الموضوع: الأصول
العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي.
اتضح ممّا تقدّم أنّ
كلاً من المقامين المطروحين في المقام يمكن الالتزام بهما، احتمال السببية واحتمال
التبعية بالمعنى المطروح المتقدّم، التبعية بمعنى أن يكون الاجتناب عن الملاقي من
مراتب ومن شئون الاجتناب عن النجس نفسه. بعد أن اتضح ذلك؛ حينئذٍ نقول أنّ الفارق
بين الاحتمالين هو أنّه على الاحتمال الأوّل، أي احتمال السببية يكون الحكم بوجوب
الاجتناب عن الملاقي هو حكم آخر وجعل آخر يختلف عن جعل وجوب الاجتناب عن النجس
نفسه، غاية الأمر أنّ بينهما علاقة السببية والمسببية، فكأنّ نجاسة النجس، ووجوب
الاجتناب عن النجس تكون سبباً يدعو الشارع إلى أن يجعل وجوب الاجتناب عن ملاقيه،
فإذا كان هناك نجس وعلمنا تفصيلاً بملاقاته للثوب؛ حينئذٍ نحكم بوجوب الاجتناب عن
الثوب؛ لأنّ الدليل دلّ فيه على وجوب الاجتناب عن النجس ولا يكفي في إثبات وجوب
الاجتناب عن الملاقي مجرّد وجوب الاجتناب عن النجس، والدليل دلّ على وجوب الاجتناب
عن ملاقي النجس، لكنّه يبقى جعل وتشريع مستقل وغير جعل نجاسة النجس ووجوب الاجتناب
عن النجس، وهذا بخلاف الاحتمال الثاني، في الاحتمال الثاني لا نحتاج إلى دليلٍ آخر
غير نفس وجوب الاجتناب عن النجس لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقي؛ لأنّ نفس وجوب
الاجتناب عن النجس يقتضي وجوب الاجتناب عن ملاقيه، هو بنفسه يقتضي ذلك ولا نحتاج
إلى دليل لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقي؛ بل يكفي نفس الدليل الدال على وجوب
الاجتناب عن النجس، نجاسة الشيء هي بنفسها تقتضي وجوب الاجتناب عن ملاقيه ولا
يتوقّف إثبات هذا الحكم على جعلٍ آخر وتشريعٍ آخر من قبل الشارع، الشارع فقط يشرّع
نجاسة النجس، وجوب الاجتناب عن النجس، هذا يثبت به وهذا يقتضي وجوب الاجتناب عن
ملاقيه.
حينئذٍ في مرحلة الإثبات وأنّ
الدليل يساعد على أيٍّ من الاحتمالين، والمقصود بالدليل هو الأدلّة الدالة على وجوب
الاجتناب عن النجس وأمثالها من الأدلّة التي ترتبط بمحل الكلام. في البداية قد
يقال: أن ظاهر أدلّة وجوب الاجتناب عن النجس أنّه وجوب مستقل ووجوب جديد، لا أنّه
نفس وجوب الاجتناب عن النجس، أي أنّ هذا حكم جديد ومستقل يختلف عن وجوب الاجتناب
عن نفس النجس، وهذا معناه أن هناك حكمين مستقلين، أحدهما وجوب الاجتناب عن النجس،
والآخر هو وجوب الاجتناب عن ملاقيه، وهذا على خلاف التبعية؛ لأنّ الالتزام حينئذٍ
بكون وجوب الاجتناب عن الملاقي من شئون ومن تبعات وجوب الاجتناب عن النجس، هذا
حينئذٍ يكون خلاف ظاهر الدليل؛ لأنّ ظاهر الدليل بحسب الفرض أنّ وجوب الاجتناب عن
الملاقي وجوب مستقل وجديد لا أنّه من شئون ذلك الحكم ومن تبعاته، كونه من تبعات
ذلك الحكم يعني أنّه ليس وجوباً مستقلاً وجديداً، وإنّما هو من تبعات ذلك الحكم
ويكفي في ثبوته ثبوت نفس ذلك الحكم على ما قلنا وليس هو كماً جديداً ووجوباً
جديداً، بينما الظاهر من الدليل أنّه وجوب مستقل وجديد؛ فحينئذٍ يكون الالتزام
بالتبعية بالمعنى السابق على خلاف ظاهر الدليل، وهذا يثبّت الأوّل، يعني يثبّت
السببية بالمعنى السابق، وأنّهما حكمان مستقلان وليس الثاني من شئون وتوابع
الأوّل.
