الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

36/03/11

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ الاضطرار إلى بعض الأطراف لا بعينه
 كان الكلام في الرأي الثاني: في مسألة الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي الغير معيّن، وأنّ العلم الإجمالي في هذه الصورة هل ينجّز حرمة المخالفة القطعية، أو لا ؟ الرأي الثاني هو للمحقق العراقي(قدّس سرّه)، وقلنا أنّه يختار التوسّط في التنجيز اشتباهاً؛ والصحيح أنّه يختار التوسّط في التكليف، هو يرى أنّ العلم الإجمالي في المقام يكون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعية، لكن ببيان آخر غير البيان الذي يُذكر في الرأي الثالث، هو يتفّق مع صاحب الكفاية(قدّس سرّه) في المنافاة بين الترخيص التخييري لأجل الاضطرار وبين التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال، ولكنّه يختلف معه في أنّ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) في الرأي الأوّل انتهى إلى نتيجة عدم المنجّزية، بينما هو انتهى إلى نتيجة المنجّزية.
توضيح كلام المحقق العراقي(قدّس سرّه)، هو يقول: المنافاة ثابتة بين الترخيص وبين التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال، لكنّ هذا مبني على القول بأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية كما هو علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية، على هذا القول بالعلّية التامّة هو يقول المنافاة ثابتة؛ لأنّه على العلّية التامّة يستحيل الترخيص في ترك الموافقة القطعية؛ لأنّ العلم الإجمالي المفروض وجوده في المقام  ـــــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــــ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، فكيف يُعقل الترخيص في ترك الموافقة القطعية، هذا غير معقول أصلاً، حتّى لأجل الاضطرار غير معقول، لا يمكن الجمع بين الترخيص وبين التكليف المعلوم المفروض أنّ العلم الإجمالي به علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية.
وبعبارةٍ أخرى: يقول المحقق العراقي(قدّس سرّه)[1] أنّ حكم العقل بناءً على العلّية التامّة لوجوب الموافقة القطعية حكم تنجيزي غير قابل للوضع أو الرفع شرعاً، ولا تناله يد الجعل، لا رفعاً ولا وضعاً، هو غير قابل للتغيير. إذا صار هذا واضحاً بناءً على العلّية التامّة تكون المنافاة واضحة بين الترخيص وبين التكليف المعلوم بالإجمال؛ حينئذٍ يقول: إذا فرضنا ورود الترخيص في ترك الموافقة القطعية، ولو بعنوان الاضطرار كما هو المفروض في محل الكلام؛ لأنّ المفروض أنّ المكلّف اضطر إلى ارتكاب أحد الطرفين، يعني رُخّص له في ارتكاب أحد الطرفين، وهذا الترخيص هو ترخيص في ترك الموافقة القطعية، في هذه الحالة إذا ورد الترخيص، يقول لابدّ ــــــــــــ هذه نقطة مهمّة في كلامه ـــــــــ من رفع اليد عن فعلية التكليف على تقدير انطباقه على مورد الاضطرار؛ لأنّ هذا هو معنى أنّ هناك منافاة بين الترخيص وبين التكليف، فإذا ثبت الترخيص وفُرض أنّ ما اختاره المكلّف لرفع اضطراره كان مصادفاً للحرام الواقعي، يقول هنا لابدّ من رفع اليد عن فعلية التكليف لاستحالة الجمع بين فعلية التكليف وبين الترخيص، ولا يُعقل أن يُرخّص في هذا وفي نفس الوقت يكون حراماً.
