الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ الاضطرار إلى بعض الأطراف لا بعينه
من جملة الأمور التي تكون قد
اتضحت من
خلال الاستعراض المتقدّم هو أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) على ما يبدو من كلامه
خصوصاً في(أجود التقريرات)، كأنّه يلتزم بارتفاع الحرمة واقعاً في ما إذا فُرض أنّ
ما اختاره لرفع اضطراره صادف الحرام الواقعي، يلتزم في هذه الحالة بارتفاع الحرمة
واقعاً بالنكتة المتقدّمة وهي سريان الاضطرار من الجامع إلى الفرد، فيكون هذا
الفرد الذي فُرض كونه متعلّق للتكليف الواقعي يكون هو مورد الاضطرار، هو اضطر إلى
هذا، فيكون هذا موجباً لرفع التكليف واقعاً، ويكون حاله حال الاضطرار إلى الفرد
المعيّن، حيث هناك لا إشكال في أنّ التكليف يرتفع واقعاً، فلا تكليف في موارد
الاضطرار، كما لا تكليف في مورد الاضطرار في المقام الأوّل، كأنّه يرى أيضاً أنّه
لا تكليف في مورد الاضطرار في الثاني، وسرّه هو أنّ الاضطرار يسري من الجامع إلى
الفرد، فيكون حاله حال الاضطرار إلى الفرد المعيّن، ولكنّه التزم، بالرغم من أنّه
يرى أنّ التكليف مرفوع واقعاً، التزم بالمنجّزية مع أنّ مقتضى كون التكليف مرفوعاً
واقعاً هو أنّ نلتزم بعدم المنجّزية؛ لأنّ التكليف ليس فعلياً على كل تقدير،
وإنّما هو فعلي على تقدير وليس فعلياً على تقدير، مع ذلك التزم بالمنجّزية في صورة
تقدّم الاضطرار على العلم الإجمالي، حتّى في هذه الصورة التزم بالمنجّزية، والتزم
بأنّ البراءة لا تجري في الطرف الآخر، وعللّه بما تقدّم سابقاً من أنّ ارتفاع
الحرمة واقعاً لا يكون إلاّ في آن الاختيار، في آن الاختيار إذا صادف ما اختاره
الحرام الواقعي ترتفع الحرمة واقعاً، أمّا قبل آن الاختيار، فيقول لا مقتضي لرفع
الحرمة، فقبل الاختيار التكليف فعلي على كل تقدير، والمكلّف يعلم بتكليف فعلي على
كل تقدير حتّى لو فُرض أنّ النجاسة سقطت في هذا الإناء الذي سيختاره في ما بعد،
قبل الاختيار لا موجب لعدم فعلية الحرمة في كلا الطرفين على كلا التقديرين،
فالتكليف فعلي وهو علم بهذا التكليف الفعلي على كل تقدير تنجّز عليه، فهو ينجّز
كلا الطرفين، غاية الأمر أنّه ينجّز هذا الطرف في أمد قصير قبل الاختيار؛ لأنّه
بالاختيار يرتفع التكليف وينجّز الطرف الآخر على طول الخط، والتزم بالمنجّزية على
اساس ذلك.
