الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

36/03/28

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.
ذكرنا مطلباً في الدرس السابق، لابدّ من إكماله، وهو أنّ الذي يظهر من السيد الشهيد(قدّس سرّه) أنّه يريد أن يفرّق بين الاضطرار إلى الفعل المتقدّم في المسألة السابقة وبين الاضطرار إلى الترك في محل كلامنا،[1] في محل الكلام نتكلّم عن الاضطرار إلى الترك، بمعنى الاضطرار العقلي إلى الترك، أو بعبارة أخرى: العجز عن الفعل، لكن العجز العقلي عن الفعل لا الخروج عن محل الابتلاء، في حالة الخروج عن محل الابتلاء هناك عجز عن الفعل، لكن عجز عرفي لا عجز عقلي، هو يقول في حالة العجز العقلي عن الفعل. أو بعبارة أخرى الاضطرار العقلي إلى الترك، عندما يكون الفعل غير مقدور، والمكلّف مضطر إلى الترك، هذا هو ما نتكلّم عنه، ونتكلّم أيضاً عن الخروج عن محل الابتلاء الذي هو عبارة عن العجز العرفي عن الفعل والاضطرار العرفي إلى الترك. يقول: هذا الاضطرار العقلي إلى الترك يختلف عن الاضطرار العقلي إلى الفعل المتقدّم في المسألة السابقة، يشتركان في سقوط التكليف، في كلٍ منهما يكون التكليف ساقطاً، كما أنّ التكليف يسقط في حالة الاضطرار إلى الفعل، إذا اضطر إلى شرب هذا الإناء اضطراراً عقلياً لا إشكال أنّ النهي يسقط عن هذا، كذلك إذا اضطر إلى ترك شيءٍ النهي أيضاً يسقط عنه، في كلتا الحالتين يسقط النهي، لا نهي ولا زجر في كلتا الحالتين، لا في حالة الاضطرار إلى الفعل، لا يُعقل النهي عنه؛ لأنّه مضطر إلى الفعل وإلى شرب أحد الإناءين، ولا في حالة الاضطرار إلى الترك كما إذا كان الشيء في مكان بعيدٍ جدّاً بحيث يستحيل أن يتمكن من ارتكابه، هو عاجز عقلاً عن ارتكابه ومضطر عقلاً إلى تركه، هل يُعقل تعلّق النهي به ؟ يقول: أيضاً لا يعقل تعلّق النهي به، فهما يشتركان في عدم صحّة توجّه النهي والزجر في كلٍ منهما، لكنّهما يختلفان بلحاظ الملاك، بمعنى أنّه في مسألة الاضطرار إلى الفعل هنا يمكن أن نقول كما لا نهي كذلك لا ملاك ولا مفسدة ولا مبغوضية في ذلك الفعل الذي اضطر إلى الإتيان به، إذا اضطر إلى شرب أحد الإناءين، كما لا نهي عنه كذلك لا مبغوضية ولا مفسدة فيه، وعلى هذا الأساس يترتب ما أشرنا إليه من أنّ الانحلال يكون انحلالاً حقيقياً في ذلك  المورد عندما يكون أحد طرفي العلم الإجمالي من هذا القبيل، إذا علم بنجاسة أحد الإناءين وكان مضطراً إلى شرب أحدهما المعيّن اضطراراً عقلياً هنا لا علم إجمالي بالتكليف؛ لأنّه على أحد التقديرين يكون التكليف منتفياً خطاباً وملاكاً، وعلى التقدير الآخر يكون ثابتاً، فلا علم إجمالي، لا بالتكليف الفعلي على كل تقدير ولا بالملاك الفعلي على كل تقدير، ومن هنا ينحل