الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ دوران
الأمر بين التعيين والتخيير.
الكلام في دوران الأمر بين التعيين
والتخيير العقلي.
من دون فرقٍ بين
أن يكون التخيير العقلي بلحاظ متعلّق التكليف كما في مثال الإكرام الواجب ودورانه
بين مطلق الإكرام وبين الإكرام بالإطعام بالخصوص، وبين أن يكون التخيير بلحاظ
متعلّق المتعلّق كما في مثال إذا أمر بذبح حيوانٍ ودار أمر الحيوان بين مطلق
الحيوان، أو حيوان خاص، لا فرق بين هذين القسمين في ما سيأتي.
هنا نقل السيد الخوئي(قدّس
سرّه) عن
المحقق النائيني(قدّس سرّه) أنّه استشكل في جريان البراءة عن التعيين في محل
الكلام، وذكر في مقام تعليل ذلك بأنّه يرى أنّ الجنس لا تحصّل له في الخارج إلاّ
في ضمن الفصل ومن هنا لا يُعقل تعلّق التكليف به إلاّ مع أخذه متميزاً بفصلٍ،
وإلاّ كيف يُعقل تعلّق التكليف بالجنس من دون أن يكون متميزاً بفصلٍ خاصٍ ؟! ومن
هنا يدور أمر الجنس الذي تعلّق به التكليف بين أن يكون متميزاً بفصلٍ معيّن وبين
أن يكون متميزاً بفصلٍ ما من فصوله، الدوران يكون بين أن يكون الجنس الواجب الذي
تعلّق به التكليف، لنفترض أنّه من قبيل الإكرام في مثالنا، أو الحيوان في مثال
الأمر بذبح حيوان، هذا الجنس يدور أمره بين أن يكون متميزاً بفصلٍ خاص، لنفترض من
باب التوضيح أنّه الإطعام في مثال الإكرام، أو أنّه ــــــــــــ فرضاً
ــــــــــــ فصل الحيوان الخاص الذي هو الفرس كونه صاهلاً، أو الإنسان كونه
ناطقاً مثلاً، فيدور أمره بين أن يكون متميّزاً بفصلٍ خاصٍ معيّنٍ، وبين أن يكون
متميزاً بأحد فصوله، أيّاً كان هذا الفصل الذي يتميّز به بعد فرض استحالة تحصّل
الجنس من دون فصلٍ. ويقول بأنّ هذا في الحقيقة ليس من دوران الأمر بين الأقل
والأكثر حتّى يقال بإمكان جريان البراءة لنفي التعيين، هذا ليس كذلك؛ بل يتعيّن
فيه الاحتياط، وذلك باعتبار أنّه لا نستطيع أن نقول في هذا المثال بأنّ التكليف
بالجنس متيقن، وإنّما الشك في تقيّده بفصلٍ، هذا الكلام لا معنى له حينئذٍ، يمكننا
أن نقول هذا الكلام في المسائل السابقة، نستطيع أن نقول بأنّ التكليف بالأقل متيقن
وإنّما الشك في وجوب الزائد، لكن هنا لا يمكننا أن نقول أنّ التكليف بالجنس
متيقّن، وإنّما نشك في تقيّده بالفصل، هذا غير صحيح؛ لأنّ الجنس لا وجود له من دون
الفصل؛ بل الصحيح أن نقول أنّنا نتيقن أنّ التكليف تعلّق بالجنس بفصلٍ معيّنٍ، لكن
هذا الفصل يتردد بين التعيين والتخيير، يعني بين أن يكون هو فصل معيّن لا غير
يتحقق الجنس في ضمنه وبين أن يكون هو مطلق الفصل، أحد فصول هذا الجنس، سواء كان
هذا الفصل، أو كان هذا الفصل، أو هذا الفصل، أو ذاك الفصل، فالأمر يدور بين
التعيين والتخيير بلحاظ الفصل الذي يتحقق في ضمنه الجنس، وفي مثل ذلك يقول لا مجال
