الموضوع: الأصول العمليّة / تنبيهات العلم الإجمالي/ انحلال العلم الإجمالي
في الدرس السابق ذكرنا أنّه
يمكن أن يُلاحظ على ما ذكره السيد الشهيد(قدّس سرّه) من أنّه بناء على تفسير الحكم
الظاهري بالتنجيز والتعذير، أو بناءً على تفسيره بأنّه جعل الحكم المماثل؛ حينئذ
قد يستشكل في اقتضاء العلم الإجمالي بالحكم الظاهري ـــــــــــ يعني قيام الإمارة
على نجاسة أحد الإناءين ـــــــــــ وجوب الموافقة القطعية بالبيان الذي ذكره،
وكانت عليه ملاحظتان، الملاحظة الأولى تقدمت وهي منقولة عن المحقق العراقي(قدّس
سرّه).
الملاحظة الثانية: أيضاً
منقولة عن المحقق العراقي(قدّس سرّه)،
[1]
لكن يبدو أنّها من دون تطعيمها بالنكتة التي ذكرت في الملاحظة الأولى، يبدو أنّها
غير تامّة، وحاصل الملاحظة هو: لنقل أنّ الإمارة تنجّز الجامع والتنجيز لا يسري من
الجامع إلى الواقع كما هو مقتضى الملاحظة الأولى، باعتبار أنّ الجامع منظور إليه
كأنّه متحقق ومتعيّن في الخارج، كلا، نفترض أنّ التنجيز يقف على الجامع ولا يسري
إلى الواقع، بالرغم من هذا في الملاحظة الثانية قد قيل نلتزم بوجوب الموافقة
القطعية وتنجيز الطرفين على أساس التمسّك بقاعدة الاشتغال؛ لأنّ الجامع تنجّز
ويحكم العقل بلزوم تفريغ الذمّة عمّا اشتغلت به، ولا يقين بفراغ الذمّة إلاّ
بالاحتياط.
أقول: هذا
من دون تطعيمه بفكرة أنّ الجامع منظور إليه كأنّه متعيّن ومتشخّص في الخارج مفروغ
عن تعيّنه وتشخّصه خارجاً، من دون هذه النكتة قاعدة الاشتغال لوحدها لا تستطيع أن
تثبت وجوب الاحتياط، ووجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ قاعدة الاشتغال تقول يجب إفراغ
الذمّة عمّا اشتغلت به، والذمّة اشتغلت بالجامع لا أكثر، ويكفي في إبراء الذمّة من
جهة الجامع الإتيان بأحد الطرفين، لو فرضنا أنّ الجامع في المقام كالجامع في باب
التكاليف، عندما يتعلّق به التكليف، والجامع عندما يتعلّق به التكليف ينجّز
الجامع، لكن لا إشكال في أنّه يكفي الإتيان بأحد الطرفين ولا تجري قاعدة الاشتغال
لإثبات لزوم الإتيان بجميع الافراد، يكفي الإتيان بطرفٍ واحد، فلو كان الجامع في
محل الكلام من هذا القبيل، قاعدة الاشتغال لا يمكنها إثبات لزوم الإتيان بالطرفين،
لزوم الاحتياط ووجوب الموافقة القطعية، إلاّ إذا طعّمنا ذلك بالنكتة الموجودة في
الطرف الآخر، فيكون هناك وجه آخر بعد فرض أنّ الجامع هو من هذا القبيل، الجامع
المفروغ عن تحققه وتشخصه في الخارج؛ حينئذٍ كأنّ هذا ما يتنجّز هو الواقع كما قلنا
في الملاحظة الأولى؛ وحينئذٍ لابدّ من الاحتياط.
على كل حال، يبدو
أنّه لا ينبغي الإشكال في المنجّزية في المقام ووجوب الموافقة القطعية، سواء كان
الإجمال في طول الإمارة، كما في الفرض الأوّل، أو كان الإجمال في نفس الإمارة كما
في الفرض الثاني، على كلا التقديرين الإمارة تنجّز وجوب الموافقة القطعية.
