الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ ملاقي
أحد أطراف العلم الإجمالي.
الكلام في تنجيز حرمة
الملاقي بالعلم الإجمالي الأوّل والمراد بالعلم الإجمالي الأوّل هو
نجاسة أحد الطرفين، فهل يكفي هذا في تنجيز وجوب الاجتناب عن الملاقي، أو لا ؟
الوجه الذي ذكرناه في الدرس السابق لإثبات عدم التنجيز كان حاصله : أنّ هناك فرقاً
بين وجوب الاجتناب عن أحد الطرفين وبين وجوب الاجتناب عن الملاقي، وجوب الاجتناب
عن هذا الطرف يكفي فيه العلم الإجمالي بنجاسة احدهما؛ لأنّ النجاسة المعلومة
بالإجمال هي تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن هذا الطرف وتمام الموضوع لوجوب
الاجتناب عن هذا الطرف، فيكفي في وجوب الاجتناب عن هذا الطرف العلم الإجمالي
بنجاسة أحد الطرفين، ولا يحتاج إلى شيءٍ آخر أكثر من الخمرية المعلومة بالإجمال؛
فلذا يترتب على هذا العلم الإجمالي وجوب الاجتناب عن هذا الطرف ووجوب الاجتناب عن
هذا الطرف، أو بعبارة أخرى: أنّ العلم الإجمالي ينجّز وجوب الاجتناب عن كلا
الطرفين. في حين أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي ليس تمام موضوعه الخمرية المعلومة
بالإجمال حتّى يقال أنّ المفروض هنا هو العلم بالخمرية على نحو الإجمال، فلابدّ
من ترتيب هذا الأثر، ويكون العلم منجّزاً لوجوب الاجتناب عن الملاقي، كلا، موضوع وجوب
الاجتناب عن الملاقي هو ملاقاة النجس، فالموضوع كأنّه مركّب من النجس والملاقاة،
الملاقاة هي جزء موضوع وجوب الاجتناب عن الملاقي، العلم الإجمالي بالنجاسة لا يحرز
لي الملاقاة ولا ينجّزها، وإنّما هو علم إجمالي بنجاسة أحد الإناءين، فاحتاج في
مقام إثبات وجوب الاجتناب عن الملاقي إلى إحراز الملاقاة، أنّ هذا لاقى النجس، ولا
يمكن إحراز أنّ هذه الملاقاة هي ملاقاة للنجس، والعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما لا
يكفي لإحراز موضوع وجوب الاجتناب عن الملاقي.
على ضوء هذا الكلام، ما
ذكرناه في محل الكلام هو تطبيق لقاعدة كلّية ذكروها في هذا المقام، حاصلها: أنّ
المعلوم إذا كان هو تمام الموضوع للحكم الشرعي؛ فحينئذٍ يترتب الحكم الشرعي بمجرّد
العلم الإجمالي كما هو الحال في وجوب الاجتناب عن أحد الطرفين. وأمّا إذا كان ليس
هو تمام الموضوع للحكم الشرعي، وإنّما هو جزء آخر لموضوع ذلك الحكم الشرعي لابدّ
من إحرازه، فإذا كان كذلك فالعلم الإجمالي لا يكفي لترتيب ذلك الحكم الشرعي ولا
يكون منجّزاً له كما هو الحال في وجوب الاجتناب عن الملاقي، وجوب الاجتناب عن
الملاقي يتوقّف على ملاقاة النجس، أي النجاسة والملاقاة، وهذا لا يمكن إحرازه؛
فحينئذٍ مثل هذا لا يثبت بالعلم الإجمالي الأوّل .
