الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

36/04/20

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.
قلنا أنّ الكلام إذا وصل إلى الأصول العملية نقلنا رأي السيد الخوئي(قدّس سرّه) الذي يرى عدم جريان البراءة في الطرف المشكوك بدعوى أنّ التمسّك بدليل أصالة البراءة في الطرف المشكوكتمسّك بالعام في الشبهة المصداقية وهذا غير جائز بالبيان الذي ذكرناه في الدرس السابق.
يمكن أن يُلاحظ على هذا الكلام:
الملاحظة الأولى: ليس جميع أدلّة البراءة كلّها واردة بلسان الرفع، حديث الإطلاق، كل شيء لك مطلق حتّى يرِد فيه النهي، أو الآيات القرآنية(ما كنّا معذبين حتّى نبعث رسولاً)[1] أو غيرها من الأدلّة التي استدلّ بها على البراءة وبعضها أدلّة تامّة، لم ترد بلسان الرفع حتّى نستشكل في شمول الدليل الذي فيه هذا الّلسان للطرف المشكوك بدعوى أنّه لا يمكن فيه الوضع، فلا يمكن فيه الرفع، فلا يكون مشمولاً لدليل البراءة. هذا شيءٌ يختصّ على تقدير تماميته بما إذا كان لسان دليل البراءة هو لسان الرفع، وهذا ليس شيئاً موجوداً في كل أدلة البراءة، فيمكن التمسّك بتلك الأدلّة لإثبات البراءة في الطرف المشكوك، وبالتالي يتنجّز العلم الإجمالي.
الملاحظة الثانية: لو سلّمنا ذلك ونظرنا إلى حديث الرفع بالخصوص، هذا الكلام إنّما يتمّ عندما يكون حديث الرفع يرفع التكليف الواقعي المشكوك، يعني عندما يكون المرفوع بحديث الرفع هو التكليف الواقعي المشكوك، هذا الكلام يتم، فيقال كما تقدّم، أنّ وضع التكليف في مورد الخروج عن محل الابتلاء غير ممكن، فمع الشك في الخروج عن محل الابتلاء، أو الدخول في محل الابتلاء كما هو محل الكلام، فلا نحرز إمكان الوضع، فإذا لم نحرز إمكان الوضع؛ فحينئذٍ لا يمكن شمول الحديث الوارد بلسان الرفع لذلك المورد؛ لأنّ شمول حديث الرفع لموردٍ مشروطٌ ومقيّدٌ بإمكان الوضع، وحيث أننا لا نحرز إمكان الوضع في هذا الفرد؛ فحينئذٍ لا يكون الحديث شاملاً له، هذا الكلام صحيح، ولكن القول أنّ المرفوع في حديث الرفع هو التكليف الواقعي لا يقول به إلاّ الشاذ من علمائنا، حديث الرفع ليس الرفع فيه فقط ما لا يعلمون بالخصوص رفعاً واقعياً للتكليف المشكوك، لا يقول بذلك إلاّ النادر؛ لأنّه على خلاف قاعدة الاشتراك، ولأنّه يلزم منه التصويب....الخ، في موارد عدم العلم لا يكون الرفع للتكليف المشكوك رفعاً واقعياً؛ لأنّ هذا لازمه اختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها، وإنّما الشيء الذي استقرّ عليه رأي المتأخرين تقريباً هو أنّ الرفع رفع للتكليف الواقعي ظاهراً لا رفعاً للتكليف الواقعي واقعاً، وإنّما هو رفع ظاهري للتكليف الواقعي، والمقصود بالرفع الظاهري للتكليف الواقعي هو رفع إيجاب الاحتياط؛ لأنّ إيجاب الاحتياط يعني جعل التكليف الواقعي ووضعه ظاهراً، فيوجب الاحتياط، فيكون التكليف الواقعي مجعولاً وموضوعاً ظاهراً، رفع التكليف الواقعي ظاهراً يكون برفع إيجاب الاحتياط نحوه، فإذا رفع وجوب الاحتياط تجاه التكليف المشكوك معناه أنّه رفع التكليف الواقعي ظاهراً، فالمرفوع في حديث الرفع في الواقع والحقيقة هو إيجاب الاحتياط، أي لا يجب الاحتياط تجاه التكليف المشكوك، هذا مفاد حديث الرفع، إيجاب الاحتياط يكون هو المرفوع لا التكليف الواقعي المشكوك؛ فحينئذٍ يجب علينا بمقتضى كلامه أن ننظر إلى أنّ إيجاب الاحتياط هل يمكن وضعه، أو لا يمكن وضعه ؟ بالنسبة إلى الطرف المشكوك هل يمكن وضع إيجاب الاحتياط، أو لا يمكن وضع إيجاب الاحتياط ؟ فإن أمكن وضع إيجاب الاحتياط في الطرف المشكوك أمكن رفعه، فيكون مشمولاً لحديث الرفع؛ لأنّ حديث الرفع يرفع إيجاب الاحتياط، بناءً على كلامه، فلابدّ من افتراض إمكان وضع إيجاب الاحتياط، فإذا أمكن وضع إيجاب الاحتياط وجعله في الطرف المشكوك؛ حينئذٍ أمكن رفعه، وبالتالي يشمله حديث الرفع. وأمّا إذا لم يمكن وضع إيجاب الاحتياط في الطرف المشكوك؛ فحينئذٍ يتمّ كلامه؛ وحينئذٍ لا يمكن رفعه؛ لأنّ التقابل بينهما تقابل الملكة والعدم، فلا يمكن رفعه، فلا يكون مشمولاً لحديث الرفع. ما هو الصحيح ؟ هل يمكن وضع إيجاب الاحتياط في الطرف المشكوك، أو لا يمكن وضعه ؟ الظاهر أنّه يمكن وضع إيجاب الاحتياط في الطرف المشكوك؛ إذ أيّ محذورٍ في أن يجعل الشارع إيجاب الاحتياط لغرض تنجيز الواقع على تقدير مصادفته لغرض الحفاظ على الملاك الواقعي على تقدير وجود ملاك واقعي في هذا الطرف المشكوك ؟ ما هي المشكلة في هذا ؟ أن يقول يجب عليك الاحتياط لأجل الحفاظ على ملاك الواقع على تقدير مصادفته ووجوده؛ لأنّ الحفاظ على ملاك الواقع يكون بإيجاب الاحتياط بالنسبة إليه، فإذا أوجب الشارع الاحتياط، فهذا معناه أنّه نجّز الواقع، وحافظ على الملاكات الواقعية، فإذن: لا مشكلة في افتراض وضع إيجاب الاحتياط على غرار ما قلناه في تقريب المحقق العراقي(قدّس سرّه)، قلنا هناك أنّ العقل لا يرى مشكلة في تنجّز العلم الإجمالي بالنسبة إلى الطرف المشكوك، والعقل أيضاً لا يمنع من هذا التنجز، يقول: أنّ هذا العلم الإجمالي ينجّز ذلك الطرف المشكوك، لما قاله المحقق العراقي(قدّس سرّه) من أنّ الخروج عن محل الابتلاء لا يوجب سقوط الملاك، وإنّما يوجب سقوط التكليف، فالملاك باقٍ، والمكلّف يعلم بوجود الغرض في أحد الطرفين، والطرف المشكوك هو طرف لهذا العلم الإجمالي، والعلم الإجمالي ينجّز ذلك على المكلّف، ويلزمه بالتصدّي لتحصيل ذلك الغرض ويمنعه من تفويته، العقل هكذا يقول على ما تقدّم. نفس هذا الكلام يمكن نقله إلى وجوب الاحتياط الشرعي، بأنّ يقول الشارع يجب عليك الاحتياط في هذا الطرف المشكوك لغرض تنجيز الواقع ولغرض الحفاظ على الملاكات الواقعية على تقدير مصادفتها، فأيّ ضيرٍ في ذلك ؟ الشارع إذا كان يهتم بالملاكات الواقعية، فيجعل وجوب الاحتياط بالنسبة إلى الطرف المشكوك، إذن: الطرف الذي يُشك في قدرة المكلّف عليه، أو عدم قدرته في خروجه عن محل الابتلاء، أو دخوله في محل الابتلاء يُعقل ويمكن فرض جعل وجوب الاحتياط الشرعي فيه، فوضع إيجاب الاحتياط ممكن، وأن الجعل الظاهري للتكليف الواقعي أمر ممكن بالنسبة إلى الطرف المشكوك؛ فحينئذٍ يكون رفعه أمراً ممكناً وتشمله أدلّة البراءة. هذا بالنسبة إلى الرأي الأوّل في هذه المسألة.
