الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ الاضطرار إلى بعض الأطراف
كان الكلام في الصورة
الثالثة:
وهي ما إذا كان الاضطرار حادثاً بعد التكليف وقبل العلم
الإجمالي. قلنا أنّه قد يقال بالمنجّزية في هذه الصورة ويُستدَل عليها بدليلين،
تقدّم الكلام عن الدليل الأوّل وذكرنا في الدرس السابق الدليل الثاني الذي أشار
إليه السيد الخوئي(قدّس سرّه)، وكان حاصله التمسّك باستصحاب الجامع باعتبار أنّ
التكليف قبل الاضطرار علمنا بحدوثه، ولكنّه مردد بين الفرد الطويل وبين الفرد
القصير، الفرد القصير هو ما إذا كان التكليف حادثاً في الطرف الذي اضطرّ إليه،
فأنّ التكليف يرتفع حينئذٍ، فيكون عمر التكليف قصيراً يرتفع بعروض الاضطرار وبين
الفرد الطويل فيما لو كان التكليف حادثاً في الطرف الآخر الذي لا اضطرار فيه، فيتردد
هذا التكليف الذي علمنا به بين فردين، أحدهما قصير الأمد والآخر طويل الأمد، وهذا
التردد يوجب الشكّ في بقاء هذا الجامع بلا إشكال، بعد الاضطرار يشكّ
المكلّف في بقاء الجامع؛ لأنّه على تقديرٍ يكون الجامع مرتفعاً، وعلى التقدير
الآخر يكون الجامع باقياً، إذن، بالنتيجة هو يشكّ في بقاء الجامع فيستصحب الجامع،
واستصحاب الجامع وإن كان لا يثبت لنا الفرد الطويل؛ لأنّه يكون أصلاً مثبتاً،
لكنّه بالنتيجة يثبت لنا تكليفاً بالجامع، فيحكم العقل بلزوم الفراغ اليقيني عن
هذا التكليف الذي اشتغلت به الذمّة يقيناً ووجب على المكلّف الخروج عن عهدته
يقيناً، وهذا لا يكون إلاّ بامتثال الطرف الآخر، بالنتيجة لا تجري الأصول المؤمّنة
في الطرف الآخر، وهذا هو معنى المنجّزية، فننتهي إلى
نتيجة عدم جريان الأصل المؤمّن في الطرف الآخر. هذا هو الوجه الثاني الذي ذكره
السيد الخوئي(قدّس سرّه). وقد أجبنا عن هذا الوجه في الدرس السابق ولا حاجة إلى
التكرار.
الآن نذكر ما أجاب به السيد
الخوئي(قدّس سرّه): هو ذكر هذا الوجه وأجاب عنه، وحاصل
جوابه هو: أنّ الاستصحاب في المقام لا يجري؛ وذلك لأنّ استصحاب الجامع إنّما يجري
عندما تتعارض الأصول في الأطراف؛ حينئذٍ تنتهي النوبة إلى استصحاب الجامع، فيجري
استصحاب الجامع كما هو الحال في مثال الحدث المردد بين الأكبر والأصغر بعد الوضوء،
فأنّه هنا اصالة عدم كون الحدث أكبر معارضة بأصالة عدم كون الحدث أصغر، فتتعارض
الأصول في الأطراف وتتساقط، وتصل النوبة إلى الاستصحاب، اي استصحاب الجامع، فلا
مانع من استصحاب الجامع. وامّا في محل الكلام، يقول: لا يجري الاستصحاب. هذا هو
جوابه عن الوجه الثاني، لا يجري استصحاب الجامع؛ لأنّه في المقام لا يوجد تعارض
بين الأصول؛ فالأصل قطعاً لا يجري في الطرف الذي اضطر إليه؛ لأننا نعلم بارتفاع
التكليف عنه بسبب الاضطرار، فلاشك في التكليف فيه حتى يجري الأصل المؤمّن.
