الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ الاضطرار إلى بعض الأطراف لا بعينه
كان الكلام في الرأي الأوّل:
في مسألة الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي لا بعينه وهو الرأي الذي ذهب إليه
في الكفاية وهو عدم المنجّزية. قلنا أنّ الكلام في منجّزية هذا العلم الإجمالي
لحرمة المخالفة القطعية، وإلاّ عدم منجّزيته لوجوب الموافقة القطعية واضح، فهل
ينجّز حرمة المخالفة القطعية، أو لا ؟ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) يقول: لا ينجّز حرمة
المخالفة القطعية، فيجوز لهذا المكلّف المضطرّ إلى ارتكاب أحد الطرفين ارتكاب
الطرف الآخر بعد رفع اضطراره بارتكاب الطرف الأوّل، وذكر في مقام الاستدلال على
ذلك أنّ الاضطرار يمنع من العلم بالتكليف الفعلي، باعتبار أنّ الاضطرار يكون
موجباً للترخيص التخييري في أحد الطرفين، وهذا الترخيص ينافي التكليف الواقعي
المعلوم بالإجمال، ويكون افتراض هذا الترخيص مستلزماً لرفع التكليف الواقعي
المعلوم بالإجمال، ومع ارتفاع الحرمة الواقعية؛ حينئذٍ لا يبقى علم إجمالي
بالتكليف الفعلي على كل تقدير؛ لأنّ التكليف على أحد التقديرين يرتفع، التكليف على
تقدير أن يكون متحققاً في الفرد الذي اختاره المكلّف لرفع اضطراره، على تقدير أن
تكون الحرمة ثابتة في ما اختاره المكلّف لرفع اضطراره لا توجد حرمة؛ لأنّها ارتفعت
بسبب الترخيص؛ لأنّ الترخيص ينافي التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال، فإذا ارتفعت
الحرمة على هذا التقدير المكلّف لا يكون عالماً بالتكليف الفعلي على كل تقدير؛
ولذا يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز. نفس الكلام الذي يقوله في الاضطرار إلى
البعض المعيّن يقوله في الاضطرار إلى البعض غير المعيّن، في كلٍ منهما يقول
الاضطرار يستلزم الترخيص، غاية الأمر أنّه يستلزم الترخيص التعييني في المقام
الأوّل، ويستلزم الترخيص التخييري في المقام الثاني الذي هو محل الكلام. هو يقول
كل منهما يستلزم رفع التكليف، الترخيص في المقام الأوّل في الطرف المعيّن إذا اضطر
إلى شرب الماء في المقام الأوّل ترتفع الحرمة ويثبت فيه الترخيص.
إذن: الحرمة
الناشئة من سقوط نجاسة على تقدير أن تكون متحققة في الماء فهي مرتفعة. نعم، على
تقدير أن تكون متحققة في الخل، فهي باقية، فلا علم بالتكليف الفعلي على كل تقدير.
هنا أيضاً نذكر نفس المطلب، غاية الأمر في محل الكلام الترخيص تخييري، لكن هذا
الفرد الذي يختاره لرفع عطشه ثبت فيه الترخيص، وجواز الشرب، هذا الترخيص يتنافى مع
الحرمة على تقدير ثبوتها فيه، فإذن: الحرمة على تقدير ثبوتها في ما اختاره المكلّف
لرفع عطشه لا وجود لها. نعم، على تقدير ثبوتها في الطرف الآخر الذي لم يختاره لرفع
عطشه تكون ثابتة، لكن هذا مجرّد احتمال، وبالنتيجة سوف لن يكون عالماً بالتكليف
الفعلي على كل تقدير، فيسقط العلم الإجمالي عن التنجيز. بالنسبة إلى الترخيص كون
الترخيص ظاهرياً في عبارته، أو واقعياً، قلنا أنّه قد يقال أنّ ظاهر عبارته أنّ
الترخيص واقعي يفترضه حتّى في المقام، فضلاً عن المقام الأوّل، قد يُفهم أنّه
يتكلّم عنهما معاً ويذكر الترخيص فيهما معاً، المقام الأوّل والمقام الثاني، ويقول
أنّ هذا الترخيص الثابت فيهما ينافي التكليف الواقعي ويمنع من فعلية التكليف،
ويمنع من العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير، وقد يُفهم من هذا أنّ
الترخيص الذي يفترضه في محل الكلام هو ترخيص واقعي.