الرأي الثاني: يقول لا مانع من جريان البراءة في الطرف المشكوك خلافاً للسيد الخوئي(قدّس سرّه)؛ لأنّ موضوع البراءة في دليلها هو عبارة عن الشك في التكليف الواقعي، والمكلّف يشكّ في التكليف في الطرف المشكوك بلا إشكال، يشك في حرمته، وهذا الشك في التكليف هو موضوع دليل البراءة، فموضوع دليل البراءة محفوظ ومتحقق في محل الكلام في الطرف المشكوك، فلا مانع من شمول دليل البراءة له، والمانع الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) غير تام كما تقدّم، فيُلتزم بجريان البراءة في الطرف المشكوك كما يمكن شمول دليل البراءة للطرف الداخل في محل الابتلاء. وبناءً على هذا الرأي الثاني سوف يقع التعارض بين البراءتين، البراءة الجارية في الطرف الداخل في محل الابتلاء، والبراءة الجارية في الطرف المشكوك، وبعد تساقط البراءتين يتنجّز العلم الإجمالي. ومن هنا يتبيّن أنّ الصحيح في هذه المسألة هو أنّ العلم الإجمالي يبقى على منجّزيته ولا يسقط عن المنجّزية بالشك في خروج أحد الأطراف عن محل الابتلاء، لأنّ الشك في خروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محل الابتلاء لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز ؛بل يبقى على منجّزيته من دون فرقٍ بين الشبهة المفهومية والشبهة المصداقية. أمّا في الشبهة المفهومية: فلما تقدّم من البيان والوجه الذي ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه)، وأمّا في الشبهة المصداقية، فلما قلناه من أنّ البراءة تجري في كلا الطرفين، وبالتالي منجّزية العلم الإجمالي. هذا الكلام كلّه مبني على القول والالتزام بأنّ فعلية التكليف مشروطة بالدخول في محل الابتلاء، مسألة الشك متفرّعة على أصل المسألة، إذا قلنا في أصل المسألة بأنّ فعلية التكليف مشروطة بالدخول في محل الابتلاء، وأنّ الخروج عن محل الابتلاء يوجب سقوط التكليف؛ حينئذٍ الكلام المتقدّم يجري بناءً على هذا الالتزام؛ حينئذٍ يقال: إذا علمنا بخروج أحد الطرفين عن محل الابتلاء؛ حينئذٍ يقال: أنّ العلم الإجمالي يسقط عن المنجّزية؛ إذ لا علم إجمالي بتكليفٍ فعليٍ على كل تقدير، وإنّما المكلّف يعلم بتكليفٍ فعلي على تقدير، ويعلم بعدمه على تقديرٍ آخر، فلا علم بتكليفٍ فعليٍ على كل تقدير، وهذا معناه سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز. هذا في حالة العلم؛ حينئذٍ ينفتح المجال للحديث عن حالة الشكّ، أنّه إذا شككنا في خروج طرفٍ عن محل الابتلاء، فهل حكمه حكم صورة العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء من جهة سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، أو أنّ العلم الإجمالي يبقى على منجّزيته في صورة الشكّ، وإن كان يسقط عن التنجيز في صورة العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ؟
وأمّا إذا أنكرنا ذلك كما تقدّم، وقلنا بأنّ فعلية التكليف ليست مشروطة بالدخول في محل الابتلاء، وأنّه لا مانع من ثبوت التكليف حتّى في المورد الخارج عن محل الابتلاء؛ فحينئذٍ لا مجال للحديث عن صورة الشكّ؛ لأنّه من الواضح في صورة العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء نحن نقول أنّ العلم الإجمالي باقٍ على منجزيته ولا يسقط عن المنجّزية، لأنّه علم إجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير، حتّى على تقدير وجود التكليف في الطرف الخارج عن محل الابتلاء التكليف يكون فعلياً؛ إذ لا يُشترط في فعلية التكليف الدخول في محل الابتلاء، فإذا كنّا  نحن نقول بالمنجّزية في صورة العلم وأنّ العلم الإجمالي باقٍ على التنجيز، إذن: لا مجال للبحث في أنّه في صورة الشك في دخوله في محل الابتلاء وخروجه عن محل الابتلاء، هل يبقى العلم الإجمالي على منجّزيته، أو لا ؟ قطعاً يبقى على منجّزيته؛ لأنّه في صورة العلم بخروجه عن محل الابتلاء نحن نقول ببقاء العلم الإجمالي على منجّزيته، فيكون العلم الإجمالي منجّزاً، سواء علمنا بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، أو شككنا في ذلك. إلى هنا يتم الكلام ظاهراً عن هذه المسألة وهي مسألة الدخول في محل الابتلاء، أو الخروج عن محل الابتلاء.
ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي
إذا لاقى شيء أحد الطرفين اللّذين يُعلم بنجاسة أحدهما إجمالاً، لدينا علم إجمالي بنجاسة أحد مائعين، ولاقى الثوب أحد المائعين المعلومين بالإجمال، هذا هو محل الكلام. الكلام يقع في أنّه هل يحكم بحرمة هذا الملاقي ووجوب الاجتناب عنه، أو لا يمكن أن نحكم بوجوب الاجتناب عن الملاقي، يعني عن الثوب إذا لاقى أحد الطرفين.
عندما نفترض العلم بنجاسة أحد المائعين، ونفترض أنّ الثوب لاقى أحدهما قهراً يحصل لنا علم إجمالي جديد غير العلم الذي فُرض أولاً، العلم المفروض أوّلاً هو العلم بنجاسة أحد المائعين، هذا علم إجمالي أوّل. إذا لاقى الثوب أحد المائعين يحصل لنا علم إجمالي آخر وهو نجاسة أحد شيئين، إمّا الملاقي، أو الطرف الآخر؛ لأنّه إذا لاقى الثوب المائع الأيمن ــــــــــــ مثلاً ــــــــــ إذن أنا أعلم، إمّا المائع الأيسر نجس أو الملاقي نجس؛ لأنّ النجاسة إن كانت موجودة في المائع الآخر، فالملاقي ليس نجساً، وإن كانت النجاسة موجودة في الطرف الآخر، فالملاقي نجس، إذن: أنا أعلم أنّ النجاسة موجودة إمّا في الطرف الآخر، أو موجودة في الملاقي، وهذا علم إجمالي ثانٍ غير العلم الإجمالي الأوّل، ومهم إبراز هذا العلم الإجمالي؛ لأنّ الكلام سيقع في أنّ افتراض مثل هذا العلم الإجمالي هل يؤثر في تنجيز الحرمة بالنسبة إلى الملاقي، أو لا يؤثر في تنجيز الحرمة بالنسبة إلى الملاقي ؟ لأنّ تنجيز الحرمة بالنسبة إلى الملاقي اكتفاءً بالعلم الإجمالي الأوّل محل إشكالٍ كما سيتبين، أنّ العلم الإجمالي الأوّل أنّك تعلم بنجاسة أحد المائعين، هذا لا يؤثّر في تنجيز وجوب الاجتناب عن الملاقي، لكن إذا أُبرز هذا العلم الإجمالي الجديد؛ لأنّ المكلّف ليس فقط يعلم بنجاسة أحد المائعين ووجوب الاجتناب عنه؛ بل هو يعلم بوجوب الاجتناب إمّا عن الملاقي، أو عن الطرف الآخر، فصار الملاقي طرفاً لهذا العلم الإجمالي الثاني، فقد يقال بأنّ تنجيزه يكون تامّاً.
إذن: هناك علمان إجماليان بحسب الحقيقة والكلام في هذا البحث كلّه يقع في أنّه:
 أولاً: هل يمكن إثبات تنجيز وجوب الاجتناب عن الملاقي بالعلم الإجمالي الأوّل، أو لا ؟
ثانياً: يقع الكلام في أنّه هل يمكن إثبات تنجيز الملاقي ووجوب الاجتناب عنه بالعلم الإجمالي الثاني، أو لا ؟
لكن فبل ذلك، لابدّ من الالتفات إلى أنّ المفروض في محل الكلام أنّ الملاقاة تختص ببعض أطراف العلم الإجمالي، فهذا هو مفروض المسألة، إذا لاقى شيء أحد أطراف العلم الإجمالي، يعني لم يلاقِ الآخر، وأمّا إذا فرضنا أنّ الثوب لاقى كلا الإناءين؛ فحينئذٍ يكون معلوم النجاسة تفصيلاً، وبوجوب الاجتناب عنه تفصيلاً؛ لأنّه نجس قطعاً؛ لأنّه لاقى كلا الطرفين، وهذا خارج عن محل الكلام، الكلام في ما إذا كانت الملاقاة تختص ببعض الأطراف دون سائر الأطراف.
