الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

35/11/18

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالي/تنبيهات العلم الإجمالي /الأصول العمليّة
قلنا في الدرس السابق أنّ هناك بعض الوجوه التي تستفاد من خلال المناقشات المتقدّمة للوجوه المستدل بها على الانحلال، هذه الوجوه قد يستدل بها على عدم الانحلال؛ بل استُدل بها، أو ببعضها على عدم الانحلال:
الوجه الأوّل: الاستدلال على عدم الانحلال وبقاء العلم الإجمالي في محل الكلام ببقاء لازمه، فإذا كان لازم العلم الإجمالي باقياً في محل الكلام، فيُستكشف منه بقاء العلم الإجمالي وعدم انحلاله بالرغم من افتراض العلم التفصيلي، والمقصود بالّلازم هو احتمال انطباق الجامع المعلوم بالإجمال على الطرف الآخر غير المعلوم تفصيلاً، وهذا الاحتمال لا يمكن إنكاره؛ لأنّه موجود بالوجدان، فيُستكشف عدم الانحلال، وإلاّ لو كان العلم الإجمالي منحلاً لما امكن افتراض احتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر، حيث أنّ احتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر من لوازم العلم الإجمالي، وحيث أنّ هذا الاحتمال موجود بالوجدان ولا يمكن إنكاره، فيستكشف منه بقاء العلم الإجمالي بالرغم من العلم التفصيلي المفترض في محل الكلام.
وجواب هذا الوجه هو: أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ مجرّد احتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر، لا ينبغي جعله دليلاً على بقاء العلم الإجمالي، و عدم انحلاله؛ لأنّه لا يكشف عن وجود العلم الإجمالي، مجرّد احتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر لا يكشف عن وجود علمٍ إجمالي، فلا يصح لنا أن نستدل على وجود العلم الإجمالي و عدم الانحلال بمجرّد احتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر، والدليل على ذلك أنّه في بعض الأحيان إذا علمنا بوجود(زيدٍ) في هذا المكان تفصيلاً، معنى ذلك أننا علمنا بوجود الجامع في ضمنه، فإذا احتملنا في نفس الوقت وجود (عمرو) في هذا المكان. أي، بعبارةٍ أخرى: علمنا بوجود الجامع في ضمن(زيد)، واحتملنا وجود الجامع في ضمن(عمرو)؛ حينئذٍ الجامع بلا إشكال يكون محتمل الانطباق على(عمرو)، لكن بالرغم من هذا ليس لدينا علم إجمالي، احتمال انطباق الطرف الآخر ليس دليلاً على وجود علمٍ إجمالي؛ لأنّه في حالةٍ من هذا القبيل احتمال انطباق الطرف الآخر موجود، لكن لا يوجد علم إجمالي في هذا المثال، لا يوجد عندنا علم بالجامع واحتمالات بعدد الأطراف حتّى يتشكل لدينا علم إجمالي، وإنّما لدينا علم تفصيلي بوجود(زيد) في المكان وشكّ في وجود(عمرو) في هذا المكان، لا يوجد علم إجمالي، لكن بالرغم من هذا احتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر موجود .
النتيجة التي نصل إليها هي: أنّ مجرّد انطباق الجامع على الطرف الآخر وحدّه لا يُشكّل دليلاً، ولا يكون كاشفاً عن بقاء العلم الإجمالي وعدم الانحلال بدليل أنّه في هذا المورد احتمال انطباق الجامع على الطرف الاخر موجود مع أنّه لا يوجد علم إجمالي، السرّ في هذا  هو أنّ ما يُحتمل انطباقه على الطرف الآخر في المثال الذي ذكرناه، ما يُحتمل انطباقه على(عمرو) هو الجامع، لكن بحدّه الجامعي، هذا الذي نحتمل انطباقه على(عمرو)، حتّى في هذا المثال نحتمل انطباق الجامع بحدّه الجامعي على(عمرو)، وهذا الجامع بحدّه الجامعي الذي يُحتمل انطباقه على (عمرو)، ليس معروضاً للعلم التفصيلي في المثال المذكور؛ لأنّ ما هو معروض العلم التفصيلي هو الجامع في ضمن الخصوصية، هو الجامع ليس بحدّه الجامعي، وإنّما بحدّه الشخصي في ضمن الخصوصية التي هي(زيــد)، هذا هو معروض العلم، وهذا الجامع في ضمن الخصوصية لا يُحتمل انطباقه على(عمرو)، لا نحتمل انطباق الجامع المتشخّص في ضمن(زيــد) على(عمرو)، الذي احتمل انطباقه على(عمرو) هو الجامع بحدّه الجامعي لا الجامع بما هو معروض للعلم التفصيلي في هذا المثال؛ لأنّ الجامع بما هو معروض للعلم التفصيلي هو الجامع المتشخّص في ضمن الخصوصية، وهذا ممّا لا يُحتمل انطباقه على(عمرو).