العلم الإجمالي انحلالاً حقيقاً؛ إذ لا علم بالتكليف على كل تقدير كما لا علم بالملاك على كل تقدير، وإنّما يكون التكليف معلوم الارتفاع والملاك معلوم الارتفاع على أحد التقديرين ومشكوك على التقدير الآخر، وهذا معنى أنّ العلم الإجمالي ينحل إلى علم تفصيلي بعدم التكليف على أحد التقديرين خطاباً وملاكاً، وشكٍ بدوي في الطرف الآخر، فينحل العلم الإجمالي انحلالاً حقيقياً. هذا في مورد الاضطرار إلى الفعل، أو قل في مورد العجز عن الترك، و الاضطرار إلى الفعل. وأمّا في محل الكلام عندما يكون الاضطرار إلى الترك، هو مضطر إلى تركه، لكن اضطراراً عقلياً، هو عاجز عن الفعل عقلاً ومضطر إلى الترك عقلاً. يقول: في هذه الحالة يسقط الخطاب، ولا يصح تعلّق النهي به ولا يصح تعلّق الزجر به، لكنّ مبادئ النهي باقية ولا ترتفع، النهي يسقط كخطابٍ، لكنّ المفسدة والمبغوضية تبقى متعلّقة بذلك الفعل ولو كان المكلّف عاجزاً عن فعله ومضطراً إلى الترك، بالرغم من هذا، هذا لا يوجب سقوط مبادئ النهي عن ذلك الفعل، ويعللّ ذلك، يقول: باعتبار أنّ الاضطرار إلى الفعل يوجب أن تكون الحصّة التي اضطر إلى فعلها تكون حصة أخرى من الفعل غير الحصّة التي تصدر منه بالاختيار، فيكون للفعل حصّتان، حصّة اضطرارية اضطر إلى فعلها، وحصّة اختيارية لم يضطر إلى فعلها، عندما يتحصصّ الفعل إلى حصّتين بلحاظ الاضطرار إلى الفعل، فيمكن أن يقال أنّ الحصّة الاضطرارية كما لا نهي عنها كذلك لا ملاك فيها، ولا مبغوضية فيها ولا مفسدة؛ لأنّ الاضطرار يحصصّ الفعل إلى حصّتين، إلى حصّة اضطرارية وحصّة اختيارية؛ حينئذٍ يمكن أن يقال أنّ الحصّة الاضطرارية كما يسقط عنها النهي؛ إذ لا نهي عن الفعل الذي يضطر المكلّف إلى الإتيان به، كذلك لا مفسدة فيه ولا مبغوضية، وهذا بخلاف الاضطرار إلى الترك الذي يعني العجز عن الفعل، العجز عن الفعل، أو الاضطرار إلى الترك لا يحصصّ الفعل إلى حصّتين؛ بل حصّة واحدة وهي الفعل الواجد للمفسدة والذي يكون الإتيان به مبغوضاً، والعجز  عنه لا يعني خروج هذا الفعل عن الملاك وعن المبادئ، المبادئ تبقى محفوظة في حالة العجز عن الفعل، لكنّها لا تبقى محفوظة في حالة الاضطرار إلى الفعل، يقول: أنّ أكل لحم الخنزير عندما يضطر إلى أكله المكلّف؛ حينئذٍ يمكن أن يكون أكل لحم الخنزير في حالة الاضطرار إليه، يمكن أن لا يتعلّق به النهي، كذلك لا مفسدة ولا مبغوضية فيه، هذا عندما يضطر إلى الفعل يمكن أن يقال: أنّ هذه الحصّة من أكل لحم الخنزير لا نهي عنها ولا مفسدة ولا مبغوضية فيها، أمّا أكل لحم الخنزير الذي لا يقدر المكلّف على الإتيان به لكونه في مكان بعيدٍ جدّاً يستحيل أن يصل إليه المكلّف، مجرّد عجز المكلّف عن الإتيان به لا يعني أنّه ليس فيه