إذن:
في الطرف الذي اضطر إليه لا يجري الأصل قطعاً، في الطرف الآخر لا مانع من جريان
الأصل، فإذا لم يكن هناك مانع من جريان الأصل، هو يقول؛ حينئذٍ لا تصل النوبة إلى استصحاب
الجامع؛ لأنّ استصحاب الجامع إنّما يتمّ إذا تعارضت الأصول في أطراف العلم
الإجمالي، فتصل النوبة إلى استصحاب الجامع. أمّا إذا لم تتعارض الأصول؛ بل كان
الأصل يجري في أحد الطرفين دون الآخر كما هو في محل الكلام؛ لأنّ الأصل المؤمّن
يجري في الطرف الآخر ولا يجري في الطرف الذي اضطر إليه، في هذه الحالة لا تصل
النوبة إلى الاستصحاب، ويعلّل ذلك بأنّ ـــــــــــ مضمون كلامه ــــــــــ النوبة
لا تصل إلى الاستصحاب؛ بل يقدّم الأصل الجاري النافي للتكليف في الطرف الآخر على استصحاب
الجامع؛ لأنّه يرى أنّ الأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر هو أصل سببي، والأصل
الجاري في استصحاب الجامع أصل مسبّبي، فيكون الأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر
حاكماً ــــــــــ مثلاً ــــــــــ وإن كان لا يصرّح بالحكومة، أصل سببي فيقدّم
على الأصل المسببّي. لماذا يكون الأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر أصلاً سببياً
ويكون الأصل الجاري في استصحاب الجامع أصلاً مسبّبياً ؟ يقول: باعتبار أنّ سبب
الشكّ في بقاء الجامع ومنشأه بعد الاضطرار هو أنّ التكليف هل حدث في الفرد الطويل،
أو لا ؟ بعد ارتفاع الفرد القصير وبعد الاضطرار، بعد ارتفاع التكليف قطعاً في
الفرد القصير، لماذا نشكّ في بقاء الجامع ؟ الشكّ هو من جهة أننا نشكّ في أنّ الحادث
والمعلوم بالإجمال هل هو التكليف في الفرد الطويل، أو لا ؟ إذا كان التكليف في
الفرد الطويل، فالجامع باقٍ، أمّا إذا كان التكليف ليس في الفرد الطويل؛ بل في
الفرد القصير، فالجامع منتفٍ. إذن: السبب في الشكّ في بقاء الجامع هو الشكّ في
حدوث التكليف في الفرد الطويل، فإذا جرى الأصل النافي للتكليف في الفرد الطويل
يكون هذا أصلاً سببياً حاكماً ومقدّماً على استصحاب الجامع؛ ولذا يقول لا تصل
النوبة إلى استصحاب الجامع، وهذا هو الوجه في الجواب، وهذا هو الجواب الصحيح عنده
عن الوجه الثاني. أنّ استصحاب الجامع لا يجري في المقام لوجود أصلٍ حاكمٍ عليه وهو
الأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر؛ لأنّه يجري بلا معارضٍ؛ لأنّ الأصل في الطرف
الذي اضطر إليه لا يجري أصلاً، ليس مجرى للأصل المؤمّن؛ لأننا نقطع بانتفاء
التكليف، فلاشكّ في التكليف فيه حتّى يجري الأصل لنفيه. هذا هو الجواب الذي ذكره.