وبعبارة أبسط من كل هذا: أنّ
موضوع وجوب الاجتناب عن الملاقي هو ملاقاة النجس، وهذا لا يمكن إحرازه، كيف نحرز
أنّ هذا لاقى النجس ؟ هو لاقى أحد الطرفين، فكيف نحرز أنّ هذا لاقى النجس ؟ هذا
أمر مشكوك وغير محرز، والعلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين لا يُحرز لي أنّ هذا
لاقى النجس، لا يحرز أنّ ملاقاة النجس قد تحققت. إذن موضوع هذا الحكم الشرعي وهو
وجوب الاجتناب عن الملاقي مشكوك فيه وغير محرز في المقام؛ فحينئذٍ لا يكون منجّزاً
بهذا العلم الإجمالي؛ بل يمكن الرجوع في إلى الأصول المؤمّنة. هذا هو الذي ذكروه
في محل الكلام وذكروا أمثلة كثيرة ذلك، منها ما ذكرناه في الدرس السابق في مسألة العلم
الإجمالي بخمرية أحد المائعين، هناك ذكروا أنّ هذا العلم الإجمالي يُنجّز حرمة شرب
المائعين، ولكنه لا ينجّز وجوب إقامة الحد على شرب أحدهما؛ لأنّه لا يحرز أنّ هذا
الشرب هو شرب للخمر، عندما يشرب أحد المائعين المعلوم إجمالاً أنّ أحدهما خمر، لا
يحرز أنّه خمر ويكون شربه شرباً للخمر؛ فحينئذٍ لا يترتب ذلك الأثر، بينما يترتب
الأثر الأوّل. هذه خلاصة الفكرة.
ذكروا بأنّ هذا الكلام
السابق الذي
ينتج عدم منجّزية العلم الإجمالي الأوّل لوجوب الاجتناب عن الملاقي؛ لأنّه لا يكفي
في ثبوت وجوب الاجتناب عن الملاقي العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين. قالوا: أنّ
هذه الفكرة إنّما تصح بناءً على أنّ نجاسة الملاقي تكون من باب السببية لا من باب
السراية والانبساط، بمعنى أنّه في كيفية ثبوت نجاسة ملاقي النجس هناك احتمالان
ثبوتيان: أحدهما هو أن يكون هذا من باب السببية الذي يعني أنّ نجاسة الملاقي حكم
شرعي مستقل غير الحكم بنجاسة المُلاقى، وإنّما العلاقة بينهما علاقة السببية
والمسببية، بمعنى أنّ نجاسة المُلاقى بعد الملاقاة كانت سبباً للحكم الشرعي بنجاسة
الملاقي، لكنّ نجاسة الملاقي حكم مستقل ليس هو نفس الحكم الأوّل، يعني النجاسة في
الملاقي ليست هي عبارة عن النجاسة في المُلاقى، وإنّما هي نجاسة أخرى، نجاسة
جديدة، غاية الأمر أنّها مسببّة عن نجاسة الملاقى، فالعلاقة بينهما هي علاقة
السببية والمسببية.
قالوا : بناءً
على أنّ نجاسة الملاقى من باب السببية والمسببية يتمّ الكلام السابق من أنّ هذه
نجاسة جديدة تحدث بسبب الملاقاة من جهة نجاسة الملاقى، فتحصل هذه النجاسة الجديدة
للملاقى في الملاقي. إذن: هي نجاسة جديدة نشكّ في حدوثها، وغير محرزة لنا؛ لأننا
لا نحرز أنّ هذا لاقى النجس بحسب الفرض، إذا أحرزنا أنّه لاقى النجس نحكم بنجاسته
وتكون النجاسة مسببّة عن نجاسة الملاقى، لكن في محل الكلام نحن لا نحرز بأنّ
الملاقي لاقى النجس، إذن، النجاسة في الملاقي هي نجاسة جديدة غير محرزة في محل
الكلام، فلا يمكن إثباتها، والعلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين لا يكفي لإحراز
موضوع هذه النجاسة الجديدة، ووجوب الاجتناب عن الملاقي، فيأتي الكلام السابق؛
لأنّها نجاسة جديدة مسببّة عن نجاسة الملاقى، لكن هذه النجاسة الجديدة تثبت عند
ملاقاة النجس، ونحن في المقام لا نحرز هذه الملاقاة، ونشك في ثبوت النجاسة
للملاقي، وعليه: لا يمكن إثبات وجوب الاجتناب عنه، فيأتي الكلام السابق.
