الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

36/04/28

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي.
كان الكلام في المطلب الذي ذكره السيد الشهيد(قدّس سرّه) وفرّق على أساسه بين الحرمتين الوضعية والتكليفية، وذكر بأنّ ما ذكروه من أنّ العلم الإجمالي الأوّل لا ينجّز الملاقي إنّما يصح بالنسبة إلى الحرمة التكليفية كحرمة شربه، وأمّا بالنسبة إلى الحرمة الوضعية كحرمة التوضؤ به وغيرها من الأحكام الوضعية التي تترتب على ملاقي النجس، فهذه تتنجّز بالعلم الإجمالي الأوّل، وفي مقام الاستدلال على ذلك ذكر أنّ الحرمة التكليفية كحرمة شرب النجس ـــــــــ مثلاً ــــــــــ يقول أنّ هذه الحرمة لا تكون فعلية قبل وجود النجس، وإنّما فعليتها منوطة بوجود النجس خارجاً، وأمّا مع عدم وجود النجس خارجاً لا تكون الحرمة فعلية؛ لأنّه إن كان المكلّف غير قادر على إيجاد النجس، أي غير قادر على إيجاد الخمر في(يحرم شرب الخمر)؛ فحينئذٍ تكليفه والنهي عن الخمر يكون مستحيلاً؛ لخروجه عن القدرة بحسب الفرض؛ إذ لا فرق في الاستحالة مع الخروج عن القدرة بين الأمر بالإتيان بذلك الشيء أو النهي عن إتيانه، مع عدم القدرة النهي أيضاً يكون مستحيلاً، ففعلية الحرمة تكون مستحيلة عند فرض عدم قدرة المكلّف على إيجاد الخمر في الخارج.
وأمّا إذا فرضنا أنّه كان قادراً على إيجاد الخمر في الخارج، يقول: هنا الحرمة لا تكون فعلية ليس للاستحالة؛ لأنّه قادر على إيجاد الخمر خارجاً، وإنّما تكون الحرمة غير فعلية لأنّ ظاهر دليلها هو كون وجود الخمر خارجاً قيداً في نفس الحرمة، وبطبيعة الحال إذا كان وجود الخمر خارجاً قيداً في نفس الحرمة لا تكون الحرمة فعلية قبل وجوده، الحرمة إنّما تكون فعلية قبل وجوده إذا كانت مطلقة من ناحيته، بأن يكون وجوده قيداً في متعلّق الحرمة، يعني في الحرام الذي هو الشرب، إذا كانت قيداً في الحرام؛ حينئذٍ تكون الحرمة فعلية ومطلقة من ناحيته، فتكون فعلية قبل وجوده، يقول: الذي يفهم من دليل (لا تشرب الخمر) و(لا تشرب النجس) وغيرها من النواهي، الذي يُفهم من هذا الدليل هو أنّ وجود متعلّق المتعلّق، الذي يُسمّى بالموضوع ـــــــــــ هذا المتعلّق هو الشرب، ومتعلّق المتعلّق هو الخمر ـــــــــــ يؤخذ قيداً في نفس الحرمة بحيث أنّ الحرمة لا تكون فعلية إلاّ بوجود متعلّق المتعلّق، وعلى هذا الأساس؛ حينئذٍ يصح أن يقال أنّ حرمة شرب الخمر وحرمة شرب النجس.......وهكذا، الحرمة التكليفية لا تكون فعلية قبل تحقق النجس وقبل تحقق الخمر.....وهكذا في سائر الموارد. وهذا مطلب كلّي في باب النواهي.
يقول: وهذا بخلاف الحرمة الوضعية، حرمة التوضؤ بالنجس، هذه الحرمة الوضعية تكون فعلية قبل وجود النجس خارجاً؛ لأنّ هذه الحرمة الفعلية في الحقيقة هي أمر انتزاعي يُنتزع من تحديد دائرة الواجب وتقييده بعدم كونه نجساً، أو بكونه طاهراً، يعني الواجب هو الوضوء، عندما يكون الواجب هو الوضوء، فعندما يكون فعلياً هو يكون فعلياً بدائرة محدودة بحسب الأدلة، هو مقيّد بأن يكون بالماء الطاهر، ومقيّد بأن لا يكون بالماء النجس، وجوب الوضوء مقيّداً بأن لا يكون بالماء النجس يُنتزع منه الحكم الوضعي، أي حرمة الوضوء بالماء النجس، فحرمة الوضوء بالماء النجس هي حرمة انتزاعية تُنتزع من تقييد الواجب الفعلي بأن يكون بالماء الطاهر، أو بأن لا يكون بالماء النجس، فتنتزع هذه الحرمة.