ويُلاحظ على هذا الجواب
أمران:
الأمر الأوّل: أنّ مسألة السببية والمسببية التي تُفهم من كلامه، أنّ الشكّ في
بقاء الجامع مسببّ عن الشكّ في ثبوت التكليف في الفرد الطويل، هذه السببية
والمسببّية، على تقدير تماميتها والتسليم بها، الظاهر أنّها سببية ومسبّبية عقلية
وليست سببية شرعية، بمعنى أنّ بقاء الجامع بعد ارتفاع الفرد القصير يكون من لوازم
حدوث التكليف في الفرد الطويل، يكون مسببّاً عن حدوث التكليف في الفرد الطويل،
حدوث التكليف في الفرد الطويل لازمه العقلي بقاء الجامع، فهي مسببّية عقلية، وليست
مسببّية شرعية حتّى نقول بأنّ هذا حاكماً على هذا، لو كانت السببّية شرعية؛ حينئذٍ
يمكن أن نقول أنّ الأصل الجاري الحاكم ببقاء الفرد الطويل يمكننا أن نثبت به بقاء
الجامع، والعكس صحيح كما هو في محل كلامنا، أنّ الأصل النافي للفرد الطويل يكون
نافياً لبقاء الجامع، فلا يجري فيه استصحاب الجامع، لكن هذا عندما تكون السببّية
شرعية، أمّا عندما تكون السببّية عقلية، هذا الكلام لا مجال له؛ لأنّ بقاء الجامع ليس
من اللّوازم الشرعية لحدوث الفرد الطويل، وإنّما هو من اللّوازم العقلية للفرد
الطويل، لازم عقلي لحدوث الفرد الطويل، واللّازم العقلي لحدوث الفرد الطويل هو
بقاء الجامع بعد ارتفاع الفرد القصير، فالسببّية عقلية والمسببيّة عقلية لا شرعية،
فلا معنى لأن ننفي الجامع بالأصل النافي لحدوث الفرد الطويل؛ لأنّ هذا إنّما يصح
عندما تكون السببية شرعية، يوجد بينهما سببية شرعية، فإثبات هذا يترتّب على إثبات
هذا الّلازم الشرعي، ونفي هذا يترتّب عليه نفي لازمه الشرعي، أمّا حيث تكون
الملازمة عقلية والسببية عقلية، هذا الكلام لا يكون صحيحاً أصلاً. هذا من جهة.
الملاحظة الثانية: لو تنزلنا وسلّمنا أنّ السببّية شرعية، فهي إنّما تتمّ فيما لو كان
الأصل بحسب لسانه ينفي التكليف في الفرد الطويل كما لو كان الأصل النافي في الفرد
الطويل الحاكم كما هو المدّعى على استصحاب الجامع كان هو الاستصحاب، هذا لسانه
لسان نفي التكليف في الفرد الطويل، هذا يمكن أن نقول أنّه يمكن أن يكون حاكماً على
استصحاب الجامع، أمّا حيث يكون النافي للتكليف في الفرد الطويل هو أصالة البراءة
كما هو في محل الكلام، حيث في محل الكلام ليس لدينا استصحاب يجري لنفي الفرد
الطويل، وإنّما نجري أصالة البراءة؛ لأننا نشكّ في حدوث الفرد الطويل والأصل
البراءة، فتجري فيه أصالة البراءة بلا معارض، أصالة البراءة لسانها ليس لسان نفي
التكليف حتّى تكون حاكمة على استصحاب الجامع حتّى يكون لسانها لسان نفي الموضوع
لهذا الأثر الشرعي، لو سلّمنا أنّه أثر شرعي، فيكون لسانها لسان نفي الموضوع للأثر
الشرعي، وهذا هو معنى الحكومة وهذا يقتضي التقديم. الأصل النافي للتكليف في الفرد
الطويل ليس هو الاستصحاب، ليس لسانه لسان نفي الموضوع، ليس لسانه لسان نفي، وإنّما
هو براءة، ولسانها لسان التأمين ليس أكثر من هذا، فلا معنى لأن يقال أنّ هذا يكون
رافعاً لموضوع الأثر الشرعي؛ لأنّ لسانه ليس لسان نفي الأثر الشرعي، وإنّما لسانها
فقط هو لسان التأمين من ناحية التكليف المحتمل لا نفي التكليف المحتمل حتّى تكون
حاكمة على استصحاب الجامع.
