الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

35/11/27

بسم الله الرحمن الرحیم

 الموضوع: الأصول العمليّة /تنبيهات العلم الإجمالي/انحلال العلم الإجمالي
كان الكلام في الانحلال الحقيقي تعبّداً بالإمارات والأصول: ذكرنا الوجه الذي على اساسه قيل بالانحلال الحقيقي تعبّداً بالإمارات والأصول، وانتهى الكلام إلى مناقشته.
يُضاف إلى ما ذكرناه في الدرس السابقأنّ التعبّد بالانحلال الحقيقي المُدّعى في المقام لعلّه لا فائدة فيه، فيناقش من هذه الزاوية، أنّ التعبّد بالانحلال في محل الكلام عندما يكون هناك علم إجمالي، وتقوم إمارة في أحد الطرفين بعينه، فيعبّدنا الشارع بالانحلال الحقيقي، باعتبار أنّه نزّل الإمارة منزلة العلم، أو اعتبر الإمارة علماً.
نقول: هذا لا فائدة فيه، ولا تترتّب عليه ثمرة، التعبّد بالانحلال الحقيقي في المقام لا تترتّب عليه ثمرة؛ لأنّه إن كان الغرض من التعبّد بالانحلال الحقيقي هو إثبات التأمين في الطرف الآخر بلا حاجة إلى إجراء الأصل المؤمّن فيه، يثبت التأمين في الطرف الآخر بمجرّد التعبّد بالانحلال بلا حاجة إلى إجراء الأصل المؤمّن فيه، فإذا كان هذا هو الغرض من التعبّد بالانحلال، فهذا غير صحيح؛ لأنّ أيّ شبهة وأيّ شك يحتاج إلى مؤمّن، مجرّد التعبّد بانحلال العلم الإجمالي حقيقة لا يغنينا عن إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر.
بعبارةٍ أخرى: أنّ الطرف الآخر ما دام شبهةً، فهو يحتاج إلى مؤمّنٍ، عقلي، أو شرعي، بالنتيجة يحتاج إلى مؤمّن، أمّا مجرّد التعبّد بالانحلال الحقيقي لا يرفع الحاجة إلى إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر.
وأمّا إذا كان الغرض من التعبّد بالانحلال الحقيقي هو التمهيد لإجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر، بمعنى أنّه يساعد على إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر، بحيث أنّ المكلّف لولا التعبّد بالانحلال الحقيقي لا يتمكّن من إجراء الأصل في الطرف الآخر، إذا كان هذا هو الغرض فهذا في الحقيقة يحصل تمكّن من إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر ولا يتوقّف على إثبات الانحلال الحقيقي تعبّداً، التمكّن من إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر هو فرع زوال المعارضة، والمكلّف يتمكن من إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر إذا لم يكن له معارض في هذا الطرف، وهذا ثابت بقطع النظر عن الانحلال الحقيقي تعبّداً؛ لأنّ مورد الإمارة المثبتة للتكليف لا يجري فيها الأصل المؤمّن، فيجري الأصل المؤمّن بلا معارضٍ في الطرف الآخر، ولا يتوقّف التمكّن من إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر إلاّ على عدم المعارض في الطرف الأوّل، والمفروض في محل كلامنا عدم المعارض؛ لأنّ الطرف الأوّل ــــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــــ هو موردٌ للإمارة المثبتة للتكليف، ومع وجود الإمارة المثبتة للتكليف لا تصل النوبة للأصل المؤمّن، فيمكن للمكلّف أن يجري الأصل المؤمّن في الطرف الآخر بلا أن يتوقف ذلك على التعبّد بالانحلال الحقيقي، حتّى لو لم يثبت التعبّد بالانحلال الحقيقي، لا إشكال في أنّ المكلّف يتمكّن من إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر.
فإذن: ما هي فائدة التعبّد بالانحلال الحقيقي في محل الكلام ؟ هل يغنينا هذا عن الاحتياج إلى إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر ؟ كلا، لا يغنينا؛ لأنّ مجرّد انحلال العلم الإجمالي لا يخرج الطرف الآخر عن كونه شبهةً، وكل شبهةٍ بحاجة إلى تأمينٍ، أو يقال: أنّ الانحلال الحقيقي تعبّداً يمكّن المكلّف من إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر، وهذا أيضاً غير صحيح؛ لأنّ المكلّف متمكّنٌ من إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر، سواء كان هناك انحلالٌ حقيقي تعبّداً، أو لم يكن؛ لأنّه يكفي في التمكّن من إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر زوال المعارض في ذلك الأصل، وهذا مفروض في محل الكلام.