ملاك النهي وليس فيه مفسدة، أو مصلحة، الفعل بالنسبة إلى العجز لا يتحصصّ إلى حصّتين حتّى نقول أنّ أحدى الحصّتين واجدة للملاك والحصّة الأخرى ليست واجدة للملاك؛ بل ذلك الفعل الذي لا يمكنه الإتيان به والذي يعجز عن الإتيان به، مجرّد فرض تحققه يساوق تحقق المفسدة ويساوق تحقق المبغوضية، هذا من نتائج أنّ الفعل لا يتحصصّ بلحاظ العجز عنه، وإنّما يتحصصّ الفعل بلحاظ الاضطرار إليه. أمّا العجز عنه، فهو لا يوجب أن تكون هناك حصّتان متعددّتان أحداهما غير الأخرى؛ بل الفعل واحد، وهو واجد للمفسدة وواجد للمبغوضية، ومجرّد عجز المكلّف عنه لا يوجب عدم كونه مبغوضاً، وعدم كونه له مفسدة، الفعل باقٍ على ما هو عليه من المفسدة والمبغوضية وإن كان المكلّف عاجزاً عنه، وعدم تعلّق النهي به لا باعتبار أنّه ليس واجداً للمبغوضية والمفسدة، وإنّما لا يتعلّق به النهي باعتبار عجز المكلّف عن الإتيان به؛ لأنّ المكلّف عاجز وغير قادر؛ حينئذٍ لا يتعلّق التكليف به، لا لأنّه لا ملاك فيه، وإنّما باعتبار العجز عنه هذا هو الذي أوجب سقوط النهي عنه، فهو يفرّق بين الاضطرار إلى الفعل وبين الاضطرار إلى الترك، وعلى اساس هذه التفرقة ينتهي إلى نتيجة أنّه في محل الكلام التكليف ساقط، والنهي لا يتعلّق بالفرد الذي يكون المكلّف عاجزاً عن الإتيان به، ومضطراً إلى تركه، إذا كان مضطراً إلى تركه لا يتعلّق النهي به، لكنّ الملاك لا يسقط؛ بل هو موجود فيه، النهي يسقط لكن لا يسقط الملاك، وبناءً على هذا لا علم إجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير. عندما يُفترض أنّ أحد أطراف العلم الإجمالي خارج عن قدرة المكلّف والمكلّف مضطر إلى تركه، لا علم إجمال بالتكليف الفعلي على كل تقدير، لكن يقول: هناك علم إجمالي بالملاك الفعلي على كل تقدير، سواء كان الحرام الواقعي في هذا الطرف الداخل تحت القدرة، أو في ذاك الطرف الذي لا يتمكّن المكلّف من الإتيان به؛ لأنّ عجز المكلّف عنه لا يوجب سقوط الملاك عنه.
إذن: الملاك موجود والمكلّف يعلم علماً إجمالياً بثبوت الملاك الفعلي على كل تقدير. يقول: هذا العلم الإجمالي يكون منجّزاً؛ لأنّ الملاك هو روح الحكم وواقعه، فإذا علم المكلّف بالملاك، فهذا يكفي في المنجّزية، وبهذا لا يتحقق الانحلال الحقيقي في المقام؛ لأنّ المكلّف يعلم بثبوت الملاك إمّا في هذا الطرف، أو في ذاك الطرف، هذا العلم الإجمالي بثبوت الملاك يمنع من تحقق الانحلال الحقيقي، أي لا ينحل العلم الإجمالي هنا إلى علم تفصيلي بعدم الملاك على تقدير، وباحتمال وجود الملاك على تقديرٍ آخر؛ بل هو يعلم بثبوت الملاك على كل تقدير، هذا العلم الإجمالي بثبوت الملاك على كل تقدير يكون منجّزاً ومانعاً من تحقق الانحلال الحقيقي.