بناءً على هذا الكلام يتبيّن:
أن الصحيح هو عدم جريان الاستصحاب في المقام في حدّ نفسه، أصلاً الاستصحاب في نفسه
لا يجري لا أنّه يجري، ولكن لا نلتزم به لوجود أصلٍ حاكمٍ عليه كما هو الظاهر من
كلام السيد الخوئي(قدّس سرّه)، كأنّه يلتزم بجريان استصحاب الكلّي في المقام،
لكنّه يقول أنّ الأصل الجاري في الطرف الآخر النافي للتكليف فيه يكون مقدّماً على
استصحاب الجامع، فكأنّ المانع من جريان استصحاب الجامع
هو وجود الأصل الحاكم والمقدّم عليه، بينما الصحيح كما عرفنا هو أنّ استصحاب
الجامع في حدّ نفسه لا يجري؛ لما ذكرناه في الدرس السابق من أنّه إن أريد باستصحاب
الجامع إثبات الفرد الطويل، فهذا أصل مثبت، وإن أُريد به إثبات منجّزية الجامع،
قلنا أنّ الجامع لا يقبل التنجيز؛ لأنّه جامع بين ما يقبل التنجيز وبين ما لا يقبل
التنجيز، والجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز لا يقبل التنجيز،
الجامع إذا كان على أحد التقديرين غير قابل للتنجيز لا يكون قابلاً للتنجيز.
ومن هنا يظهر أنّ كلا الوجهين اللّذين استدل بهما على المنجّزية في الصورة الثالثة
غير تام، لا الوجه الأوّل المنسوب إلى المحقق النائيني(قدّس سرّه)، ولا هذا الوجه
الثاني الذي ذكرناه، وإلى هنا يظهر أنّ الصحيح هو عدم المنجّزية في الصورة الثالثة
للدليل المتقدّم الذي ذكرناه وهو أنّ العلم الإجمالي المتأخّر لا ينجّز التكليف
الذي يتعلّق به إلاّ من حين حدوثه لا في وقتٍ سابقٍ على حدوثه، وهذا معناه أنّ
التكليف السابق الذي علم به متأخّراً لا منجّز له؛ لأنّه في السابق لا يوجد علم
ينجّزه، وهذا العلم المتأخّر لا يصلح لتنجيز التكليف في وقتٍ سابقٍ. نعم، العلم
الإجمالي المتأخّر ينجّز التكليف من حين حدوثه، لكنّ العلم الإجمالي في محل الكلام
لمّا كان واقعاً بعد الاضطرار إلى أحد الطرفين بعينه لا يكون منجّزاً للتكليف حتّى
من حين حدوثه؛ لأنّه من حين حدوث هذا العلم الإجمالي أحد الاحتمالين أن النجاسة
وقعت في هذا الطرف الذي اضطرّ إليه، وعلى هذا التقدير لا يوجد تكليف. نعم، على
التقدير الآخر يوجد تكليف، لكنّه مجرّد احتمال. إذن: لا علم بالتكليف حين حدوث العلم
الإجمالي، لا علم بالتكليف على كل تقدير، وإنّما هناك احتمال التكليف، إذن، العلم
الإجمالي المتأخّر لا ينجّز التكليف في وقتٍ سابقٍ، وإنّما ينجّزه من حين حدوثه،
وهو حين حدوثه ليس منجّزاً للتكليف على كل تقدير؛ لأنّه على أحد التقديرين لا يوجد
تكليف، وإنّما يوجد على التقدير الآخر، ولكنّه مجرّد احتمال، فلا يكون مثل هذا العلم
الإجمالي منجّزاً للتكليف في أحد الآنين.
تلخّص من كل ما تقدّم في هذه الصور الثلاث للمقام الأوّل الذي هو الاضطرار إلى بعض الأطراف
بعينه، أنّ الصحيح هو التفصيل بين الصور الثلاث المتقدّمة، فيُلتزم بالمنجّزية
وببقاء العلم الإجمالي منجّزاً فقط في الصورة الثانية من الصور الثلاث المتقدّمة
وهي صورة ما إذا كان الاضطرار متأخّراً عن العلم الإجمالي، علم إجمالاً بسقوط
النجاسة في أحد الشيئين، بعد ذلك اضطر إلى ارتكاب احدهما، هنا على ضوء ما تقدّم
التزمنا بمنجّزية العلم الإجمالي، وقلنا أنّ اثر المنجّزية يظهر في الطرف الآخر،
فأنّ هذه المنجّزية تمنع من إجراء الأصول المؤمّنة في الطرف الآخر.