هناك ملاحظة أخرى تُضاف إلى ما تقدّم على دعوى الانحلال الحقيقي تعبّداً في محل الكلام، وهي: أننا في الدرس السابق قلنا أنّ العلم الإجمالي يتقوّم بالعلم بالجامع بحدّه الجامعي. نعم، لازم العلم بالجامع بحدّه الجامعي هو تولّد شكوك واحتمالات انطباق بعدد الأطراف، لكن هذا لازم للعلم الإجمالي، لازم لما هو الركن الأساسي للعلم الإجمالي، وقلنا أنّ التعبّد بأحد المتلازمين لا يسري إلى ملازمه؛ إذ ليس لدينا قاعدة تقول إذا تعبّدنا الشارع بأحد المتلازمين، فلابدّ أن يعبّدنا بملازمه، التعبّد يتبع دليله، فإذا كان الدليل يقتصر على التعبّد بإلغاء الشكّ، هذا ليس معناه التعبّد بانحلال العلم الإجمالي، هذا كنّا نقوله سابقاً، الآن الملاحظة الجديدة تقول: لو تنزّلنا وسلّمنا أنّ احتمالات الانطباق هي أركانٌ للعلم الإجمالي، بمعنى أننا نسلّم بأنّ العلم الإجمالي يتقوّم بالعلم بالجامع بحدّه الجامعي زائداً شكوك واحتمالات انطباق بعدد الأطراف، وايضاً نفترض أنّ أحد هذه الاحتمالات قد زال تعبّداً في مورد الإمارة، عندما تقوم الإمارة على التكليف، يأتي مبنى الطريقية، أنّ المجعول في الإمارات هو العلمية والطريقية، وهذا معناه اعتبار الإمارة علماً، أو تنزيل الإمارة منزلة العلم، وهذا فهمنا منه ـــــــــــ كما قيل سابقاً ـــــــــــــ أنّ هذا تعبّد بزوال الشكّ في هذا الطرف؛ لأنّه يقول اعتبره علماً، معناه التعبّد بكونه علماً، يعني تعبّد بزوال الشكّ في هذا الطرف. إذن: الشكّ في هذا الطرف زال تعبّداً بناءً على ما ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه)، وهذا نسلّمه، أنّ ركناً من أركان العلم الإجمالي زال تعبّداً، لكن تنجّز الطرف الآخر هل هو من آثار هذا الركن في مورد الإمارة ؟ هل هو من آثار الشكّ في مورد الإمارة ؟ حتّى نقول إذا عبّدنا الشارع بزوال الشكّ في مورد الإمارة، يرتفع التنجّز عن الطرف الآخر، إذا كان التنجّز من آثار الشكّ في مورد الإمارة، إذن: يصحّ لنا أن نقول بأنّ الشارع عبّدنا بزوال الشكّ في مورد الإمارة، ويلزم من ذلك زوال التنجّز عن الطرف الآخر. لكن من الواضح أنّ تنجّز الطرف الآخر ليس من آثار الشكّ في هذا الطرف، التنجّز من آثار الشكّ في ذاك الطرف، وليس من آثار الشكّ في طرفٍ آخر، الشكّ في هذا الطرف ركنٌ للعلم الإجمالي، والشكّ في هذا الطرف أيضاً ركنٌ للعلم الإجمالي...وهكذا باقي الأطراف، التعبّد بزوال الشكّ في هذا الطرف لا يعني ولا يثبت التعبّد بزوال الشكّ في الطرف الآخر، قد يكون هناك تلازم بين الشكّ في هذا الطرف، والشك في هذا الطرف، ليكن، ليس هناك مشكلة؛ لأنّ العلم الإجمالي علمٌ بالجامع بحدّه الجامعي زائداً شكوك بعدد الأطراف، فالشكّ في هذا الطرف يلازم الشكّ في هذا الطرف، ويلازم الشك في ذاك الطرف، لكن نرجع إلى القضية السابقة، وهي أنّه من قال بأنّ التعبّد بزوال الشكّ في هذا الطرف يسري إلى الشكّ في الطرف الآخر ؟ لأنّ التعبّد بأحد المتلازمين، ليس لدينا قاعدة تقول بأنّه يسري إلى ملازمه، فإذن: لو سلّمنا ما ذُكر، غاية ما يثبت به هو التعبّد بزوال الشكّ في مورد الإمارة، لكن هذا لا يعني أنّه يعبّدني بزوال الشكّ في الطرف الآخر حتّى يرتفع التنجّز عنه، ويثبت الانحلال، وإن كانت بين الشكّين ملازمة، لكن التعبّد بأحد المتلازمين لا يسري إلى ملازمه الآخر. هذه ملاحظة أخرى على الانحلال الحقيقي تعبّداً.
