الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

36/02/10

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ الاضطرار إلى بعض الأطراف
 كان الكلام في ما ذكره صاحب الكفاية(قدّس سرّه) في المتنوذهب فيه إلى عدم المنجّزية، يُلاحظ على ما ذكره من النقض ما ذكرناه في الدرس السابق وكان حاصله أنّ التكليف كما يرتفع بالاضطرار كذلك يرتفع بفقدان الموضوع، ويرتفع بخروج الطرف عن محل الابتلاء، ويرتفع أيضاً بامتثال أحد الطرفين، في كل هذه الحالات لا علم بالتكليف، بعد امتثال أحد الطرفين لا يبقى علم بالتكليف، وبعد خروج أحد الأطراف عن محل الابتلاء لا يبقى علم بالتكليف؛ حينئذٍ السؤال هو: إذا كان الكل يشتركون في هذه الجهة، فلماذا لا يكون العلم الإجمالي منجّزاً في موارد الاضطرار، ويكون منجّزاً في موارد فقدان بعض الأطراف، ويكون منجّزاً في موارد خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بعد العلم ؟ كلامنا في الاضطرار بعد العلم الإجمالي، فإذا خرج أحد الأطراف عن محل الابتلاء بعد العلم الإجمالي، أو فُقد أحد الطرفين بعد العلم الإجمالي، هنا لا يلتزم بسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية، وإنّما يلتزم ببقاء العلم الإجمالي على تنجيزه، ويؤثّر تنجيزه في الطرف الآخر، فلماذا يقال هنا ببقاء العلم على التنجيز، بينما يقول في موارد الاضطرار المتأخّر عن العلم الإجمالي بسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز مع أنّه لا ينبغي التفريق بينهما؛ لما قلناه من أنّه لا علم بالتكليف في جميع هذه الموارد، كما لا علم بالتكليف بعد الاضطرار إلى بعض الأطراف المعيّن، كذلك لا علم بالتكليف بعد خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، فالتفريق بينهما يبدو أنّه ليس تامّاً.
الملاحظة الثانية: على أصل الاستدلال الذي ذكره، وكان يعتمد على نكتة أنّه بعد الاضطرار ـــــــــــ كلامنا في ما إذا كان الاضطرار متأخّراً عن العلم الإجمالي ــــــــــــ لا علم بالتكليف؛ لأنّه على تقدير أن تكون النجاسة ـــــــــــ مثلاً ــــــــــــ ساقطة في الطرف الذي اضطر إليه لا تكليف فيه، وإنّما هناك شكٌ في التكليف على تقدير أن تكون النجاسة ساقطة في الطرف الآخر. إذن: حال الاضطرار لا يوجد علم بالتكليف، يزول العلم الإجمالي بالتكليف الذي كان موجوداً سابقاً، وحيث أنّه ذكر أنّ التنجيز إنّما يكون حيث يكون هناك منجّز، أيّ أنّ التنجيز تابعٌ لوجود منجّزٍ كما هو واضح، فإذا ارتفع المنجّز ارتفع التنجيز، والمنجّز في المقام هو العلم الإجمالي وبعد الاضطرار يرتفع العلم الإجمالي؛ لأنّه لا علم بالتكليف، لا يستطيع أن يقول بعد الاضطرار أنا أعلم بوجود تكليفٍ، ويُقسِم على ذلك، وإنّما يحتمل التكليف، فبعد ارتفاع العلم الإجمالي؛ حينئذٍ لا منجّز، فإذا لم يكن هناك منجّز، لا يكون هناك تنجيز، فيسقط العلم الإجمالي عن التنجيز. هذا هو دليله(قدّس سرّه).