للرجوع إلى البراءة لنفي التعيين؛ بل اللازم هو الاحتياط والإتيان بذلك الجنس في
ضمن الفصل الذي نحتمل كونه هو الفصل المعيّن الذي أُخذ في الجنس حينما تعلّق به
التكليف، فلابد من الاحتياط عن طريق الإكرام بالإطعام في المثال الأوّل وعن طريق
ذبح الحيوان الخاص الذي هو ـــــــــــ فرضاً ـــــــــــ الغنم، وهذا هو التعيين،
فلابدّ من الاحتياط والالتزام بالتعيين وعدم جريان البراءة لنفي التعيين، ويبدو من
هذا الكلام أنّ السر هو، هذه المسألة الرئيسية، وهي أنّ الجنس لا يتحصّل في الخارج
إلاّ في ضمن فصل، فليس عندنا جنس موجود ونقول تعلّق به التكليف قطعاً ونشك في
تقيّده بفصلٍ حتّى ينفى هذا التقيّد بالبراءة، وإنّما الجنس المتميّز بفصلٍ معيّن
هذا نتيقن به، قطعاً نعلم بأنّ التكليف تعلّق بالجنس المتميّز بفصلٍ خاصٍ، لكن
شكّنا في أنّ هذا الفصل الذي يتميّز به الجنس الذي تعلّق به التكليف، هل هو عبارة
عن فصلٍ خاصٍ كالإطعام بالنسبة إلى الإكرام ــــــــــــــ مثلاً ــــــــــــــ
أو الناطقية بالنسبة إلى الحيوان، أو الصاهلية بالنسبة إلى الحيوان، أو لا، أنّ
الجنس عندما تعلّق به التكليف لا يتميّز بفصلٍ خاصٍ، وإنما أي فصلٍ من الفصول يكفي
في مقام الامتثال، وفي مقام الاتيان بالواجب، الأمر لا يدور بين الأقل والأكثر،
وإنّما يدور بين التعيين والتخيير وفي مثله العقل يحكم بالاحتياط وعدم جريان
البراءة. الموجود في تقريرات المحقق النائيني(قدّس سرّه) شيء آخر يختلف عمّا ذكره
السيد الخوئي(قدّس سرّه) حيث ذكر أنّ الترديد بين الجنس والنوع، أو بين الجنس
والفصل، الظاهر لا فرق بينهما، أنّ الترديد بين الجنس والنوع وإن كان بحسب الدقّة
والتحليل العقلي يرجع إلى الأقل والأكثر، لكن هذا بحسب التحليل العقلي والدقّة
العقلية، لكنّه خارجاً ينظر العرف إليه على أنّه ترديد بين المتباينين، عندما يدور
الأمر بين الجنس وبين النوع، بالدقة العقلية الأمر دائر فيه بين الأقل والأكثر،
لكن بنظر العرف الأمر يدور بين المتباينين، هو يمثّل النوع بالإنسان باعتبار أنّ
الإنسان بما له من معنىً مرتكز في الذهن مباين تماماً للحيوان بنظر العرف، فإذا
علم المكلّف بأنّه يجب عليه إطعام إمّا الإنسان، أو الحيوان، فاللازم بنظر العرف
هو الاحتياط ولا تجري البراءة، فيجب عليه إطعام خصوص الإنسان، باعتبار أنّ نسبة
البراءة إلى كلٍ من وجوب إطعام الإنسان ووجوب إطعام الحيوان نسبة واحدة وتجري
فيهما البراءة وتتعارض البراءات فيهما وتتساقط البراءات ويبقى العلم الإجمالي على
حاله، فلابدّ من الاحتياط. هذا كلّه، افتراض أن تكون نسبتهما إلى البراءة نسبة
واحدة، وجريان البراءة فيهما والتعارض والتساقط، هذا كلّه مبني على ما ذكره من
أنّه بالنظر العرفي هناك تباين بين الجنس وبين النوع، هما متباينان بالنظر العرفي
وإن كان بالنظر الدقّي بينهما نسبة الأقل والأكثر.