هناك ملاحظتان على هذا
الكلام:
الملاحظة الأولى:
منع دعوى السريان، أنّ الاضطرار يسري من الجامع إلى الفرد، هذه الدعوى ليست واضحة
وغير مستدل عليها، الاضطرار إذا كان متعلّقاً بالجامع يبقى متعلّقاً بالجامع، ولا
وجه لسريانه إلى الفرد، يعني الاضطرار متعلّق بالجامع، لكنّه يسري إلى الفرد لاختيار
المكلّف له، فإذا اختار هذا يسري الاضطرار له من الجامع، وإذا اختار الآخر يسري
الاضطرار له من الجامع. هذا السريان إلى الفرد مع الاعتراف بأنّه متعلّق بالجامع، السريان
الى الفرد المنوط باختيار المكلّف لا وجه له عقلاً؛ بل حتّى عرفاً، العرف والعقل
يرون بأنّ الاضطرار متعلّق بأحد الفردين، بالجامع، ولا يرون أنّ الاضطرار متعلّق
بالحرام الواقعي، هو اختار أحد الفردين وصادف كونه حراماً ــــــــــــ حسب الفرض
ــــــــــ هو يقول أنّ الاضطرار تعلّق بالحرام الواقعي، بهذا الحرام الذي اختاره
واتّفق كونه حراماً، العرف لا يقبل تعلّق الاضطرار بالحرام الواقعي، يبقى العرف
يقول هو ليس مضطرّاً إلى الحرام الواقعي، هو بإمكانه أن يرفع اضطراره بغير الحرام
الواقعي، فلا موجب للسريان، الاضطرار يتعلّق بالجامع وهو مضطر إلى أحد الفردين
باختياره أحد الطرفين واتفاقه أن يكون هو الحرام الواقعي هذا لا يعني أن الاضطرار
يسري من الجامع إليه، يبقى هو مضطراً إلى ارتكاب أحد الطرفين، وهذا الفرد الذي
اتفق كونه حراماً واقعياً ليس هو متعلّق الاضطرار حتّى عرفاً، العرف بعد أن يلتفت
إلى خصوصيات القضية لا يرى أنّ المكلّف مضطر إلى ارتكاب هذا الحرام؛ بل هو يبقى غير
مضطرّ إلى ارتكاب هذا الحرام، بإمكانه أن يرفع اضطراره بغيره، أي بغير الحرام
الواقعي. فمسألة السريان غير واضحة. ويمكن تطبيق هذا المثال المعروف، عندما يتعلّق
الأمر بالطبيعة على نحو صرف الوجود، المكلّف يختار أحد الأفراد، يُطبّق الطبيعة
عليه، الصلاة والصلاة في المسجد، يصلّي في المسجد، قالوا بأنّ هذا لا يكون هو
متعلّق التكليف، هذا الفرد الذي يختاره المكلّف وهو الصلاة في المسجد ليس هو
الواجب، يبقى الواجب هو الطبيعة. نعم، هذا مصداق للواجب وليس هو الواجب، الواجب هو
الطبيعة ولا يسري هذا التكليف من الطبيعة إلى الفرد باختيار المكلّف لهذا الفرد؛
بل يبقى التكليف واقفاً على الطبيعة ولا يسري إلى الفرد. ما نحن فيه من هذا
القبيل، الاضطرار متعلّق بالجامع باختيار المكلّف لأحد الطرفين لا يسري الاضطرار
منه إلى هذا الفرد الذي اختاره.
الملاحظة الثانية:
أوردها السيد الخوئي(قدّس سرّه) على استاذه،
[1]
وهو نفترض أننا نسلّم ارتفاع الحرمة واقعاً عن ما يختاره المكلّف لرفع اضطراره إذا
صادف الحرام الواقعي، هنا ترتفع الحرمة واقعاً. السيد الخوئي(قدّس سرّه) يتساءل
كيف يعقل الحكم بحرمة ذلك الشيء حرمة مُغيّاة إلى زمان الاختيار؟ لأنّ معنى كلام
الميرزا(قدّس سرّه) أنّ الحرمة ثابتة قبل الاختيار، وتستمر هذه الحرمة إلى زمان
الاختيار، فترتفع، بمجرّد أن يختار ترتفع الحرمة. هذا معناه أنّ الحرمة الثابتة
مُغيّاة باختيار المكلّف بحيث يكون اختيار المكلّف رافعاً لهذه الحرمة. السيد