الرأي الآخر يقول لا يمكن أن يكون
مقصوده الترخيص الواقعي في المقام الثاني؛ لأنّ المفروض أن يكون واضحاً حتّى عند
صاحب الكفاية (قدّس سرّه) أنّ الترخيص في المقام ترخيص ظاهري، والسر في ذلك هو أنّ
الترخيص في محل الكلام لم ينشأ من مجرّد الاضطرار، وإنّما هو نشأ من الاضطرار
والجهل.
بعبارةٍ
أخرى:
أنّ الجهل في محل الكلام دخيل في ثبوت الترخيص ولا نريد بالترخيص الظاهري إلاّ ذلك،
أي أن يكون الجهل دخيلاً فيه، بخلاف المقام الأوّل، فأنّ الترخيص لم ينشأ من جهل،
وإنّما نشا من الاضطرار؛ لأنّ هناك كان الاضطرار إلى فردٍ بعينه، هو اضطر إلى شرب
الماء، هذا الاضطرار إلى شرب الماء هو الذي اقتضى ثبوت الترخيص فيه، فالترخيص نشأ
من مجرّد الاضطرار، ولا علاقة للجهل بثبوت الترخيص؛ ولذا يكون الترخيص هناك
ترخيصاً واقعياً، بينما في محل الكلام مجرّد الاضطرار لا يستوجب الترخيص، بدليل
أنّ اضطراره في المقام الثاني الذي هو اضطرار إلى أحد الطرفين لا بعينه لو كان
مقروناً بالعلم بأنّ ما يختاره هو الحرام لا يثبت الترخيص؛ لأنّه بإمكانه أن يرفع
اضطراره بشرب الطرف الآخر. إذن: ثبوت الترخيص في ما يختاره، الجهل دخيل في ثبوته
بدليل أنّه لو لم يكن جاهلاً بالحرام، لو كان عالماً بأنّ هذا الذي أختاره لرفع
عطشه حرام لما جاز له ارتكابه، ولما ثبت فيه الترخيص؛ بل يجب عليه أن يرفع عطشه
بارتكاب الطرف الآخر. إذن: الجهل دخيل في ثبوت الترخيص في ما أختاره، ومن هنا يكون
الترخيص ترخيصاً ظاهرياً وليس ترخيصاً واقعياً.
لتوجيه
كلام صاحب الكفاية (قدّس سرّه) وإثبات عدم المنجّزية حسب رأيه في محل
الكلام على كلا التقديرين، على تقدير أن يكون الترخيص واقعياً، وعلى تقدير أن يكون
الترخيص ظاهرياً، فنقول: على تقدير أن يكون الترخيص واقعياً، فما ذكره يكون
واضحاً؛ لأنّه على تقدير أن يكون الترخيص واقعياً في محل الكلام يكون حاله حال
الترخيص الواقعي في المقام الأوّل، الترخيص الواقعي يكون منافياً للتكليف الواقعي،
فالمنافاة حاصلة، إذن: على تقدير أن يكون الحرام ثابتاً في ما اختاره لرفع عطشه وكان
مرخّصاً له في شربه، هذا الترخيص المفروض أنّه واقعي يتنافى مع الحرمة الواقعية
وموجباً لرفع الحرمة الواقعية؛ لأنّه ترخيص واقعي، هذا الطرف الذي اختاره لرفع
عطشه مرخص فيه ترخيصاً واقعياً، هذا الترخيص الواقعي يستلزم رفع الحرمة الواقعية
على تقدير ثبوتها فيه، فلا حرمة على هذا التقدير، وهذا ينتج أنّه لا يوجد علم
إجمالي بحرمة فعلية على كل تقدير، فيسقط العلم الإجمالي عن التنجيز، هذا إذا كان
الترخيص ترخيصاً واقعياً.