وأمّا إذا كانت نجاسة
الملاقي ليست
من باب السببية وإنّما من باب السراية والانبساط كما سمّوه التي تعني أنّ نجاسة
الملاقي ليست شيئاً جديداً، وإنّما هي نفس النجاسة السابقة، يعني نفس نجاسة
الملاقى، غاية الأمر أنّ نجاسة الملاقى اتسعت واتساع دائرة موضوع ومتعلّق هذه
النجاسة جعلها سارية وشاملة للملاقي، فنجاسة الملاقي هي نفس نجاسة الملاقى، لكن
نجاسة الملاقى قبل الملاقاة كانت منحصرة بهذا الإناء، بالملاقاة نفس النجاسة في
الملاقى تتسع دائرة متعلّقها لتشمل الملاقي، هي نفس النجاسة السابقة وليست نجاسة
جديدة ومستقلة، فيوجد نوع من الانتشار لهذه النجاسة في الملاقى، هذا الانتشار
يتحقق بعد الملاقاة، فتنتشر النجاسة الأولى في الملاقى لتشمل الملاقي. بناءً على
فكرة الانبساط والسراية؛ حينئذٍ القضية تنعكس، بمعنى أنّه يمكن إثبات وجوب
الاجتناب عن الملاقي بنفس العلم الإجمالي الأوّل؛ لأنّ الملاقي يكون طرفاً لهذا العلم
الإجمالي؛ لأنّه ليس نجاسة جديدة غير النجاسة التي علمنا بها إجمالاً، فهو نظير ما
إذا قسّمنا أحد الطرفين اللّذين نعلم إجمالاً بنجاستهما إلى قسمين، بلا إشكال كل
قسم من هذين القسمين يكون طرفاً لهذا العلم الإجمالي، هذا من هذا القبيل، النجاسة
على تقدير ثبوتها في هذا الطرف في الملاقى انتشرت واتسعت لتشمل الملاقي. إذن:
نجاسة الملاقي هي طرف في العلم الإجمالي الأوّل، فالعلم الإجمالي عندما ينجّز لا
ينجّز فقط وجوب الاجتناب، أو النجاسة في الملاقى، وإنّما ينجّز وجوب الاجتناب
والنجاسة في الملاقى والملاقي؛ لأنّ النجاسة انبسطت وانتشرت واصبحت تشمل الملاقي.
إذن: بنفس
العلم الإجمالي الأوّل يمكن إثبات تنجّز وجوب الاجتناب في الملاقي. إذن: ما ذكروه
من عدم كفاية العلم الإجمالي الأوّل لإثبات تنجّز وجوب الاجتناب في الملاقي إنّما
يتم بناءً على أنّ كيفية نجاسة الملاقي هي من باب السببية، وأمّا بناءً على أنّها
من باب الانبساط والسراية، فذكروا بأنّ هذا الكلام لا يكون تامّاً. نعم، هم
استظهروا في مقام الإثبات من الأدلة أنّ نجاسة الملاقي من باب السببية وليست من
باب الانبساط والسراية.
