الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ دوران
الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
الكلام في البراءة الشرعية: هل
تجري البراءة الشرعية في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر، أو لا ؟ وذكرنا
بأنّ ما عدا أصحاب القول الذي ينكر جريان البراءة مطلقاً الباقون متفقون على جريان
البراءة الشرعية في محل الكلام، سواء من التزم بجريان البراءة مطلقاً، أو من التزم
بالتفصيل؛ لأنّ من التزم بالتفصيل يقول بجريان البراءة الشرعية في محل الكلام وإن أنكر
جريان البراءة العقلية في محل الكلام. ومن هنا يقع الكلام في أنّه إذا أنكرنا
جريان البراءة العقلية في محل الكلام، هل هناك مجال لجريان البراءة الشرعية، أو لا
؟ الذي يبدو من القائلين بالتفصيل هو أنّ هناك مجالاً لجريان البراءة الشرعية؛
لأنّهم بالرغم من أنّهم ينكرون جريان البراءة العقلية في محل الكلام يقولون بجريان
البراءة الشرعية في المقام. إذن: هناك مجال لجريان البراءة الشرعية بالرغم من
إنكار جريان البراءة العقلية.
صاحب الكفاية (قدّس سرّه) الذي
اختار القول بالتفصيل بعد أن منع من جريان البراءة العقلية في محل الكلام، باعتبار
العلم الإجمالي، وهو يرى أنّ العلم الإجمالي ليس منحلاً، وباعتبار الغرض، وأنّ
الغرض لابدّ من تحصيله عقلاً، وهذا يستلزم الإتيان بالأكثر ويكون مورداً لقاعدة
الاشتغال لا البراءة العقلية، بعد أن ذكر هذا ذكر بأنّه لا محذور في التمسّك بالبراءة
الشرعية مثل حديث الرفع في محل الكلام لنفي جزئية ما يُشكّ في جزئيته، نحن كلامنا
في دوران الأمر بين الأقل والأكثر، يعني نشك في جزئية السورة بالنسبة للصلاة، فلا
مانع من التمسّك بحديث الرفع لنفي جزئية السورة في محل الكلام، يقول يرتفع الإجمال
والتردد ويتعيّن أن يكون الواجب هو الأقل، إذا جرت البراءة لنفي جزئية السورة
المشكوك جزئيتها؛ حينئذٍ الإجمال الذي كان موجوداً قبل إجراء البراءة وهو مسألة
أنّ الواجب هو الأقل أو الأكثر، أنّ السورة جزء أو ليست جزءاً، حديث الرفع يرفع
هذا الإجمال ويعيّن أنّ الأقل هو الواجب وأنّ السورة ليست جزءاً من هذا المركب،
ثمّ بعد ذلك تعرّض إلى إشكالات أوردها على نفسه وأجاب عنها لا نذكرها الآن، ربما
نذكرها في بعض الأبحاث الآتية. المهم هو أنه يرى جريان البراءة الشرعية في محل
الكلام، لكن لنفي جزئية ما يُشك في جزئيته.
المحقق النائيني(قدّس سرّه) أيضاً
ممّن يرى التفصيل، هو يرى أنّ البراءة العقلية لا تجري في محل الكلام باعتبار العلم
الإجمالي الذي هو يرى أنّه غير منحل وصالح لتنجيز معلومه على كل تقدير، قال لا
محذور في جريان البراءة الشرعية مثل حديث الرفع في محل الكلام وذكر أنّه إذا جرت البراءة
الشرعية في محل الكلام لنفي وجوب الأكثر؛ حينئذٍ ينحل العلم الإجمالي حكماً، فيثبت
هناك انحلال حكمي لهذا العلم الإجمالي الذي فرغ عن عدم انحلاله حقيقة بالعلم
التفصيلي الذي ذُكر هناك باعتباره موجباً لانحلال العلم الإجمالي، هو لا يرى أنّ العلم
الإجمالي ينحل بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل؛ لأنّه يرى أنّ العلم التفصيلي بوجوب
الأقل المردد بين الاستقلالية والضمنية هو نفس العلم الإجمالي وليس شيئاً آخر
غيره، فلا يعقل أن ينحل به؛ إذ لا يُعقل أن ينحل العلم الإجمالي بنفسه. يقول:
العلم التفصيلي بوجوب الأقل المردد بين الاستقلالية والضمنية هو نفس العلم
الإجمالي؛ ولذا هو لا يرى انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي، لكنّه يقول لا