نعم، عدم المنجّزية لابدّ أن يُفسّر بتفسيرٍ آخر غير مسألة الانحلال، لابدّ أن يُفسّر على اساس الانحلال الحكمي لا الانحلال الحقيقي، بمعنى أنّ الأصل المؤمّن يجري في الطرف المقدور بلا معارض؛ لأنّ الأصل لا يجري في الطرف الآخر، فأنّ المكلّف عاجز عنه تكويناً، فلا معنى للتأمين التشريعي بلحاظ ما يكون المكلّف عاجزاً عنه تكويناً، هذا التأمين يفقد معناه، ولا معنى له أصلاً؛ فلذا لا يجري الأصل المؤمّن بلحاظ ذاك الطرف؛ لأنّ المكلّف عاجز عن فعله ـــــــــ بحسب الفرض ــــــــــ ومضطر إلى تركه، فلا معنى للتأمين التشريعي بلحاظه، والحال أنّ المكلّف عاجز عنه تكويناً، فالأصل المؤمّن لا يجري في ذاك الطرف ويجري في الطرف المقدور بلا معارض، وبهذا يسقط العلم الإجمالي عن المنجّزية حكماً، أي ينحلّ انحلالاً حكمياً لا انحلالاً حقيقياً. هذا هو المطلب الذي يذكره(قدّس سرّه).
اعترض على هذا المطلب: بأنّ هذا غاية ما ينتجه هو عدم العلم بانتفاء الملاك في حالة العجز عن الفعل ولا ينتج العلم بوجود الملاك في حالة العجز، وإنّما غاية ما يبررّ لنا أن نقول أننّا لا نعلم بانتفاء الملاك في حالة العجز عن الفعل، ولا يبرر لنا أن نقول أننا نعلم بوجود الملاك في حالة العجز عن الفعل حتّى يصحّ دعوى العلم الإجمالي بثبوت الملاك على كل تقدير، هذه الدعوى تتوقّف على أن تكون هذه الأمور التي ذكرها تنتج العلم بثبوت الملاك في حالة العجز عن الفعل، هو عاجز عن الفعل، وغير قادر عليه، ومضطر إلى الترك عقلاً، لكن لابدّ أن نثبت أنّ الملاك ثابت في هذه الحالة حتّى يصح لنا أن نقول أننا نعلم  إجمالاً بثبوت الملاك الفعلي على كل تقدير، فيتشكل العلم الإجمالي ونمنع من الانحلال الحقيقي. الاعتراض يقول: أنّ ما ذكره لا ينتج ذلك، وإنّما غاية ما يبرر لنا أن نقول بأننا لا نعلم بانتفاء الملاك في حالة العجز عن الفعل، باعتبار أنّه في موارد الاضطرار إلى الفعل في تلك المسألة، اضطر إلى شرب النجس ــــــــــ مثلاً ـــــــــــ هناك كان يوجد خطاب شرعي يقيّد التكليف بعدم الاضطرار، هو يقيد النهي بعدم الاضطرار إلى الفعل، وهو قوله(عليه السلام):( ليس شيء مما حرم الله الا وقد احله لمن اضطر اليه )[2] هذا الخطاب الشرعي هو الدليل على أنّ التكليف مقيّد بعدم الاضطرار إلى الفعل، وأنّه بمجرّد الاضطرار إلى الفعل، يرتفع التكليف، هذا الدليل الشرعي الدال على ارتفاع التكليف يُستكشف منه ارتفاع التكليف بما له من الملاك، فيكون الخطاب الشرعي دليلاً على انتفاء التكليف خطاباً وملاكاً؛ لأننا ــــــــــ كما قالوا ــــــــــ إنّما نعرف وجود الملاك من خلال الخطاب والتكليف، أمّا إذا ارتفع التكليف والخطاب، فلا دليل لنا على ثبوت الملاك، فالملاك بالنتيجة يكون أيضاً مرتفعاً.