من جهةٍ أخرى: يخرج عن الكلام ما لو فرض وجود ملاقٍ لكلٍ من الطرفين غير ملاقي الطرف الآخر، هذا أيضاً خارج عن محل كلامنا، فنحن نتكلّم عن وجود ملاقٍ واحدٍ لأحد الطرفين، أمّا إذا فرضنا أنّ الثوب لاقى الطرف الأيمن، واليد ـــــــــ مثلاً ــــــــــ لاقت الطرف الإيسر، هذا خارج عن محل الكلام؛ لأنّه في هذه الحالة لا إشكال في وجوب الاجتناب عن الثوب؛ لأنّه يتشكّل علم إجمالي ثالث غير العلمين الإجماليين السابقين، يتشكل علم إجمالي ثالث إمّا بوجوب الاجتناب عن الثوب، أو بوجوب الاجتناب عن اليد؛ لأنّ هذا لاقى هذا الإناء، وهذا لاقى هذا الإناء، فإذا فرضنا أنّ النجاسة موجودة في الإناء الأيمن؛ فحينئذٍ يجب الاجتناب عن الثوب، وإن كانت موجودة في الإناء الأيسر، فيجب الاجتناب عن اليد الملاقية له؛ فحينئذٍ يكون الثوب طرفاً لهذا العلم الإجمالي ويجب الاجتناب عنه لهذا العلم الإجمالي الثالث وهو أنّ الحرمة الثابتة في أحد الملاقيين، إمّا الثوب، وإمّا اليد، هذا أيضاً خارج عن محل الكلام. إذن: فرض الكلام فيما لو اختصّت الملاقاة بأحد الطرفين، وفيما إذا كان الملاقي يختص بأحد الطرفين بأن لا يوجد ملاقٍ آخر للطرف الآخر، هذا هو فرض الكلام، والكلام يقع في مقامين:
المقام الأوّل: أنّ هذا الملاقي لأحد الطرفين بهذه الشروط المتقدّمة هل يمكن إثبات تنجّز الحرمة فيه ووجوب الاجتناب عنه اعتماداً على العلم الإجمالي الأوّل، أو لا ؟
المقام الثاني: هل يمكن إثبات تنجّز الحرمة فيه اعتماداً على العلم الإجمالي الثاني، أو لا ؟ هذا هو محل الكلام.
بالنسبة للمقام الأوّل: وهو أن ننظر إلى العلم الإجمالي الأوّل فقط ونغض النظر عن العلم الإجمالي الثاني، هذا العلم الإجمالي الأوّل وحده هل يكفي لإثبات التنجّز في الملاقي، أو لا يكفي لإثبات تنجّز الحرمة ووجوب الاجتناب في الملاقي ؟ المعروف بين علمائنا(رضوان الله عليهم) هو عدم تنجّز حرمة الملاقي بالعلم الإجمالي الأوّل، أنّ العلم الإجمالي الأوّل لا يوجب تنجّز الحرمة في الملاقي بحيث لو بقينا نحن وهذا العلم الإجمالي الأوّل لما حكمنا بالتنجّز في الملاقي؛ بل لجوّزنا للمكلف أن يستعمل هذا الملاقي، فإذا كان ماءً جاز له أن يتوضأ به، أو أن يشربه، وإذا كان ثوباً جاز له أن يصلّي به، واستدلّوا على ذلك بهذا الدليل: قالوا أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي في الحقيقة موقوف على العلم بملاقاته للنجس، ونحن في المقام لا علم لنا بملاقاته للنجس؛ لأنّه لا علم لنا بنجاسة المُلاقى حتى نقول أنّ نجاسة المُلاقى أوجبت نجاسة الملاقي، إنّما يحكم بنجاسة الملاقي ووجوب الاجتناب عنه إذا لاقى النجس، أمّا إذا لاقى شيئاً لا نعلم بنجاسته؛ فحينئذٍ لا يمكن الحكم بنجاسته ووجوب الاجتناب عنه. هذا الدليل المبسّط لإثبات عدم تنجيز حرمة المُلاقي