وبعبارةٍ أخرى: لا نعبّر بالحرمة، وإنّما نعبّر بالشرطية، فواقع الحرمة الوضعية هي شرطية ترجع إلى الشرطية والمانعية، إمّا أن نقول أنّ الماء النجس مانع من صحّة الوضوء، أو نقول أنّ الماء الطاهر شرطٌ في صحّة الوضوء، فمرجعها إلى الشرطية، أو المانعية وهي قضية انتزاعية تُنتزع من تقييد الواجب بأن يكون بالماء الطاهر، أو أن لا يكون بالماء النجس، فهي أمر انتزاعي يكون فعلياً عند فعلية الواجب، عندما يكون الواجب فعلياً، هذا الأمر الانتزاعي أيضاً يكون فعلياً، الشرطية تكون فعلية، وليست فعليتها منوطة بوجود الماء النجس خارجاً، ولا علاقة لها بوجود الماء النجس خارجاً، سواء وجد الماء النجس، أو لم يوجد، هو يبقى كشرطية في أن الوضوء لا يصح إلاّ بالماء الطاهر، تبقى هناك مانعية وهي أنّ الماء النجس يمنع من صحّة الوضوء، فالمانعية والشرطية تكون فعلية الواجب، وليست فعليتها منوطة بوجود النجس خارجاً.
إذا تمّ هذا المطلب؛ حينئذٍ نطبّقه في محل كلامنا، في محل الكلام لدينا ملاقي أحد اطراف العلم الإجمالي، لدينا علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين، ويوجد ملاقٍ لأحد الأطراف، الحرمة التكليفية لهذا الملاقي التي هي حرمة شرب الملاقي، يقول: في هذه يصح ما ذكروه من أنّها لا تتنجّز بالعلم الإجمالي الأوّل؛ لأنّ هذه الحرمة التكليفية على ضوء ما ذكر لا تكون فعلية إلاّ إذا تحقق موضوعها خارجاً، في محل الكلام لم يتحقق موضوعها خارجاً؛ لأننا كما قالوا لا نحرز أنّ هذا ملاقي النجس، صحيح الحكم قال: لا يجوز شرب ملاقي النجس، لكننا لا نحرز أنّ هذا ملاقي النجس.
وبعبارة أخرى: أنّ حرمة شرب ملاقي النجس ليس موضوعها هو النجاسة حتّى نقول نحن عالمين بالنجاسة، فتثبت هذه الحرمة للملاقي، لا يكفي فيها هذا، يعني نجاسة الملاقى لا تكفي لإثبات نجاسة الإناء الآخر إلاّ إذا أحرزنا أنّه لاقى النجس، فالعلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين لا يكفي لإثبات حرمة شرب الملاقي إلاّ بعد إحراز الملاقاة، وهذا هو الذي عبّروا عنه بأنّ النجاسة المعلومة بالإجمال ليست هي تمام موضوع الحكم التكليفي لحرمة الشرب، وإنّما هي جزء الموضوع، والجزء الآخر هو الملاقاة، وحيث أنّ الملاقاة محتملة وغير محرزة، فلا يمكن إثبات حرمة شرب الملاقي بمجرّد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين كما ذكروه سابقاً.