يمكن أن يُلاحظ على هذا
الكلام: أنّه
يمكن أن يقال أنّ القضية ليست قضية حدّية بأنّه إن قلنا بالسببية، فالعلم الإجمالي
الأوّل لا ينجّز وجوب الاجتناب عن الملاقي، وإن قلنا بالانبساط، فهو ينجّزه؛ بل
بالإمكان أن نقول بعدم المنجّزية حتّى إن قلنا بالانبساط والسراية، حتّى إذا قلنا
بالانبساط والسراية بالمعنى الذي طُرح مع ذلك يمكن للإنسان أن يقول بأنّ العلم
الإجمالي لا ينجّز وجوب الاجتناب عن الملاقي، وذلك باعتبار أنّ ما نعلمه إجمالاً بالعلم
الإجمالي الأوّل هو أصل النجاسة وهي مرددّة بين أن تكون في هذا الطرف أو أن تكون
في ذاك الطرف، أمّا حدود هذه النجاسة وسعتها على نحوٍ تشمل غير هذا الطرف، فهذا لا
نعلمه بالعلم الإجمالي، ليس معلوماً لنا بالعلم الإجمالي، نعلم بنجاسة أحد
الطرفين، لكن لا نعلم بالعلم الإجمالي حدوث هذه النجاسة على نحوٍ تشمل الملاقي،
هذا ليس معلوماً لنا من البداية، أنا أعلم إجمالاً بأنّ أحد الإناءين نجس، لكن لا
استطيع أن أقول أنا أعلم بالإجمال أنّ هناك نجاسة واسعة منتشرة تشمل الملاقي، وهذا
معناه أنّ حدّ هذه النجاسة وسعتها وانتشارها على نحوٍ تشمل الملاقي ليس هو المعلوم
بالإجمال، وإنّما هو على تقدير أن تكون النجاسة في الملاقى، فهو أمر جديد حادث لا
يمكن إثباته بالعلم الإجمالي الأوّل، العلم الإجمالي الأوّل يثبت فقط أصل النجاسة،
ولكنّه لا يثبت حدود هذه النجاسة، فعندما أشكّ في نجاسة الملاقى معناه أنّي اشكّ
في حدود النجاسة على تقدير وجودها في الملاقى، هذه النجاسة على تقدير وجودها في
هذا الطرف؛ حينئذٍ سعتها وشمولها للملاقي تكون أمراً غير محرز بالعلم الإجمالي
الأوّل، وإنّما ما أحرزه هو أصل النجاسة، سعتها وحدودها وانتشارها غير محرز، فإذا
كان غير محرز؛ فحينئذٍ يمكن أن نقول أنّ هذا حاله حال القول بالسببية، كيف هناك
كنّا نقول بأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي موضوعه غير محرزٍ لنا، والعلم الإجمالي بالنجاسة
لا يحرز لنا هذا الموضوع؛ فلذا يمكن الرجوع إلى الأصول المؤمّنة فيه، وهذا معناه
أنّ العلم الإجمالي لا ينجّز وجوب الاجتناب عنه، كذلك على القول بالانبساط
والسراية؛ لأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي ليس جزء المعلوم بالعلم الإجمالي الأوّل،
وليس داخلاً في العلم الإجمالي الأوّل، العلم الإجمالي الأوّل لا ينجّزه، فإذا كان
لا ينجّزه، فهو مشكوك وغير محرز، فيمكن الرجوع فيه إلى الأصول المؤمّنة. هذا من
جهة.
من جهةٍ أخرى: أنّ
هذا الكلام من أنّه بناءً على القول بالانبساط والسراية، فالعلم الإجمالي ينجّز وجوب
الاجتناب عن الملاقي، هذا قد يكون له معنىً متصوّراً ومعقولاً بالنسبة إلى نفس
النجاسة كحكمٍ وضعي، قد يصح على كلامٍ سيأتي فيه، يمكن أن يُفرض ولو من باب
التنزّل أنّ هناك انبساطاً وسرايةً في النجاسة، يعني الحكم الوضعي حيث أنّ موضوعه
النجاسة يمكن ولو من باب التنزّل أن يقال فيه بالانبساط والسراية، لكن الحكم
التكليفي كيف يمكن أن يقال فيه بالانبساط والسراية ؟ حرمة الشرب وحرمة الوضوء بهذا
الماء، وسائر الأحكام التكليفية، هذه الأحكام التكليفية ليس موضوعها النجاسة،
وإنّما موضوعها الما، والثوب. وبعبارةٍ أخرى موضوعها المتنجّس لا النجاسة، الحكم