المقام الثاني: الانحلال الحكمي
هل يثبت الانحلال الحكمي في العلم الإجمالي بقيام الإمارة، أو الأصل المثبت للتكليف في أحد الطرفين بعينه ؟ بمعنى أن يفقد العلم الإجمالي تأثيره، ولا يؤثّر في التنجيز، فيجوز إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الآخر ؟ وهذا من آثار سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز.
الكلام فعلاً لابدّ أن نعزل منه بحثاً سيأتي التعرّض له مستقلاً؛ لأنّه يتميّز بخصوصيات تختصّ به؛ ولذا أفرد البحث عنه. الكلام فعلاً عن ما إذا كانت الحجّة التي قامت في أحد الطرفين بعينه، والتي نتكلّم فعلاً عن أنّ قيامها هل يوجب الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي، أو لا ؟ هذه الحجّة في طرفٍ بعينه، المثبتة للتكليف، كلامنا في ما إذا كانت هذه الحجّة من قبيل إمارة تتمثّل بإمارة مثبتة للتكليف في أحد الطرفين، أو تتمثّل بأصلٍ عمليٍ مثبت للتكليف منجّز في أحد الطرفين، أو اصل عقلي منجّز في أحد الطرفين كأصالة الاشتغال. كلامنا فعلاً في هذا.
وأمّا إذا فرضنا أنّ الحجّة التي قامت في أحد الطرفين هي عبارة عن أصالة الاشتغال الناشئة من وجود علمٍ إجماليٍ آخر غير العلم الإجمالي الأوّل المفترض في محل الكلام، هذا له بحث آخر، فنستثنيه، ولا نتكلّم عنه فعلاً، ومثاله واضح، كما إذا اشترك طرفٌ في علمين إجماليين، علم إجمالي بأنّه إمّا الإناء الأيمن نجس، أو الإناء الأيسر نجس ؟ ثمّ حصل علم آخر، إمّا الإناء الأيسر نجس، أو إناء آخر نجس، فالإناء الأيسر وقع طرفاً لعلمين إجماليين.
هنا قد يقال: أنّ العلم الإجمالي الثاني يسقط عن التنجيز، فيجوز إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الثالث؛ لأنّ الطرف الأوّل في العلم الإجمالي الثاني الذي هو الإناء الأيسر الذي هو الطرف المشترك. الطرف الأيسر تلقّى التنجيز من العلم الإجمالي الأوّل، فالعلم الإجمالي الثاني يجد أحد طرفيه قد تنجّز بمنجّزٍ سابقٍ، فقد يقال على هذا الأساس أنّ العلم الإجمالي الثاني يسقط عن التنجيز، فلا مانعٍ من إجراء الأصل المؤمّن في الطرف الثالث. هذا لا نتكلّم فيه فعلاً.
كلامنا فعلاً في ما إذا فرضنا أنّه قامت إمارة على ثبوت التكليف في أحد الطرفين بعينه، أو أصل عملي عقلي، أو شرعي منجّز، ودلّ على ثبوت التكليف في أحد الطرفين بعينه، السؤال الذي يطرح هو أنّه هل يحصل الانحلال الحكمي بقيام الإمارة المثبتة للتكليف، أو الأصل المنجّز، أو لا يحصل الانحلال الحكمي ؟ هنا يقال: إذا كان المثبت للتكليف في أحد الطرفين بعينه هو إمارة، ونحن نعلم بانّ الإمارة فيها خصوصية، وهي حجّية مداليلها الالتزامية، أنّ مثبتات الإمارة حجّة، والمدلول الالتزامي للإمارة حجّة كالمدلول المطابقي، وفرضنا أنّ المدلول الالتزامي لهذه الإمارة القائمة في أحد الطرفين بعينه هو عبارة عن نفي التكليف عن الطرف الآخر، صحيح أنّ مدلول الإمارة المطابقي هو إثبات التكليف في هذا الطرف، لكن قد يكون مدلولها الالتزامي نفي التكليف عن الطرف الآخر، كما إذا فرضنا أنّ التكليف كان منحصراً في واحد، وترددّ بين شيئين، وقامت الإمارة على أنّ التكليف في هذا الطرف، ولازمها هو نفي التكليف عن الطرف الآخر؛ لأنّ المفروض أنّ التكليف في الواقع واحد، فإذا دلّت الإمارة على ثبوته هنا، فلازم ذلك هو نفيه عن الطرف الآخر، فيكون مفادها هو نفي التكليف عن الطرف الآخر، أو