الخوئي(قدّس سرّه) يقول هذا غير معقول؛ لأنّ الغرض من الحرمة في الحقيقة هو ردع المكلّف
عن اختياره الحرام، يعني خطاب التحريم يريد أن يردع المكلّف عن اختياره لمتعلّقه،
فكيف يُعقل أن تُجعل الحرمة مُغياة باختياره، فيُقال له يحرم عليك هذا الشيء إلى
أن تختاره، فإذا اخترته ترتفع الحرمة، يقول مثل هذه الحرمة لا تكون معقولة؛ لأنّ
مثل هذه الحرمة ليس الغرض منها ردع المكلّف عن ما تعلّقت به، وإنّما هي تترك أمراً
إلى المكلّف نفسه، فإذا لم يختر الإتيان بمتعلّق الحرمة تكون الحرمة موجودة. أمّا
إذا اختاره ترتفع الحرمة، وهذا شيء غير معقول؛ لأنّ تحريم الشيء إنّما هو لأجل أن
يكون رادعاً للمكلّف عن اختياره، يعني إجباره على ترك الفعل وليس إيكال الأمر إلى
اختياره؛ فحينئذٍ ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) من أنّ الحرمة ثابتة قبل
الاختيار وترتفع بالاختيار هذا شيء لا يكون معقولاً؛ بل جعل الحرمة التي ترتفع
باختيار المكلّف هو لغو محض لا يمكن الالتزام به في محل الكلام؛ وحينئذٍ يتعيّن في
المقام الالتزام بكون ما يختاره المكلّف محكوماً بالحلّية من أول الأمر، لا أنّه
محكوم بالحلّية من آن الاختيار كما يقول المحقق النائيني(قدّس سرّه)؛ لأنّ فيه
المحذور الذي ذكرناه، فلابدّ من افتراض أنّ ما يختاره المكلّف يكون محكوماً
بالحلّية من البداية وليس من الآن، وإذا كان محكوماً بالحلّية من البداية؛ حينئذٍ
ينهار الأساس الذي اعتمد عليه المحقق النائيني(قدّس سرّه) لإثبات المنجّزية؛ لأنّ
ما اعتمد عليه لإثبات المنجّزية هو افتراض أنّ الحرمة ثابتة قبل الاختيار حتّى في
الطرف الذي اختاره، فيكون التكليف فعلياً على كل تقدير قبل الاختيار، وهذا ينجّز
الطرف الآخر على امتداد الوقت، بينما هنا يقول لابدّ من الالتزام بأنّ ما يختاره المكلّف
محكوم بالحلّية من البداية. إذن: من البداية أحد الطرفين لا حرمة فيه، وهذا معناه
عدم وجود علم بتكليفٍ فعليٍ على كل تقدير، فلا يكون منجّزاً للطرف الآخر ولا
مانعاً من إجراء الأصول المؤمّنة في الطرف الآخر، يقول سوف تكون النتيجة على العكس
تماماً ممّا يقوله المحقق النائيني(قدّس سرّه).
إذن: بناءً على
هذا الكلام الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه) من أنّ الرفع يكون واقعياً،
لابدّ من الالتزام بعدم المنجّزية، وإمكان جريان الأصول المؤمّنة في الطرف الآخر
كما هو الحال في الاضطرار إلى المعيّن حينما يكون الاضطرار متقدّماً على العلم
الإجمالي؛ حينئذٍ لا علم بالتكليف على كل تقدير، وهذا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن
المنجّزية وعدم وجود مانع يمنع من إجراء الأصول في الطرف الآخر.
من الواضح أنّ هذا الإيراد الذي
ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) مبني على افتراض أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه)
عندما ذكر أنّ الحرمة ترتفع في آن الاختيار، كأنّه فهم من كلامه أنّ جعل الاختيار
غاية للحرمة، ترتفع عنده الحرمة.