وأمّا في الحرمة الوضعية، فيقول: في الحرمة الوضعية الظاهر أنّ العلم الإجمالي يكفي لإثبات حرمة الوضوء بالملاقي؛ لأنّ المفروض أنّ حرمة الوضوء بالنجس هي حرمة فعلية قبل وجود النجس، يكفي في فعلية هذه الحرمة والشرطية العلم بنجاسة الشيء، إذا علمت بأنّ الشيء نجس هذه الحرمة تكون فعلية، فيقال: يحرم الوضوء بملاقي هذا النجس، حرمة الوضوء بالملاقي ليست موقوفة على تحقق الملاقاة في الخارج. طبعاً حرمة الوضوء بملاقي النجس باعتباره نجساً، باعتبار أنّه لاقى النجس فتنجّس، فيحرم الوضوء به، هذه حرمة الوضوء به هي فعلية قبل وجود النجس؛ لأنّها عبارة عن شرطية، أو مانعية منتزعة من تحديد دائرة الواجب وتقييده بأن لا يكون بالماء النجس، أو أن يكون بالماء الطاهر، وهذه حرمة فعلية، الشرطية فعلية، عندما يجب الوضوء على المكلّف يحرُم عليه أن يتوضأ ــــــــــــــ حرمة تكليفية ــــــــــــــ بالماء النجس، مرجعها إلى بطلان الوضوء إذا كان بالماء النجس، هذه قضية فعلية ليست موقوفة على الملاقاة حتّى يقال نحن لا نعلم أنّ ملاقاة النجس هل تحققت أو لم تتحقق ؟ فحينئذٍ كيف تثبت هذه الحرمة ؟ هي ليست موقوفة على وجود النجس، وإنّما هي ثابتة قبل وجوده. هذه القضية إذا صارت واضحة في محل الكلام، المكلّف يعلم بنجاسة أحد الإناءين، حرمة الوضوء بملاقي أحد الأطراف تتنجّز بنفس العلم الإجمالي، نفس العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين كما ينجّز حرمة هذا الطرف، وحرمة هذا الطرف حرمة تكليفية وكما ينجّز الحرمة الوضعية لهذا الطرف والحرمة الوضعية لهذا الطرف، يعني ينجّز حرمة شرب هذا الطرف وحرمة شرب هذا الطرف، وينجّز حرمة الوضوء بهذا الطرف وحرمة الوضوء بهذا الطرف؛ لأنّه يعلم إجمالاً بنجاسة أحدهما، يعني يعلم إجمالاً بحرمة شرب أحدهما وعدم جواز الوضوء بأحدهما؛ لأنّ أحدهما نجس والنجس يحرم ــــــــــ وضعاً ــــــــ التوضؤ به. إذن: ما يعلمه هو نجاسة أحد الإناءين وحرمة شرب أحد الإناءين، وعدم جواز الوضوء بأحد الإناءين، والعلم الإجمالي كما ينجّز عليه كلا الطرفين بلحاظ الحكم التكليفي وبلحاظ الحكم الوضعي، كذلك ينجّز عليه حرمة الوضوء بملاقي أحد الطرفين؛ لأنّ ملاقي النجس نجس، وكما يحرم الوضوء بملاقي النجس يحرم الوضوء بملاقيه، وهذه الحرمة ثابتة قبل الملاقاة، وقبل وجود النجس، ولا تتوقف على وجود الملاقاة كالحرمة التكليفية؛ بل هي حرمة فعلية قبل ذلك. عندما يعلم بنجاسة أحد الإناءين؛ فحينئذٍ يحرم عليه ارتكاب أحد الطرفين، ويحرم عليه الوضوء بأحد الطرفين، ويحرم عليه الوضوء بملاقي هذا الطرف، ويحرم عليه الوضوء بملاقي هذا الطرف؛ لأنّه يعلم بأن أحد الملاقيين للطرفين نجس؛ لأنّ أحدهما قطعاً لاقى النجس، إذن: أحدهما قطعاً نجس، يعني يحرم الوضوء به. العلم الإجمالي نفسه ينجّز حرمة التوضؤ بالملاقي لأحد الطرفين كما يقتضي تنجيز حرمة الوضوء بالملاقي للطرف الآخر بنفس البيان، يعني لماذا يحرم عليه الوضوء بهذا الطرف ؟ لأنّه محتمل النجاسة، والعلم الإجمالي نجّز هذا الطرف ونجّز هذا الطرف، فإذن: يحرم عليه الوضوء بهذا الطرف، وكذلك يحرم عليه الوضوء بملاقيه؛ لأنّ العلم الإجمالي كما ينجّز حرمة الوضوء بهذا الطرف وبهذا الطرف، كذلك ينجّز حرمة الوضوء بملاقي هذا الطرف وحرمة الوضوء بملاقي الطرف الآخر؛ لأنّ شرطية الماء الطاهر في الوضوء ثابتة وفعلية، عليك أن تتوضأ بالماء الطاهر، ما دامت لديك شبهة مقرونة بالعلم الإجمالي أنت ممنوع من أن تتوضأ بهذا الماء، ولا بملاقي هذا الماء؛ لأنّك تحتمل احتمالاً مقروناً بالعلم الإجمالي بأنّه نجس، ولا يجوز الوضوء بالماء النجس. هكذا يُطبّق الفكرة في محل الكلام، ثمّ ينتهي إلى نتيجة أنّ هذا التنجيز للحرمة الوضعية بالعلم الإجمالي، بناءً على القول بالعلّية التامّة، وأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة للتنجيز؛ حينئذٍ لا مشكلة ولا ندخل في بحثٍ آخر، هو العلم الإجمالي علّة تامّة للتنجيز، فينجّز حرمة الوضوء بملاقي أحد أطراف الشبهة، وينتهي الكلام؛ لأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لهذا التنجيز.