فإذن: إذا ورد الترخيص في ارتكاب أحد الطرفين لابدّ من رفع اليد عن فعلية التكليف على تقدير مصادفة الطرف الذي رفع به اضطراره للحرام الواقعي؛ فلا يُعقل أن نقول أنّ الحرمة فعلية؛ بل لابدّ من الالتزام بارتفاع هذه الحرمة الفعلية. ولابدّ من رفع اليد عن فعلية التكليف على تقدير انطباق الاضطرار على مورد التكليف. هذا الكلام في الحقيقة يعني اختصاص فعلية التكليف بصورة عدم المصادفة، التكليف لا يكون فعلياً على تقدير أن يكون ما ارتكبه لرفع اضطراره حرام واقعاً، هنا لابدّ أن ترتفع الحرمة؛ إذ لا يمكن الجمع بين الترخيص وبين الحرمة؛ لأنّه على تقدير أن يكون ما ارتكبه لرفع اضطراره هو النجس الواقعي لابدّ أن نلتزم بارتفاع التكليف وعدم الحرمة؛ لأنّه ثبت فيه الترخيص، فلابدّ من رفع اليد عن فعلية التكليف فيه، فتكون فعلية التكليف مختصّة بحالة عدم المصادفة، يعني إذا كان ما ارتكبه لرفع اضطراره لم يصادف الحرام الواقعي؛ حينئذٍ تكون الحرمة فعلية في الطرف الآخر. يقول: هذا هو مقتضى الالتزام بالعلّية التامّة؛ لأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، فإذا ورد ترخيص، فهذا يعني ارتفاع وجوب الموافقة القطعية، أي رخّص الشارع في ترك الموافقة القطعية، وهذا لا يُعقل على القول بالعلّية التامّة إلاّ إذا رفعنا اليد عن التكليف في صورة مصادفة ما ارتكبه لرفع اضطراره للحرام الواقعي، ونقول في هذه الحالة لا حرمة. نعم، توجد حرمة إذا لم يصادف الحرام الواقعي، يعني يكون الحرام الواقعي في الطرف الآخر، فتكون الحرمة فعلية. يقول: هذا لابدّ من الالتزام به، المنافاة بين التكليف الواقعي وبين الترخيص التخييري لابدّ من الالتزام به كما يقول صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، هناك منافاة بينهما على العلّية التامّة، لكن هذا يتوجّه عليه إشكال، وهذا الإشكال هو أنّه بناءً على هذا الكلام لابدّ من الالتزام بنفس ما التزم به صاحب الكفاية(قدّس سرّه) من عدم المنجّزية، أنّ هذا العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعية؛ لأنّ شرط منجّزية العلم الإجمالي كما تقدّم هو أن يكون علماً بتكليف فعليٍ على كل تقدير، أمّا إذا كان علماً بتكليفٍ فعليٍ على تقدير، لا على تقدير آخر، مثل هذا العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً؛ لأنّه يفقد شرط المنجّزية؛ لأنّه إن صادف ما ارتكبه لرفع اضطراره الحرام الواقعي فلا تكليف، إن كان الحرام الواقعي في هذا الطرف الذي اختاره لرفع اضطراره يرتفع التكليف لمكان الاضطرار والترخيص المنافي للتكليف، وهذا يوجب ارتفاع التكليف. نعم، إن لم يصادف ما ارتكبه لرفع اضطراره الحرام الواقعي يكون التكليف حينئذٍ فعلياً، وهذا تكليف فعلي على تقدير دون تقدير آخر، ومثل هذا العلم الإجمالي الذي لا يكون علماً إجمالياً بتكليفٍ فعليٍ على كل تقدير يسقط عن المنجّزية ولا يكون منجّزاً، فلابدّ أن نلتزم بما التزم به صاحب الكفاية(قدّس سرّه) من عدم المنجّزية.
هو يجيب عن هذا الإشكال: وبهذا يختلف عن صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، هو يقول أنّه يمكن دفع الإشكال عن طريق الالتزام بتقييد التكليف بحال الاجتناب عن الآخر، هذا الشيء الذي يذكره وينتهي به إلى نتيجة التوسّط في التكليف، يقول: نقيّد التكليف بحال الاجتناب عن الآخر، فكأنّ الحرمة الفعلية تختص بحالة عدم المصادفة مع ارتكاب الطرف الآخر، فكأنّه يرى أنّ فعلية التكليف تكون ثابتة في حالة ما إذا اجتنب الطرف الآخر، يعني لم يرفع اضطراره به، وإنّما رفع اضطراره بهذا، وهذا الذي رفع اضطراره به لم يصادف الحرام الواقعي؛ حينئذٍ يكون التكليف فعلياً.