يمكن أن يُلاحظ على ما ذكره:
أنّه
تقدّم سابقاً أكثر من مرّة بأنّ الميزان في محل الكلام هو ملاحظة ذات التكليف وعالم
العهدة وما يدخل في عهدة المكلّف وما تشتغل به الذمّة. هذا هو الميزان في التنجيز
والتعذير وهو الميزان في الانحلال وعدمه، لابدّ من ملاحظة هذا العالم، بلحاظ هذا
العالم سنجد أن الأمر دائر بين الأقل والأكثر لا بين المتباينين؛ وذلك لأنّه في
بعض الأحيان يكون التباين بين الجنس والفصل تبايناً في عالم اللّحاظ في أنّ أحدهما
بلحاظٍ يباين الآخر بلحاظٍ آخر، بمعنى أنّ الإنسان بنظرةٍ إجماليةٍ وباللّحاظ
الإجمالي هو في الواقع يستبطن الجنس، أي يستبطن الحيوان؛ لأنّ الحيوان موجود في
ضمن النوع، فالإنسان بهذا اللّحاظ الإجمالي يباين الحيوان باللّحاظ التفصيلي،
فالاختلاف بينهما في اللّحاظ التفصيلي، فيختلفان ويتباينان بهذا اللحاظ، الإنسان
الذي يستبطن ويتضمّن الجنس يباين الجنس إذا نظرنا إليه بنظرة تفصيلية ولاحظناه
باللحاظ التفصيلي، بينهما تباين، لكن باعتبار اختلاف اللّحاظ التفصيلي والإجمالي،
الإنسان بنظرة إجمالية يوجد في ضمنه الحيوان، يوجد فيه جنسه، وهو بهذه النظرة
يختلف عن الحيوان الذي يُلحظ باللّحاظ التفصيلي، فيوجد بينهما تباين، لكن هذا
التباين موجود في عالم اللّحاظ باعتبار اللّحاظ التفصيلي واللّحاظ الإجمالي يقال
بينهما تباين، لكن بناءً على ما تقدّم من أنّ حدّ اللحاظ الإجمالي وحد اللّحاظ
التفصيلي وسائر الحدود الأخرى لا تدخل في العهدة، الذي يدخل في العهدة هو ذات
المحدود وذات الملحوظ. هذا هو الذي ينبغي أن يحسب حسابه، وهذا هو الذي ينبغي أن
يُلاحظ في دعوى الانحلال وعدم الانحلال، ودعوى جريان البراءة وعدم جريانها، لا
ينبغي أن نأخذ بنظر الاعتبار الحدود واللحاظات التي يُلحظ بها الشيء وعلى أساسها
يكون هناك تباين بين المفهومين، وإنّما الذي ينبغي أن يُلحظ هو ذات المحدود وذات
الملحوظ، إذا أتينا إلى ذات المحدود وذات الملحوظ سنجد أنّ الأمر ليس دائراً بين
المتباينين؛ بل الأمر دائر بين الأقل والأكثر، ذات المحدود بلحاظ عالم العهدة
وبلحاظ عالم اشتغال الذمّة إمّا أن يكون عبارة عن الجنس، وإمّا أن يكون عبارة عن
النوع الذي هو عبارة عن الجنس وزيادة، الذي يدخل في العهدة إمّا الحيوان على
إطلاقه، الحيوان يجب عليه أن يذبحه، أو الإكرام، يجب عليه إكرام الفقير، وإمّا أن
يكون الداخل في العهدة هو الإكرام مع زيادة، يعني الإكرام المقيّد بأن يكون بنحو
الإطعام، هذه زيادة، وهذا أكثر في مقابل ذات الإكرام، ذات الإكرام يمثل الجنس
والإطعام يمثّل النوع.