وأمّا في الصورتين الأولى
والثالثة، فالصحيح هو عدم المنجّزية، الصورة الأولى هي ما إذا كان الاضطرار
متقدّماً على العلم الإجمالي، والصورة الثالثة هي ما إذا كان الاضطرار وسطاً، بعد
التكليف وقبل العلم الإجمالي، تبين أنّ الصحيح في كلتا الصورتين هو عدم المنجّزية.
إذن، نستطيع أن نقول: في جميع صور الاضطرار إلى بعض الأطراف بعينه الصحيح هو عدم المنجّزية
إلاّ في صورة واحدة وهي ما إذا كان الاضطرار بعد العلم الإجمالي، هنا يكون العلم
الإجمالي منجّزاً للتكليف ومانعاً من إجراء الأصول المؤمّنة في الطرف الآخر.
الآن نعود مرّة أخرى إلى
الصورة الثانية، قلنا أنّه على ضوء ما تقدّم أنّ الصحيح فيها هو المنجّزية، وهي
صورة ما إذا كان العلم الإجمالي متقدّماً على الاضطرار، لكن استشكل صاحب
الكفاية(قدّس سرّه) في ذلك على ما تقدّم، حيث نقلنا عنه أنّه يستشكل في ثبوت المنجّزية
في الصورة الثانية، وتقدّم التعرّض على كلامة وتقدّم الجواب عن ما ذكره من دليلٍ
ولا داعي للإعادة. والذي ذكرناه سابقاً في مقام مناقشة صاحب الكفاية(قدّس سرّه) هو
أننّا بيّنّا أنّ العلم الإجمالي بالتكليف حدوثاً يكفي لمنجّزية التكليف وتنجّزه
حتّى إذا زال العلم بعد ذلك، هذه هي النكتة الأساسية في إثبات المنجّزية في الصورة
الثانية، أنّ العلم الإجمالي حينما حدث حدث منجّزاً للتكليف؛ لأنّه حينما حدث لم
يكن هناك اضطرار، وإنّما الاضطرار كان متأخّراً عنه، إذن، هو حينما حدث، حدث
منجّزاً متّصفاً بالمنجّزية، العلم الإجمالي المنجّز حدوثاً يكفي لتنجيز التكليف
حتّى لو زال هذا العلم بعد ذلك، ويزول العلم بعد ذلك بأسباب متعددّة، كأن يزول
بالإتيان بأحد الطرفين، إذا امتثل أحد الطرفين؛ حينئذٍ لا يوجد عنده علم بالتكليف،
إذا اضطرّ إلى أحد الطرفين كما في محل كلامنا لا يوجد علم بالتكليف بقاءً، بعد
الاضطرار إلى أحد الطرفين بعينه لا يستطيع أن يُقسم بالله العلي العظيم أنّه لديه
علم بالتكليف. إذن، لا علم بالتكليف في مرحلة البقاء، بالرغم من زوال العلم
الإجمالي يبقى العلم الإجمالي منجّزاً للتكليف ومانعاً من إجراء الأصل المؤمّن في
الطرف الآخر. هذه هي النكتة التي على ضوئها قلنا بالمنجّزية. أوّل من استشكل في
هذا صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، وبعض المحققين المعاصرين أيضاً استشكل في القول
بالمنجّزية في الصورة الثانية، ولا بأس بالتعرّض إلى ما ذكره من تحقيق، وينتهي هو
إلى نتيجة أنّ المنجّزية ليست ثابتة حتّى في الصورة الثانية، حتّى في صورة تقدّم العلم
الإجمالي على الاضطرار.
حاصل ما ذكره هذا المحقق: أنّ المنجّزية في الصورة الثانية إنّما تتم ويمكن الالتزام بها
بناءً على القول بأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية كما هو
علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية، فبناءً على العلّية التامّة يمكن دعوى المنجّزية
في الصورة الثانية، ولعلّه يتعيّن الالتزام بها في الصورة الثانية. وأمّا على
القول بالاقتضاء، بأنّ العلم الإجمالي مقتضٍ للموافقة القطعية وليس علّة تامّة،
وإنّما العلم الإجمالي ينجّز وجوب الموافقة القطعية باعتبار تعارض الأصول في
الأطراف، أصلاً تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية يدور مدار تعارض
الأصول في الأطراف كما هو مقتضى القول بالاقتضاء، بناءً على القول بالاقتضاء يقول،
يشكل جدّاً الالتزام بالمنجّزية في الصورة الثانية.