نفترض أنّ الإمارة كانت في مقام تعيين المعلوم بالإجمال كما فرضناه في العلم التفصيلي، حيث قلنا أنّ العلم التفصيلي قد يكون ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال في هذا الطرف، هنا نفترض أنّ الإمارة تقوم على تعيين المعلوم بالإجمال في هذا الطرف، فإذا قامت على ذلك، فهذا معناه أنّها تنفي التكليف عن الطرف الآخر. في حالةٍ من هذا القبيل ــــــــــــ إذا كان المثبت للتكليف إمارة، وكان مدلولها الالتزامي نفي التكليف عن الطرف الآخر ــــــــــ لا إشكال في انحلال العلم الإجمالي بلا خلاف؛ لأنّه يمكننا التمسّك بالمدلول الالتزامي لهذه الإمارة الذي هو حجّة بلا إشكال، ونفي التكليف عن الطرف الآخر، وبهذا ينحل العلم الإجمالي بنفس الإمارة، يعني يتعيّن التكليف حينئذٍ بالحجّة المعتبرة بهذا الطرف، ويُنفى التكليف عن الطرف الآخر أيضاً بحجّةٍ معتبرة، وهذا معناه انحلال العلم الإجمالي، يعني قامت حجّةٌ على أنّ التكليف موجودٌ هنا وليس موجوداً في الطرف الآخر، هذا معناه انحلال العلم الإجمالي.
أمّا إذا فرضنا أنّ المثبت للتكليف في أحد الطرفين بعينه لم يكن من هذا القبيل، فرضاً كان إمارة، ولكنّه ليس من قبيل الإمارة التي فرضناها سابقاً، لم تكن في مقام تعيين المعلوم بالإجمال، وليس لدينا ما يدلّ على أنّ التكليف واحد؛ بل يحتمل أن يكون التكليف متعدداً، ليس للإمارة المثبتة للتكليف في أحد الطرفين دلالة التزامية على نفي التكليف في الطرف الآخر، أو نفترض أنّ المثبت للتكليف في أحد الطرفين بعينه كان هو أصل عملي شرعي، أو أصل عقلي منجّز للتكليف، كلامنا في هذا. مثل هذه الإمارة، ومثل هذا الأصل العملي الشرعي، أو العقلي، هل يوجب الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي، أو لا ؟
الجواب هو: أنّه في حالةٍ من هذا القبيل يمكن إثباتالانحلال الحكمي للعلم الإجمالي بالإمارات والأصول تمسّكاً ببعض، أو كل الوجوه المتقدّمة لإثبات الانحلال الحكمي بالعلم التفصيلي، تقدّم البحث أنّ العلم الإجمالي إذا لم ينحل حقيقةً بالعلم التفصيلي، ننقل البحث إلى الانحلال الحكمي، وذُكرت وجوه لإثبات الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بلحاظ القواعد العقلية، ثمّ بلحاظ الأصول الشرعية. هذه الوجوه المتقدّمة لإثبات الانحلال الحكمي هناك يمكن التمسّك بها لإثبات الانحلال الحكمي في محل الكلام. (مثلاً): قُرّب الانحلال الحكمي هناك بلحاظ القواعد العقلية وبقطع النظر عن الأصول المؤمّنة الشرعية، بهذا التقريب المتقدّم الذي التزم به المحقق العراقي(قدّس سرّه) الذي يعتمد على استحالة اجتماع منجّزين على شيءٍ واحد، بأنّ أحد الطرفين تنجّز بالعلم التفصيلي، فلا يعقل أن يكون العلم الإجمالي منجّزاً، لاستحالة اجتماع منجّزين على طرفٍ واحد، فينحل العلم الإجمالي؛ لأنّه يعتبر في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون منجّزاً لمعلومه على كل تقدير، سواء كان في هذا الطرف، أو في هذا الطرف، هذه القضية تختل عندما يتنجّز هذا الطرف بمنجّزٍ؛ لأنّ العلم الإجمالي لا يعود صالحاً لتنجيز معلومه على كل تقدير، وإنّما يكون صالحاً لتنجيز معلومه على التقدير الآخر، يعني على تقدير أن يكون المعلوم بالإجمال في الطرف الآخر، أمّا لو كان المعلوم بالإجمال في هذا الطرف، العلم الإجمالي لا يمكنه تنجيزه؛ لأنّ هذا الطرف تنجّز بمنجّز