إذن: ما احتمل انطباقه على(عمرو)، ليس معروضاً للعلم، وما هو معروض للعلم لا يُحتمل انطباقه على(عمرو)، ومعنى هذا الكلام أنّ مجرّد انطباق الجامع على الطرف الآخر ليس دليلاً على وجود العلم الإجمالي؛ ولذا في هذا المثال قطعاً لا يوجد علم إجمالي، بالرغم من هذا هناك احتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر. إذن، لكي يكون احتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر كاشفاً عن العلم الإجمالي وبقائه وعدم الانحلال لابدّ أن نفترض أن يكون الجامع الذي يُحتمل انطباقه على الطرف الآخر محدوداً بنفس الحدّ الذي يكون معروضاً للعلم؛ حينئذٍ يكون احتمال الانطباق دليلاً على بقاء العلم الإجمالي وعدم الانحلال، عندما احتمل انطباق المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال على الطرف الآخر، إذا احتملنا انطباق الجامع بما هو معلوم بالإجمال على الطرف الآخر، فهذا معناه وجود علمٍ إجمالي، لا أننا نحتمل انطباق الجامع بحدّه الجامعي فقط، كلا، وإنما الجامع بما هو معلوم، وبما هو معروض للعلم، هذا الجامع بما هو معروض للعلم إذا احتُمل انطباقه على الطرف الآخر، فأنّه بلا إشكال يكون كاشفاً ودليلاً على بقاء العلم الإجمالي، وهذا إنّما يتحقق ويكون احتمال الانطباق كاشفاً عن بقاء العلم الإجمالي، وعدم الانحلال، إنّما يتحقق في تلك الحالة التي اشير إليها مراراً وهي ما إذا كان للمعلوم بالإجمال حدّ وخصوصية محتملة الانطباق على الطرف الآخر، التي هي عبارة أخرى عن ما كان يُكررّ سابقاً محتملة الإباء عن الانطباق على الطرف المعلوم تفصيلاً، أن تؤخذ في المعلوم بالإجمال خصوصية يُحتمل على ضوئها أن لا ينطبق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل الذي لازمه احتمال انطباقه على الطرف الآخر، عندما تؤخذ خصوصية في المعلوم بالإجمال وهذه الخصوصية يُحتمل أن تجعل المعلوم بالإجمال غير منطبق على المعلوم بالتفصيل، في هذه الحالة حينئذٍ يتحقق هذا الشيء ويقال أنّ احتمال الانطباق على الطرف الآخر يكشف عن وجود علمٍ إجمالي؛ لأنّه هنا لا نحتمل انطباق الجامع بحدّه الجامعي مع عدم افتراض كونه معروضاً للعلم، كلا هذا الجامع بما هو معروض للعلم نحتمل انطباقه على الطرف الآخر. إذن، المعلوم بالإجمال الجامع بما هو معروض للعلم الإجمالي يُحتمل انطباقه على هذا الطرف، ويُحتمل انطباقه على هذا الطرف، وهذا معناه وجود علم إجمالي، علم بالجامع واحتمالات انطباق بعدد الأطراف، احتمال أن ينطبق على ذاك الطرف، واحتمال أن ينطبق على هذا الطرف التفصيلي؛ لأنّ المعلوم بالإجمال أُخذت فيه خصوصية يُحتمل أن تجعله يأبى عن الانطباق على المعلوم بالتفصيل، فيبقى احتمال الانطباق في هذا الطرف، واحتمال الانطباق في الطرف الآخر. مثل احتمال الانطباق بهذا الشكل على الطرف الآخر يكون كاشفاً عن العلم الإجمالي وعن بقائه و عدم انحلاله.
