمر بين
التعيين والتخيير، أخرجه من دوران الأمر بين الأقل والأكثر وأدخله في دوران الأمر
بين التعيين والتخيير، لكن الكلام أنّه قد يقال: ما الدليل على أنّ هذا المورد هو
من موارد حكم العقل بالتعيين والاحتياط وأنّه ليس مورداً من موارد البراءة ؟
البيان الذي ذكره استناداً إلى أنّ الجنس لا يُعقل تعلّق التكليف به وحده، هو أنّه
أخرج محل الكلام من دوران الأمر بين الأقل والأكثر وأدخله في دوران الأمر بين
التعيين والتخيير، لكن من قال بأنّ العقل حكم بالتعيين في مثل ذلك ؟ لأنّه قد يقول
قائل: الأمر ليس هكذا؛ بل العقل يحكم في مثل ذلك بجريان البراءة، باعتبار أنّ
المكلّف يتيقن بأنّ ذمّته مشغولة بوجوب ذبح حيوانٍ، هذه قضية متيقنة ولا يمكن الشك
فيها، أنّه يجب عليه أن يذبح حيواناً، ويشكّ في وجوب تقيّد هذا الحيوان بفصلٍ
معيّنٍ؛ وحينئذٍ يمكن إجراء البراءة، يعلم المكلّف بلحاظ ذات التكليف وبلحاظ ما
تشتغل به الذمّة بأنّ ذمّته اشتغلت بذبح حيوانٍ، هذا لا يشك فيه، في فرض المسألة
لاشك في أنّه يجب عليه أن يذبح حيواناً، وإنّما يشك في أنّ هذا الحيوان الذي يجب
عليه ذبحه، هل هو مقيّد بفصلٍ خاصٍ، أو لا ؟ وهذا شك في التقييد يمكن إجراء
البراءة لنفيه، فليس من الواضح بأنّ العقل يحكم في محل الكلام بلزوم التعيين وعدم
إجراء البراءة؛ بل يمكن أن يُصاغ الكلام بهذا الشكل ويكون هذا شكاً في التكليف
الزائد ويمكن إجراء البراءة لنفي هذا التكليف الزائد، ويكون نظير ما تقدّم في دوران
الأمر بين الأقل والأكثر في باب الشرائط، في باب الشرائط كنت أعلم بأنّ الذمّة
مشغولة بعتق رقبة، وإنّما أشك في تقيّد الرقبة التي اشتغلت الذمّة بعتقها
بالإيمان، هل هي مقيدة بهذا القيد أو ليست مقيدة بهذا القيد ؟ كيف هناك قلنا لا
مانع من جريان البراءة لنفي التقييد المحتمل كذلك في محل الكلام قد يقال لا مانع
من جريان البراءة لنفي تقيّد الحيوان الذي اشتغلت الذمّة بذبحه بأن يكون مقيّداً
بفصلٍ خاصٍ، هذا يُنفى بالبراءة، والنتيجة هي إثبات التخيير لا التعيين.