والجواب عنه هو: لا يمكن إنكار سقوط التكليف عن الطرف المضطر إليه بسبب الاضطرار، على تقدير أن تكون النجاسة ساقطة في الطرف الذي اضطر إليه، التكليف في هذا الطرف يسقط بلا إشكال، لكن الكلام في أنّ سقوط التكليف بسبب الاضطرار هل يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية، أو لا ؟ هو كأنّه يفترض أنّ هذا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز؛ ولذا ذهب إلى عدم المنجّزية، بينما الصحيح أنّ هذا لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية، والسرّ هو أنّ هذا العلم الإجمالي حين حدوثه حدث منجّزاً للتكليف؛ لأنّه عندما حدث هذا العلم الإجمالي لم يكن هناك اضطرار ــــــــــــ بحسب الفرض ـــــــــــــ لأنّ الاضطرار متأخّرٌ عن العلم الإجمالي، حينما حدث العلم الإجمالي لم يكن هناك اضطرار، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالي حينما حدث، حدث منجّزاً للتكليف، العلم الإجمالي نجّز التكليف في وقته وحين حدوثه، والعلم الإجمالي حينما يحدث منجّزاً للتكليف لا يخرج عن صفة المنجّزية بمجرّد سقوط التكليف بسبب الاضطرار؛ بل يبقى على تنجيزه؛ لأنّه حينما حدث، حدث منجّزاً، وسقوط التكليف بسبب الاضطرار، أو بسبب خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، أو بسبب فقدان بعض الأطراف، وانعدام الموضوع في بعض الأطراف، هذا لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز بعد أن حدث منجِّزاً للتكليف كما قلنا؛ بل يبقى العلم الإجمالي على تنجيزه، والاضطرار المتأخّر عنه لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز، وهذا الأمر طبيعي جدّاً، لو فرضنا أنّ شخصاً نذر أن يصوم أحد يومين ترددّ بينهما، إمّا الخميس، أو الجمعة، فصام الخميس، بعد صومه للخميس لا علم بالتكليف، ليس عنده علم بالتكليف بالصوم؛ لأنّه يحتمل أنّ ما ألزم به نفسه هو صوم يوم الخميس، وقد أدّاه، بعد يوم الخميس لا علم بالتكليف بالصوم، لكن مع ذلك العلم الإجمالي يبقى على تنجيزه؛ لأنّ العلم الإجمالي حينما حدث، حدث منجّزاً، عندما حدث هو نجّز التكليف في كلا الطرفين، وسقوط التكليف في أحدهما بسبب الامتثال، أو العصيان، أو خروجه عن محل الابتلاء، أو بسبب الاضطرار إليه، هذا لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية؛ بل قالوا أنّ هذا ثابت حتّى في العلم التفصيلي بالتكليف، عندما يعلم بأنّ شيئاً معيّناً وجب عليه، بعد ذلك شكّ في امتثاله، أي أنّه شكّ في أنّ هذا الشيء الصادر منه هل يعتبر امتثالاً للتكليف، أو لا يُعدّ امتثالاُ ؟ ومع الشكّ في الامتثال لا يكون هناك علم ببقاء التكليف، إذن، لا علم ببقاء التكليف، لكن بالرغم من هذا العلم التفصيلي يبقى منجّزاً، يعني يطلب من المكلّف الإتيان بذلك الفعل؛ لأنّ العلم عندما حدث نجّز متعلّقه، فتجري قاعدة الاشتغال، هذا التكليف دخل في العُهدة، فلابدّ من التيقن بخروجه عن عهدته، ومن الواضح أنّه إذا ترك الفعل واكتفى باحتمال الامتثال، لا يكون قد تيقّن بالفراغ والخروج عن العهدة مع أنّه لا يقين بالتكليف عند الشكّ في تحقق امتثاله، فالقضية لا تختص بالعلم الإجمالي؛ بل حتّى في موارد العلم التفصيلي، العلم مطلقاً، إجمالياً كان، أو تفصيلياً إذا حدث ونجّز التكليف، فقد تنجّز التكليف في العهدة، فلابدّ من الاحتياط، ولابدّ من الخروج عن عهدته يقيناً، سقوط التكليف بعد ذلك لا يعني زوال المنجّزية عن ذلك العلم الإجمالي.