نعم، هناك بحث اثاره المحقق
العراقي(قدّس سرّه)، وهو أنّه على تقدير كون الإجمال في نفس الإمارة
بأن تشهد الإمارة على نجاسة أحد الإناءين على نحو الترديد. قلنا في ما تقدّم بأنّ
هذه الإمارة حجّة في نفسها وتقتضي وجوب الموافقة القطعية، أي تمنع من إجراء
البراءة في الطرفين، والمقصود بالبراءة التي فرغنا عن عدم جريانها في الطرفين هي
البراءة العقلية، لا تجري البراءة في الطرفين، العلم الإجمالي التعبدّي، العلم
الإجمالي بالحكم الظاهري يمنع من إجراء البراءة في هذا الطرف ويمنع من إجرائها في
هذا الطرف، والمقصود بالبراءة البراءة العقلية.
الكلام يقع في أنّ هذه
الإمارة في محل الكلام، هل تقدّم على الأصول الشرعية الجارية
في الأطراف؟ كما قدّمناها على البراءة العقلية تقدّم على البراءة الشرعية، أو لا ؟
إذا قامت البيّنة على نجاسة إناءٍ معيّن، لا إشكال في أنّها تقدّم على الأصل
الشرعي الجاري في ذلك الإناء، باعتبار أنّ الإمارة حاكمة، أو واردة على الأصل
الشرعي الجاري في ذلك الطرف بعد فرض اتحاد الموضوع، بمعنى أنّ موضوع البيّنة
وموضوع الأصل واحد، وهو هذا الإناء المعيّن، قامت الإمارة على نجاسته؛ حينئذٍ لا
مجال لجريان أصالة الطهارة فيه؛ لأنّ الإمارة تكون حاكمة على الأصل ورافعة لموضوعه،
أمّا أنّه بالحكومة، أو بالورود، فهذه مسألة أخرى، لكن عندما تقوم الإمارة على
نجاسة أحد الإناءين كما في محل الكلام، فهل هذه الإمارة أيضاً تمنع من جريان الأصل
الشرعي في هذا الطرف ؟ والأصل الشرعي في الطرف الآخر، أو لا ؟ هذا محل الكلام.
الإشكال في ذلك صاغه المحقق
العراقي(قدّس سرّه) بهذا البيان: أنّ موضوع الأصل الشرعي في كلٍ من
الطرفين محفوظ، موضوع الأصل هو الشكّ في النجاسة، ما دمت تشك في نجاسة هذا الطرف
هو موضوع لأصالة الطهارة، وتشك أيضاً في ذلك الطرف هو موضوع لأصالة الطهارة، وهذا
الشكّ في النجاسة موجود في الطرفين بالوجدان؛ إذ لا رافع لهذا الشك، لا بالوجدان
هو مرتفع كما هو واضح، ولا هو مرفوع بالتعبد؛ لأنّ الشك إنّما يرتفع بالتعبّد
عندما يتعلّق التعبّد بنفس ذاك المورد، فيكون التعبّد حاكماً على الأصل ورافعاً
لموضوعه، كما قلنا عندما تقوم الإمارة على نجاسة إناء معيّن؛ حينئذٍ تكون رافعة
للشكّ في نجاسته الذي هو موضوع أصالة الطهارة فيه، فيكون الشكّ مرتفعاً في هذا
الطرف بالحكومة، أو بالورود، فإذا ارتفع الشكّ الذي هو موضوع الأصل، فلا يجري
الأصل فيه، لكن عندما يكون الموضوع واحداً لهما، للإمارة وللأصل، لكن عندما يتعدد
