الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

36/01/23

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ انحلال العلم الإجمالي
كان الكلام في ما ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) في مقام الجواب عن الإشكال الذي طرحه هو، وكان حاصل الجواب هو: أنّ تقديم الإمارة في محل الكلام على مجموع الأصلين الشرعيين في الطرفين، وإن كان كلٌ منهما داخل في الأحكام الظاهرية، وثابت بالتعبّد الشرعي، هذا التقديم سرّه هو أنّ مجموع الأصلين في الطرفين موضوعهما هو احتمال الطهارة في هذا الطرف، واحتمال الطهارة في ذاك الطرف، وهو يقول أنّ هذا الاحتمال الذي هو موضوع الأصلين تولّد من حجّية البينة، بمعنى أنّ حجّية البينة وقيام البينة الحجّة المعتبرة على نجاسة أحد الإناءين أوجبت تبدّل الاحتمال الأول، أو النوع الأوّل من الاحتمال الذي هو احتمال الطهارة في كلٍ منهما مطلقاً حتّى على تقدير طهارة الآخر، هذا كان موجوداً في الطرفين بقطع النظر عن البيّنة، لكن عندما تقوم البيّنة المعتبرة التي تشهد بنجاسة أحد الإناءين، يعني بعبارة أخرى تشهد بأنّه لا مجال لاحتمال الطهارة في كلٍ منهما حتّى على تقدير طهارة الآخر. هذا لا مجال له حينئذٍ بعد قيام الإمارة؛ لأننا نعلم بنجاسة احد الإناءين، فإذن: لا يمكن أن نحتمل في هذا الطرف الطهارة مطلقاً، وفي ذاك الطرف الطهارة مطلقاً. هذا الاحتمال الذي كان موجوداً بقطع النظر عن قيام الإمارة يتبدّل بسبب قيام الإمارة إلى احتمال الطهارة في هذا الطرف واحتمال الطهارة في هذا الطرف، احتمال الطهارة في هذا الطرف لا على تقدير طهارة الطرف الآخر، واحتمال الطهارة في الطرف الآخر لا على تقدير الطهارة في الطرف الأوّل، يتبدّل إلى الاحتمال الثاني. يقول: هذا النوع الثاني من الاحتمال هو موضوع الأصول الجارية في الأطراف. أصالة الطهارة تجري في هذا الطرف لأنّه يحتمل طهارته، لكن لا يُحتمل طهارته حتّى على تقدير طهارة الطرف الآخر؛ لأنّ هذا الاحتمال ارتفع بقيام البيّنة، وإنّما احتمال الطهارة في هذا الطرف يجري الأصل بلحاظه، واحتمال الطهارة في الطرف الآخر أيضاً يجري الأصل بلحاظه. إذن: موضوع مجموع الأصلين هو وجود الاحتمال من النوع الثاني في كلٍ منهما. هذا النوع الثاني من الاحتمال في الطرفين تولّد بعد فرض حجّية البيّنة، يعني أنّه في طول حجّية البيّنة، وكأنّه لا وجود له لولا حجّية البيّنة، إذا كان كذلك؛ حينئذٍ لا يمكن لمجموع الأصلين أن يعارض البيّنة؛ لأنّه متفرّع على وجود البيّنة وحجّية البيّنة، أساساً وجوده مستمد من حجّية البيّنة، فكيف يمكن أن يكون معارضاً لها. ومن هنا يقول: إطلاق دليل حجّية البيّنة يكون خارج دائرة المعارضة، المعارضة تقع فقط بين الأصل الجاري في هذا الطرف، والأصل الجاري في الطرف الآخر، يتعارضان؛ لأنّه لا يمكن إجراءهما معاً، ولا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر؛ لأنّه بلا مرجّح، فيتعارضان، ويتساقطان، ويسلم لنا دليل حجّية البيّنة، وهذا هو السرّ في تقديم البيّنة على مجموع الأصلين في الطرفين. هذا ما يقوله المحقق العراقي(قدّس سرّه).