وبعبارةٍ أخرى: كما ذكر صاحب الكفاية(قدّس سرّه) في حاشيته؛[1] لأننا قلنا أنّه في حاشيته على الكفاية عدل عن ما ذكره في المتن، وذهب إلى المنجّزية، أدخل المقام في باب العلم الإجمالي المرددّ بين الفرد الطويل والفرد القصير؛ حينئذٍ هذا العلم الإجمالي ينجّز كلا الطرفين، بمعنى أنّ هذا المكلّف في محل الكلام يعلم إجمالاً بوجوب الاجتناب عن هذا إلى زمان الاضطرار؛ لأنّ المفروض في محل الكلام أنّ الاضطرار متأخّر عن العلم الإجمالي. فهو يعلم إجمالاً: إمّا بوجوب الاجتناب عن هذا قبل زمان الاضطرار، أو وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر من الآن إلى ما بعد زمان الاضطرار، فالفرد الطويل هو عبارة عن التكليف في الثوب على تقدير أن تكون النجاسة  ساقطة في الثوب، هذا تكليف بالاجتناب عنه من الآن إلى ما بعد زمان الاضطرار إلى الطرف الآخر. والفرد القصير هو أنّه على تقدير أن تكون النجاسة ساقطة في الماء فهو يعلم بوجوب الاجتناب عنه إلى حين حدوث الاضطرار، هو من البداية يعلم إجمالاً بأنّه يجب عليه الاجتناب عن أحد الطرفين، غاية الأمر أنّ أحد الطرفين فردٌ طويلٌ يستمر وجوب الاجتناب عنه من الآن إلى ما بعد الاضطرار، لكن الفرد الآخر وجوب الاجتناب عنه قصير؛ لأنّه يجب الاجتناب عنه إلى ما قبل حصول الاضطرار، أمّا إذا حصل الاضطرار يرتفع وجوب الاجتناب بلا إشكال، هذا علمٌ إجمالي منجّزٌ لكلا طرفيه، والثوب هو أحد الطرفين، وهذا العلم الإجمالي ينجّز وجوب الاجتناب عن الثوب مطلقاً قبل الاضطرار، وبعد الاضطرار، وهذا هو معنى أنّ العلم الإجمالي يكون منجّزاً، أثر التنجيز وبقاء التنجيز يظهر في الطرف الآخر، أنّ الطرف الآخر يجب الاجتناب عنه؛ لأنّ العلم الإجمالي نجّز كلا الطرفين، وكان الثوب هو أحد طرفي العلم الإجمالي، والتكليف الذي يتنجّز فيه هو عبارة عن وجوب الاجتناب من حين العلم الإجمالي إلى ما بعد الاضطرار، فيجب الاجتناب عنه، وهذا هو معنى المنجّزية.
قد يقال في مقام تقريب عدم المنجّزية: بأنّ العلم الإجمالي هذا الذي ذكره صاحب الكفاية(قدّس سرّه) في الحاشية المردد بين القصير وبين الطويل، هذا العلم الإجمالي منحلّ بعلمٍ إجماليٍ بوجوب الاجتناب إمّا عن هذا الطرف، أو عن هذا الطرف قبل الاضطرار، هذا علم إجمالي ليس فيه شكّ، قطعاً قبل الاضطرار يجب عليه الاجتناب إمّا عن الماء، أو عن الثوب؛ لأنّ النجاسة التي علم بها هي إمّا ساقطة في الماء، أو ساقطة في الثوب، فإن كانت ساقطة في الماء فيجب الاجتناب عنها قبل الاضطرار، وإن كانت ساقطة في الثوب أيضاً يجب عليه الاجتناب عنها، وما زاد على ذلك مشكوك، لا يوجد عنده علم إجمالي به، وجوب الاجتناب بعد الاضطرار لا يقين به، وإنّما هو مشكوك؛ لأنّ هذا وجوب الاجتناب إنّما يثبت على تقدير أن تكون النجاسة ساقطة في الثوب، وهذا تقدير مشكوك وغير معلوم، فيكون وجوب الاجتناب في مرحلة ما بعد الاضطرار مشكوكاً لا علم به، فإذن، يكون عندنا علم إجمالي بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفين قبل الاضطرار، وشكّ في وجوب الاجتناب بعد الاضطرار، مثل هذا العلم الإجمالي بهذا الشكل يوجب انحلال العلم الإجمالي المُدّعى في المقام وهو العلم الإجمالي المردد بين الفرد القصير والفرد الطويل، يقال بأنّ هذا العلم الإجمالي ينحلّ بعلمٍ إجماليٍ بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفين في ما قبل الاضطرار، وشكّ في ما زاد على ذلك، وبالنتيجة بعد الانحلال الذي ينجّز هو العلم الإجمالي الذي صوّرناه قبل الاضطرار، ينجّز على المكلّف وجوب الاجتناب عن هذا الطرف قبل الاضطرار، وهذا الطرف قبل الاضطرار، هذا صحيح، لكن بعد الاضطرار لا شيء ينجّز وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر، لا شيء ينجّز وجوب الاجتناب عن الثوب؛ لأنّه لا علم، وإنّما هناك شكٌ في التكليف، فتجري فيه الأصول المؤمّنة، وبذلك انتهينا إلى عدم التنجيز بالمعنى الدقيق؛ لأننا قلنا أنّ التنجيز الذي نتكلّم عنه يظهر أثره في الطرف، العلم الإجمالي الذي صوّره صاحب الكفاية(قدّس سرّه) لو تمّ ولم ينحل، فهو يمنع من استعمال الطرف الآخر؛ لأنّه صوّر علماً إجمالياً دائراً بين الفرد القصير وبين الفرد الطويل المستمر حتّى بعد الاضطرار، إذن، هو يمنع من استعمال الثوب حتّى بعد الاضطرار. هذا الاعتراض يقول أنّ هذا العلم الإجمالي منحلٌ بعلمٍ إجماليٍ بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفين قبل الاضطرار، وشكٌ في وجوب الاجتناب بعد ذلك، فنلتزم بهذا العلم الإجمالي، ونلتزم بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفين قبل الاضطرار، هذا صحيح، لكن بعد الاضطرار لا شيء ينجّز وجوب الاجتناب عن الثوب بعد الاضطرار، وهذا معناه عملياً انحلال العلم الإجمالي وعدم بقائه على التنجيز.
جوابه يكون بهذا الشكل: صحيح أنّ المكلّف يعلم بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفين قبل الاضطرار، لكن يدّعي صاحب الكفاية (قدّس سرّه) لإثبات التنجيز أنّ المكلّف في نفس الوقت يعلم بأنّه يجب عليه الاجتناب إمّا عن هذا الطرف قبل الاضطرار، وإمّا عن ذاك الطرف بعد الاضطرار، فكأنّه صار عنده علمان إجماليان، علم بوجوب الاجتناب عن هذا قبل الاضطرار، وعن هذا قبل الاضطرار، لكن في نفس الوقت عنده علم إجمالي آخر بوجوب الاجتناب عن هذا الماء قبل الاضطرار وعن الثوب بعد الاضطرار؛ لأنّه على تقدير أن تكون النجاسة ساقطة في الثوب، فوجوب الاجتناب لا يختص بفترة ما قبل الاضطرار، وإنّما يستمر من حين العلم الإجمالي إلى ما بعد الاضطرار، على تقدير سقوط النجاسة في الثوب ليس تكليفاً ثابتاً في الثوب فقط في مرحلة ما قبل الاضطرار حتّى نقتصر على العلم الإجمالي الذي أبرزه، وإنّما وجوب الاجتناب كما يثبت في الثوب قبل الاضطرار، كذلك يثبت في الثوب بعد الاضطرار. إذن، يصحّ للمكلّف أن يقول أنّي أعلم إمّا بوجوب الاجتناب عن الماء قبل الاضطرار الذي هو الفرد