وبعبارةٍ أخرى: إذا لم يصادف ما اختاره لرفع اضطراره الحرام الواقعي يحرم عليه الطرف الآخر، فكل طرفٍ يحرم على المكلّف إذا اجتنبه، يعني لم يرفع اضطراره به ولم يصادف ما رفع به الاضطرار الحرام الواقعي، وبهذا يصل إلى نتيجة أنّ التكليف موجود وثابت، هو يقيّد التكليف بعد أن فرغ عن كون فعلية الحرمة مختصّة بصورة عدم المصادفة؛ لأنّه في صورة المصادفة للحرام لا تكون الحرمة فعلية، هو خصّ هذه الحرمة الفعلية بصورة عدم المصادفة، وإلاّ مع المصادفة لا حرمة، فخصّها بصورة عدم المصادفة. إذن: إذا ارتكب أحد الإناءين لرفع اضطراره ولم يصادف الحرام يحرم عليه الطرف الآخر؛ لأننا إذا فرضنا أنّه رفع اضطراره بأحد الطرفين ولم يرتكب الآخر، فالآخر يكون حراماً عليه، الطرف الذي لم يرتكبه حرام عليه إذا ارتكب الطرف الأوّل لرفع اضطراره ولم يصادف الحرام، فتكون الحرمة حينئذٍ فعلية في الطرف الآخر. هذا التكليف قيّده بقيدٍ آخر، قيّده بصورة الاجتناب عن الآخر، وبقيد عدم ارتكاب الآخر.
وبعبارةٍ أخرى: قيّده بعدم رفع اضطراره بالآخر، وإنّما يرفع اضطراره بأحدهما، إذا رفع اضطراره بأحدهما ولم يصادف الحرام الواقعي، فالتكليف الفعلي يكون ثابتاً؛ وحينئذٍ تكون الحرمة فعلية وثابتة في الطرف الآخر، فيجب عليه اجتنابه ويحرم عليه ارتكابه، وكأنّ كلامه يرجع إلى أنّه يفترض أنّ هناك علماً بحرمةٍ ثابتةٍ في كلٍ من الطرفين إذا لم يصادف الطرف الآخر الذي اختاره لرفع اضطراره الحرام الواقعي، هذا الطرف تثبت فيه حرمة فعلية إذا لم يصادف الآخر الذي رفع اضطراره به الحرام الواقعي، ونفس الكلام يقال في الطرف الآخر، أنّ الحرمة تكون فيه فعليّة إذا لم يصادف ما رفع به اضطراره ــــــــــــ الطرف الأوّل ـــــــــــ الحرام الواقعي، فمرجعه إلى العلم بحرمة فعلية ثابتة في كلٍ من المحتمَلَين، لكن بهذا الشرط، عدم مصادفة ما اختاره لرفع اضطراره للحرام الواقعي مع اجتناب الآخر وعدم ارتكابه، إذا رفع اضطراره بأحد الطرفين فقط ولم يصادف الحرام الواقعي؛ حينئذٍ يكون الآخر حراماً عليه، فتكون الحرمة فعلية في هذه الحالة، وذكر بأنّ مرجع ذلك إلى تكليفٍ توسّطي ــــــــــــ كما عبّر عنه ـــــــــــ بين نفي التكليف رأساً كما هو ظاهر الكفاية؛ لأنّ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) ذكر بأنّ التكليف أصلاً ينتفي؛ لأنّ الترخيص ينافي التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال، ويترتّب على ذلك عدم المنجّزية حتّى لحرمة المخالفة القطعية، أنّ العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً حتّى لحرمة المخالفة القطعية، وبين ثبوت التكليف مطلقاً، يقول أنّ التكليف الذي نختاره هو تكليف توسّطي بين نفي التكليف مطلقاً كما يقول صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، الذي يقتضي عدم المنجّزية حتّى لحرمة المخالفة القطعية وبين ثبوته مطلقاً، الذي يقتضي المنجّزية حتّى لوجوب الموافقة القطعية، يقول هذا تكليف توسّطي يُنتج منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية وسقوط المنجّزية بلحاظ وجوب الموافقة القطعية، أمّا سقوط المنجّزية بلحاظ وجوب الموافقة القطعية، فباعتبار أنّ الترخيص ثابت في أحد الطرفين، بلا إشكال، وأمّا المنجّزية بلحاظ حرمة المخالفة القطعية؛ فلأنّه افترض حرمة كلٍ من المحتملين في حالة معيّنة، فإذا ارتكب أحد الطرفين لرفع اضطراره ولم يصادف الحرام الواقعي، فالآخر حرام، فيحرم عليه فعله، فهو يعلم بحرمةٍ فعلية ثابتةٍ إمّا في هذا الطرف على تقدير أن يرفع اضطراره بالآخر ولا يكون مصادفاً للحرام الواقعي، وأمّا في هذا الطرف على تقدير أن يرفع اضطراره بالطرف الأوّل ولا يكون مصادفاً للحرام، فهذا علم إجمالي يكون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعية.