لكن يمكن أن يكون المحقق
النائيني (قدّس سرّه) ناظراً إلى إثبات عدم كون المقام من باب دوران الأمر بين
الأقل والأكثر هو نفي حتّى هذا الاحتمال الذي ذكرناه قبل قليل؛ وذلك باعتبار أنّه
يريد أن يقول في المقام لا يوجد قدر متيقن في البين؛ بل كل الاحتمالات المطروحة هي
احتمالات ولا قطع بواحدٍ منها حتى يكون قدراً متيقناً في البين، المحقق النائيني
(قدّس سرّه) يريد أن يقول بعد فرض استحالة تعلّق التكليف بالجنس وحده من دون فصل؛
حينئذٍ يدور الأمر بين أن يكون الفصل الذي يتميز به الجنس عندما يتعلّق به
التكليف، هل هو فصل معيّن، أو هو واحد من فصوله؟ أحد هذه الفصول الذي يمكن أن
يتحقق ويتحصّل به الجنس، الأمر يدور بين هذين الاحتمالين، وهذان الاحتمالان لا قطع
بأحدهما، هذا المحتمل لا قطع به، وذاك المحتمل أيضاً لا قطع به، كون الجنس مقيّد
بفصلٍ خاصٍ، هذا محتمل لا جزم به، وكون الجنس ليس مقيّداً بفصلٍ محتمل؛ بل يكفي
فيه تحققه في ضمن أحد فصوله، هذا أيضاً لا قطع به؛ لأننا لا نقطع بأنّ الجنس الذي
تعلّق به التكليف يكفي فيه تحققه في ضمن واحدٍ من فصوله، هذا لا قطع به؛ لأننا
نحتمل أنّ الجنس الذي تعلّق التكليف به مقيّد بأن يتحقق في ضمن هذا الفصل المعين،
فإذن: كما لا يقين بتعلّق التكليف بالجنس المقيّد بفصلٍ معيّن، كذلك لا يقين
بتعلّق التكليف بالجنس في ضمن أي واحد من فصوله، هذا لا يقين عندنا به؛ لوضوح أننا
نحتمل الاحتمال الآخر الذي يقول الجنس ليس مأموراً به في ضمن أي فصلٍ من فصوله؛ بل
هو أمر به إذا تحقق في ضمن هذا الفصل الخاص، هذا كاحتمال موجود، هذا الاحتمال
الموجود يمنع من القطع بالاحتمال الأوّل، الاحتمال الأوّل لا قطع به، والثاني
أيضاً لا قطع به، فكل منهما محتمل، فلا قطع في البين، فلا قدر متيقن في البين،
فإذا لم يكن هناك قدر متيقن في البين فلا يمكن إدراج المسألة في باب الأقل والأكثر،
وإنّما تخرج عن باب دوران الأمر بين الأقل والأكثر وتدخل في دوران الأمر بين
التعيين والتخيير وفي مثله يكون العقل حاكماً بالتعيين لا بالتخيير، لا يحكم العقل
بجريان البراءة؛ لأنّه في الحقيقة لا يوجد قدر متيقن نقول بأنّ هذا نتيقن بتعلّق
التكليف به ونشك في ضم شيءٍ زائدٍ إليه حتّى يُعقل جريان البراءة لنفي المحتمل
الزائد، وإنّما الأمر يدور بين أمرين لا يقين بهما، كل منهما محتمل، تعلّق التكليف
بالجنس في ضمن أي واحدٍ من فصوله، هذا محتمل، وتعلق التكليف بالجنس في ضمن فصل
معيّن أيضاً محتمل، فلا قدر متيقن، فيجب الاحتياط حينئذٍ، لعلّ هذا هو مقصود المحقق
النائيني (قدّس سرّه)؛ وحينئذٍ لا يرد عليه الإشكال السابق الذي ذكرناه.
نعم، سيأتي ذكر ما يمكن أن
يكون جواباً عن
هذا الوجه الذي نقله السيد الخوئي(قدّس سرّه) عن المحقق النائيني (قدّس سرّه)، في
(فوائد الأصول) يمكن أن يُستفاد من كلامه وجهاً آخر لعدم جريان البراءة في موارد
التخيير العقلي، وهذا الوجه الآخر نقلناه في الدرس السابق، وكان حاصله هو أنّ
الترديد بين الجنس والنوع وإن كان بالتحليل الدقّي العقلي يرجع إلى الأقل والأكثر،
لكنّه خارجاً بنظر العرف يكون من الترديد بين المتباينين؛ لأنّ الإنسان بما له من
المعنى المرتكز في الذهن مباين للحيوان عرفاً، فلو دار الأمر بين إطعام الحيوان أو
إطعام الإنسان ــــــــــ مثلاً ــــــــــــ العرف يرى أنّ الأمر دائر بين
المتباينين، واللازم في مثل ذلك هو الاحتياط بإطعام خصوص الإنسان في هذا المثال؛
لأنّ نسبة حديث الرفع إلى كلٍ من وجوب إطعام الإنسان ووجوب إطعام الحيوان نسبة
واحدة، فحديث الرفع يجري في هذا وأيضاً يجري في ذاك، فيتعارضان، فيسقط حديث الرفع
في كلٍ منهما بسبب التعارض؛ لأنّه لا يمكن إجراء حديث الرفع لنفي وجوب إطعام
وإجراؤه في نفس الوقت لنفي وجوب إطعام الحيوان؛ لأننا نعلم بوجوب إطعام أحدهما بلا
إشكال، فتسقط البراءة في كلٍ منهما؛ وحينئذٍ يبقى العلم الإجمالي على حاله، وهو
يقتضي الاحتياط. هذا بيان آخر غير البيان السابق، يعتمد هذا البيان بعد الاعتراف
بأنّه بالنظر الدقّي الأمر يدور بين الأقل والأكثر، لكنّه بالنظر العرفي الأمر
يدور بين المتباينين، وذكر مثالاً لذلك الإنسان مع الحيوان وليس بالبقر مع الحيوان،
أو الغنم مع الحيوان. هذا ما ذكره في فوائد الأصول.