هذا البيان يحتاج إلى إثبات الطولية؛ لأنّ نكتة هذا الجواب تعتمد على فرض الطولية بين موضوع الأصلين في الطرفين وبينحجّية البيّنة، وعلى اساس هذه الطولية قال أنّه لا يمكن  لمجموع الأصلين أن يُعارض دليل حجّية البيّنة، فيُعمل بدليل حجّية البيّنة ويرتفع الإشكال.
إذن: عليه إثبات هذه الطولية، أنّ الشكّ من النوع الثاني الذي هو موضوع الأصلين في الطرفين هو في طولحجّية البيّنة، وهذا ممّا لم يبرهن عليه، ولم يذكر شاهداً عليه؛ بل لعلّ الشاهد على خلافه؛ لأننا بالوجدان ندرك أنّ احتمال الطهارة في هذا الطرف ــــــــــــ الاحتمال الساذج ــــــــــ واحتمال الطهارة في هذا الطرف موجود من البداية ومن أوّل الأمر، لا يمكن أن نقول لا وجود له قبل وجود البيّنة، وأنّه نشأ وتولّد بعد فرض قيام البيّنة، كلا ليس هكذا. نعم، غاية ما هناك أنّ البيّنة توجب تبدّل الاحتمال من النوع الأوّل إلى العلم بالنجاسة على تقدير طهارة الآخر، الاحتمال الأوّل هو احتمال طهارة هذا الإناء على تقدير طهارة الآخر، واحتمال طهارة الآخر على تقدير طهارة هذا الإناء، هذا يتبدّل بقيام البيّنة إلى العلم بنجاسة هذا الإناء على تقدير طهارة الآخر؛ لأنّه على تقدير أن يكون الآخر طاهراً لابدّ أن يكون هذا نجساً، وهكذا العكس. هذا صحيح، لكن هذا لا يعني أنّ احتمال الطهارة في هذا الطرف بالفعل، واحتمال الطهارة في ذاك الطرف بالفعل الذي هو النوع الثاني من الشك والاحتمال، والذي هو موضوع جريان الأصلين في الطرفين، أنّ هذا لم يكن له وجود قبل قيام البيّنة، كلا، قبل قيام البيّنة، انظر إلى هذا الطرف اشك في طهارته، وإلى هذا الطرف، اشك في طهارته بالفعل، وعندنا نوع آخر من الشك، وهو أنّي اشك في طهارة هذا على تقدير طهارة هذا. هذا هو الذي يزول بقيام الإمارة، أمّا الشك في طهارة هذا الإناء بالفعل، والشكّ في طهارة ذاك الإناء بالفعل، هذا موجود من بداية الأمر، وليس بينه وبين حجّية البيّنة طولية، فإذا لم يكن بينه وبين حجّية البيّنة طولية، إذن هو في عرض دليل حجّية البيّنة؛ وحينئذٍ يعود الإشكال السابق، وهو أنّ هذه احكام ظاهرية ولا موجب لتقديم بعضها على بعض، فلا موجب لتقديم دليل حجّية البيّنة، أو إطلاق دليل حجّية البيّنة على إطلاق دليل حجّية الأصل العملي. فيعود الإشكال كما كان. تمام النكتة في كلامه هي الطولية، وهي ليست واضحة.
السيد الشهيد(قدّس سرّه) أجاب عن أصل الإشكال بجوابين، أو أكثر:
الجواب الأوّل: جواب مبنائي،[1] يقول أنّ هذا الإشكال اساساً مبني على المبنى المطروح من قِبل مدرسة المحقق النائيني(قدّس سرّه) التي تقول أنّ المجعول في باب الإمارات هو العلمية والطريقية، وأنّ تقديم الإمارة على الأصول العملية إنّما هو بملاك الحكومة والورود؛ حينئذٍ يرد الإشكال السابق بأن يقال: في المقام لا توجد حكومة ولا ورود حتّى نقدّم الإمارة على مجموع الأصلين، الإمارة إنّما تقدم على الأصل بالحكومة والورود، وهذا إنّما يتم في ما إذا كان موضوعهما واحداً، كما إذا كانت الإمارة تجري في نفس مورد الأصل العملي، الإمارة قامت على نجاسة هذا الإناء بعينه وهو مورد للأصل العملي هنا تكون الإمارة مقدّمة على الأصل العملي وحاكمة عليه؛ لأنّ المجعول فيها هو العلمية والطريقية، فتكون الإمارة رافعة لموضوع الأصل العملي الذي هو عبارة عن الشكّ وعدم العلم، يتبدّل الشك وعدم العلم إلى العلم بالتعبّد؛ لأنّ معنى حجّية الإمارة هو جعل العلمية والطريقية، فيكون من قامت عنده الإمارة على نجاسة أحد الإناءين عالماً بالنجاسة تعبّداً، وهذا يوجب ارتفاع الشك الذي هو موضوع الأصل العملي ارتفاعاً تعبّدياً فتثبت الحكومة، أو ارتفاعاً حقيقياً فيثبت الورود.