إذا
كان الترخيص ترخيصاً ظاهرياً يمكن توجيه كلام صاحب الكفاية (قدّس
سرّه) بعدم المنجّزية بأن يقال أنّ كلامه مبني على مسلك العلّية التامّة، يعني
مبني على القول بأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، وحرمة
المخالفة القطعية، فإذا قلنا أنّ العلم الإجمالي بالتكليف علّة تامّة لوجوب
الموافقة القطعية، هذا وحده يمنع من الترخيص في بعض الأطراف، لا يمكن الجمع بين العلم
الإجمالي مع فرض كونه علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية وبين الترخيص في بعض
الأطراف، غير ممكن أصلاً؛ لأنّ الترخيص في بعض الأطراف خُلف فرض أنّ العلم
الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، يعني يلزم منه التفكيك بين العلّة والمعلول؛
فحينئذٍ إذا ثبت الترخيص في مورد، فهذا يكشف عن وجود خللٍ في التكليف، وارتفاع
التكليف، وإلاّ كيف يمكن الجمع بين التكليف الواقعي وبين الترخيص في بعض الأطراف
مع افتراض أنّ العلم الإجمالي بالتكليف الواقعي هو علّة تامّة لوجوب الموافقة
القطعية، فعندما يثبت الترخيص نستكشف ونفهم من ذلك انتفاء العلّة التامّة لوجوب
الموافقة القطعية؛ لأنّ ثبوت الترخيص يعني عدم وجوب الموافقة القطعية، يعني ارتفاع
المعلول، وارتفاع المعلول يعني ارتفاع علّته، وبالتالي لا يكون هناك علم إجمالي
منجّزاً؛ لأنّه إن وجد العلم الإجمالي لابدّ من وجوب الموافقة القطعية، ولا يمكن
التفكيك بينهما، وحيث ثبت الترخيص، يعني ثبت عدم وجوب الموافقة القطعية لابدّ أن
يكون العلم الإجمالي أيضاً مرتفعاً، فإذن: لا يكون هناك علم إجمالي منجّز، فلا منجّزية.
فالعلم الإجمالي يدور بين ما إذا كان موجوداً فهو ينجّز وجوب الموافقة القطعية كما
نجّز حرمة المخالفة القطعية، وبين ما إذا لم ينجّز وجوب الموافقة القطعية، فهذا
يعني أنّه غير موجود، وإذا لم يكن موجوداً، فهذا يعني أنّه لا ينجّز حرمة المخالفة
القطعية، لكن هذا على القول بالعلّية التامّة، فيمكن توجيه كلام صاحب الكفاية
(قدّس سرّه) بناءً على القول بالعلّية التامّة.
أمّا
إذا قلنا ـــــــــ في مقام مناقشة صاحب الكفاية (قدّس سرّه) ــــــــــ أنّ
الترخيص في المقام ترخيص ظاهري كما هو الظاهر، لما قلناه من أنّ الجهل دخيل في
ثبوته، فهو ترخيص ظاهري لا ترخيصاً واقعياً. وقلنا بأنّ الصحيح هو مسلك الاقتضاء
لا مسلك العلّية التامّة؛ فحينئذٍ يظهر أنّ كلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه) لا يتم؛
لأنّ كلامه(قدّس سرّه) مبني إمّا على أنّ الترخيص واقعي، أو الالتزام بأنّ الترخيص
ظاهري لكن مع اختيار القول بمسلك العلّية التامّة، وأمّا إذا قلنا بالاقتضاء،
وقلنا بأنّ الترخيص ظاهري لا واقعي؛ حينئذٍ لا منافاة بين الترخيص الظاهري وبين
التكليف الواقعي لما تقدّم في محله في مقام الجمع بين الأحكام الواقعية والأحكام
الظاهرية من أنّه لا توجد منافاة بين التكاليف الواقعية وبين الأحكام الظاهرية،
فليكن هذا الترخيص ترخيصاً ظاهرياً وهو لا ينافي التكليف الواقعي، فلا يكون موجباً
لرفعه حتّى يُنتهى إلى هذه النتيجة التي ذكرها وهو أنّه هنا لا يوجد علم إجمالي
بالتكليف على كل تقدير، نقول هناك علم إجمالي بالتكليف على كل تقدير بالرغم من
ثبوت الترخيص في أحد الطرفين، يبقى العلم الإجمالي بالتكليف على حاله، غاية الأمر
أنّ هذا العلم الإجمالي لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية لمكان الاضطرار، لكن ليس
معناه زوال العلم الإجمالي بالتكليف؛ ليس هناك موجب لرفع الحرمة حتّى في ما اختاره
من الطرفين؛ لأنّ الترخيص ظاهري والترخيص الظاهري لا يتنافى مع التكليف الواقعي،
وإنّما يبقى المكلف عالماً بثبوت الحرمة في أحد الطرفين. غاية الأمر أنّه على
تقدير أن تكون الحرمة ثابتة في هذا الطرف يُرخّص له ترخيصاً ظاهرياً في ارتكابه،
هذا لا يستلزم زوال الحرمة، وبالتالي لا يستلزم ارتفاع العلم الإجمالي بالتكليف على
كل تقدير كما سيأتي توضيحه مفصّلاً. هذا الرأي الأوّل.