آخر، ويستحيل اجتماع منجّزين على شيءٍ واحد، فيسقط العلم الإجمالي عن التنجيز. هذا كان هو الدليل، ومن الواضح أنّ هذا الدليل لا يفرّق بين منجّزٍ ومنجّز، لا يُفرّق بين أن يكون المنجّز في هذا الطرف علم تفصيلي، أو يكون المنجّز إمارة تثبت التكليف وتنجّز، أو يكون أصلاً يثبت التكليف، في كلّ الحالات يجري هذا الدليل؛ لأنّه أيضاً نقول هذا الطرف مورد الإمارة، أو مورد الأصل العملي تنجّز بالإمارة، أو بالأصل العملي، فيستحيل أن يكون العلم الإجمالي منجّزاً له؛ لاستحالة اجتماع منجّزين على طرفٍ واحد، وإذا تحقق هذا وصدق؛ حينئذٍ لا يكون العلم الإجمالي صالحاً لتنجيز معلومه على كل تقدير. هذا الدليل إذا تمّ هناك، فيمكن الاستدلال به على الانحلال الحكمي في محل الكلام. وهكذا تقريب الانحلال الحكمي بلحاظ الأصول العملية الشرعية لا بلحاظ القواعد العقلية، هذا التقريب المتقدّم لإثبات الانحلال يجري أيضاً في محل الكلام، وهذا التقريب كان يقول بأنّ الأصل المؤمّن يجري في الطرف الآخر؛ لأنّ المانع من وجوده في الطرف الآخر هو وجود المعارض له، وهو جريان الأصل المؤمّن في الطرف الأوّل، هذا يُعارض جريان الأصل في الطرف الثاني، هذا هو المانع، فإذا كان الأصل المؤمّن لا يجري في الطرف الأوّل؛ لأنّه مورد للعلم التفصيلي، فيجري في الطرف الثاني بلا معارض، فيثبت الانحلال الحكمي حينئذٍ بقيام العلم التفصيلي. هذا الدليل نفسه نستطيع أن نستدلّ به في محل الكلام؛ إذ لا فرق في منع جريان الأصل المؤمّن في الطرف الأوّل بين أن يكون معلوماً بالتفصيل، أو تقوم إمارة على إثبات التكليف فيه، أو يقوم اصل عملي، أو شرعي منجّز للتكليف فيه؛ لأنّه على كل هذه التقادير هذا يمنع من إجراء الأصل المؤمّن فيه، فإذا لم يجرِ فيه الأصل المؤمّن، يجري الأصل المؤمّن في الطرف الآخر بلا معارضٍ، وهذا هو معنى الانحلال الحكمي.
إذن: لا يُفرّق بين أن يكون هذا الطرف الأوّل مورداً للعلم التفصيلي، أو يكون مورداً للإمارة، أو للأصل المثبت للتكليف، أو الأصل المنجّز للتكليف.
نعم، هذا بناءً على مسلك الاقتضاء، حيث أننا نثبت الانحلال الحكمي بناءًعلى هذا المسلك؛ لأنّه على مسلك الاقتضاء يقول أنّ الذي يمنع من إجراء الأصل في الطرف الآخر هو المعارضة، أمّا على مسلك العلّية التامّة فالذي يمنع من إجراء الأصل في الطرف الآخر ليس هو المعارضة، حتّى لو لم يكن له معارض هو لا يجري أصلاً، ذات العلم الإجمالي هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، يمنع من إجراء الأصل في الطرف الآخر، بناءً على العلّية التامّة قلنا سابقاً أنّه يتعيّن القول بعدم الانحلال الحكمي. نعم، المحقق العراقي(قدّس سرّه) ذكر الوجه السابق للانحلال الحكمي قبل الوصول إلى الأصول المؤمّنة الشرعية، بلحاظ القواعد العقلية اثبت الانحلال بهذا البرهان السابق الذي هو عدم اجتماع منجّزان على شيءٍ واحد، ويُعتبر في العلم الإجمالي أن يكون صالحاً لتنجيز معلومه على كلّ تقدير، بهذا اثبت الانحلال الحكمي.
أقول: هذا البرهان الذي ذكره بناءً على مسلك العلّية التامّة لو تمّ هناك يتمّ أيضاً في محل الكلام؛ إذ لا فرق بين العلم التفصيلي وبين الإمارة وبين الأصل المثبت للتكليف، أو الأصل المنجّز للتكليف، إذن: كل الوجوه التي يستدل بها على الانحلال الحكمي بالعلم التفصيلي، إذا تمّت هناك فهي تجري هنا في محل الكلام لإثبات الانحلال الحكمي.