توضيح ذلك: بناءً على العلّية التامّة المنجّزية تكون واضحة للدليل السابق
المتقدّم، باعتبار أنّ العلم الإجمالي حينما حدث لم يكن هناك اضطرار ولم يكن هناك
مانع من تنجيزه للتكليف الذي تعلّق به على كل تقدير، فأنّه لا اضطرار إلى أحد
الطرفين بحسب الفرض، فهو عندما حدث نجّز وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّه علّة تامّة
بحسب الفرض لوجوب الموافقة القطعية، صحيح، عند عروض الاضطرار يزول هذا العلم
الإجمالي بقاءً، لكنّه كما تقدّم زوال العلم الإجمالي لا يمنع من تنجيز العلم
الإجمالي للتكليف حين حدوثه وبقائه منجّزاً للتكليف وإن زال بعد ذلك؛ بل قلنا في
ما تقدّم أنّ هذا ثابت حتّى في العلم التفصيلي، فضلاً عن العلم الإجمالي، عندما
يعلم المكلّف بتكليفٍ اشتغلت به ذمّته، وتنجّز عليه، وبعد ذلك شكّ في أنّه هل
امتثله، أو لا ؟ بعد هذا الشكّ في الامتثال هو لا علم له بالتكليف؛ لأنّه يشكّ في
أنّه امتثله، فسقط عنه التكليف، أو لم يمتثله، فالتكليف باقٍ عليه، بالرغم من زوال
العلم التفصيلي في مرحلة البقاء مع ذلك قطعاً ولا أحد يقول بأنّ هذا العلم
التفصيلي يسقط عن المنجّزية، يبقى منجّزاً ويجب على المكلّف الاحتياط والخروج عن
عهدة ذلك التكليف يقيناً. إذن: العلم الإجمالي حينما حدث، إذا قلنا أنّه علّة
تامّة لوجوب الموافقة القطعية يكون قد نجّز وجوب الموافقة القطعية على المكلّف،
وإذا نجّزها، لا يمنع من هذا التنجيز عروض الاضطرار بعد ذلك، وهذا هو الصحيح بناءً
على العلّية التامّة.
وأمّا على القول بالاقتضاء، يعني على القول بأنّ تنجّز التكليف وتنجّز وجوب الموافقة القطعية
على المكلّف هي من شئون تعارض الأصول في الأطراف، إذا تعارضت الأصول في الأطراف؛
حينئذٍ يكون العلم الإجمالي منجّزاً لوجوب الموافقة القطعية، وإذا لم تتعارض
الأصول في الأطراف، فالعلم الإجمالي لا يكون منجّزاً لوجوب الموافقة القطعية، إذا
قلنا بذلك، يقول: حينئذٍ يشكل الالتزام بالمنجّزية إلاّ على احتمال يذكره، وحاصل
ما يذكره هو: أنّ الأصول النافية المؤمّنة مثل أصالة الطهارة وأصالة الحلّية، هذه
الأصول المؤمّنة التي هي محل الكلام في المقام والتي نريد أن نبحث هل يجوز التمسّك
بها في الطرف الآخر، أو لا ؟ هذه الأصول المؤمّنة يوجد فيها احتمالان ثبوتيان:
الاحتمال الأوّل: أن يقال أنّ هذه الأصول المؤمّنة مثل أصالة الطهارة وأصالة الحلّية
تتكفّل الحكم الظاهري بالطهارة، إن كانت اصالة الطهارة، والحكم الظاهري بالحلّية،
إن كانت أصالة الحلّية، حدوثاً وبقاءً. يعني هي عبارة عن حكم واحد وتطبيق واحد،
ولا يوجد أكثر من حكم واحد وتطبيقٍ واحد، غاية الأمر أنّ هذا التطبيق هو في مرحلة
الحدوث والبقاء، هو حكم بالطهارة المستمرة إلى آخره في كل الآنات التي يكون هناك فيها
شكٌّ الذي هو موضوع هذه الأصول المؤمّنة، ليس لدينا أحكام متعددة بعدد الآنات التي
يحصل فيها شكّ، وليس لدينا تطبيقات لأصالة الطهارة متعددّة بعدد الآنات التي يحصل
فيها الشك، وإنّما هناك حكم واحد وتطبيق واحد على الفرد الذي يُشك في طهارته، أو
الفرد الذي يُشك في حلّيته تطبيق واحد، ويحكم عليه بحكمٍ واحد وهو حكم ظاهري
بالطهارة، أو حكم ظاهري بالحل .....وهكذا. إذن: هو حكم واحد وتطبيق واحد ليس إلاّ،
هذا مفاد هذه الأصول المؤمّنة، مفادها حكم واحد وتطبيق واحد.