الرأي
الثاني:
الرأي الذي اختاره المحقق العراقي(قدّس سرّه)،
[1]
فأنّه يتّفق مع صاحب الكفاية (قدّس سرّه) في دعوى المنافاة بين الترخيص وبين
التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال، يقول الترخيص يتنافى مع التكليف الواقعي
المعلوم بالإجمال؛ لأنّ المحقق العراقي(قدّس سرّه) يبني على مسلك العلّية التامّة،
أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، وبناءً على العلّية
التامّة لا يمكن الترخيص في بعض الأطراف المعيّن وغير المعيّن، وبمجرّد ثبوت
الترخيص في بعض الأطراف هذا يكشف عن ارتفاع التكليف، إذا وجد التكليف يثبت وجوب
الموافقة القطعية، لا ينفك ثبوت التكليف والعلم به عن وجوب الموافقة القطعية، فإذا
ثبت الترخيص وارتفع وجوب الموافقة القطعية هذا يكشف عن عدم التكليف، أي لا يوجد
تكليف في المقام، ومن هنا يكون الترخيص منافياً للتكليف الواقعي المعلوم بالإجمال،
هو يشترك مع صاحب الكفاية(قدّس سرّه) في إثبات هذه المنافاة، ولكنّه يختلف معه في
النتيجة؛ لأنّ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) انتهى إلى عدم المنجّزية، المحقق العراقي(قدّس
سرّه) ينتهي إلى المنجّزية، بالرغم من أنّه يرى أنّ الترخيص منافٍ للتكليف الواقعي
المعلوم بالإجمال، لكنّه مع ذلك ينتهي إلى المنجّزية، والوجه في أنّه ينتهي إلى
هذه النتيجة، أي إلى المنجّزية بالرغم ممّا تقدّم، هو يدّعي أنّ المنافاة التي
وافقنا صاحب الكفاية (قدّس سرّه) عليها هي منافاة من نوعٍ خاص، هي منافاة لا تقتضي
رفع اليد عن التكليف أساساً، وإنّما تقتضي رفع اليد عن إطلاقه، لا عن أصل التكليف،
هكذا يدّعي، أنّ المنافاة ثابتة ولكنّها لا تقتضي رفع اليد عن أصل التكليف كما هو
ظاهر كلام الكفاية، فأنّ ظاهر كلام الكفاية أنّ التكليف اساساً يرتفع؛ ولذا رتّب
عليه هذه النتيجة أنّه لا يبقى علم بالتكليف على كل تقدير، على أحد التقديرين ليس
هناك تكليف. نعم على التقدير الآخر يوجد تكليف، لكنّه تقدير محتمل ليس إلاّ، وليس
هناك علم. هو يقول: المنافاة لا تقتضي رفع اليد عن أصل التكليف حتّى ننتهي إلى نفس
النتيجة التي انتهى إليها صاحب الكفاية(قدّس سرّه) وهي عدم المنجّزية، وإنّما
تقتضي رفع اليد عن إطلاق التكليف لا عن اصله، فنرفع اليد عن إطلاق التكليف، فيثبت
التكليف المقيّد، ويكون المكلّف عالماً بهذا التكليف المقيّد على كل تقدير وهذا
يوجب تنجيز هذا العلم الإجمالي للتكليف المقيّد لحرمة المخالفة القطعية، فالفرق
بينه وبين صاحب الكفاية هو أنّ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) يلتزم بارتفاع أصل
التكليف، في مورد الترخيص يرتفع أصل التكليف، فلا يكون هناك علم بالتكليف الفعلي على
كل تقدير، بينما هو يقول الترخيص لا يوجب المنافاة بين الترخيص والتكليف الواقعي
المعلوم بالإجمال فلا يقتضي رفع اليد عن أصل التكليف، وإنّما يقتضي رفع اليد عن
إطلاق التكليف، فإذا رفعنا اليد عن إطلاق التكليف سوف يثبت تكليف، لكنّه ليس
مطلقاً، وإنّما تكليف مقيّد، هذا التكليف المقيّد هو يعلم به إجمالاً وهذا يستلزم حرمة
المخالفة القطعية.