على كل حال لابدّ من فرض وحدة الموضوع، حتّى بناءً على هذا المبنى القائل بجعل العلمية والطريقية؛ حينئذٍ يكون دليل حجّية الإمارة حاكماً على الأصل العملي ورافعاً لموضوعه بالتعبّد، حاكماً عليه، أو وارداً عليه؛ فحينئذٍ يقال ــــــــــــ الإشكال يقول ـــــــــــ وهذا غير متحقق في محل الكلام؛ لتعدد الموضوع في محل الكلام؛ لأنّ المفروض أنّ الإمارة لم تقم على نجاسة الفرد المعيّن، وإنّما قامت الإمارة على نجاسة الجامع، على نجاسة أحد إناءين. إذن: ما قامت عليه الإمارة غير ما يجري فيه الأصل، الأصل لا يجري في الجامع؛ لأننا لا نريد إجراء الأصل في الجامع، وإنّما نجري أصالة الطهارة في هذا الطرف بعينه، ونجري أصالة الطهارة في هذا الطرف بعينه، بينما الإمارة قامت على ثبوت النجاسة في الجامع، على نجاسة أحد الإناءين، ومع تعدد الموضوع لا حكومة ولا ورود؛ لأنّ دليل حجّية الإمارة لا يوجب العلم التعبّدي بنجاسة هذا الإناء حتّى يوجب رفع موضوع الأصل العملي، لا يوجب رفع العلم التعبّدي بنجاسة هذا الإناء بعينه حتّى يقال لا يجري فيه الأصل لأنّ موضوعه ارتفع بالتعبّد؛ لأنّ الإمارة حاكمة عليه، لا يمكننا قول هذا، هذا إنّما يصح عندما يكون الموضوع واحداً، هو يجري في نفس الطرف الذي نريد إجراء الأصل فيه، وفي هذا الطرف لدينا علم تعبّدي، فيرتفع الشك الذي هو موضوع الأصل العملي، فتتحقق الحكومة، وأمّا عندما يتعدد الموضوع كما في محل الكلام، فلا مجال للحكومة ولا الورود لتعدد الموضوع؛ وحينئذٍ لا معنى لأن يقال أنّه في هذا الطرف بعينه ارتفع موضوع الأصل العملي، كلا لم يرتفع موضوع الأصل العملي، فموضوع الأصل العملي موجود في هذا الطرف بالوجدان، وبالوجدان موضوع الأصل العملي موجود في الطرف الآخر، فإذن: لا توجد في المقام حكومة، فإذا لم تكن الحكومة موجودة؛ حينئذٍ يرد الإشكال: لماذا تقدّمون الإمارة على الأصول العملية الجارية في الأطراف ؟  كلّها أحكام ظاهرية ثبت التعبّد بها من قِبل الشارع ولا مرجّح لدليل حجّية الإمارة على دليل حجّية الأصل العملي، المرجّح إنّما هو التقديم بالحكومة، باعتبار أنّ دليل حجّية الإمارة يرفع موضوع الأصل العملي، وهذا في غير محل الكلام، وأمّا في محل الكلام فلا يمكن الالتزام بذلك، وعليه يعود الإشكال كما تقدّم. على هذا المبنى يتوجّه الإشكال.