هذا الاستدلال ليس واضحاً؛ لأنّ
الذي يُفهم من الدليل، إذا دلّ دليل على وجوب الاجتناب عن ملاقي البول ـــــــــــ
مثلاُ ـــــــــ ما يُفهم منه هو وجوب الاجتناب عنه لا أكثر من هذا، أمّا أنّه
وجوب مستقل وجديد وليس تابعاً لوجوب الاجتناب عن النجس نفسه، فهذا لا يُفهم من
الدليل، وليس ظاهر الدليل هو ذلك، ما يُفهم من الدليل هو وجوب الاجتناب عن الملاقي،
وهذا أعمّ من أن يكون وجوبه وجوباً مستقلاً وجديداً ومن أن يكون وجوبه تبعياً ومن
شئون وجوب الاجتناب عن النجس، هذا أعم من أن يكون وجوباً مستقلاً جديداً.
وبعبارةٍ أخرى: لو
فرضنا أنّ المشرّع أراد أن يعبّر عن هذا الحكم الثاني، وأراد أن يبيّن حكم الملاقي
للنجس بناءً على التبعية، ماذا يقول ؟ يقول اجتنب عن ملاقي النجس. إذن: بناءً على
التبعية أيضاً الحكم هو وجوب الاجتناب عن الملاقي، غاية الأمر أنّه بناءً على
التبعية، هذا الوجوب هو من شئون ذاك الوجوب، لكن يمكن التعبير عنه بأنّه يجب
الاجتناب عن ملاقي النجس، هذا الثوب الذي لاقى النجاسة، يقول(اجتنب عنه)، ولا
نستطيع أن نستكشف من(أجتنب عنه) أنّه وجوب جديد ومستقل عن الوجوب السابق الذي هو وجوب
الاجتناب عن نفس النجاسة؛ لأنّه كما قلنا عندما يُراد بيان هذا الحكم حتّى بناءً على
التبعية يُعبّر عنه بــ(اجتنب عن الثوب)، وهو لازم أعم من أن يكون هذا حكماً
مستقلاً جديداً ومن أن يكون من توابع ومن شئون الاجتناب عن نفس النجس، فلا يُستظهر
من الدليل أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي هو وجوب جديد ومستقل غير وجوب الاجتناب عن
النجس؛ بل قد يكون من توابعه وعُبّر عنه بهذا التعبير.
وقد يستدل على التبعية، وكون
هذا الاجتناب من شئون ذاك الاجتناب ومن تبعاته، يستدلّ على ذلك بأنّها هي مقتضى
الارتكاز العرفي، والارتكاز العرفي يساعد على أن تكون نجاسة الملاقي من باب
التبعية ولكونها من شئون الاجتناب عن نفس النجس، ويُستشهد لذلك بعدة شواهد تدلّ
على أنّ المرتكز في أذهان العرف هو أنّ نجاسة الملاقي من باب التبعية وليست من باب
السببية بالمعنى السابق.