وبعبارة أخرى:
ذات الإكرام يمثل الأقل، والنوع يمثل الأكثر؛ لأنّ النوع يمثّل إضافة، إكرام
متقيّد بأن يكون بنحو الإطعام، فبلحاظ الملحوظ الأمر يدور بين الأقل والأكثر ومن
هنا يكون هناك مجال لإجراء البراءة لنفي التكليف بالزائد؛ لأنّ المكلّف يتيقّن
بأنّه مكلّف بأن يكرم زيداً، أو متيقن بأنّه مكلّف بأن يذبح حيواناً، وإنّما يشك
في أنّه هل هو مكلّف بالإضافة إلى ذلك أن يجعل الحيوان من نوعٍ خاصٍ أو لا ؟ هذا
هو واقع المطلب، إذا لاحظنا عالم ما يدخل في العهدة، ما يدخل في العهدة دائر بين
الأقل والأكثر، إمّا أن يذبح حيواناً، أو أن يذبح حيواناً بإضافة أنّه مقيّد بأن
يكون من نوع خاصٍ، فالأمر يدور بين الأقل والأكثر بهذا اللحاظ، ومن هنا يكون الداخل
في العهدة قطعاً هو عبارة عن الجنس ويُشَك في وجوب النوع، يعني يُشَك في وجوب
تقيّد هذا الجنس بقيدٍ خاص، أو تحصّله بفصلٍ خاصٍ معيّن دون باقي الفصول، هذا يشك
فيه، فيمكن إجراء البراءة لنفي هذا التقيّد المشكوك. هذا هو الحال في الجنس والنوع
على ما ذكر المحقق النائيني(قدّس سرّه)، فالتباين الموجود بينهما تباين صحيح،
لكنّه باعتبار اللحاظات، أي عندما يؤخذ اللحاظ بنظر الاعتبار، تلحظ النوع باللحاظ
الإجمالي وتلحظ الجنس باللحاظ التفصيلي يوجد بينهما تباين، الجنس بنظرة تفصيلية
يباين النوع بنظرة إجمالية، لكن اللحاظ ليس داخلاً في العهدة على ما ذكرنا، وإنّما
الداخل هو ذات الملحوظ وبلحاظ ذات الملحوظ الأمر يدور بين الأقل والأكثر كما هو
الحال في المسائل السابقة.
نعم، في
بعض الأحيان يكون التغاير بين المفهومين تغايراً واضحاً وإن كان أحد المفهومين
أضيق صدقاً في الخارج من الآخر، يعني يصدق على مصاديق أقل ممّا يصدق عليه الآخر،
لكن بينهما يوجد تباين، باعتبار أنّ أحدهما لا يستبطن الآخر وليس محفوظاً فيه،
وهذا يمكن تطبيقه على مسألة الإكرام والإطعام، في مسألة الإكرام والإطعام قد يقال
في ذات الملحوظ يوجد هناك تباين بقطع النظر عن اللحاظ، حتّى إذا قطعنا النظر عن
اللحاظ في ذات الملحوظ يوجد هناك تباين بين مفهومين، بين مفهوم الإكرام وبين مفهوم
الإطعام، لو وجب على المكلّف أن يكرم الفقير كيفما اتفق وبأيّ نحوٍ كان، وبين أن
يجب عليه إكرامه بخصوص الإطعام، هنا يوجد تباين بلحاظ نفس الملحوظ، تباين بين
الإكرام وبين الإطعام، باعتبار أنّ مفهوم الإطعام هو مفهوم آخر غير مفهوم الإكرام،
وإن كان بينهما في الصدق الخارجي هناك تلاقي في الجملة، بمعنى أنّ الإكرام أوسع
صدقاً من الإطعام، أحدهما أخصّ بلحاظ الصدق الخارجي من الآخر، والآخر أعمّ بلحاظ
الصدق الخارجي، لكن بين نفس الملحوظين، بين نفس ذات الإكرام ونفس ذات الإطعام لا
يُبعد أنّ يوجد بينهما تباين، هذا التباين يعني أنّ ما ذكره المحقق النائيني(قدّس
سرّه) يمكن أن يصح في هذا المثال؛ لوجود تباين بينهما، ولعلّه هو مقصوده حينما ذكر
الجنس والنوع، يعني يقول في مثال الإكرام وفي مثال الإطعام يوجد بينهما تباين،