القصير الذي صوّره صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، وإمّا بوجوب الاجتناب عن الثوب بعد الاضطرار، هذا علم إجمالي صحيح، ينشأ من علمٍ إجمالي بسقوط النجاسة في أحد الأمرين، إمّا الماء أو الثوب، فعزل مرحلة ما بعد الاضطرار بالنسبة إلى الطرف الآخر ليس صحيحاً، والادعاء بأنّها خالية من العلم، وأنّها مجرّد شكّ. كلا، هي ليست شك، وإنّما هي طرف للعلم الإجمالي؛ لأنّه إن كانت النجاسة ساقطة في الثوب كما قلنا، فهي تقتضي وجوب الاجتناب عنه قبل الاضطرار وبعده، فالمكلّف على أحد التقديرين يعلم بوجوب الاجتناب عن الثوب بعد الاضطرار كما يعلم بوجوب الاجتناب عنه قبل الاضطرار، وعلى التقدير الآخر يعلم بوجوب الاجتناب عن الماء قبل الاضطرار، وهذا هو نفس العلم الإجمالي الذي صوّره صاحب الكفاية(قدّس سرّه)، وهو الجواب الصحيح عن أصل الاستدلال، وهو أنّ هناك علماً إجمالياً مردداً بين الفرد القصير وبين الفرد الطويل، وهو ينجّز الفرد الطويل على امتداده، وبذلك يثبت التنجيز. هذه هي الصورة الثانية من الصوّر المتصوّرة في المقام التي كان الاضطرار فيها متأخّراً عن التكليف وعن العلم الإجمالي.
الصورة الثالثة: وهي حالة وسطية بين الصورتين السابقتين، وهي أن يُفترض أنّ الاضطرار حادثٌ بعد التكليف وبعد سبب التكليف، ولكنّه قبل العلم الإجمالي كما إذا فرضنا سقوط نجاسة إمّا في الماء، أو في الثوب، فحدث التكليف، لكنّ المكلّف لم يكن عالماً بسقوط قطرة البول في أحدهما، يعني لم يكن عالماً بحدوث التكليف، ثمّ اضطر المكلّف إلى شرب الماء، ثمّ علم بنجاسة أحدهما: إمّا الماء الذي اضطر إلى شربه، وإمّا الثوب، فيكون العلم الإجمالي بالتكليف متأخّراً زماناً عن الاضطرار المتأخّر زماناً عن أصل التكليف وحدوث سبب التكليف، وهو سقوط قطرة البول.
الكلام يقع في أنّ هذه الصورة الوسطية هل تلحق بالصورة الأولى؛ لكي يثبت فيها عدم التنجيز ؟ أو تُلحق بالصورة الثانية؛ لكي يثبت فيها التنجيز ؟ ذهب بعضهم، ويُنسب إلى المحقق النائيني(قدّس سرّه) في دورته الأولى أنّه ذهب إلى التنجيز، أنّ العلم الإجمالي هنا يكون منجّزاً كما هو الحال في الصورة الثانية المتقدّمة، واستُدلّ على التنجيز في الصورة الثالثة بدليلين، أو أكثر:
الأوّل: ما نُقل عن المحقق النائيني(قدّس سرّه)، وحاصله: أنّ المكلّف يعلم بحدوث تكليفٍ فعلي من البداية؛ لأنّ المفروض في هذه الصورة أنّ المكلّف بعد الاضطرار علم بسقوط النجاسة في أحدهما سابقاً، إذن، المكلّف علم بالنجاسة الحادثة سابقاً المرددة بين الماء والثوب، إذن، المكلّف يعلم بتكليفٍ فعليٍ من أوّل الأمر، قطعاً من البداية هو مكلّف بالاجتناب عن أحد الطرفين؛ لأنّ قطرة الدم، أو البول سقطت في أحدهما، غاية الأمر أنّه لم يكن يعلم بذلك وبعد ذلك علم. هذا العلم بالتكليف الفعلي من أوّل الأمر الذي يحصل في المقام هو أنّه يشكّ في سقوطه بالاضطرار، وهذا الشك بالسقوط ينشأ من أنّ النجاسة إن سقطت في الماء