ومن جملة الشواهد ذكروا مسألة
عدم سراية النجاسة من النجس إلى الماء العالي الذي يرد على النجاسة، إذا كان الماء
عالياً ويرد على النجاسة، قالو أنّ النجاسة لا تسري من النجس إلى الماء الوارد
عليه، وهذه قضية ارتكازية والعرف يفهمها أيضاً، بأنّ النجاسة لا تسري من النجس إذا
كان في الأسفل إلى الماء الذي يرد على هذه النجاسة، بخلاف العكس، لو عكسنا القضية،
السريان يكون مطابقاً للمرتكزات العرفية، بينما في المثال الأوّل الارتكاز العرفي
على خلاف سراية هذه النجاسة. ارتكاز السراية في الثاني، وعدم ارتكازها في الأوّل
يمكن جعله شاهداً على أنّ المرتكز في باب النجاسات هو عبارة عن أنّ نجاسة الملاقي
تكون من باب التبعية، ومن باب السراية، لا أنّها تكون من باب السببية، بمعنى أنّه
حكم تعبّدي يثبت للملاقي وهو حكم جديد ومستقل عن الحكم بنجاسة نفس النجس؛ لأنّه لو
قلنا بالسببية؛ حينئذٍ لا يكون هناك فرق بين الفرضين، لا يكون هناك فرق بين أن
يكون النجس في الأسفل والماء يرد عليه وبين أن يكون النجس في الأعلى وهو يرد على
الماء، لا فرق بين الفرضين بناءً على السببية، فأنّها متحققة في كلٍ منهما؛
فحينئذٍ لماذا لا يفرّق العرف بارتكازاته بينهما ؟ هذا مؤشرٌ على أنّ نجاسة
الملاقي في الحقيقة هي من باب السراية، والمقصود بالسراية ليست هي السراية العقلية
الدقّية التي هي معنى الانبساط، ذاك الاحتمال الأوّل الذي استُبعِد من الاحتمالات،
وإنّما المقصود هو السراية العرفية بالمعنى السابق، بمعنى أنّ الاجتناب عن الملاقي
هو من شئون الاجتناب عن نفس الملاقى وعن النجس نفسه، هذه السراية العرفية وهذا
المعنى ينسجم تماماً مع هذه الارتكازات، يعني ارتكاز ثبوت النجاسة عندما يكون
النجس في الأعلى ويرد على الماء، وارتكاز عدم ثبوت النجاسة وعدم سرايتها للماء،
عندما يكون الماء في الأعلى ويرد على النجاسة، هذا التفريق في الارتكاز بين
الفرضين هو مؤشر على صحّة الاحتمال الثاني في مقابل الاحتمال الأوّل، الاحتمال
الأوّل هو في الحقيقة يعني أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي هو حكم تعبّدي جعله
الشارع وليس من باب السراية، وإنّما هو حكم تعبّدي حكم الشارع بوجوب الاجتناب عن
ملاقي النجس. نعم، سبب هذا الحكم وعلّته وملاكه هو نجاسة نفس العين النجسة، لكنّه
حكم شرعي تعبّدي جعله الشارع، العرف حينئذٍ لا ينبغي أن يُفرّق بين الفرض الأوّل
والفرض الثاني، لا يوجد فرق بينهما، السببية في كلٍ منهما متحققة، وإنّما التفريق
وارتكاز الفرق بين الفرضين يعني أنّ العرف يفهم أنّ المقام من باب السراية ومن باب
تبعية وجوب الاجتناب عن الملاقي لوجوب الاجتناب عن نفس النجس وعن الملاقى.
الشاهد الآخر: وهو
الذي ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّهّ)، وهو ما نقله عن السيد ابن زهرة
في(الغُنية)، يقول: أنّ السيد أبن زهرة(قدّس سرّه) استدلّ على نجاسة الملاقي بقوله
تعالى:
(والرجز فأهجر).
[1]
بناءً على أنّ المراد بالرجز هو النجس، يقول: أهجر الرجز يكفي لإثبات وجوب
الاجتناب عن ملاقيه، هو بنفسه يكفي لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقي، وهذا على ما
بيّنّا لا ينسجم ولا يتلاءم إلاّ مع القول بالتبعية بالمعنى السابق، وإلاّ هذا لا
ينسجم مع القول بالسببية؛ لأنّ القول بالسببية يعني أنّه لا يكفي لإثبات وجوب
الاجتناب عن الملاقي مجرّد ثبوت وجوب الاجتناب عن النجس؛ لأنّه جعل جديد مستقل
يحتاج إلى دليل، فإذن: لا يصحّ أن نستدلّ على وجوب الاجتناب عن الملاقي بما دلّ
على وجوب الاجتناب عن النجس إلاّ بناءً على القول بالتبعية.