وأمّا إذا قلنا بالاقتضاء كما هو مسلكه(قدّس سرّه)، يقول: حينئذٍ العلم الإجمالي يُشكّل مقتضٍ للتنجيز؛ فلذلك لابدّ من الفحص عن المانع، هل هناك مانع يمنع من هذا التنجيز، أي من تنجيز العلم الإجمالي لحرمة الوضوء بالماء الملاقي لأحد أطراف الشبهة ؟ هو يقول: المانع الذي يمنع منه لابدّ أن يكون عبارة عن الأصول الترخيصية المؤمّنة، هي التي تمنع من التنجيز، لو كان لدينا أصل ترخيصي يجري ويؤمّن من ناحية الحرمة الوضعية للوضوء بالملاقي؛ حينئذٍ لا يكون العلم الإجمالي منجّزاً؛ لأنّ تنجيزه على نحو الاقتضاء، وفعلية التنجيز تكون منوطة بعدم وجود المانع، فإذا وجد المانع لا يكون منجّزاً، فلابدّ أن نفحص أنّه هل هناك أصول ترخيصية تجري للتأمين عن حرمة الوضوء بملاقي أحد أطراف الشبهة، أو لا توجد مثل هذه الأصول الترخيصية ؟ طبعاً لا مجال لتوهّم جريان البراءة العقلية في محل الكلام، يعني لا معنى للرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى حرمة التوضؤ بالملاقي؛ لأنّ موضوع القاعدة هنا مرتفع؛ لأنّ المفروض أنّ لدينا علم إجمالي بالتنجيز، فموضوع القاعدة مرتفع؛ لأنّ موضوع القاعدة هو الشك والاحتمال وعدم وجود منجّز، وعدم وجود علمٍ إجماليٍ وأمثاله، فيكون موضوع القاعدة مرتفعاً، فلا مجال للاستدلال بقبح العقاب بلا بيان على تقدير الالتزام بها في محل الكلام، وإنّما المانع الذي يجب أن نفتّش عنه هو عبارة عن الأصول الترخيصية الشرعية، الأصول الترخيصية الشرعية يمكن أن تكون ثابتة وجارية في محل الكلام، فلابدّ أن ننظر في أنّها هل تجري في محل الكلام، أو لا ؟ فإذا جرت، فأنّها تمنع من تنجيز العلم الإجمالي لهذه الحرمة، وإذا لم تجرِ؛ فحينئذٍ يكون التنجيز فعلياً.
يقول: أنّ الأصول التي تجري في المقام تنقسم إلى قسمين، أصول تجري في الملاقى، واصول تجري في الملاقي، والأصل في محل الكلام هو أصالة الطهارة؛ لأنّ كلامنا عن النجاسة والطهارة، علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين وجواز الوضوء وحرمة الوضوء بهذا الملاقي. اصالة الطهارة مرّة نجريها في الملاقى، ومرّة نجريها في الملاقي. أصالة الطهارة إذا جرت في الملاقى فأنّها تثبت لنا جواز شربه وجواز الوضوء به، وتثبت أيضاً جواز الوضوء بملاقيه؛ لأنّه حينئذٍ يكون طاهراً بحكم الشارع، فيجوز شربه ويجوز الوضوء به، ويجوز الوضوء أيضاً بملاقيه، لكنّه يقول: أنّ هذا الأصل الجاري في الملاقى معارض بالأصل الجاري في الطرف الآخر، هذان أصلان يجريان في كلٍ من الطرفين، فيتعارضان ويتساقطان، فإذن: لا يمكن التأمين من ناحية حرمة الوضوء بالملاقي بإجراء أصالة الطهارة في الملاقى؛ لأنّ أصالة الطهارة في الملاقى تسقط بالمعارضة مع أصالة الطهارة في الطرف الآخر.