مانع من افتراض انحلال العلم الإجمالي حكماً بإجراء البراءة الشرعية وحديث الرفع في
محل الكلام. وذكر المحقق النائيني(قدّس سرّه) توجيه جريان البراءة الشرعية في محل
الكلام بمسألة أنّ العلم الإجمالي بشكل عام ينحل بجريان الأصل الشرعي كحديث الرفع
في أحد أطرافه، ينحل العلم الإجمالي حكماً لا حقيقة إذا جرى الأصل في أحد أطرافه وفي
محل الكلام يجري الأصل الشرعي في الأكثر؛ لأنّ موضوع الأصل الشرعي متحقق في الأكثر؛
لأنّه يُشك في وجوبه، وموضوع الأصل الشرعي هو الجهل والشك في الحكم الواقعي، فيجري
الأصل الشرعي في الأكثر، وهذا الأصل الشرعي الجاري في الأكثر كما ذكر يوجب رفع
الإجمال ويثبت إطلاق الأمر بالأقل، بمعنى أنّ وجوب الأقل لم يتقيد متعلّقه بالجزء
الزائد المشكوك، يعني ليس مقيداً بانضمام الجزء الزائد، فتجري البراءة الشرعية في
الأكثر ويتعيّن حينئذٍ وجوب الأقل. وبعبارة أخرى يتعيّن أن يكون وجوب الأقل وجوباً
مطلقاً من ناحية انضمام الجزء العاشر، فيثبت الإطلاق، فيثبت أنّ الأقل مطلوب من
دون تقييده بالجزء المشكوك، وهذا هو معنى وجوب الأقل، بمعنى أنّ الأقل واجب لا
بشرط وليس بشرط لا، فالبراءة النافية للأكثر هي بنفسها تثبت الإطلاق في الأقل،
بمعنى عدم تقيد متعلّق وجوب الأقل بالجزء المشكوك، هو مطلق من ناحيته، يعني لا
بشرط تجاه الجزء العاشر فيثبت الإطلاق بالنسبة إلى الأقل. هو يريد أن يثبت أنّ
الأصل الشرعي الذي هو حديث الرفع ــــــــــــ مثلاً ـــــــــــــ كما ننفي به
وجوب الأكثر نثبت به أيضاً وجوب الأقل.
حينئذٍ:
أورد على نفسه إشكالاً هو، كيف تثبت الأقل بالأصل الجاري لنفي وجوب الأكثر ؟ لأنّ
هذا معناه في الحقيقة أنّنا نريد أن نثبت الإطلاق بالأصل الجاري لنفي التقييد،
الأصل الجاري لنفي الأكثر هو عبارة عن الأقل المقيد بالجزء المشكوك، فالأصل الذي
ينفي وجوب الأكثر، يعني ينفي كون الأقل مقيّداً بانضمام الجزء المشكوك، بالأصل
الذي يجري لنفي التقييد كيف يمكن إثبات أنّ الأقل مطلق من ناحية الجزء المشكوك ؟!
هذا يتوقف على القول بالأصل المثبت، نفي التقييد يلازم ثبوت الإطلاق، فالأصل
الشرعي ــــــــــــ أصالة البراءة، حديث الرفع ــــــــــــ الذي ننفي به التقييد
يعني ننفي به وجوب الأكثر لا يمكنه أن يثبت الإطلاق في الأقل إلاّ بناءً على القول
بالأصل المثبت، يوجه على نفسه هذا الإشكال ويجيب عنه بأنّ هذا الإشكال مبني على
افتراض أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل الضدين، فيكون الإطلاق والتقييد
كالضدّين الذين لا ثالث لهما، فالأصل الذي يجري لنفي أحد الضدّين لا يمكنه إثبات
الضدّ الآخر إلاّ بناءً على القول بالأصل المثبت، بينما الصحيح هو يرى أنّ التقابل
بين الإطلاق والتقييد هو تقابل الملكة والعدم وليس تقابل الضدّين؛ لأنّه يقول أنّ
الإطلاق عبارة عن عدم لحاظ القيد وليس الإطلاق عبارة عن لحاظ عدم القيد في مقابل
لحاظ القيد حتّى يكون هما عبارة عن لحاظين أحدهما يتعلّق بالقيد والذي نسميه
التقييد والآخر يتعلّق بعدم القيد والذي نسميه الإطلاق، الإطلاق ليس عبارة عن لحاظ
عدم القيد، وإنما هو عبارة عن عدم لحاظ القيد، فالأصل الذي ينفي التقييد هو يثبت
الإطلاق، الإطلاق هو عبارة عن عدم التقييد وليس شيئاً آخر لازم عدم التقييد،
الإطلاق هو عبارة عن عدم التقييد، فلا مشكلة في إثبات الإطلاق بالأصل الشرعي
الجاري لنفي التقييد؛ لأنّ الإطلاق هو عبارة عدم التقييد، فيثبت بهذا الأصل من دون
أن يتوقف ذلك على القول بالأصل المثبت. هذا ملخّص كلام المحقق النائيني(قدّس
سرّه).