نوقش هذا الكلام، إلاّ
أنّ المناقشة حسب الظاهر تعود إلى صحّة الاستدلال بالآية الشريفة وعدم صحّته، أنّه
لا يصح الاستدلال بالآية الشريفة؛ لأنّ الرجز يُراد به العقاب، أو العذاب، أو
يُراد به الرجِز(بالكسر)؛ وحينئذٍ تكون الآية أجنبية عن محل الكلام؛ لأنّ
الاستدلال مبني على أن يكون المراد بالرجز هو النجس؛ حينئذٍ يصح الاستدلال، لكن
عندما لا يُراد به النجس؛ حينئذٍ لا يصح هذا الاستدلال. هذه المناقشة لا تنافي ما
ذكرناه، نحن لا نريد أن نصحح استدلال السيد أبن زهرة(قدّس سرّه) في الغنية بالآية
الشريفة على وجوب الاجتناب ونجاسة ملاقي النجس، وإنّما نريد أن نقول أنّ هذا يكشف
عن الارتكاز العرفي بأنّ المقام من باب السراية والتبعية بحيث يكفي لإثبات وجوب
الاجتناب عن الملاقي نفس الدليل الدال على وجوب الاجتناب عن النجس، والظاهر هذا
واضح من خلال كلام السيد أبن زهرة(قدّس سرّه) وحتّى من خلال المناقشات التي طُرحت
والتي ترتبط بهذا الجانب، لا يصح الاستدلال بالآية، وكأنّه لو كانت الآية(والنجس
فأهجر)، كأنّه يتم الاستدلال بالآية على وجوب الاجتناب عن الملاقي.
ومن جملة الشواهد أيضاً الرواية
التي ذكرها المحقق النائيني(قدّس سرّه)، وهي رواية جابر الجُعفي، وهي الرواية
المعروفة، مسألة الفأرة التي وقعت في الخابية التي فيها سمن أو زيت، ينقل جابر
الجعفي عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه أتاه رجل، فقال له: (
وقعت فأرة في خابيةٍ فيها سمن أو زيت، فما ترى في أكله ؟ فقال
أبو جعفر(عليه السلام): لا تأكله، فقال الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي
لأجلها، فقال له أبو جعفر (عليه السلام): إنّك لم تستخف بالفارة، وإنّما استخففت
بدينك، أنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء).
[2]
تقريب الاستدلال بالرواية كما يقول المحقق النائيني(قدّس سرّه) هو أنّ الإمام (عليه
السلام) جعل ترك الاجتناب عن الطعام الذي هو السمن، أو الزيت الذي وقعت فيه
الفأرة، جعله استخفافاً بالدين، أنّ هذا الرجل حينما قال أنّ الفأرة أهون عليّ من
أن أترك طعامي لأجلها، عدم الاجتناب عن هذا الطعام هو استخفاف بالدين، وفسّره
بتحريم الميتة، حيث قال له أنّك استخففت بدينك، أنّ الله حرّم الميتة من كل شيءٍ،
فكأنّ الإمام (عليه السلام) اعتبر أنّ عدم الاجتناب عن الطعام الذي وقعت فيه
الفأرة الذي هو الملاقي، جعله استخفافاً بالدين، وبيّنه بهذا الشكل(أنّ الله حرّم
الميتة) يعني فسّره بتحريم الميتة؛ حينئذٍ يقال: لولا كون نجاسة الميتة تقتضي
نجاسة الطعام، الذي هو معنى التبعية؛ وحينئذٍ لا معنى لهذا الكلام، يعني لا يصح أن
يقول هذا استخفاف بالدين مع تفسير ذلك(إنّك استخففت بدينك، أنّ الله حرّم الميتة
من كل شيء) بتحريم الميتة، وإلاّ كان المناسب جدّاً أن يقول استخففت بالحكم بوجوب
الاجتناب عن الطعام الملاقي للميتة، أي استخفافه ليس بحرمة الميتة، وإنّما هو