وأمّا في محل الكلام، فليس لدينا خطاب شرعي نستكشف منه ارتفاع الملاك كما هو الحال بالنسبة للتكليف، وإنّما العقل هو الذي يتدخّل ويحكم باشتراط أن يكون المكلّف متمكّناً من الترك وقادراً عليه حتّى يصح خطابه بالنهي، وأمّا إذا كان مضطراً إلى الترك،  وعاجزاً عن الفعل، هنا العقل هو الذي يقول بأنّ هذا لا يصح تكليفه ولا يصح توجيه النهي إليه، فالعقل هو الحاكم، العقل لا مسرح له في ملاكات الأحكام الشرعية، العقل إنّما يتدخّل بالنسبة إلى التكليف، يقول هذا حيث أنّه مضطر إلى الترك، وعاجز عن الفعل لا يصح توجيه خطاب النهي إليه، فهو لا يمس الملاكات والمبادئ، وإنّما هو ينفي توجيه الخطاب إلى هذا المكلّف المضطر إلى الترك والعاجز عن الفعل، فالعقل هو الذي يكون حاكماً في المقام، ولا دليل شرعي في المقام يدلّ على ارتفاع التكليف حتّى نستكشف منه ارتفاع الملاك، وإنّما العقل هو الحاكم، والعقل لا يحكم بانتفاء الملاك، وإنّما يحكم بانتفاء التكليف، هذا لا يبررّ لنا أن نقول أنّه في حالة العجز عن الفعل، والاضطرار إلى الترك يكون الملاك موجوداً، بحيث يبرر لنا أن ندّعي العلم بثبوت الملاك، وإنّما يبرر لنا أن نقول أننا لا نعلم بانتفاء الملاك في حالة العجز؛ لأنّ العقل يحكم بانتفاء الخطاب، أنّه لا دليل على انتفاء الملاك ولا علم بانتفائه، أمّا العلم بوجود الملاك وبقاء الفعل على ما هو عليه من الملاك، بالرغم من العجز عن الفعل والاضطرار إلى الترك هذا لا يبررّه ما ذُكر، وإنّما ما ذُكر وأنّ العقل هو الحاكم، والعقل لا يحكم بوجود الملاك، ولا علاقة له بالملاك إطلاقاً، فيبقى وجود الملاك محتمل، وانتفاءه محتمل أيضاً، فلا علم لنا بانتفاء الملاك، لكن أيضاً لا علم لنا بوجوده، فإذا كان لا يوجد لدينا علم بوجود الملاك في حالات العجز، فإذن: كيف يتشكّل لدينا علم إجمالي بثبوت الملاك الفعلي على كل تقدير، هذا يحتاج إلى أن نقطع بوجود الملاك في حالة العجز، فنقول ليكن أحد الطرفين خارجاً عن قدرة المكلّف، والمكلّف عاجز عن فعله ومضطر إلى تركه، لكنّه لا يخرجه عن كونه ذا ملاك؛ حينئذٍ نحن نعلم بثبوت الملاك الفعلي على كل تقدير، وهذا علم إجمالي يمنع من الانحلال الحقيقي على ما ذُكر. وأمّا إذا لم يكن لدينا علم بوجود الملاك، وإنّما نحتمل مجرّد احتمال بقاء الملاك ونحتمل زوال الملاك، في هذه الحالة لا علم لنا بوجود الملاك على كل تقدير حتّى يتمّ ما ذُكر من أنّ هذا العلم الإجمالي موجود ومتحقق وغير منحلٍّ حقيقة ولابدّ أن يكون منحلاً حكماً وليس منحلاً حقيقة.