فإذن:
كل من صاحب الكفاية والمحقق النائيني(قدّس سرّهما) يؤمّن بأنّه بالرغم من عدم
جريان البراءة العقلية لا مانع من جريان البراءة الشرعية في محل الكلام.
[1]السيد الخوئي(قدّس سرّه) اختلف
معهما في ذلك،
[2]
حيث ذكر بأنّه مرّة نبني على ما هو الصحيح من جريان البراءة العقلية؛ حينئذٍ لا
ينبغي التشكيك في جريان البراءة الشرعية في محل الكلام، وهذه قضية مفروغ منها وحيث
أنّ الصحيح عنده هو جريان البراءة العقلية، إذن لا إشكال في جريان البراءة الشرعية
في محل الكلام، وإنّما يقول أنّ البحث والكلام يقع إذا لم نقل بجريان البراءة العقلية
في محل الكلام كما ذهب إليه هذان العلمان، إذا لم نقل بجريان البراءة العقلية هل
هناك مجال لجريان البراءة الشرعية، أو لا ؟ يقول: هذا هو محل الكلام. يظهر من صاحب
الكفاية والمحقق النائيني(قدّس سرّهما) أنّ هناك مجالاً لجريان البراءة الشرعية،
بينما هو يقول أنّ الصحيح هو أنّه لا مجال لجريان البراءة الشرعية إذا قلنا بعدم
جريان البراءة العقلية؛ وذلك لأنّه يدّعي أنّ هناك ملازمة بين جريان البراءة
العقلية وجريان البراءة الشرعية وجوداً وعدماً، بمعنى أنّه إذا قلنا بجريان البراءة
العقلية، فلابدّ أن نقول بجريان البراءة الشرعية، وإذا قلنا بعدم جريان البراءة
العقلية لابدّ أن نقول بعدم جريان البراءة الشرعية، فمن يقول بجريان البراءة
العقلية لابدّ أن يقول بجريان البراءة الشرعية كما هو رأيه، ومن يقول بعدم جريان البراءة
العقلية لابدّ أن يقول بعدم جريان البراءة الشرعية في محل الكلام، وذكر لتوضيح هذه
الملازمة ما حاصله: أنّ الموانع التي ذكرت في كلمات من لا يرى جريان البراءة
العقلية في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر، عمدة هذه الموانع أثنان: المانع
الأوّل هو مسألة الغرض، والمانع الثاني هو مسألة العلم الإجمالي بدعوى أنّ هذا العلم
الإجمالي الموجود في المقام دائر بين الأقل والأكثر، وهذا العلم الإجمالي يمنع من
إجراء البراءة العقلية في أحد الطرفين كما هو الحال في أي علم إجمالي آخر منجّز،
المانع الأوّل هو لزوم رعاية الغرض وتحصيله على كل تقدير، وهذا لا يحصل إلاّ
بالأكثر؛ لأنّ المقام يدخل في باب الشك في المحصّل، وموارد الشك في المحصّل حتّى
بلحاظ الغرض، فضلاً عن التكليف هي في الحقيقة مجرى لقاعدة الاشتغال وليست مجرى
لقاعدة البراءة، فالمانع من جريان البراءة في محل الكلام هو أحد هذين الأمرين: غرض
لابدّ من تحصيله، وإجراء البراءة ونفي أحد الطرفين ينافي لزوم تحصيل غرض المولى
الملزم، وإمّا مسألة العلم الإجمالي، هذا علم إجمالي موجود دائر بين الإطلاق
والتقييد، دائر بين أن يكون الأقل طبيعة مطلقة الذي نعبّر عنه بالأقل، أو يكون
الأقل طبيعة مقيّدة بالجزء الآخر والذي نعبّر عنه بالأكثر، هذا علم إجمالي ينجّز
طرفيه ويمنع من إجراء البراءة في أحد طرفيه.