استخف بوجوب الاجتناب عن الطعام الملاقي للميتة، بينما الإمام(عليه السلام) طبّق
الاستخفاف بالدين على تحريم الميتة، فكأنّ استخفافه بحرمة الميتة هو استخفاف بوجوب
الاجتناب عن الطعام، أو استخفافه بوجوب الاجتناب عن الطعام الملاقي هو استخفاف
بنجاسة الميتة وبتحريم الميتة نفسها؛ ولذا فسّره الإمام(عليه السلام)، بهذا الشكل،
أنّ الله حرّم الميتة من كل شيءٍ، لا داعي لأن يذكر هذا الكلام، لو كان المذكور هو
وجوب الاجتناب عن الطعام، كان ينبغي أن يقول له أنّك استخففت بهذا الحكم الشرعي،
وهذا استخفاف بالدين، لكن الإمام (عليه السلام) لم يذكر ذلك، وإنّما ذكر(أنّ الله
حرّم الميتة من كل شيءٍ) فكأنّه استخفّ بهذا الحكم الشرعي، تحريم الميتة من كل
شيءٍ، والحال أنّه ترك اجتناب الطعام، ولم يترك اجتناب الفأرة، وإنّما اجتنبها،
لكنّه ترك اجتناب الطعام، وتركه اجتناب الطعام هو استخفاف بتحريم الميتة، ولولا
القول بالتبعية بالمعنى السابق لما كان موقعاً لهذا الكلام، لو كان وجوب الاجتناب
عن الطعام غير وجوب الاجتناب عن الميتة لا يصح هذا الكلام، أن يقال أنّك استخففت
بدينك، أنّ الله حرّم الميتة من كلّ شيءٍ. هذه كيفية الاستدلال بهذه الرواية.
على كل حال، الرواية
لا تخلو من ظهور في أنّ حرمة الميتة هي بنفسها تقتضي حرمة الطعام الذي وقعت فيه
ولاقته، ووجوب الاجتناب عن الميتة هو بنفسه يقتضي وجوب الاجتناب عن الطعام في هذا
الظهور، ولكن الرواية ضعيفة سنداً، باعتبار أنّ عمرو بن شمر الواقع في سند هذه
الرواية، الضعف من جهته، وإلاّ باقي رجال السند كلّهم ثقات، وعمرو بن شمر الواقع
في سندها ضعّفه النجاشي مرّتين في كتابه، مرّة في ترجمته،
[3]
وأخرى في ترجمة جابر الجعفي.
[4]
ابن الغضائري أيضاً ضعّفه،
[5]
فلا يمكن الالتزام بسند هذه الرواية، فالظاهر أنّها غير تامّة سنداً.
من جملة الشواهد على هذا
الارتكاز الذي
ذُكر هو تعبيرات الفقهاء، تعبير متداول عند الفقهاء أنّ( هذا ينجّسه)، أنّ الشيء
النجس إذا لاقى شيئاً يقال ينجّسه، أو لا ينجّسه، أو ينفعل بملاقاة النجاسة، هذه
التعبيرات كلّها ظهورها الأوّلي هو أنّ هناك سراية عرفية، وأنّ نجاسة الشيء هي
بسبب نجاسة النجس نفسه، أنّه إذا وقع الدم ــــــــــــ مثلاُ ــــــــــــ في
الماء ينجّسه، أو لا ينجّسه، هذه كلّها تنسجم مع افتراض التبعية، وهكذا قولهم
ينفعل بملاقاة النجاسة، الانفعال وعدم الانفعال أيضاً يدلّ على ذلك، أو يتلاءم مع
القول بالتبعية. وفي الروايات أيضاً وقعت بعض التعابير التي تكشف عن ذلك، مثل قوله(عليه
السلام):(
إذا كان الماء قدر كرٍّ لا ينجسه شيء)
[6]،
مفهوم هذه الرواية أنّ الماء إذا لم يبلغ قدر كرٍّ ينجسه شيء، كأنّ الشيء الذي هو
النجس ينجس الماء إذا لم يبلغ قدر كُرٍّ، فكأنّ النجاسة في الماء آتية من قبل
نجاسة ذلك الشيء، الظهور الأوّلي لكل هذه التعبيرات هو القول بالتبعية وأنّ نجاسة
الشيء تكفي لإثبات نجاسة ما يلاقيه.