هذا الذي ذكره يجاب عنه وهذا
الجواب يصلح أيضاً أن يكون جواباً عن البيان الأوّل الذي نقله عنه السيد
الخوئي(قدّس سرّه)، كما يصلح أن يكون جواباً عن الدليل الذي ذكره صاحب
الكفاية(قدّس سرّه) لمنع جريان البراءة في محل الكلام. هو جواب واحد إذا تمّ يصلح
أن يكون جواباً عن كل الوجوه التي ذُكرت لمنع جريان البراءة في محل الكلام. هذا
الوجه ذكرناه في الدرس السابق الآن نعيده، وحاصله: أنّ التباين بين الجنس والنوع،
وبين الجنس والفصل إنّما هو تباين في اللحاظ باعتبار أنّ النوع يتضمّن الجنس،
والجنس مستبطن في نفس النوع، هذا الجنس المستبطن في نفس النوع إذا لاحظناه باللحاظ
الإجمالي، هذا يباين الجنس الذي يلحظ باللحاظ التفصيلي، هناك تباين بين الجنس
باللحاظ التفصيلي وبين الجنس المستبطن في النوع الذي يُلحظ باللحاظ الإجمالي، وبطريقة
اللّف والنشر، وبنظرة إجمالية عندما نلحظ النوع نلحظ الجنس بلحاظ إجمالي في ضمنه،
هذا الجنس الذي يُلحظ باللحاظ الإجمالي في النوع هو يباين الجنس الذي يُلحظ
باللحاظ التفصيلي، هو مباين له، هذا صحيح، وهذا التباين بهذا المقدار موجود، لكن
هذا التباين هو تباين في اللحاظ الإجمالي وفي اللحاظ التفصيلي، لكن إذا جرّدنا
الأمر من هذه اللحاظات باعتبار ما تقدّم من أنّ هذه اللحاظات هي حدود للملحوظ
وليست داخلة في العهدة ولا تشتغل بها الذمّة، وإنّما الذي تشتغل به الذمّة ويدخل
في العهدة هو ذات الملحوظ وذات المحدود، إذا لاحظنا ذات المحدود، نفس ما يُكلّف به
المكلّف ما تشتغل به الذمّة، اللحاظ لا تشتغل به الذمّة ولا يدخل في العهدة، إذا
لاحظنا ما تشتغل به الذمّة؛ حينئذٍ يمكن أن يقول المكلّف بكل وضوح بأنّي أقطع بأنّ
ذمّتي اشتغلت بإطعام حيوان، المكلّف لا يشك في أنّ عهدته اشتغلت بإطعام حيوان ويشك
في أنّه هل اشتغلت كذلك مضافاً إلى ذلك بأنّ الحيوان هو من نوعٍ خاص ؟ هل اشتغلت
أيضاً بأن يكون الحيوان متميزاً بفصلٍ خاص، أو لا ؟ هذا شك في التكليف بلحاظ ما
تشتغل به الذمة، هذا شك في التكليف في عالم العهدة، شك في تكليف زائد، شك في إضافة