الموضوع كما في محل الكلام، الإمارة تدلّ على نجاسة أحد الإناءين، وموضوعها
الجامع، بينما موضوع أصالة الطهارة هو هذا الفرد بخصوصه وهذا الفرد بخصوصه، أصالة
الطهارة موضوعها هذا الطرف بعينه تجري فيه للشك في نجاسته، وذاك الطرف بعينه؛
حينئذٍ لا معنى لأن نقول أنّ الشك في النجاسة في هذا الطرف يرتفع بالتعبد؛ لأنّه
أيّ تعبّد يرفع هذا الشك ؟ ليس لدينا غير الإمارة، والمفروض أنّ الإمارة لا تدل
على نجاسة هذا بعينه حتّى تكون رافعة للشك في النجاسة، وتنقّح موضوع أصالة الطهارة
وتمنع من جريانها، إنّما الإمارة تدل على نجاسة أحدهما، أي نجاسة الجامع، والجامع
غير الفرد، ومن هنا يكون موضوع الأصل الشرعي في كل طرفٍ محفوظاً؛ لأنّ موضوعه الشك
في النجاسة، والشك في النجاسة غير مرتفع لا وجداناً، كما هو واضح، ولا بالتعبّد،
لهذه النكتة التي ذكرناها، وهي أنّ الحكومة والورود الذي هو معنى الرفع التعبّدي
إنّما يُعقل فيما إذا كانا في موضوعٍ واحد، يتواردان على موضوعٍ واحد، أمّا إذا
كان الموضوع متعددّ لهما، فلا مجال للحكومة ولا للورود، وهذا معناه أنّ موضوع
الأصل محفوظ في هذا الطرف، ومحفوظ أيضاً في الطرف الآخر؛ وحينئذ الإشكال يقول لا
مجال لدعوى أنّ دليل حجّية البينة، أو الإمارة يكون مقدّماً على دليل الأصل
بالحكومة أو الورود، لا وجه لهذا التقديم، فإذا لم يكن هناك وجه لتقديم دليل حجّية
الإمارة ؛ لأنّ حجّية الإمارة هي حكم ظاهري شرعي، يعني حالها حال الأصل العملي،
كما أنّ الأصل العملي حكم شرعي ظاهري، حجّية الإمارة أيضاً دليل شرعي ظاهري، فيكون
تعارض بين دليلين شرعيين من دون أن يكون أحدهما حاكماً، أو وارداً على الآخر، وهذا
معناه وقوع التعارض بين دليل حجّية البينة وبين دليل الأصل في كلا الطرفين، فيسقط
الجميع؛ وحينئذٍ يرجع بعد ذلك إلى الأصول المؤمّنة الطولية الموجودة في المقام،
إذا كانت هناك أصول شرعية طولية في طول أصالة الطهارة، وبالتالي لا يثبت عندنا وجوب
الموافقة القطعية؛ لأننا رجعنا إلى الأصول المؤمّنة الطولية بعد تساقط الجميع،
ومعنى التساقط هو أنّ دليل حجّية البينة لا يشمل هذه البينة، ودليل الأصل العملي
لا يشمل كلا الطرفين، وهذا معناه عدم وجوب الموافقة القطعية.
هذا الإشكال أورده في
ما إذا كانت الإمارة تدلّ على نجاسة أحد الإناءين على نحو الترديد، والإشكال يقول:
الإمارة حينئذٍ لا تقتضي وجوب الموافقة القطعية بهذا البيان، باعتبار أنّها معارضة
بدليل الأصل العملي الذي يجري في كلا الطرفين، وقلنا أنّ الأصل العملي في الطرفين
موضوعه محفوظ، ولا رافع لموضوعه كما ذكر.