يقول(قدّس سرّه): وأمّا على المبنى الآخر الذي يرى أنّ تقديم الإمارة على الأصل العملي ليس بملاك الحكومة والورود، وإنّما هو بملاك الأظهرية، أو الأخصّية، بناءً على هذا المبنى؛ حينئذٍ يرتفع الإشكال؛ لأنّه في تقديم الدليل الأظهر والأخص لا يعتبر وحدة الموضوع، حتّى إذا لم يكن الموضوع واحداً ما دام هناك تعارض وتنافٍ بين الدليلين، إذا كان أحدهما أخص من الآخر يقدّم الأخص حتّى إذا كانا في موضوعين، وإذا كان أحدهما أظهر من الآخر يقدّم الأظهر حتّى إذا كانا في موضوعين، لا يُشترط في تقديم الأظهر على الظاهر، أو الأخص على العام، لا يشترط وحدة الموضوع، المهم أن يكون بينهما تنافٍ وتعارض، فإذا كان أحدهما أظهر يقدّم الأظهر، وإذا كان أحدهما أخص يقدّم الأخص، ملاك تقديم الإمارة على الأصل العملي هو كون الإمارة أظهر، أو كونها أخصّ من دليل الأصل العملي. بناءً على هذا المبنى الذي يُذكر في بحث التعادل والتراجيح حينئذٍ يرتفع الإشكال؛ لأنّه غاية ما يمكن أن يقال في المقام أنّ الموضوع متعدد، أنّ الإمارة قامت على نجاسة أحد الإناءين، قامت على الجامع، بينما الأصل نجريه في أحد الطرفين بعينه، وهذا غير ذاك، هذا صحيح، لكن بينهما تعارض، بين إجراء الأصل في هذا الطرف، وإجراء الأصل في ذاك الطرف، أي بين مجموع الأصلين ـــــــــــ كما سمّيناه ــــــــــ وبين دليل الإمارة يوجد تعارض؛ إذ لا يمكن الالتزام بجريان الجميع، بحيث تكون الإمارة موجودة والأصول العملية تجري في الطرفين؛ لأنّ بينهما تنافٍ، وإذا كان بينهما تنافٍ وفرضنا أنّ دليل الإمارة أخصّ أو أظهر من دليل الأصل العملي، فيقدّم عليه بالأظهرية، أو بالأخصّية؛ وحينئذٍ يرتفع الإشكال؛ لأنّ الإشكال أساساً مبني على ذلك الرأي الذي يرى أنّ التقديم إنّما يكون بملاك الحكومة، أو الورود.
بعد أن قدّمنا دليل حجّية الإمارة على مجموع الأصلين؛حينئذٍ لابدّ من سقوط أحد الأصلين عن الاعتبار؛ لأنّه لا يمكن الالتزام بجريان الأصلين في الطرفين مع الإمارة المعتبرة الحجّة، فإذا قدّمنا دليل حجّية الإمارة بالأخصّية، أو بالأظهرية لابدّ من فرض سقوط أحد الأصلين وحيث لا مرجّح لأحد الأصلين في أحد الطرفين على الآخر، فلابدّ من سقوط كلا الأصلين، ويُعمل حينئذٍ بدليل حجّية البيّنة.