ومن جملة الشواهد التي ذُكرت
في كلماتهم هو
مسألة التفريق بين الجامد وبين المائع، في أنّ المائع إذا لاقى النجاسة يتنجّس
بتمامه، بينما الجامد إذا لاقى النجاسة لا يتنجّس بتمامه، وإنّما ينجس موضع
الملاقاة فقط، الذي يبدو أنّ هذا التفريق ليس موجوداً في الروايات بهذا الشكل، وإنّما
الفقهاء هكذا قالوا، أنّ الجامد يكفي في جواز استعماله في ما هو مشروط بالطهارة،
وفي جواز أكله إلقاء النجاسة وما حولها، أي موضع الملاقاة فقط، وإلاّ الباقي يجوز
استعماله. هذا التفريق مع عدم قيام دليل عليه هو في الحقيقة مبني على القول
بالسراية العرفية والقول بأنّ نجاسة النجس هي التي تقتضي وتوجب نجاسة ما يلاقيه،
وهذه السراية العرفية لا تُفهم في الجامد إلاّ بهذا المقدار، لكنّه في المائع
تُفهم بأنّه يقتضي ويوجب نجاسة تمام المائع. هذا كلّه معتمد على السراية لا يمكن
تفسيره تفسيراً مقبولاً على ضوء القول بأنّ وجوب الاجتناب عن المتنجّس هو حكم
تعبّدي صرف، وحكم جديد ومستقل غير وجوب الاجتناب عن نفس النجس، هذا الحكم الصرف
التعبّدي، اصل النجاسة والسراية ومقدار النجاسة يكون تابعاً للدليل على القول
بالثاني، أي بالسببية، تابع للدليل؛ حينئذٍ الدليل ماذا يفعل ؟ أمّا أن نأتي نحن
وبقطع النظر عن الدليل، وقلنا أنّه ظاهراً لا يوجد دليل على هذا التفريق، يُفرّق
بينهما على هذا الأساس، هذا هو الذي نقول أنّه كاشف عن ارتكاز أنّ نجاسة الملاقي
هي من باب التبعية ومن باب أنّ الاجتناب عن الملاقي هو من شئون الاجتناب عن النجس
نفسه. ومن هنا يظهر أنّ الارتكاز العرفي في باب النجاسات يساعد على القول
بالتبعية، إذا لاحظنا العرف في القذارات وليس النجاسات الشرعية، وإنّما القذارات
التي هي في معرض ابتلائه، العرف أيضاً يعتبر أنّ الاجتناب عن ملاقي القذارة هو
اجتناب عن القذر نفسه، وأنّ عدم الاجتناب عن ملاقي القذارة هو عدم اجتناب عن القذر
نفسه، لكن بمرتبةٍ من مراتبه، بمرتبته العليا، العرف يعتبر أنّ عدم استقذار ملاقي
القذارة هو في واقعه عدم استقذارٍ لنفس القذارة، كأنّه لم يستقذر القذر عندما لا
يستقذر ملاقي ذلك القذر، العرف هكذا يرى. هذا النظر العرفي في باب النجاسات يمكن
تحكيمه على الأدلّة، بمعنى أنّ الدليل الشرعي عندما يرد ويأمر بالاجتناب عن النجس،
هذا يُفهم منه كيفية الاجتناب عن النجس، وأنّ الاجتناب عن النجس لا تكون بنظر
العرف إلاّ بالاجتناب عن ملاقيه، هذا النظر هو الذي يكون محكمّاً في ذاك الدليل،
فكأنّ الشارع عندما يقول اجتنب عن البول، هو في الحقيقة ترك أمر تحديد كيفية
الاجتناب وحدوده إلى النظر العرفي، العرف يفهم أنّ اجتنب عن النجس هو في الحقيقة
اجتنب عن النجس وعن ملاقيه.