وذكر المحقق
العراقي(قدّس سرّه) نفسه في مقام تتميم الإشكال، بأنّه لا يُقاس ما نحن فيه على
العلم الوجداني بنجاسة أحد الإناءين، وقال بأنّ هذا الكلام لا يمكن أن نسرّيه إلى
العلم الوجداني بنجاسة أحد الإناءين بحيث ينتج عدم وجوب الموافقة القطعية في موارد
العلم الوجداني بنجاسة أحد الإناءين، لا يمكن تسريته إلى ذلك، وهذا الإشكال يختص
بقيام الإمارة على نجاسة أحد الإناءين، ولا يسري إلى موارد العلم الوجداني بنجاسة
أحد الإناءين، وذلك باعتبار أنّ العلم الإجمالي حجّيته ذاتية وكاشفيته ذاتية، هو
يكون كاشفاً تامّاً عن الواقع ذاتاً بلا حاجة إلى تعبّدٍ من قبل الشارع، ويكون
حجّة على ثبوت التكليف؛ حينئذٍ بحكم العقل يكون هذا مانعاً من ورود الترخيص على
خلافه؛ لأن هذا العلم الوجداني طريق إلى الواقع بذاته، ويكون حجّة ذاتية لإثبات
التكليف؛ حينئذٍ العقل يقول يمتنع الترخيص على خلافه، وهذا معناه استحالة جريان
الأصول في الأطراف؛ لأنّ العلم حجّة على التكليف، وحجّة بذاته، وحجّة عقلاً والعقل
هنا يحكم باستحالة جعل الترخيص المخالف له. وهذا بخلاف البيّنة التي نتكلّم عنها،
من الواضح أنّ حجّيتها ليست ذاتية، طريقيتها وكشفها عن التكليف الذي تخبر عنه ليست
ذاتية كما هو واضح، وإنّما هي شرعية، أي بالتعبّد الشرعي صارت حجّة، وصارت طريقاً
لإثبات التكليف بالتعبّد الشرعي لا أنّها تكون كاشفة ذاتاً، كيف تكون كاشفة ذاتاً
والحال أنّه يحتمل فيها الخلاف، ويحتمل عدم المصادفة للواقع ؟! هذا معناه أنّ
حجّيتها ليست ذاتية وهذا واضح، وإنّما تكون حجّيتها بمعونة الجعل الشرعي والتعبّد
الشرعي بها، تكون طريقاً كاشفاً مثبتاً للتكليف على اساس التعبّد الشرعي والجعل
الشرعي؛ وحينئذٍ إذا فرضنا ذلك، يقول: حينئذٍ لا فرق في الحقيقة بين الإمارة
والأصل في أنّ كلاً منهما مجعول شرعي ظاهري حصل التعارض بينهما من دون أن يكون
أحدهما حاكماً على الآخر كما أثبت سابقاً أنّ الإمارة ليست حاكمة على الأصل في
الطرفين؛ لأنّ موضوع الأصل في الطرفين هو غير موضوع الإمارة، موضوع الإمارة هو
الجامع ـــــــــــ بحسب الفرض، ونحن نتكلّم في الفرض الثاني ــــــــــــ بينما
موضوع الأصل هو هذا الطرف بعينه، وذاك الطرف بعينه، فالحكومة لا وجه لها، والورود
لا وجه له، فيكون موضوع الشكّ محفوظاً في كلٍ من الطرفين؛ وحينئذٍ يجري الأصل في
كلٍ من الطرفين، هذا تعبّد شرعي، والإمارة أيضاً تعبّد شرعي، الإمارة التي تثبت
التكليف والنجاسة في أحد الطرفين تعبّد شرعي، الأصل الذي يثبت الطهارة في هذا
الطرف باعتبار تحقق موضوعه أيضاً تعبّد شرعي، وقع التعارض بينهما ولا موجب لتقديم
أحدهما على الآخر، فتتساقط، هذه كلّها تسقط؛ وحينئذٍ نرجع إلى الأصول المؤمّنة،
وهذا معناه عدم وجوب الموافقة القطعية. يقول: لا يمكن إجراء هذا الكلام في موارد العلم
الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين؛ لأن العلم حجّيته ذاتية وطريقيته ذاتية، والعقل هنا
يحكم بأنّ هذا يمنع من جريان الأصول في الأطراف لاستحالة الترخيص في مخالفة
التكليف الذي كشف عنه ما هو حجّة بذاته وحجّة عقلاً، بينما في المقام ليس هناك أحكام
ظاهرية تتعارض في ما بينها من دون أن يكون واحد منها مقدّماً على الآخر بحكومةٍ،
أو ورود. هذا هو الإشكال الذي أورده المحقق العراقي(قدّس سرّه) على الالتزام بوجوب
الموافقة القطعية في الفرض الثاني.