أو بعبارةٍ أخرى: أنّ
أخذ عدم الاختيار شرطاً في بقاء الحرمة؛ لأنّ الحرمة موجودة سابقاً، إذا لم يختر
الحرام لرفع اضطراره تكون الحرمة مستمرّة. إذن: شرط بقاء الحرمة واستمرارها هو عدم
اختيار الحرام الواقعي لرفع اضطراره. السيد الخوئي(قدّس سرّه) كأنّه فهم أنّ أخذ
عدم الاختيار شرطاً في بقاء الحرمة، أو أخذ الاختيار غاية للحرمة، كأنّه فهم منه
أنّ هذا على نحو الشرط المقارن، بمعنى أنّه في حال الاختيار ترتفع الحرمة، لا أنّ
اختياره يكون كاشفاً عن ارتفاع الحرمة من البداية، وهذا معناه أنّ الاختيار أُخذ غاية،
وعدم الاختيار أُخذ شرطاً في بقاء الحرمة على نحو الشرط المقارن، بمعنى أنّ الحرمة
تكون موجودة وثابتة ومستمرة إلى حين الاختيار، فإذا اختار الحرام الواقعي لرفع
اضطراره الآن ترتفع الحرمة، في آن الاختيار ترتفع الحرمة، فمعناه أنّ الشرط يكون
شرطاً مقارناً، فأورد عليه بما تقدّم. وأمّا إذا فرضنا فرضاً أنّ مقصود المحقق
النائيني(قدّس سرّه) هو أخذ عدم الاختيار شرطاً بنحو الشرط المتأخّر، جَعْل
الاختيار غاية على نحو الشرط المتأخّر، بمعنى أنّ المكلّف إذا اختار الفرد الحرام
لرفع اضطراره، فأنّ هذا يكشف أنّ هذا لم يكن حراماً من البداية، الحلّية من
البداية مشروطة بشرطٍ متأخّر وهو أن يختار هذا الحرام لرفع اضطراره، فإذا اختار
الحرام لرفع اضطراره، هذا يكشف عن عدم الحرمة من البداية، أو قل يكشف عن ثبوت
الحلّية من البداية، وإذا أُخذ على نحو الشرط المتأخّر بهذا المعنى؛ حينئذٍ لا يرد
عليه إيراد السيد الخوئي(قدّس سرّه)؛ لأنّ هذا كشف، حتّى لو فرضنا أنّه متأخّر،
وأنّه الآن هو اختار، لكن اختياره للحرام الواقعي يكشف عن عدم الحرمة من البداية،
وعن الحلّية من البداية، وإذا كانت هناك حلّية في مورد الاختيار من البداية، معناه
أنّه لا يوجد علم بالتكليف الفعلي على كل تقدير من البداية حتّى يكون منجزاً للطرف
الآخر.
إذن:
إيراد السيد الخوئي(قدّس سرّه) عليه مبني على افتراض أنّ كلام المحقق
النائيني(قدّس سرّه) ناظر إلى الشرط المقارن، يعني يريد أن يقول أنّ الحرمة ترتفع
في آن الاختيار لا أنّ الاختيار يكون كاشفاً عن ارتفاعها من البداية بحيث يكون
مأخوذاً بنحو الشرط المتأخّر.
لنفترض أنّ المحقق
النائيني(قدّس سرّه) أخذ الشرط بنحو الشرط المقارن لا الشرط المتأخّر حتّى يكون
لإيراد السيد الخوئي(قدّس سرّه) عليه وجهاً مقبولاً.
نقول أنّ هذا الإيراد:
الذي ذكره السيد الخوئي(قدّس سرّه) يمكن أن يُلاحظ عليه أنّ افتراض أنّ الحرمة
تكون ثابتة إلى زمان اختيار المكلّف للفرد الحرام واقعاً لرفع اضطراره في حالة ما
إذا كان هذا مقيّداً بالجهل ويُفرض في حال الجهل، يعني في حال صدور هذا الاختيار