توضيح
كلامه(قدّس سرّه): هو يقول بأنّ المنافاة هي ليست في الحقيقة بين
الترخيص التخييري وبين أصل التكليف بدليل أنّ الترخيص لا ينافي التكليف على تقدير
عدم مصادفته للحرام الواقعي، يعني هذا الطرف الذي رُخص للمكلّف في ارتكابه الذي هو
في محل الكلام ما يختاره لرفع عطشه. هذا الترخيص على تقدير أن لا يكون الحرام
موجوداً في هذا الفرد الذي اختاره لا يكون منافياً للتكليف الواقعي، وإنّما يكون
الترخيص في هذا الطرف الذي اختاره المكلّف منافياً للتكليف الواقعي على تقدير أن
يكون التكليف الواقعي ثابتاً في هذا الطرف، وأمّا على تقدير عدم المصادفة، على
تقدير أن تكون النجاسة موجودة في الطرف الآخر الذي لم يختره، الترخيص في هذا الطرف
لا يكون منافياً للتكليف الواقعي، هذا دليل على أنّ الترخيص في شرب ما يختاره ليس
منافياً لأصل التكليف، وإنّما هو ينافي إطلاق التكليف لصورة مصادفة الحرام لما
اختاره لرفع عطشه. إذن: المنافاة ليس بين الترخيص وبين أصل التكليف، وإنّما
المنافاة بين الترخيص وبين إطلاق التكليف لصورة المصادفة، الضرورات تقدّر بقدرها،
فنرفع اليد عن إطلاق التكليف بهذا المقدار، فنقول أنّ إطلاق التكليف لا يشمل صورة
المصادفة، وإنّما يختص بصورة عدم المصادفة، فنقيّد التكليف بما إذا لم يصادف
الحرام الواقعي ما يختاره المكلّف لرفع عطشه، فيبقى التكليف المقيّد ولا موجب لرفع
اليد عنه؛ لأنّ الترخيص لا ينافيه، فنلتزم بحرمةٍ مقيّدة، هذا الالتزام بالتكليف
المقيّد يعني أننا بدلاً من أن نقول بالعلم الإجمالي بالحرمة في أحد الطرفين نقول
هناك علم إجمالي بحرمةٍ مقيّدةٍ بعدم المصادفة، هذا نعلم به إجمالاً، وهذا العلم
بهذه الحرمة المقيّدة بعدم المصادفة تنجّز حرمة المخالفة القطعية؛ لأنّه يُحتمل
انطباقها على هذا الطرف، ويُحتمل انطباقها على الطرف الآخر، فهي حرمة مقيّدة،
لكنّه يعلم بثبوتها على كل تقدير، في هذا الطرف مقيّدة بما هي مقيّدة ممكن أن
تنطبق على هذا الطرف بأن يكون هذا الطرف غير مصادف للحرام فتثبت فيه الحرمة،
ويُحتمل انطباقها على الطرف الآخر، بأن يكون الطرف الآخر غير مصادف للحرام؛ فحينئذٍ
تثبت فيه الحرمة. إذن هي حرمة مقيّدة معلومة على كل تقدير، وفعلية على كل تقدير؛
وحينئذٍ تكون موجبة لتنجيز حرمة المخالفة القطعية، وينتهي نتيجة هذا الكلام إلى
حرمة المخالفة القطعية، وتنجيز العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، وإن كان هو
يشترك مع صاحب الكفاية(قدّس سرّه) في إثبات أصل المنافاة. هذا هو الرأي الثاني في
المقام، ونحن هنا في مقام استعراض الآراء فقط.