الجواب الثاني: وهو جواب ليس مبنائياً؛ بل يقال به حتّى على تقدير الالتزام بالمبنى الآخر الذي يرى أنّ الملاك هو الحكومة والورود، حاصل هذا الجواب هو: أن يُدّعى أنّ مجموع الأصلين مقيّد عقلاً، أو عقلائياً بعدم العلم بالحكم؛ لأنّه مع العلم بالحكم لا مجال لجعل الأصل العملي، فيكون مقيّداً بعدم العلم بالحكم. نحن علمنا بالحكم الواقعي بواسطة الإمارة المعتبرة الحجّة بناءً على مسلك جعل العلمية والطريقية، علمنا بالحكم الواقعي بالنجاسة ببركة الإمارة المعتبرة، هذا العلم التعبّدي بالنجاسة يكون حاكماً على مجموع الأصلين، ورافعاً لموضوع مجموع الأصلين؛ لأننا افترضنا في البداية أنّ مجموع الأصلين مقيّد عقلاً، أو عقلائياً بعدم العلم بالحكم، الآن أصبحنا ببركة البيّنة عالمين بالحكم، فيرتفع عدم العلم الذي هو موضوع مجموع الأصلين وقيد فيه، فيقدّم دليل حجّية الإمارة على مجموع الأصلين بالحكومة؛ لأنّ دليل حجّية البيّنة يرفع موضوع مجموع الأصلين؛ لأننا فرضنا أنّ مجموع الأصلين مقيّد بعدم العلم بالخلاف عقلاً، أو عقلائياً، والبينّة تورث العلم بالخلاف، وهو مقيّد بعدم العلم بالخلاف؛ فحينئذٍ يرتفع موضوع الأصلين في الطرفين؛ وحينئذٍ يقدّم دليل حجّية البيّنة على اساس الحكومة، وبعد تقديم دليل حجّية البيّنة على مجموع الأصلين لابدّ من فرض سقوط أحد الأصلين عن الاعتبار، وحيث لا مرجّح، فلابدّ من سقوط كلا الأصلين، ويُعمل حينئذٍ بدليل حجّية البيّنة، ويرتفع الإشكال.
ذكر(قدّس سرّه): ملاحظة على هذا الجواب، حاصلها: أنّها تبتني على أنّ هذا القول الموجود في هذا الجواب وهو أننا علمنا بالحكم الواقعي ببركة قيام الإمارة، لابدّ أن يكون المقصود بالعلم بالحكم هو العلم التعبّدي بالحكم الواقعي، وهذا حصل ببركة الإمارة بناءً على مسلك جعل الطريقية والعلمية، فنصبح عالمين تعبّداً بنجاسة أحدهما. لماذا لابدّ أن يكون هذا هو المقصود بالجواب ؟ لأنّه لابدّ من فرض ذلك حتّى يتوجّه الجواب؛ لأنّه حينئذٍ يقال أنّ المجعول هو العلمية والطريقية؛ حينئذٍ يحصل ببركة هذه الإمارة التي جُعلت لها العلمية والطريقية، يحصل علم تعبّدي بالواقع، يعني يحصل علم تعبّدي بنجاسة أحد الإناءين؛ وحينئذٍ يكون هذا العلم التعبّدي بنجاسة أحد الإناءين حاكماً على مجموع الأصلين؛ لأننا فرضنا أنّ مجموع الأصلين قُيّد بعدم العلم بالحكم الواقعي، فيرتفع موضوع الأصل في الطرفين، وبذلك تثبت الحكومة ويتم هذا الجواب السابق. لابدّ أن يكون هذا هو المراد.
أمّا إذا فرضنا أنّ المراد بالعلم في المقام(اصبحنا عالمين بالحكم ببركة الإمارة) المقصود به هو العلم الوجداني بالحكم الظاهري، فهذا لا يتمّ به الجواب؛ لأنّمجموع الأصلين لا ينفي هذا الحكم الظاهري المعلوم في محل الكلام، وإنّما يكون في عرضه، وليس حاله حال ما إذا قامت بينة على نجاسة إناءٍ بعينه، هنا الأصل الذي يجري في ذاك الطرف يكون منافياً للإمارة الدالة على ثبوت النجاسة في ذاك الطرف، أمّا في المقام فالإمارة قامت وهي حجّة، لكنّها توجب العلم الوجداني بالحكم الظاهري، أنا أعلم بأنّ الشارع جعل الحجّية لهذه الإمارة، وأنّ معنى الحجّية هو جعل العلمية والطريقية، أعلم بالحكم الظاهري، هذا حكم ظاهري والمجعول في الأصول أيضاً حكم ظاهري، الذي يوجب الحكومة والتقديم هو العلم بالواقع تعبّداً، فأنّه هو الذي يوجب رفع موضوع الأصل العملي، أمّا العلم الوجداني بالحكم الظاهري، فهذا لا يوجب رفع موضوع الأصل العملي، أنا أعلم تعبّداً بنجاسة أحد الإناءين، هذا لا يوجب رفع الشكّ المتحقق في هذا الطرف، أو الشك المتحقق في هذا الطرف.