الظاهر أنّ هذا الاعتراض غير وارد؛ لأنّ السيد الشهيد(قدّس سرّه) يدّعي العلم بوجود الملاك، ولا يقول مجرّد أننا لا نعلم بانتفاء الملاك، وإنّما يقول بأننا نعلم بوجوده وثبوته، وأنّ العجز عن الشيء لا يوجب خروج هذا الشيء عن كونه ذا مفسدة وكونه مبغوضاً، يقول: أكل لحم الخنزير عندما يعجز المكلّف عن ارتكابه، هذا لا يخرجه عن كونه ذا مفسدة ولا يخرجه عن كونه مبغوضاً؛ ولذا بمجرّد أن يُفرض وقوعه يعني فُرض وقوع المبغوض وفُرض تحقق ما فيه المفسدة، هو هكذا يفترض على أساس مسألة أنّ العجز لا يحصص الفعل إلى حصّتين، الاضطرار إلى الفعل يحصص الفعل إلى حصّتين، حصّة اضطرارية وحصّة اختيارية؛ حينئذٍ من المعقول أن يكون النهي بما له من الملاك يختص بالحصّة الاختيارية ولا يكون في الحصّة الاضطرارية؛ لأنّ الاضطرار إلى الفعل يحصص الفعل إلى حصّتين، بينما العجز عن الفعل لا يحصص الفعل إلى حصّتين، هو هذا الفعل الواجد للمفسدة هو بنفسه موجود حتّى في حالة العجز عنه، بمجرّد أن يعجز المكلّف عن الإتيان بشيءٍ هذا لا يعني أنّه يخرج عن كونه ذا ملاكٍ ومفسدة؛ بل يبقى على ما هو عليه من المفسدة، وعلى ما هو عليه من المبغوضية بالرغم من عجز المكلّف عن فعله وعن الاتيان به، واضطراره إلى تركه، هو يدّعي العلم بوجود الملاك، وعلى هذا الأساس يقول أننا نعلم علماً إجمالياً بثبوت الملاك على كل تقدير، وإن كنّا لا نعلم علماً إجمالياً بثبوت التكليف على كل تقدير.
نعم، قد يُناقش في أصل مسألة التحصيص كما سيأتي في مسألة الخروج عن محل الابتلاء، أنّ في هذا التحصيص لا فرق بين الاضطرار إلى الفعل وبين الاضطرار إلى الترك، الاضطرار إلى الفعل يحصص الفعل إلى حصّتين اضطرارية واختيارية، والعجز عن الفعل، أو الاضطرار إلى الترك أيضاً يحصص الفعل إلى حصّتين، حصّة يكون المكلّف مضطرّاً إلى تركها وحصّة ليس مضطراً إلى تركها، أكل لحم الخنزير تارةً يضطر المكلّف إلى تركها اضطراراً عقلياً، وأخرى لا يكون مضطراً إلى تركها ولا مضطراً إلى فعلها، إذا أمكن تصوّر أنّ الفعل بالعجز أيضاً يتحصص إلى حصّتين؛ حينئذٍ يكون حاله حال الاضطرار إلى الفعل، في كلٍ منهما يتحصص الفعل إلى حصّتين ويمكن أن يكون النهي بماله من الملاك متعلّقاً بإحدى الحصّتين دون الحصّة الأخرى، وهذا الكلام سيأتي التعرض له إن شاء الله في أصل المطلب الذي هو عبارة عن الخروج عن محل الابتلاء.
هذا ما يرتبط بهذا المطلب، وبعد ذلك ندخل في أصل البحث وهو مسألة الخروج عن محل الابتلاء، أو ما يُسمّى بالاضطرار إلى الترك عرفاً، الاضطرار العرفي إلى الترك، أو نعبّر عنه بالاضطرار إلى الامتثال، لكن اضطراراً عرفياً، هو مضطرّ إلى امتثال النهي؛ لأنّ هذا خارج عن محل ابتلائه، فهو مضطرّ إلى الترك اضطراراً عرفياً، مضطرّ إلى امتثال النهي، فهل يُعقل تعلّق النهي به، أو لا ؟ هذا هو محل البحث. وقلنا أنّ المشهور ذهب إلى عدم معقولية النهي، وأنّ النهي مشروط بدخول المتعلّق في محل الابتلاء، فإذا كان خارجاً عن محل الابتلاء لا يصح تعلّق النهي به، وخالف في ذلك السيد الخوئي(قدّس سرّه) وتبعه في ذلك السيّد الشهيد(قدّس سرّه) وقالوا بإمكان تعلّق النهي بالفرد الخارج عن محل الابتلاء.


[1] بحوث في علم الأصول، تقرير بحث السيد محمد باقر الصدر للسيد محمود الشاهرودي، ج5، ص285.
[2] وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج23، ص228، كتاب الايمان، باب12، ح18، ط آل البیت.