يقول السيد الخوئي(قدّس
سرّه): إذا
كان هذا مانعاً حقيقياً يمنع من إجراء البراءة العقلية، فهو أيضاً لابدّ أن يكون
مانعاً من جريان البراءة الشرعية، أمّا أن نفصّل ونقول أنّ هذا المانع يمنع من
جريان البراءة العقلية ولا يمنع من جريان البراءة الشرعية، فهذا غير صحيح، إذا منع
فهو يمنع منهما معاً، وإذا لا يمنع فهو لا يمنع من كلٍ منهما، التفصيل لا مورد له.
أمّا بالنسبة إلى الغرض، فإذا قلنا بأنّ الغرض واجب التحصيل ممّا يحكم العقل بلزوم
تحصيله على كل تقدير، فلابدّ من تحقيق الغرض المولوي من ذلك الشيء؛ وحينئذٍ أيّ
فائدةٍ في إجراء البراءة الشرعية ؟ ماذا يترتب على إجراء البراءة الشرعية ؟ غاية
ما يترتب على إجراء البراءة الشرعية في محل الكلام هو نفي ورفع جزئية الجزء
المشكوك الجزئية، فحديث الرفع والبراءة الشرعية ترفع جزئية الجزء المشكوك، وهذا هل
يترتب عليه إحراز حصول الغرض بالإتيان بالأقل ؟ لأنّ المفروض أنّ لدينا غرض، وهذا
الغرض منع من إجراء البراءة العقلية، يعني غرض لازم التحصيل على كل تقدير، لابدّ
أن تحرز تحقق الغرض، أجرى البراءة الشرعية لنفي وجوب الأكثر، أو لنفي جزئية الجزء
المشكوك، فارتفعت جزئية الجزء المشكوك الجزئية ظاهراً؛ لأننا نتكلم عن حديث الرفع،
فارتفعت جزئيته ظاهراً، هل معنى ذلك أنّ المكلّف إذا اقتصر على الأقل يحرز تحقق
الغرض بإتيانه الأقل ؟ كلا، النافي للجزئية لا ينفيها واقعاً، لو كان ينفيها
واقعاً كما سيشير لا مشكلة هو ينفي الجزئية واقعاً، فنقول أنّ الإتيان بالأكثر
نحرز به الحصول على الغرض، لكن الرافع للجزئية في المقام هو حديث الرفع وبراءة
شرعية وأصل عملي، هو يرفع جزئية ظاهراً، ولا علاقة له بالواقع، هذا رفع الجزئية
ظاهراً لا يترتّب عليه إحراز الغرض بالإتيان بالأقل، لا يترتب عليه إطلاقاً، ليس
فيه فائدة، يبقى العقل يلزم المكلّف بلزوم تحصيل الغرض، وإذا اقتصر على الأقل لا
يحرز تحصيل الغرض، فيجب عليه الإتيان بالأكثر. إذن: ماذا انتفعنا من إجراء البراءة
الشرعية في محل الكلام ؟!
إذن:
هو يقول إذا كان المانع من إجراء البراءة العقلية هو الغرض، فهو أيضاً يمنع من
إجراء البراءة الشرعية في محل الكلام ببيان أنّه لا يمكن إجراء البراءة الشرعية في
محل الكلام والالتزام بالاقتصار على الأقل؛ لأنّ إجراء البراءة الشرعية تنفي جزئية
الجزء المشكوك الجزئية، وإذا نفينا جزئيته نقتصر على الأقل، وبلحاظ الغرض لا يجوز
الاقتصار على الأقل؛ لأنّ الذي يرفع جزئية الجزء المشكوك الجزئية هو أصل عملي ينظر
إلى الظاهر ويرفعها ظاهراً ولا يرفعها واقعاً. إذن: لا فائدة في إجراء البراءة ولا
معنى لإجراء البراءة الشرعية في محل الكلام إذا قلنا بأنّ المانع وهو مسألة الغرض
تمنع من إجراء البراءة العقلية. نعم، يمكن الاقتصار على الأقل وعدم وجوب الإتيان
بالأكثر في حالتين:
الحالة الأولى:
إذا كان النافي لجزئية الجزء المشكوك أمارة، خبر ثقة قام على أنّ السورة ليست جزءً
من الصلاة، دائماً الإمارة تكون ناظرة إلى الواقع، فهي تنفي جزئية السورة واقعاً،
في هذه الحالة يقول لا مانع من الاقتصار على الأقل ويحرز المكلف حينئذٍ الحصول على
الغرض إذا جاء بالأقل؛ لأنّ هذه حجّة معتبرة ناظرة إلى الواقع، وتنفي جزئية الجزء
المشكوك الجزئية واقعاً، فيقتصر على الأقل ويحرز بذلك الحصول على الغرض.