منه لا عن عمدٍ وعلمٍ، نقول أنّ تقييد الحرمة بهذا الاختيار الصادر منه لا عن علمٍ
وعمدٍ ليس أمراً غير معقول؛ بل هو أمر معقول، لماذا لا يكون معقولاً أنّ الشارع
يجعل حرمة تكون مُغيّاة بأن لا يتّفق أن يكون ما اخترته لرفع اضطرارك مصادفاً للحرام
الواقعي، هذا حرام عليك إلى أن يتفق أن يكون ما اخترته لرفع اضطرارك مصادفاً للحرام
الواقعي، هذا ليس أمراً غير معقول؛ بل هو أمر معقول، وليس فيه أيّ ضيرٍ، الغير
المعقول هو أن يجعل الحرمة مُغياة باختيار المكلّف عن علمٍ وعمدٍ، يعني أن يقول له
هذا حرام عليك إلى أن أنت تختار الحرام عالماً عامداً، فإذا اخترت فعله ترتفع عنك
الحرمة، هذا هو الغير معقول، وهذا هو الذي أشار إليه بأنّه خلاف الغرض من جعل
الحرمة وتحريم الشيء، الغرض من تحريم الشيء هو ردع المكلّف عن الإتيان بمتعلّقها،
فلا معنى لجعل بقاء التحريم وارتفاعه منوطاً باختيار المكلّف لمتعلّق التحريم،
فإذا اختاره ترتفع الحرمة، وإذا لم يختره لا ترتفع، يقول له يحرم عليك شرب الخمر
إلاّ إذا أخترت شرب الخمر، فإذا اخترت شرب الخمر ترتفع عنك حرمة شرب الخمر، هذا
غير معقول، هذا معناه أنّ الغرض من التحريم ليس ردع المكلّف عن الفعل، بدليل أنّه
أوكل الأمر إلى اختيار المكلّف، هذا المعنى الغير المعقول ليس هو المتحقق في محل
الكلام، المحقق النائيني(قدّس سرّه) يريد أن يقول أنّ التحريم الثابت سابقاً(حرمة
شرب النجس)، هذه الحرمة تكون ثابتة وترتفع إذا شرب المكلّف أحد الإناءين من دون أن
يعلم أنّه هو الحرام الواقعي، شرب أحد الإناءين لرفع اضطراره وصادف أن كان هذا هو الحرام
الواقعي؛ حينئذٍ ترتفع الحرمة، ما المشكلة في أن نقول أنّ الحرمة ترتفع في هذه
الحالة ؟ بأن يكون هذا هو الغاية للحرمة بحيث أنّ أمد الحرمة ينتهي عند هذا الحد
في ما إذا اتفق مصادفة ما اختاره لرفع اضطراره الحرام الواقعي، هنا ترتفع الحرمة،
هذا لا يعني أنّ هذا خلاف الغرض من تحريم الشيء وهو ردع المكلّف عن الإتيان
بمتعلّقه، هذا أيضاً يردع المكلّف عن الإتيان بمتعلّقه، لكن يقول له إذا اتّفق أنّ
ما اخترته لشرب الحرام الواقعي يكون رافعاً للتحريم، فالحرمة تكون ثابتة وباقية
إلى أن يحصل هذا الاتفاق بأن يكون ما اختاره لرفع اضطراره مصادفاً للحرام الواقعي؛
فعندئذٍ ترتفع الحرمة. هذا ليس فيه ضير، أو محذور، والظاهر أنّ مراد المحقق
النائيني(قدّس سرّه) هو هذا، يعني يريد أن يقول أنّ الحرمة ترتفع إذا صادف ما
اختاره لرفع اضطراره الحرام الواقعي، بناءً على نظريته من أنّ الاضطرار يسري إلى
الفرد، فيكون الفرد متعلّقاً للتكليف ومتعلّقاً للاضطرار، وهذا يوجب ارتفاع الحرام
الواقعي ولا يرد عليه هذا الإيراد حسب الظاهر.