ثمّ أنّ المحقق
العراقي(قدّس سرّه) أجاب عن هذا الإشكال، بيان جوابه عنه: في محل الكلام يوجد
عندنا نوعان من الاحتمال،
النوع الأوّل: احتمال
طهارة كل طرفٍ من الطرفين مطلقاً، اي احتمال الطهارة المطلقة، احتمال طهارة هذا
الإناء حتّى على تقدير طهارة الإناء الآخر، وكذا العكس احتمال طهارة الإناء الآخر
مطلقاً، أي حتّى على احتمال طهارة الإناء الأوّل. هنا عندما نريد أن نجري أصالة
الطهارة بلحاظ هذا الاحتمال لغرض إثبات الطهارة في هذا الطرف، والطهارة المطلقة في
الطرف الآخر. هذا الأصل الذي يُراد إجراءه في الطرفين لإثبات الطهارة المطلقة، هذا
بلا إشكال لا يمكن، هذا يكون محكوماً للبينة؛ لأنّ البينة هي صحيح بمدلولها
المطابقي قامت على نجاسة أحد الإناءين، لكن مدلولها الالتزامي الذي هو حجّة أيضاً
في باب الإمارات، مدلولها الالتزامي هي تشهد بنجاسة هذا الطرف على تقدير طهارة
الطرف الاخر، ونجاسة الطرف الآخر على تقدير طهارة الطرف الأوّل، هذا مدلول التزامي
للبينة التي تقول بنجاسة أحد الإناءين، فعلى تقدير أن يكون ذاك الإناء طاهراً
لابدّ أن يكون هذا الإناء نجساً، فكيف يمكن أن نثبت طهارة هذا الإناء حتّى على
تقدير طهارة الإناء الأخر؟! إثبات طهارة هذا الإناء حتّى على تقدير طهارة الإناء
الآخر، وهكذا العكس، يعني إثبات طهارة كلٍ من الطرفين حتّى على تقدير طهارة الآخر،
لا يمكن الالتزام به؛ لأنّ دليل حجّية الإمارة يدل على أنّه على تقدير طهارة أحد
الإناءين لابدّ أن يكون الآخر نجساً. إذن، هي تشهد بنجاسة هذا الطرف على تقدير
طهارة الثاني، وهكذا تشهد بنجاسة الثاني على تقدير طهارة الأول، وهذا معناه أنّ
إجراء أصالة الطهارة بلحاظ الاحتمال الأوّل الذي ذكرناه، يعني إثبات الطهارة
المطلقة في كلٍ من الطرفين يكون محكوماً بدليل حجّية البيّنة، ويمنع من إجراء
الأصل في الطرفين لإثبات الطهارة المطلقة فيها، فلا مجال لجريان الأصل وهذا ينبغي
أن يكون واضحاً، ويقول هذا نظير قيام الإمارة على نجاسة إناء معين، فأنّ هذا أيضا
يمنع من جريان أصالة الطهارة في ذاك الطرف؛ لأنّه منافٍ للإمارة، وبعبارة
أخرى: لأنّ الإمارة تعبّدنا بأنّ هذا نجس، إذا عبّدتنا بأنّ هذا نجس؛ فحينئذٍ لا
مجال لجريان البراءة، فيرتفع موضوع قاعدة الطهارة، ما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ
الإمارة عندما جعل الشارع الحجّية لها، عبّدنا بمداليلها المطابقيىة والالتزامية
بنجاسة هذا الطرف على تقدير أن يكون الآخر طاهراً، وعبّدنا بنجاسة ذاك على تقدير
أن يكون الأوّل طاهراً، عبّدنا بنجاسته على تقدير طهارة ذاك، فكيف نلتزم بأنّ
الأصل يجري ؟ ليس لدينا هكذا شك حينئذٍ، الشكّ الذي يجري الأصل بلحاظه يكون
مرتفعاً باعتبار الإمارة، فتكون الإمارة حاكمة على هذا الأصل في الطرفين، فتكون
رافعة للشكّ والاحتمال الذي هو موضوع هذا الأصل في الطرفين.