القسم الثاني هو أن نجري أصالة الطهارة في الملاقي نفسه للتأمين من ناحية حرمة الوضوء به، يقول: أنّ أصالة الطهارة في الملاقي أيضاً معارضة بأصالة الطهارة في ملاقي الطرف الآخر؛ لأننا قلنا أنّ العلم الإجمالي كما ينجّز حرمة الوضوء بملاقي هذا الطرف، كذلك ينجّز حرمة الوضوء بملاقي الطرف الآخر، ينجّز كلا الحرمتين، فالأصل الجاري لنفي هذه الحرمة، وللتأمين من هذه الحرمة في أحدهما يكون معارضاً بأصالة الطهارة الجارية لنفي هذه الحرمة وللتأمين عنها في الطرف الآخر، فلا تجري أصالة الطهارة في الملاقي أيضاً للتأمين من ناحية هذه الحرمة.
وعليه: ينتهي إلى نتيجة أنّه لا مانع من تنجيز العلم الإجمالي لحرمة التوضؤ بملاقي أحد أطراف الشبهة، وبهذا يصل إلى النتيجة وهي التفصيل بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي، وأنّ العلم الإجمالي لا ينجّز الحكم التكليفي وإنّما ينجّز الحكم الوضعي.
الملاحظة التي تُذكر على هذا الكلام هي دعوى أنّ الحكم التكليفي في باب النواهي لا يكون فعلياً إلاّ بتحقق موضوعه في الخارج، ودائماً يكون المقصود بالموضوع هو متعلّق المتعلّق. ما هو منشأ هذه الدعوى ؟ هو يقول: في حالة عدم قدرة المكلّف على إيجاد الموضوع في الخارج، مستحيل أن يتعلّق به النهي؛ لخروجه عن القدرة، فالقدرة شرط في التكاليف سواء كانت وجوبية، أو كانت تحريمية، فإذا فُرض خروجه عن القدرة لا يُعقل أن يكون التحريم فيه فعلياً، لكن عندما يُفترض قدرة المكلّف على إيجاد الموضوع، قال له(يحرم شرب الخمر، لا تشرب الخمر) والمكلّف قادر على إيجاد الخمر، هنا من ناحية عقلية لا مانع من فعلية التكليف، القدرة موجودة، يختلف عن فرض خروجه عن القدرة؛ ولذا هو ذكر أنّه هنا ما يُفهم من دليل الحرمة عرفاً هو دعوى أنّ المفهوم من(لا تشرب الخمر) هو أنّ وجود الخمر قيد لنفس الحرمة لا للحرام، وليس هناك أكثر من هذه الدعوى، فلا تكون الحرمة ثابتة قبل وجوده وتحققه، وليس وجود الموضوع، أي وجود الخمر قيداً لمتعلّق الحرمة؛ لأنّه لو كان قيداً لمتعلّق الحرمة، فهذا معناه أنّ الحرمة تكون فعلية قبل وجوده، وإذا كانت فعلية، فهي تدعو المكلّف إلى الاجتناب عن شرب الخمر الذي هو متعلّق الحرمة؛ فحينئذٍ يجب على المكلّف أن يوجد الخمر، والمفروض أنّه قادر على إيجاده حتّى يمتثل الحرمة ويجتنب عنه، وهذا لا مجال لتوهمه، فلابدّ من افتراض أنّ وجود الخمر خارجاً قيد لنفس الحرمة، ومع عدم وجود الخمر خارجاً ليس هناك حرمة فعلية، ووصل إلى النتيجة المتقدّمة. هذا المطلب في باب الواجبات يمكن تصديقه، في باب الواجبات صحيح أنّ الذي يُفهم عرفاً من(أكرم العالم) هو أنّ وجود العالم هو قيد لنفس الوجوب، فقبل وجود العالم لا تكون هناك فعلية لهذا الحكم، فالحكم لا يكون فعلياً، إلاّ عند وجود عالمٍ في الخارج؛ لأنّه بمجرّد أن يكون وجوب الإكرام فعلياً قبل وجود العالم، فالمكلّف يجب عليه أن يبحث عن عالم ويوجد عالماً حتّى يكرمه حتّى يكون هذا مقدّمة لامتثال الواجب الذي هو الإكرام؛ لأنّ الوجوب أصبح فعلياً قبل وجود العالم. كلا، هنا يقال أنّ وجود العالم هو قيد في نفس الوجوب، فالوجوب لا