هذا
الرأي ينتهي إلى نتيجة يُعبّر عنها بــــــ (التوسّط في
التنجيز)، يوجد لدينا اصطلاح(التوسّط في التنجيز) ويوجد اصطلاح آخر هو(التوسّط في
التكليف)، المحقق العراقي(قدّس سرّه) انتهى إلى نتيجة التوسّط في التنجيز، والفرق
بينهما هو أنّ التوسّط في التكليف يعني أنّ التكليف الواقعي يثبت على تقدير ولا
يثبت على تقديرٍ آخرٍ، والتوسّط في التكليف واضح جدّاً في مسألة الاضطرار إلى بعض
الأطراف بعينه؛ لما قلناه سابقاً من أنّ الاضطرار إلى فردٍ معيّن يرفع التكليف
واقعاً كما إذا اضطرّ إلى أكل الميتة، فترتفع الحرمة واقعاً ويثبت الترخيص
الواقعي، فإذا اضطرّ إلى شرب الماء عندما يعلم بنجاسته، أو نجاسة الخل، الخل لا
يرفع عطشه، الماء هو الذي يرفع عطشه واضطر إلى شربه، فيثبت فيه ترخيص واقعي،
وترتفع عنه الحرمة واقعاً، هنا سوف يثبت في هذا العلم الإجمالي التكليف على تقدير،
وعلى تقديرٍ آخرٍ لا تكليف، فيثبت التكليف على تقدير ولا يثبت على تقديرٍ آخرٍ،
على تقدير أن يكون الحرام هو الماء يوجد تكليف، لكن على تقدير أن يكون الحرام هو النجاسة
الساقطة في الخل، فلا تكليف. هذا هو التوسّط في التكليف، النقص يطرأ مباشرةً على
التكليف. وأمّا في الاضطرار إلى غير المعيّن، على هذا المبنى الذي بنا عليه المحقق
العراقي(قدّس سرّه)، هذا لا ينتج التوسط في التكليف كما هو في المقام الأوّل؛ لأنّ
المحقق العراقي(قدّس سرّه) يقول التكليف ثابت على كل تقدير، أصل التكليف لا يرتفع،
غاية الأمر أنّ هذا التكليف لا ينجّز وجوب الموافقة القطعية، وينجّز حرمة المخالفة
القطعية، ومن هنا النقص لا يطرأ على التكليف وإنّما يطرأ على التنجيز، التنجيز
يثبت على تقدير ولا يثبت على تقديرٍ آخر، يثبت في موردٍ ولا يثبت في موردٍ آخرٍ،
تنجيز هذا العلم الإجمالي مع بقاء التكليف على كل تقدير ينتج تنجيز حرمة المخالفة
القطعية ولا يكون منجّزاً لوجوب الموافقة القطعية. هذا التفريق والتبعيض في
التنجيز يُعبّر عنه بالتوسّط في التنجيز.
المحقق
النائيني(قدّس سرّه) في أحد تقريريه يختار هذا الرأي الثاني، يعني يلتزم
بالتوسّط في التنجيز على ما نقله أحد مقررّي بحثه، وكما هو موجود في أجود
التقريرات،
[2]
ويذهب إلى المنجّزية لكن ببيانٍ آخر يختلف عن بيان المحقق العراقي(قدّس سرّه)؛
لأنّ بيان المحقق العراقي(قدّس سرّه) مبني على العلّية التامّة، أمّا المحقق
النائيني(قدّس سرّه)، فلا يقول بالعلّية التامّة وإنّما يقول بالاقتضاء، لكن مع
ذلك هو ينتهي إلى المنجّزية، لكن ببيان آخرٍ، في أجود التقريرات اختار التوسط في
التكليف، وبالتالي المنجّزية، بينما في فوائد الأصول
[3]
اختار القول بالتوسّط في التنجيز.