الاحتمال الثاني: أنّ نقول أنّ مفاد هذه الأصول المؤمّنة أحكام متعددة وتطبيقات
متعددة بعدد الآنات التي يحصل فيها الشكّ، في كل آنٍ يحصل فيه شكّ هناك تطبيق لهذه
الأصول، وحكم ظاهري بالطهارة، أو بالحلّية تدلّ عليه هذه الأصول، أحكام متعددة
وتطبيقات متعددة بعدد الآنات التي يحصل فيها.
يقول: بناءً على الاحتمال الأوّل يتعين الالتزام بالمنجّزية، هنا احتمال
أنّ هناك حكم واحد وتطبيق واحد وهذه الأصول المؤمّنة لا يُفهم منها أحكام متعددة
بعدد الآنات، وإنّما حكم واحد وتطبيق واحد، بناءً على هذا يصح ما ذكرتموه من المنجّزية؛
لأنّه في محل الكلام نقول أنّ العلم الإجمالي حينما حصل، صحيح أنّ العلم الإجمالي
ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية ــــــــــ الكلام بناءً على الاقتضاء
ــــــــــ ولكنّه ينجّز وجوب الموافقة القطعية حينما حدث باعتبار تعارض الأصول؛
لأنّ الأصول متعارضة قبل الاضطرار، حينما حدث العلم الإجمالي الأصول متعارضة في
الطرفين؛ لأنّه ليس هناك اضطرار يمنع من تعارض الأصول، كل طرفٍ فيه قابلية أن يكون
مشمولاً لدليل الأصل المؤمّن، هذا الطرف وذاك الطرف. إذن، تعارضت الأصول في
الأطراف، وهذا يوجب تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية باعتبار تعارض
الأصول.
إذن:
الأصول جرت في الطرفين حين حدوث العلم الإجمالي وتساقطت، بعد ذلك عرض الاضطرار،
القائل بعدم المنجّزية يريد أن يجري الأصل في الطرف الآخر، هو يقول أنّ هذا غير
قابل للجريان، وبناءً على هذا لا يكون قابلاً الطرف الآخر لإجراء الأصل فيه؛ لأنّ
الأصل هو حكم واحد وتطبيق واحد، وقد طُبّق على هذا المورد الذي يُشك فيه في الزمان
السابق، لا يتعدد بتعدد الآنات هو حكم ظاهري بالطهارة مرّة واحدة، وقد طبقناه على
ذاك الطرف كما طبقناه على هذا الطرف قبل حدوث الاضطرار، وكان التطبيق على الطرف
الآخر معارضاً بتطبيقه على هذا، وهذا التعارض يوجب سقوطه، وبعد ذلك من اين نأتي
بأصالة الطهارة، أو اصالة الحلّية لإجرائها في الطرف الآخر بعد حدوث الاضطرار،
فإذن: لا مجال لإجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر بعد حدوث الاضطرار، وهذا معناه
المنجّزية، لكن هذا بناءً على الاحتمال الأوّل، وأمّا إذا قلنا بالاحتمال الثاني
يقول لا مجال للقول بالمنجّزية؛ بل يمكن إجراء الأصل المؤمّن، وينتهي هو إلى نتيجة
عدم المنجّزية، باعتبار أنّه يختار الاحتمال الثاني.