شيءٍ إلى ما يعلم اشتغال الذمّة به؛ فحينئذٍ تجري البراءة ولا مانع من جريانها،
وليس الأمر دائراً بين المتباينين كما في التقريب الثاني لكلام المحقق النائيني(قدّس
سرّه)، وليس دائراً بين التعيين والتخيير كما في التقريب الأوّل الذي نقله السيد
الخوئي(قدّس سرّه) نقلاً عنه ولا دائر بين المتباينين كما يقول صاحب الكفاية(قدّس
سرّه) إذا أخذنا اللحاظات بنظر الاعتبار يمكن أن يكون هذا دائر بين المتباينين،
لكن إذا جرّدنا المسألة عن باب اللحاظات باعتبار أنّها لا تشتغل بها الذمّة
ولاحظنا نفس ما تشتغل به الذمّة سنجد أنّ المكلّف بإمكانه أن يقول أنا جازم بأنّ
ذمّتي اشتغلت بإطعام حيوان، هذا قطعاً لا يشك فيه، وإنّما يشك في أنّه هل اشتغلت
ذمّته مضافاً إلى ذلك بأن يكون الحيوان من نوع معيّن، أو متميزاً بفصلٍ معين، أو
لا ؟ هذا شك في التكليف الزائد تجري فيه البراءة، قلنا أنّ هذا بالضبط من قبيل ما
تقدّم في باب الشرائط، هما من وادٍ واحد، أيّ فرقٍ بينهما ؟ في باب الشرائط هناك
يعلم المكلّف بأنّه أُمر بعتق رقبة ويشك في أنّه هل يعتبر الإيمان في تلك الرقبة،
أو لا ؟ نفس الكلام يقال مع حفظ الفوارق، لكن هما من باب واحد، هو يعلم بأنّه قد
اشتغلت ذمّته قطعاً بعتق رقبة، وشك في أنّه هل يشترط في هذه الرقبة أن تكون مؤمنة،
أو لا ؟ قلنا هناك أنّ البراءة تجري لنفي التقييد الزائد المحتمل بلحاظ عالم العهدة،
بلحاظ ما تشتغل به الذمّة، في المقام أيضاً يمكن أن يقال بذلك، في المقام يعلم
المكلّف قطعاً بأنّ ذمّته اشتغلت بإطعام حيوان ولا يمكن إجراء البراءة لنفي هذا؛
لأنّ ذمته قطعاً اشتغلت بإطعام حيوان، وإنّما يشك في أنّه هل يعتبر في هذا الحيوان
أن يكون من نوعٍ خاص أو متميّزاً بنوعٍ خاص، أو لا ؟ هذا شك في التقييد الزائد، شك
في التكليف بأمرٍ إضافي في ضمن شيء إضافي إلى ما يتقين باشتغال الذمّة به، فيمكن
أن تجري فيه البراءة وتنفي هذا التقييد الزائد. إذا تمّ هذا الجواب، يمكن الجواب
به عن كل ما تقدّم، يكون الجواب عن ما ذكره صاحب الكفاية(قدّس سرّه) وعن ما نقل عن
المحقق النائيني (قدّس سرّه) في كلا الموضعين.