الحالة الثانية:
ما إذا كان دليل البراءة الشرعية وارداً في خصوص مسألة الدوران بين الأقل والأكثر،
نفترض أنّ دليل حديث الرفع ليس فيه إطلاق يشمل جميع موارد الشك في التكليف؛ بل
خصوص الشك في التكليف في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر، في هذه الحالة
يتعين الحكم بكفاية الاقتصار على الأقل في مقام الامتثال صوناً لكلام المتكلّم
الحكيم عن اللّغوية؛ لأنّ دليل البراءة وارد في هذه المسألة، فإذا قلنا ليس فيه
فائدة ولا ينتج لنا جواز الاقتصار على الأقل؛ حينئذٍ يكون لغواً، جعل البراءة في
خصوص هذه المسألة يكون لغواً وجعل البراءة مطلقا فيه فائدة، في موارد أخرى تظهر
فيه فائدة ولا يلزم منه اللّغوية، لكن افتراض أنّ دليل البراءة الشرعية وارد في
خصوص مسألتنا، مع افتراض أنّه لا ينتج جواز الاقتصار على الأقل، وإنّما بلحاظ
الغرض يجب الإتيان بالأكثر ولا يجوز الاقتصار على الأقل، فلصون كلام المتكلم
الحكيم عن اللّغوية لابدّ أن نقول جعل البراءة في مسألتنا فيه فائدة، وفائدته أنّه
يجوّز لنا الاقتصار على الأقل، بأن نفترض أنّ الشارع في هذه الحالة يقول لا يجب
عليك إحراز الحصول على الغرض، يكفيك أن تقتصر على الأقل، وهذا يكفي في هاتين
الحالتين، أمّا في غيرهما كما هو المفروض في محل كلامنا حيث لم نفترض النافي
لجزئية الجزء أمارة، وإنّما افترضنا أنّ النافي لجزئية الجزء حديث الرفع أصل عملي،
ولا يصح أن يقال أنّ أدلة البراءة الشرعية مختصّة بخصوص دوران الأمر بين الأقل
والأكثر، كل منهما فرضان غير متحققين في محل الكلام، ففي غير هاتين الحالتين
يتعيّن الالتزام بمراعاة الغرض ولزوم الإتيان بالأكثر، وهذا معناه أنّ أصالة البراءة
الشرعية لا تجري في المقام، كما لا تجري البراءة العقلية كذلك لا تجري البراءة
الشرعية في محل الكلام. هذا كلّه إذا كان المانع من جريان البراءة العقلية هو
مسألة الغرض، والمانع الثاني هو العلم الإجمالي. في العلم الإجمالي قالوا أنّه علم
إجمالي يدور بين الأقل والأكثر، ومعناه في الحقيقة هو أنّ الأقل يُعلم بوجوبه، لكن
يدور أمر الأقل بين أن يكون مطلقاً أو مقيداً، يدور أمره بين طبيعة مطلقة وبين
طبيعة مقيدة، الطبيعة المطلقة التي يعبّر عنها بالأقل، والطبيعة المقيدة بالجزء
المشكوك الاعتبار يُعبّر عنها بالأكثر، فهو علم إجمالي بوجوب دائر بين طبيعة مطلقة
وبين طبيعة مقيدة، هذا العلم الإجمالي الدائر بين التقييد وبين الإطلاق يكون
منجّزاً، فهو علم إجمالي منجز ولا يرتفع هذا العلم الإجمالي عن التنجيز إلاّ إذا
أحرزنا الإطلاق، لكن ما دام لا نحرز الإطلاق الذي هو أحد طرفي العلم الإجمالي؛
حينئذٍ يبقى العلم الإجمالي على تنجيزه في هذه الحالة، وإذا بقي على تنجيزه ويمنع
من جريان البراءة العقلية في أحد طرفيه.