الوضعي موضوعه النجاسة، فقد يقال بأنّ النجاسة تنبسط وتسري من الملاقى إلى
الملاقي، لكن حرمة الشرب موضوعه الماء، فما معنى أن نقول أنّ حرمة الشرب التي
موضوعها المتنجّس تسري من الملاقى إلى الملاقي ؟ لا معنى لذلك، النجاسة يمكن
افتراض سرايتها من الملاقى إلى الملاقي ـــــــــــــ على كلامٍ فيه يأتي إن شاء
الله تعالى ـــــــــــ لكنّ حرمة شرب هذا الماء الذي هو أحد طرفي العلم الإجمالي،
ما معنى أن نقول أنّ هذه الحرمة تسري من الملاقى إلى الملاقي ؟! والحال أنّ
موضوعها هو المتنجّس والثوب والماء الذي أعلم إجمالاً بنجاسته، أن تسري هذه الحرمة
الثابتة لهذا الثوب وهذا الماء إلى يدي التي لاقت هذا الماء، ولاقت هذا الثوب،
فيجب الاجتناب عنه ؟! هذا لا يمكن تصوّره. على كل حال، الكلام في هذا ليس مهمّاً،
وإنّما المهم هو أنّهم ذكروا ــــــــــ هذا البحث الإثباتي ــــــــــ أنّ الدليل
لا يساعد على إثبات الانبساط والسراية، وإنّما الدليل يساعد على إثبات السببية،
بمعنى أنّ النجاسة الثابتة لملاقي النجس هي نجاسة جديدة ومستقلّة. نعم، هي تنشأ
بسبب النجاسة الموجودة في الملاقى، فالنسبة بين النجاستين في الحقيقة هي نسبة السببية
والمسببية؛ بل هذا الذي قلنا أنّ الكلام سيأتي فيه وهو مسألة السراية، غير واضح ما
هو المقصود بالسراية، وانبساط النجاسة، حيث فيها احتمالان: إمّا أن يكون المقصود
هو انبساط النجاسة وسرايتها من الملاقى إلى الملاقي، وإمّا أن يكون المقصود هو
سراية الحكم الشرعي بوجوب الاجتناب من الملاقى إلى الملاقي، الحكم الشرعي المترتب
على النجاسة يسري من الملاقى إلى الملاقي، بالنسبة إلى سراية النجاسة هذه السراية
لو ادُعيت كأنّه يُفهم منها أنّ النجاسة أمر تكويني واقعي يسري من هنا إلى هنا كما
هو الحال في الأمور التكوينية الخارجية، ممكن افتراض أن تسري من شيءٍ إلى شيءٍ
آخر، لكن النجاسة ليست أمراً تكوينياً واقعياً، وإنّما النجاسة من الأمور
التشريعية الوضعية الاعتبارية، فما معنى أن نفترض أنّ هذا الأمر الاعتباري يسري من
الملاقى إلى الملاقي ؟! ما معنى هذه السراية ؟ هل هناك سراية قهرية في هذا الباب ؟
أنّ الاعتبار الشرعي الذي هو نجاسة الملاقى يسري من الملاقى إلى الملاقي ؟ لا معنى
لهذا الكلام، ونفس الكلام يقال فيما إذا ادُعي سراية وجوب الاجتناب، أنّ الحكم بوجوب
الاجتناب عن الملاقى يسري إلى الملاقي، نفس الكلام يقال؛ إذ لا معنى لفرض السراية
في الاعتبارات الشرعية، الاعتبارات الشرعية بيد الشارع، فهو حسب المصالح إمّا أن
يعتبره في مكانٍ آخر، أو لا يعتبره، إمّا أن نقول أنّ هذا يسري قهراً من الملاقى
إلى الملاقي، الاعتبار الشرعي يسري، لا مجال لهذا الكلام، ولا معنى له أصلاً، ومن
هنا اصل فكرة السراية، مضافاً إلى أنّ الدليل قاصر عن إثباته، وإنّ ما يُفهم من
الأدلّة أنّ نجاسة الملاقى سببٌ لنجاسة الملاقي، يعني سبب لحكم الشارع بنجاسة
الملاقي، فإذن: ما يصدر من الشارع هما اعتباران، اعتبار نجاسة الملاقى، واعتبار
نجاسة الملاقي، إذن: هما اعتباران مستقلان منفصلان تربط بينهما علاقة السببية
والمسببية. وعليه: ففي محل الكلام نحن نشكّ في تحقق موضوع الاعتبار الثاني؛ لأنّ
الاعتبار الثاني، أي نجاسة الملاقي موضوعها هو ملاقاة النجس، ونحن نشكّ في ملاقاته
للنجس في محل الكلام.