ووجوب الاجتناب عنه بالعلم الإجمالي الأوّل، بيانه يكون بهذا الشكل: نحن في المقام ما نعلمه بالعلم الإجمالي الأوّل هو نجاسة أحد الطرفين، هذا الشيء المعلوم النجاسة في بعض الحالات يترتب عليه حكم شرعي، لكن عندما يترتب عليه حكم شرعي لابدّ من افتراض أنّ تمام موضوع ذلك الحكم الشرعي هو هذا المعلوم بالإجمال، أمّا إذا فرضنا أنّ حكماً شرعياً تمام موضوعه ليس هو هذا المعلوم بالإجمال؛ بل المعلوم بالإجمال هو جزء ذلك الحكم، ويحتاج ذلك الحكم إلى انضمام جزءٍ آخر؛ حينئذٍ لا يمكن إثبات ذلك الحكم بمجرّد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين؛ لأنّ هذا المعلوم بالإجمال الذي هو النجاسة المعلومة بالإجمال في أحد الطرفين ليست هي تمام الموضوع لذلك الحكم الشرعي، وإن كانت هي تمام الموضوع لهذا الحكم الشرعي، فنفرّق بين الأحكام الشرعية، مثلاً: إذا علمنا بخمرية أحد مائعين، أحد المائعين قطعاً خمر، هذا علم إجمالي، هذه الخمرية المعلومة بالإجمال هي تمام الموضوع لحرمة شربه؛ ولذا نحكم بحرمة شربه؛ لأننّا نعلم إجمالاً بخمرية أحد مائعين، فيكون المعلوم خمريته بالإجمال هو تمام الموضوع لحرمة الشرب، فيحكم بحرمة الشرب، لكن هل يحكم على من شرب أحد المائعين بوجوب إقامة الحد ؟ كلا؛ لأنّ موضوع وجوب إقامة الحد ليس هو فقط العلم الإجمالي بخمرية أحد المائعين، وإنّما الموضوع هو العلم بالخمرية ولو إجمالاً والعلم بشرب الخمر، أن يعلم بأنّه شرب خمراً حتّى يترتب وجوب إقامة الحد. إذن: هذا الحكم الذي هو وجوب إقامة الحد يختلف عن الحكم بحرمة الشرب، حرمة الشرب يكفي فيها العلم الإجمالي بخمرية أحد الإناءين؛ لأنّ تمام موضوع حرمة شرب هذا الطرف هو العلم بخمرية أحد الإناءين ولا يحتاج إلى ضميمةٍ أخرى، بينما وجوب إقامة الحد لا يكفي فيها مجرّد العلم بأنّ أحدهما خمر؛ بل لابدّ من العلم بأنّه شرِب الخمر، وهذا لا يمكن إحرازه بمجرّد شرب أحد الطرفين؛ إذ لا يعلم بأنّه شرِب الخمر، ما نحن فيه من هذا القبيل، حينما يعلم بنجاسة أحد المائعين، مرّة نتكلّم عن حرمة الشرب، ومرّة نتكلم عن حرمة الملاقي، حرمة الشرب يكفي فيها العلم الإجمالي بنجاسة أحد المائعين، هذا العلم الإجمالي يحقق حرمة شرب أحد المائعين، فيحرم شرب هذا، لكن حرمة الملاقي لا يكفي فيها مجرّد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين، وإنّما لابدّ أن يُضم إليها العلم بملاقاة هذا للنجس، حرمة الملاقي متفرّعة على الملاقاة، فلابدّ من إحراز ملاقاة الملاقي للنجس؛ حينئذٍ يحكم بحرمة شربه، وأمّا إذا لم نحرز الملاقاة كما هو المفروض في محل كلامنا، فمجرّد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين لا يكفي لإثبات حرمة الملاقي، وإن كان يكفي لإثبات حرمة شرب أحد الطرفين.


[1]اسراء/سوره17، آیه15.