فهذا التكليف يسقط بالاضطرار، وإمّا إن سقطت في الثوب، فهو لا يسقط بالاضطرار. هذا التكليف الذي علم به من البداية بحصول الاضطرار هو يشكّ في سقوطه، إذا لم يحصل الاضطرار لا يحصل الشك، فهذا التكليف موجود وينجّز عليه كلا الطرفين، لكن حيث أنّه اضطر إلى أحدهما المعيّن وهو شرب الماء، فهو يشكّ في سقوط التكليف الفعلي من البداية، ومن الواضح أنّ الشك في سقوط التكليف هو مجرى لأصالة الاشتغال وليس مجرى لأصالة البراءة، هذا ليس شكّاً في التكليف حتّى نجري فيه البراءة، ونقول بعد الاضطرار هناك شك في التكليف، فتجري الأصول المؤمّنة لنفيه، وإنّما هذا شك في سقوط التكليف المعلوم؛ لأنّه علم بالتكليف الفعلي في وقته ومن أوّل الأمر، وشكّ في سقوطه وهو مورد لأصالة الاشتغال؛ وحينئذٍ لابدّ من البناء على الاشتغال، ولابدّ من الاحتياط في الطرف الآخر، وهذا يعني المنجّزية، وهذا يعني أنّ هذا العلم الإجمالي ينجّز الطرف الآخر، فيجب الاجتناب عنه، وإلاّ إذا لم يجتنب عن الطرف الآخر هو لم يخرج يقيناً عن عهدة التكليف المعلوم. هذا التقريب الأوّل للمنجّزية في الصورة الثالثة.
هذا التقريب مبني على افتراض أنّ العلم المتأخّر ينجّز التكليف المتقدّم، كما أنّ العلم المقارن للتكليف ينجّز التكليف كذلك العلم المتأخّر زماناً عن التكليف ينجّز التكليف من أوّل الأمر. هذا الكلام ليس واضحاً؛ لأنّه تقدّم سابقاً أنّ التنجيز حكمٌ عقليٌ وليس حكماً شرعياً، وإنّما العقل يستقل بتنجيز التكليف عندما يتعلّق الحكم به، وقد تقدّم سابقاً أنّ معنى حكم العقل بتنجيز التكليف هو قبح المخالفة والعصيان ولزوم الإطاعة والامتثال، العقل يستقل بأنّ التكليف عندما يتنجّز بالعلم يحكم بلزوم امتثاله ولزوم إطاعته وقبح مخالفته، هذا معنى التنجيز، ومن الواضح أنّ هذا لا معنى له بالنسبة إلى التكليف المتقدّم؛ لأنّ التكليف المتقدّم لا مجال لإطاعته، أو مخالفته الآن حتّى يحكم العقل بقبح مخالفته، هو انتهى في زمانه، والآن لا وجود له، لا معنى لأن يحكم العقل من الآن بقبح مخالفته ولزوم إطاعته وامتثاله، فافتراض أنّ العلم الإجمالي ينجّز التكليف في وقته بحيث يكون التكليف من أوّل الأمر منجّزاً هذا لا وجه له؛ لأنّه مبني على فكرة أنّ العلم الإجمالي المتأخّر ينجّز التكليف المتقدّم، هذا نقوله فيما إذا فرضنا أنّ التكليف السابق انقطع عن الزمان المتأخّر وليس له ذيول باقية في الزمان المتأخّر، أمّا إذا كانت له ذيول؛ فحينئذٍ يمكن افتراض التنجيز، لكن ليس له ذيول، التكليف انتهى في وقته، الآن ليس له تبعات ومتعلّقات في الزمان الحاضر؛ حينئذٍ نقول لا معنى لأن يحكم العقل بمنجّزيته وبلزوم إطاعته وامتثاله، وقبح مخالفته وعصيانه؛ لأنّه لا مجال لذلك في التكليف المتقدّم، وإنّما يكون هذا معقولاً عندما يكون العلم والتنجيز مقارناً للتكليف زماناً. هذا التقريب الأوّل وجوابه.


[1] كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص360، حاشية رقم(1).