لكن يظهر أنّ المسألة عندهم
ليست بهذا الشكل، يعني ليست دائرة فقط بين احتمالين ثبوتيين واحدهما السببية
والآخر هو السراية والانبساط حتّى يقال أنّ الدليل في مقام الإثبات لا يساعد على
الثاني، فيتعيّن الالتزام بالأوّل وهو السببية؛ لأنّهم أبرزوا احتمالاً ثالثاً في
كلماتهم قد ينتج منجّزية العلم الإجمالي لوجوب الاجتناب عن الملاقي، يعني ينتج نفس
النتيجة التي ينتجها القول بالانبساط والسراية بناءً على هذا الاحتمال؛ لأنّهم
قالوا أنّ الانبساط والسراية يوجب أن يكون العلم الإجمالي الأوّل منجّزاً لوجوب
الاجتناب عن الملاقي، هذا الاحتمال الثالث ينتج نفس النتيجة، لكنّه ليس قولاً
بالسراية والانبساط، فلا ترد عليه الإشكالات التي ترد على القول بالسراية
والانبساط، وإنّ هذا معنى غير معقول في باب الاعتبارات الشرعية؛ بل هو معنى ثالث
ينتج نفس النتيجة ولا ترد عليه الوجوه المتقدّمة، وحاصل هذا المعنى الثالث هو : أنّهم
قالوا يمكن افتراض أن تثبت نجاسة الملاقي باعتبار أنّ الاجتناب عن الملاقى لا يكون
إلاّ بالاجتناب عن الملاقي، إذا لاقى شيءٌ شيئاً نجساً معلوماً بالعلم التفصيلي
ــــــــــ هذا الكلام في غير محل الكلام وبعد ذلك نأتي إلى محل الكلام ــــــــــ
كيف تثبت نجاسة الملاقي ؟ هل من باب السببية ؟ كلا، ولا من باب السراية والانبساط،
وإنّما يثبت وجوب الاجتناب عن الملاقي للنجس باعتبار أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقى
لا يكون إلاّ بالاجتناب عن الملاقي بحيث أنّ المكلّف لو اجتنب عن الملاقى ولم
يجتنب عن الملاقي يقال أنّ هذا لم يجتنب عن النجس، وإنّما يكون مجتنباً عن النجس
إذا اجتنب عنه وعن ملاقيه، ومنشأ هذه الدعوى هو أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي هو
من شئون وتبعات وجوب الاجتناب عن الملاقى، أصلاً وجوب الاجتناب عن النجس من شئونه
وتبعاته وجوب الاجتناب عن ما يلاقيه، فإذا لم يجتنب عن ما يلاقيه، كأنّه ما اجتنب
عن النجس. بناءً على هذا الوجه؛ حينئذٍ العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين يكفي
لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقي؛ لأنّ هذا العلم الإجمالي بلا إشكال يثبت وجوب
الاجتناب عن الملاقى، باعتباره طرفاً للعلم الإجمالي، ووجوب الاجتناب عن الملاقى
من شئونه وتبعاته وجوب الاجتناب عن الملاقي، فيثبت وجوب الاجتناب عن الملاقي بنفس العلم
الإجمالي الأوّل من دون أن نلتزم بالسراية والانبساط، هذا من شئونه ومن تبعاته،
فيكون العلم الإجمالي منجّزاً لوجوب الاجتناب عن الملاقي. وهذا وجه آخر لإثبات
المنجّزية.