مفهومان متباينان. نعم، في الصدق الخارجي يلتقيان في الجملة، لكن هما مفهومان
متباينان كأيّ مفهومين آخرين ليس أحدهما يتضمّن الآخر كما هو الحال في الجنس
والنوع، وفي الجنس والفصل، أحدهما يتضمّن الآخر ويستبطنه، الإكرام والإطعام ليسا
من هذا القبيل، فإذا قلنا بذلك؛ حينئذٍ يكون العلم الإجمالي باقياً على حاله ولا
ينحل؛ لأنّ الأمر يدور بين المتباينين حتّى بلحاظ ما يدخل في عالم العهدة الذي هو
ذات الملحوظ كما قلنا، حتى بلحاظ هذا العالم الأمر يدور بين المتباينين؛ لأنّهما
مفهومان متباينان؛ بل أكثر من هذا يمكن أن يقال؛ لأنّهما متباينان حتى بلحاظ عالم
التطبيق الخارجي وعالم الامتثال على ما تقدّم، هناك فرق بين أن يجب عليّ الإكرام
وأشك في اعتبار شيءٍ فيه مثل أنّ الإكرام هل يجب فيه أن يتعقبه الدعاء الخاص أو
يسبقه الدعاء الخاص، أو لا ؟ في هذا نستطيع أن نقول بلحاظ عالم التطبيق وعالم
الامتثال لا يوجد بينهما تباين؛ بل الأمر يدور بين الأقل والأكثر؛ لأنّه في عالم
الامتثال والتطبيق الخارجي استطيع أن أشير إلى إكرام معيّن وأقول بأنّ هذا متيقّن
الوجود، وإنّما اشك في أنّه أقرأ قبله الدعاء، أو بعده، وإلاّ هو لا إشكال في
وجوبه، وهذا معناه أنّ الأمر يدور بين الأقل والأكثر بلحاظ عالم الامتثال وعالم
التطبيق، لكن في مثال دوران الأمر بين الإكرام والإطعام الأمر ليس هكذا، عندما
اشير إلى الخارج إلى إكرام من نوع خاص لا استطيع أن أقول أنّ هذا الإكرام متيقن
الوجوب، بأي نحو من الأنحاء التي يتحقق بها الإكرام، أي إكرام بالخارج أُشير إليه
بأي نحوٍ كان لا استطيع أن أقول بـأنّ هذا متيقن الوجوب وأشك في إضافة شيءٍ آخر
إليه، وإنّما في الحقيقة إمّا أن يكون هو واجب هذا الإكرام من نوعٍ خاص، وإمّا أن
يكون الواجب تبديله والإتيان بفردٍ آخر من أنواع الإكرام، يجب تبديله، لا أنّه
يكون متيقن الوجوب ويُشك في إضافة شيءٍ إليه كما هو الحال عندما أشك في وجوب
الدعاء عند الاتيان بالإكرام الواجب، وإنّما الأمر يدور بين متباينين على غرار ما
تقدّم سابقاً في عالم الامتثال التطبيق والخارجي، الأمر يدور بين إمّا هذا الفرد،
يعني إكرام الفقير بدفع المال إليه وإمّا إكرام الفقير بإطعامه، على تقدير أن يكون
الواجب هو الإطعام، هذا لغو وينبغي تبديله، لا أنّه هو متيقن وأضيف إليه شيئاً،
وإنّما هو شيءٌ يجب تبديله وإلغاؤه على تقدير أن يكون الواجب هو الإطعام، فالأمر
دائر بين المتباينين في هذا المثال ليس فقط في عالم العهدة؛ بل حتى في عالم
الامتثال والتطبيق الخارجي الأمر دائر بين المتباينين، ومن هنا لو بقينا نحن
ومسألة الانحلال الحقيقي بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك في ما زاد عليه، لعلّه
في هذا المثال يُلتزم بعدم الانحلال وببقاء العلم الإجمالي، ولو بقينا نحن وهذا
لالتزمنا بعدم جربان البراءة لنفي وجوب التعيين أي بوجوب الإطعام؛ بل لابدّ من الاحتياط،