ثمّ يذكر أنّ هذا هو المقصود، يقول:(لا نعني بالتوسّط في التكليف إلاّ هذا المعنى)، لا نعني بالتوسّط في التكليف أنّ التكليف يكون ثابتاً على تقدير وليس ثابتاً على تقدير، لا نعني بالتوسّط في التكليف هذا المعنى وهو المعنى الذي ذكرناه نقلاً عن المحقق النائيني(قدّس سرّه) في الدرس السابق.
وبعبارةٍ أخرى: أنّ التوسّط في التكليف تارةً يُفسّر بما فسّره المحقق النائيني(قدّس سرّه) في(فوائد الأصول)، وحاصله: أنّ معنى التوسّط في التكليف هو أنّ التكليف يكون ثابتاً على تقدير ولا يكون ثابتاً على تقديرٍ آخر، يكون ثابتاً في حال، ولا يكون ثابتاً في حالٍ آخر. هذا التفسير للتوسّط في التكليف هو الموجود في كلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، فأنّه بالنتيجة يلتزم بأنّ التكليف ثابت على تقدير عدم المصادفة وغير ثابتٍ على تقدير المصادفة، هو يرى أنّه في حالة المصادفة للتكليف الواقعي يرتفع التكليف أساساً. إذن: التكليف يكون ثابتاً في حال ولا يكون ثابتاً في حالٍ آخر، وهذا هو التوسّط في التكليف حسب تعبير المحقق النائيني(قدّس سرّه).
المحقق العراقي(قدّس سرّه) يقول: ليس المقصود بالتوسّط في التكليف هذا المعنى، وإنّما مقصودنا بالتوسّط في التكليف هو المعنى الذي أشرنا إليه، بمعنى أننّا نرفع اليد عن إطلاق التكليف ونقيّده، إذا قيّدنا التكليف؛ حينئذٍ النقص يعرض على التكليف؛ ولذا يكون هناك توسّط في التكليف، المناط هو أنّ النقص عندما يعرض على التكليف، هذا معناه أننّا غيرنا من التكليف وقيّدناه وعرض النقص على التكليف، فيكون توسّطاً في التكليف، مع الالتفات إلى أنّ التوسّط في التكليف بالمعنى الذي طرحه المحقق العراقي(قدّس سرّه) يستلزم التوسّط في التنجيز أيضاً؛ لأنّ التوسّط في التنجيز، بمعنى أنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعية دون وجوب الموافقة القطعية، هذا هو التوسّط في التنجيز، التوسّط في التكليف بالمعنى الذي يقوله المحقق العراقي(قدّس سرّه) ينتج بطبيعة الحال التوسّط في التنجيز؛ لما قلناه من أنّه ينتج سقوط وجوب الموافقة القطعية، والالتزام بحرمة المخالفة القطعية، وهذا توسّط في التنجيز، لكن هذا التوسّط في التنجيز مسبوق بعروض وطرو النقص على نفس التكليف بتقييده بحالة الاجتناب عن الآخر، تقييده بأن يرفع اضطراره بأن يرتكب أحد الطرفين فقط، إذا ارتكب أحد الطرفين ولم يصادف الحرام الواقعي، فالتكليف ثابت، التكليف فعلي لا نرفع اليد عن أصل التكليف؛ إذ لا موجب لذلك؛ لأنّ المنافاة كما ذكر ليست بين أصل الترخيص وبين أصل التكليف، وإنّما المنافاة بين التكليف وبين إطلاق التكليف لما إذا صادف ما رفع به اضطراره الحرام الواقعي، هنا يوجد منافاة بين الترخيص وبين الحرمة في هذا الفرد الذي اختاره لرفع اضطراره وصادف الحرام الواقعي، هنا نرفع اليد عن إطلاق التكليف في هذه الحالة فقط ولا داعي لرفع اليد عن أصل التكليف كما يقول صاحب الكفاية (قدّس سرّه)، نرفع اليد عن إطلاقه لهذه الحالة، فتختص فعلية التكليف بحالة ما إذا لم يصادف ما اختاره لرفع اضطراره الحرام الواقعي واجتنب الآخر، يعني لم يرتكب الآخر لرفع اضطراره، وإنّما اجتنب الآخر؛ حينئذٍ يكون الآخر حراماً، فتكون الحرمة فعلية في هذه الحالة، يقول: هذا هو المراد بالتوسّط في التكليف في محل كلامنا، وهذا هو مقصودنا وهو ينتج كما قلنا التوسّط في التنجيز والالتزام بمنجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية.


[1] نهاية الأفكار، تقرير بحث المحقق العراقي للسيّد البروجردي، ج3، ص352.