نعم، في
الدرس السابق قلنا أنّ في مثال الإطعام والإكرام يمكن أن يقال أنّ الأمر يدور بين
المتباينين، يعني لا يجري فيه الكلام الذي قلناه قبل قليل، هذا يجري في الجنس مع
الفصل، في الجنس مع النوع، لكن في باب الإطعام والإكرام عندما يدور الأمر بين
إطعام زيد وبين إكرام زيد هنا هذا الكلام السابق لا يجري؛ بل يمكن أن يقال الأمر
يدور بين مفهومين متباينين، وذكرنا في الدرس السابق وإن كان بينهما التقاء في الصدق
الخارجي وقد تكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق بأن كل ما يصدق عليه
الإطعام يصدق عليه الإكرام لكن لا عكس، ليس كل ما يصدق عليه الإكرام يصدق عليه
الإطعام، بالرغم من الصدق الخارجي في الجملة، لكنّه يبقى المفهومان متباينين مفهوم
الإطعام ومفهوم الإكرام، عندما يدور الأمر بينهما، بأن يكون الواجب هل هو الإطعام،
أو يكون الواجب هو الإكرام، هما مفهومان متباينان، التقاؤهما في الصدق الخارجي لا
يبرر عدم التباين بين المفهومين، ولعلّ السر في الفرق بين هذا المثال والأمثلة
السابقة، بين الجنس مع النوع والجنس مع الفصل، السر هو أنّ الجنس هناك أُخذ في
مفهوم النوع، بينما في محل الكلام في باب الإطعام والإكرام الأمر ليس هكذا، لم
يؤخذ في مفهوم الإطعام مفهوم الإكرام، بينما في مفهوم الإنسان أُخذ في مفهومه
الجنس(الحيوان)، بينما في باب الإطعام والإكرام لم يؤخذ في مفهوم الإطعام مفهوم
الإكرام؛ ولذا صارت النسبة بينهما التباين، وصارا مفهومان متباينان من قبيل مفهوم
الخشب مع مفهوم الشجرة، هناك تلاقي في الصدق الخارجي؛ لأنّ كل شجرة من خشب ولا
عكس، لكن هذا لا يعني أنّ الشجر أخذ في مفهومه الخشب، لم تؤخذ الخشبية في مفهوم
الشجر، وهكذا الحديد مع المسمار، لم يؤخذ في مفهوم المسمار مفهوم الحديد، وإنّما
هو شيء آخر غير الحديد وإن كانا يلتقيان في الخارج، لم يؤخذ في مفهومه مفهوم
الحديد ولذا يُرى أنّهما أمران متباينان الحديد كمفهوم هو مباين لمفهوم المسمار،
الخشب كمفهوم هو مباين لمفهوم الشجرة، الإكرام في محل الكلام أيضاً هو مفهوم مباين
لمفهوم الإطعام، هذا هو السر في عزل هذا المثال والاعتراض بأنّه يكون بينهما تباين
وليس هناك قدر متيقن بينهما، المكلّف هو يشك في أنّه هل يجب عليه إكرام زيد أو يجب
عليه إطعامه ؟ مفهومان متباينان؛ حينئذٍ القاعدة الأولية في مثله هو أنّه يجب عليه
الاحتياط، ويجب إطعامه، هذا الأخص صدقاً يجب الإتيان به باعتبار أنّ الأمر دائر
بين المتباينين، ومن هنا قلنا باّنه نحتاج لعدم الإلزام بالتعيين وحل العلم
الإجمالي لابدّ نحتاج للاستعانة بالانحلال الحكمي لحل هذا العلم الإجمالي في هذا
المثال، انحلال حقيقي غير موجود؛ لأنّ الأمر دائر بين المتباينين، لكننا نحتاج لحل
هذا العلم الإجمالي وتجويز إجراء البراءة إلى الانحلال الحكمي بالبيان الذي ذكرناه
في الدرس السابق، وهو أنّه في المقام أصالة البراءة لنفي وجوب الإطعام تجري؛ لأنّ
موضوعها متحقق، تكليف مشكوك، فتجري البراءة لنفي وجوب الإطعام ولا تُعارض بجريان
البراءة لنفي وجوب الإكرام لما قلناه من أنّه إن كان الغرض من إجراء البراءة لنفي
وجوب الإكرام هو التأمين من ناحية ترك الإكرام مع ترك الإطعام، فهذه مخالفة قطعية،
البراءة لا تجري للتأمين عن المخالفة القطعية، وإنّما تجري للتأمين عن المخالفات
الاحتمالية، وإن كان الغرض من إجراء البراءة في الإكرام هو التأمين من ناحية ترك
الإكرام مع الإتيان بالإطعام، هذا غير معقول؛ لأنّ نفي ما هو أعم صدقاً يستلزم نفي
ما هو أخص صدقاً، فافتراض أنّه في الخارج يكون هناك إطعام بلا إكرام، هذا غير صحيح
وغير معقول، فإذن: البراءة في الإكرام لا تجري، يعني ليس لجريانها أثر معقول،
فتجري البراءة لنفي الإطعام وهذا يتحقق به الانحلال الحكمي وبذلك نصل إلى نفس
النتيجة وهي أنّ البراءة تجري في محل الكلام ولا يتعيّن الرجوع إلى التعيين .