تنبيه يرتبط بالبحث السابقحاصل التنبيه: كنّا
نفترض الاضطرار إلى المعيّن وإلى غير المعيّن وقد يتبادر إلى الذهن أنّ المقصود
بالاضطرار هو الاضطرار التكويني والعجز التكويني، كلا، نقول هذا أعمّ من العجز
التكويني والعجز الشرعي، في بعض الأحيان المكلّف قادر على الشيء، لكنّه عاجز عنه
شرعاً، من قبيل ما لو اضطرّ إلى شرب النجس كما في المثال السابق، فقد نفترض أنّ
الاضطرار اضطرار تكويني بحيث يكون عاجزاً عن عدم شربه، ومضطرّ تكويناً إلى شربه،
وقد نفترض أنّه ليس مضطراً إلى شربه، أي بإمكانه أن يترك شربه، لكن إذا ترك شربه
هناك تكليف أهم منه يزاحمه من قبيل وجوب حفظ النفس، ووجوب حفظ النفس هو تكليف شرعي
أهم من حرمة شرب النجس؛ فلأنّ ذاك أهم، والشارع يهتم بالتكليف الأهم ويوجب على
المكلّف حفظ النفس، فكأنّ هذا يعتبر تعجيزاً شرعيّاً عن ترك شرب النجس، فيصبح
عاجزاً عن ترك شرب النجس، أو بعبارة أخرى يصبح مضطراً إلى شرب النجس للحفاظ على
الواجب الأهم، هذا عجز شرعي واضطرار شرعي وليس اضطراراً تكوينياً؛ لأنّه تكويناً
هو قادر على ترك شرب النجس، هو ليس مضطرّاً تكويناً إلى شرب النجس، لكنّه عاجز عنه
شرعاً ومضطر إلى شربه شرعاً. هذا العجز الشرعي. في العجز التكويني الترخيص الذي
يثبت هو ترخيص عقلي، بينما الترخيص الذي يثبت في العجز الشرعي هو ترخيص شرعي وإن
كان في الترخيص الشرعي في مسائل التزاحم الذي يثبت فيه الترخيص الشرعي في ترك
الأهم، هذا الترخيص يثبت بمجرّد التفات المكلّف إلى أنّ هناك تزاحماً، وأنّ ذاك هو
أهم بنظر الشارع، وأنّ حفظ النفس المحترمة عند الشارع أهم من كل شيء، وأهم من حرمة
شرب النجس، فإذا تزاحما ودار الأمر بينهما؛ حينئذٍ إذا عرف المكلّف أطراف القضية
سوف يجد نفسه مرخّصاً في فعل هذا الحرام وشرب هذا النجس؛ لأجل الحفاظ على النفس
المحترمة. ومن هنا لا داعي لأن يجعل الشارع ترخيصاً في هذا المورد كما في العجز
العقلي حيث هناك الترخيص عقلي صرف، هنا أيضاً لا داعي؛ لأنّ المكلّف إذا التفت إلى
أطراف القضية، لا داعي لأن يجعل الشارع له ترخيصاً، وإنّما هذا وحده كافٍ لكي
يعتبر المكلّف نفسه مرخّصاً في شرب هذا النجس عندما يقع التزاحم، لكن لا ضير في أن
يقال أنّ الشارع قد رخّص فيه ترخيصاً شرعياً، قد يصدر فيه ترخيص، ولو لغرض بيان
أنّ حفظ النفس عنده أهم من حرمة شرب النجس، فيرخّص في شرب النجس في حالات التزاحم
لغرض بيان الأهمية؛ لأنّ المكلّف ليس دائماً يحرز الأهمية. نقول إذا أحرز المكلّف
الأهمية في حالات التزاحم، فهذا وحده يكفي لثبوت الترخيص بلا حاجة لأن يجعل الشارع
الترخيص، لكن لا مانع من أن نفترض أنّ الشارع يجعل الترخيص، ولو لغرض بيان أنّ ذاك
الواجب أهم من هذا.
الحالة الثالثة التي
هي محل الكلام في هذا التنبيه هي عجز ليس تكوينياً وأيضاً ليس شرعياً، يعني ليس هو
تكوينياً صرفاً ولا هو داخل في باب التزاحم، وإنّما هو عجز بمعنى الضرر والحرج لا
أكثر، وهذا العجز بمعنى أنّه مضطر إلى شرب النجس، لكنّه مضطر إلى شربه بمقدار أنّه
إذا لم يشربه يقع في الحرج والضرر، فهو ليس اضطراراً تكوينياً وليس اضطراراً
داخلاً في باب التزاحم، وإنّما خلاصته هو أنّه إذا لم يشرب هذا النجس سوف يقع في
الحرج والضرر، فيأتي الكلام في أنّ الكلام السابق كلّه بكل خصوصياته وبكل تفاصيله
هل يجري في هذا القسم أيضاً كما هو الحال في حالات العجز التكويني والعجز الشرعي،
أو لا ؟ أو أنّ هذا فيه خصوصية قد يمنع من جريان بعض ما تقدّم فيه ؟