لكن في المقام يمكن الاستعانة بما ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) سابقاً من دعوى
الانحلال الحكمي، يعني بعد أن نعجز عن إثبات الانحلال الحقيقي يمكن أن يُذكر في
المقام الانحلال الحكمي المبني على مسلك الاقتضاء كما هو واضح، ونطبّق كلام السيد
الخوئي(قدّس سرّه) في محل الكلام، فنقول: هنا البراءة بناءً على مسلك الاقتضاء،
وأنّ الانحلال منوط بجريان البراءة في أحد الطرفين بلا معارض، في المقام يمكن أن
يقال أنّ أصالة البراءة تجري لنفي وجوب الإطعام ولا تُعارَض بالبراءة لنفي وجوب
الإكرام على غرار ما تقدّم سابقاً، وذلك لعدم ترتب أيّ أثرٍ معقولٍ على جريان
البراءة في الإكرام؛ لأنّه إن كان الغرض من إجراء البراءة في وجوب الإكرام هو
التأمين في حالة ترك الإكرام بالمرّة، يعني ترك الإكرام بكل أنحائه حتّى بالإطعام،
فهذا غير معقول؛ لأنّ هذا الفرض هو فرض المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال
والبراءة لا تؤمّن عن المخالفة القطعية، وإن كان الغرض من إجراء البراءة في
الإكرام هو التأمين من ناحية ترك الإكرام مع الإتيان بالإطعام، نقول بأنّ هذا غير
متصوّر؛ لأنّ نفي الإكرام يستبطن نفي الإطعام؛ لأنّ نفي الأوسع دائرة يستبطن نفي
الأضيق دائرة، فلا معنى لأن نؤمّن بإجراء البراءة في الإكرام من ناحية ترك الإكرام
مع الإتيان بالإطعام، هذا غير معقول؛ لأنّ ترك الأعم يستلزم ترك الأخص، فمن هنا لا
يكون هناك أثر معقول لجريان البراءة في الإكرام، فتجري في الإطعام بلا معارض، وهذا
معناه الانحلال الحكمي، فعندما نعجز عن إثبات الانحلال الحقيقي يمكن المصير إلى
إثبات الانحلال الحكمي. نعم، هذا كما هو واضح يتوقّف على القول بمسلك الاقتضاء.
وأمّا إذا قلنا بمسلك العلّية التامّة، فيبدو أنّ الأمر يقف حينئذٍ؛ لأنّه لا يوجد
انحلال حقيقي ولا انحلال حكمي، ونكتة المطلب هي أنّه في بعض الأمثلة التي تُذكر في
محل الكلام يكون هناك تباين بين المفهومين حتّى بلحاظ عالم العهدة وبلحاظ عالم ما
تشتغل به الذمّة، بلحاظ هذا العالم يوجد تباين بين المفهومين، بلحاظ ذات الملحوظ
وبقطع النظر عن اللحاظات والحدود مع ذلك يكون بينهما تباين؛ لأنّ مفهوم الإكرام
غير مفهوم الإطعام، وإن كان بينهما تلاقٍ في الصدق الخارجي في الجملة، وبهذا
يختلفان عن مفهوم الإنسان ومفهوم الحيوان، مفهوم الإنسان يستبطن ويتضمن جنسه،
بينما الأمر ليس هكذا في مثال الإكرام والإطعام، وعليه؛ فحينئذٍ تكون المسألة
مرتبطة بأنّ المفهومين عندما يدور الأمر بين مفهومين من هذا القبيل في مسألة دوران
الأمر بين التعيين والتخيير لابدّ أن نلحظ أنّه هل هناك تباين بينهما بلحاظ عالم
العهدة وبلحاظ عالم اشتغال الذمة، أو لا ؟ مع قطع النظر عن الحدود واللحاظات، ذات
المحدود وذات الملحوظ هل يوجد بينهما تباين أو لا ؟ إذا كان يوجد بينهما تباين؛
فحينئذٍ نضطر إلى إثبات إمكان جريان البراءة عن طريق الانحلال الحكمي.