النحو الثاني من الاحتمال: هو
احتمال الطهارة في كل واحدٍ منهما بدلاً عن الآخر، وليس حتّى على تقدير طهارة
الآخر، وإنّما احتمل طهارة هذا الإناء بدلاً عن الآخر، وطهارة هذا بدلاً عن هذا،
يعني احتمل طهارة كلٍ منهما على تقدير أن لا تكون الطهارة ثابتة في الطرف الآخر.
وهذا الاحتمال لا مشكلة فيه، هذا ليس محكوماً بدليل حجّية البينّة؛ لأنّ البيّنة
تشهد بالجامع، هي تقول أحد الإناءين نجس، نجاسة أحد الإناءين لا تنفي وجود هذا
الاحتمال في كلٍ من الطرفين، فإذن: لا يكون دليل حجّية الإمارة حاكماً على الأصل
في الطرفين بهذا اللحاظ، إجراء الأصل في الطرفين لإثبات الطهارة المشروطة والمقيدة
بعدم ثبوتها في الطرف الآخر، إجراء الأصل في الطهارة على تقدير عدم ثبوت الطهارة
في الآخر؛ حينئذٍ هذا لا يكون مانعاً منه، فيمكن أن يجري الأصل في الطرفين من دون
يكون محكوماً لدليل حجّية البيّنة، يقول: هذا الاحتمال الثاني هو مورد الإشكال،
الإشكال يقول: لماذا نقدم دليل حجّية الإمارة على دليل الأصل ؟ موضوع الأصل العملي
محفوظ في كلٍ من الطرفين؛ لأنّ موضوع الأصل العملي هو الشكّ في النجاسة، أو قل
بعبارةٍ أخرى: احتمال الطهارة، لكن احتمال الطهارة الذي هو موضوع الأصل العملي في
الإشكال ليس هو احتمال الطهارة حتّى على تقدير طهارة الآخر، وإنّما هو احتمال
الطهارة على نحو البدل، هذا هو موضوعه، وهذا هو الذي توجّه عليه الإشكال، فقيل:
أنّ موضوع الأصل محفوظ في كل من الطرفين من دون حكومة؛ فحينئذٍ يكون معارضاً لدليل
حجّية البيّنة، وبعد التعارض من دون افتراض تقديم يسقط الجميع. هذا هو الإشكال.
المحقق العراقي(قدّس سرّه) جاوب
عن هذا الإشكال، يقول هنا يستحيل أن يكون دليل الأصل معارضاً لدليل الإمارة؛ لأنّه
يقول: أنّ هذا الاحتمال الذي هو الاحتمال الثاني إنّما تولّد نتيجةً لقيام البيّنة،
هو في طول قيام البيّنة، يعني نحن في البداية بقطع النظر عن البيّنة كان عندنا
الشك من النحو الأوّل، إذا لم تكن هناك بينة نحتمل طهارة هذا على كل تقدير، حتّى
على تقدير طهارة الآخر، واحتمال طهارة الآخر. هذا الاحتمال الأوّل.
إذن:
بقطع النظر عن البينة كان الاحتمال الأوّل هو الموجود، جاءت البينة رفعت هذا
الاحتمال وتولد نتيجة لذلك الاحتمال الثاني، وهو احتمال الطهارة على نحو البدل في
هذا، واحتمال الطهارة على نحو البدل في الآخر. إذن، هذا الاحتمال الثاني الذي هو
موضوع الأصل العملي هو في طول قيام البيّنة، فيستحيل أن يكون معارضاً لها. إذا هو
في طولها ومترتّب عليها، ومترتّب على قيام البينّة وحجيّة البينة، إذن، كيف يكون
معارضاً لها ؟! فلا يُعقل أن يعارض دليل حجّية البيّنة وبالتالي الذي يجري هو دليل
حجّية البينة ويقدّم على دليل الأصل، وبذلك نثبت المنجّزية ووجوب الموافقة القطعية.