يكون فعلياً إلاّ مع فرض وجود العالم خارجاً. تخريج هذا الكلام يكون على اساس أنّ الذي يُفهم من التكاليف في باب الواجبات هو أنّها مجعولة على نهج القضية الحقيقية التي يكون الموضوع فيها مقدّر الوجود التي مرجعها في الحقيقة إلى قضية شرطية، (إن وجد عالم يجب عليك إكرامه) مرجع القضية الحقيقية بالنسبة إلى الموضوعات في باب الأوامر إلى قضية شرطية، فإذا كان مرجعها إلى هذا؛ فحينئذٍ تكون هذه الدعوى تامّة؛ لأنّه يُفهم من الدليل أنّه إن وجد عالم فيجب إكرامه، قضية شرطية الجزاء فيها لا يكون فعلياً إلاّ بعد تحقق شرطه، فإذا وجد عالم يكون الجزاء فعلياً، وقبل وجود العالم ليس هناك فعلية لوجوب الإكرام. هذا في باب الأوامر قد يكون صحيحاً ومقبولاً، لكن في باب النواهي هذا ليس واضحاً، يعني في باب النواهي مثل لا تشرب الخمر، ولا تشرب النجس ولا تأكل لحم الخنزير .....وهكذا، الذي يُفهم عرفاً منها ليس أنّ وجود الخمر خارجاً شرط للحرمة بحيث أنّه مع وجود الخمر خارجاً لا توجد حرمة، حتّى إذا كان المكلّف قادراً على إيجاد الخمر خارجاً، فلا حرمة حتّى إذا كان المكلّف قادراً على إيجاد الخمر خارجاً. نقول لا، إذا كان المكلّف قادراً على إيجاد الخمر في الخارج يحرم عليه ذلك حرمة فعلية وتمنعه من إيجاد الخمر خارجاً مع أنّه لا وجود للخمر خارجاً بحسب الفرض، لكن بالرغم من هذا نقول أنّ الحرمة فعلية وتمنعه من أن يوجد الخمر في الخارج؛ لأنّ وجود الخمر في الخارج ليس قيداً لنفس الحرمة، وإنّما هو قيد لمتعلّق الحرمة، يعني قيد للشرب، الشرب المقيد بالخمر هذا هو الذي تكون الحرمة فعلية، وتكون ثابتة له، هو ليس قيداً للحرمة؛ ولذا نقول أنّه قبل وجود الخمر الحرمة فعلية، وفائدة هذه الحرمة الفعلية أنّها تمنع المكلّف من التصدّي لإيجاد خمرٍ في الخارج حتّى يشربه، بينما إذا قلنا أنّ القضية هي(إن وجد خمر لا تشربه) هذا لا يمنع المكلّف إذا كان قادراً على ذلك من التصدّي لإيجاد خمرٍ، الذي يمنعه هو الالتزام بالحرمة الفعلية قبل وجود الخمر في الخارج، ليست الحرمة منوطة بوجود خمرٍ، سواء وجد خمر في الخارج، أو لا، ولعلّ السرّ في ذلك هو أنّ(لا تشرب الخمر) ليس على غرار(أكرم العالم)، بـأن يكون مرجعها إلى قضية شرطية، إن وجد خمر فلا تشربه، كلا لا يُفهم منها ذلك عرفاً، وإنّما يُفهم أنّ الملاك الموجب للتحريم الذي هو عبارة عن المفاسد والأضرار .....الخ، هذا موجود في شرب الخمر سواء وجد خمر في الخارج، أم لم يوجد خمر في الخارج، الشرب يتصف بكونه فيه ضرر أو فيه مصلحة بقطع النظر عن وجود الخمر في الخارج، شرب الخمر فيه ضرر ومفسدة، فيحرّمه الشارع على أساس ما فيه من الضرر، سواء وجد خمر في الخارج، أو لم يوجد خمر في الخارج، ليست القضية منوطة بوجود خمرٍ في الخارج، وإنّما القضية منوطة بوجود الملاك والمفسدة في متعلّق هذا الذي هو شرب الخمر سواء وجد خمر في الخارج، أو لم يوجد خمر في الخارج، لا يُفهم من ذلك ما ذُكر في باب الأوامر، وإنّما يمكن التفريق بينهما، وعليه: فلا تشرب النجس يكون من هذا القبيل، هذا حكم فعلي قبل وجود النجس في الخارج، فيكون حاله حال الحكم الوضعي.