وبعبارة أخرى: أنّ هذه الأحكام هي أحكام ظاهرية تجري في عرضٍ واحد، ولا يترتب عليها ما ذُكر من الحكومة أو الورود. على كل حال، المقصود في الجواب هو العلم التعبّدي بالحكم الواقعي، هذا يحصل نتيجة قيام الإمارة؛ وحينئذٍ تُقدّم الإمارة على الأصل العملي.      
بناءً على أنّ المقصود هو العلم التعبّدي بالحكم الواقعي؛ حينئذٍ ذكر في مقام الخدشة في هذا الجواب أنّ الحكومة  المُدّعاة في الجواب الثاني إنّما تتمّ في ما إذا كان دليل الأصل مقيّداً بعدم العلم لفظاً، بأن يكون دليل الأصل مقيّداً بحسب لسان دليله، في هذه الحالة تتمّ الحكومة كما هو الحال في الأصل الذي يجري في مورد قيام البيّنة؛ فحينئذٍ يقال أنّ البيّنة حاكمة على دليل الأصل العملي؛ لأنّ الأصل الذي يجري في هذا الطرف المعيّن الذي هو مورد الإمارة قُيّد بحسب لسان دليله بعدم العلم، أدلّة البراءة، أدلّة أصالة الطهارة، وغيرها من الأصول المؤمّنة، كلّها مقيّدة بعدم العلم في لسان دليلها(حتّى تعلم أنّه قذر) ؛ حينئذٍ تتمّ الحكومة، فيقال: أنّ دليل حجّية البيّنة بناءً على مسلك جعل العلمية والطريقية يكون رافعاً لموضوع دليل الأصل وحاكماً عليه. وأمّا في محل الكلام، يُستشكل في تمامية الحكومة، وذلك باعتبار أنّه في محل الكلام لا نجري الأصل ـــــــــ أصالة الطهارة ــــــــــ في أحد الطرفين المعيّن حتّى نقول أنّ اصالة الطهارة في هذا الطرف هو مفاد أدلّة أصالة الطهارة، ودليل أصالة الطهارة مأخوذ فيه عدم العلم لفظاً، فتثبت الحكومة، في محل الكلام نحن نجعل المعارض للبينّة هو مجموع الأصلين، مجموع الأصلين ليس مقيّداً بعدم العلم لفظاً وإنّما هو مقيّد به لبّاً وروحاً وواقعاً، باعتبار أنّه مع العلم بالواقع لا مجال لإجراء الأصول، أيّ أصولٍ كانت، لا مجال لإجرائها، فقهراً يكون مجموع الأصلين مقيّداً بعدم العلم بالخلاف لبّاً وليس لفظاً، إذا وصلنا إلى هذه النتيجة، أنّ محل الكلام غير ما إذا أردنا إجراء الأصل في نفس الطرف الذي قامت عليه البيّنة، هناك الأصل يجري في ذاك الطرف بأدلّة أصالة الطهارة، وهي مقيّدة بحسب لسان دليلها بعدم العلم بالخلاف، وأمّا في محل الكلام مجموع الأصلين ليس هكذا. مجموع الأصلين مقيد بلا إشكال بعدم العلم بالخلاف، كل أصلٍ هو مقيّد بعدم العلم بالخلاف؛ بل سيأتي أنّه حتّى الإمارة مقيّدة بعدم العلم بالخلاف، لكن هذا القيد لم يؤخذ في لسان الدليل، وإنّما مقيّد به لباً، إذا وصلنا إلى هذه النتيجة؛ حينئذٍ يقال: أنّ المشهور يفرّق بين ما إذا كان عدم العلم بالخلاف أُخذ قيداً في لسان الدليل، وبين ما أُخذ قيداً لبّاً وواقعاً ويلتزم بالحكومة في الأوّل دون الثاني، وعلى هذا الأساس أجابوا عن الإشكال الذي يتوجّه عليهم بأنّه لماذا تقدّمون الإمارة على الاستصحاب ؟ مع أنّ كلاً منهم حكم ظاهري جُعلت فيه الطريقية والعلمية.


[1] مباحث الأصول، تقرير بحث السيد محمد باقر الصدر للسيد كاظم الحائري، ج4، ص178.