وأمّا إذا فرضنا أنّ المعلوم بالإجمال لم تؤخذ فيه خصوصية تجعله محتمل الإباء عن الانطباق على المعلوم بالتفصيل، كما إذا علمنا بموت أحد شخصين، إمّا(زيــد)، أو(عمرو)، المعلوم بالإجمال هو موت أحدهما بلا خصوصية، ثمّ علمنا بالتفصيل موت(زيــدٍ)، هذا ليس فيه خصوصية، في الأوّل افترضنا فيه خصوصية، من قبيل المثال الذي مثّل به، كما لو علمنا بوجود نجاسة في أحد الإناءين ناشئة من سقوط قطرة دم، ثمّ علمنا بنجاسة الأوّل، هنا يحتمل عدم انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، أو بعبارةٍ أخرى: يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على الطرف الآخر. الحالة الثانية أن لا تؤخذ هذه الخصوصية، كما لو علمت بنجاسة أحد الإناءين، ثمّ علمت بنجاسة الأيمن منهما، في هذه الحالة انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل قهري، سريان العلم من الجامع إلى الفرد قهري، وليس هناك مجال لاحتمال عدم السريان؛ لأنّ المكلّف الذي كان عالماً بالإجمال بنجاسة أحد الإناءين، ثمّ علم بالتفصيل بنجاسة الأيمن منهما، لا إشكال في أنّ هذا ازداد علمه، كان علمه سابقاً واقفاً على الجامع بحدّه الجامعي، والآن نزل إلى الفرد، وهذا عبارة عن السريان، كان علمه فقط بنجاسة أحد الإناءين، الآن أصبح عالماً بنجاسة هذا الإناء، علمه بنجاسة الإناء الأيمن معناه أنّ علمه لم يعد واقفاً على الجامع بحدّه الجامعي، وإنّما نزل من الجامع إلى الفرد، وأصبح عالماً بالجامع في ضمن الفرد؛ ولذا يكون الانطباق والسريان قهرياً، وإذا سرى العلم الإجمالي من الجامع إلى الخصوصية ـــــــــــــ الفرد ـــــــــــ حينئذٍ احتمال الانطباق لا يكون دليلاً وكاشفاً عن بقاء العلم الإجمالي؛ لأنّه يرِد الكلام السابق، الذي يُحتمل انطباقه على الفرد الآخر هو الجامع بحدّه الجامعي، لكن هذا الجامع بحدّه الجامعي ليس معروضاً للعلم التفصيلي، المعروض للعلم التفصيلي هو الجامع في ضمن الخصوصية. إذن، الجامع بما هو معروض للعلم لا يُحتمل انطباقه على الطرف الآخر؛ لأنّ الجامع بما هو معروض للعلم هو الجامع في ضمن الخصوصية، ولا إشكال أنّ الجامع في ضمن الخصوصية لا يُحتمل انطباقه على خصوصية أخرى وفرد آخر، وليس هناك احتمال انطباق حتّى يُستدل به على بقاء العلم الإجمالي، وما يُحتمل انطباقه على الطرف الآخر هو الجامع بحدّه الجامعي، وهو ليس معروضاً للعلم التفصيلي؛ ولذا مثل احتمال الانطباق هذا لا يكون كاشفاً عن بقاء العلم الإجمالي؛ بل يحتمل انطباق الجامع بحدّه الجامعي على الطرف الآخر، لكن لا يوجد علم إجمالي؛ لأنّ العلم الإجمالي سرى من الجامع إلى الفرد، وتحول العلم إلى علم تفصيلي بالخصوصية وشكّ بدوي في الطرف الاخر، ولا يوجد علم إجمالي، مع أنّه يُحتمل انطباق الجامع على الطرف الآخر.
إذن: ليس كل احتمال انطباق الجامع على الطرف الآخر دليلاً على بقاء العلم الإجمالي وعدم انحلاله، وإنّما يكون دليلاً على بقاء العلم الإجمالي وعدم انحلاله في ما إذا فرضنا أنّ المعلوم بالإجمال، الجامع الذي علم به إجمالاً كان مقيداً بخصوصيةٍ يُحتمل عدم انطباقه على ضوء هذه الخصوصية على المعلوم بالتفصيل. هنا في هذه الحالة نستطيع أن نقول أنّ الجامع بما هو معروض للعلم الإجمالي يُحتمل انطباقه على الطرف الآخر ويكون دليلاً وكاشفاً عن بقاء العلم الإجمالي وعدم انحلاله. أمّا إذا لم يكن مقيداً بهذه الخصوصية، فلا. إذن، بالنتيجة رجعنا إلى نفس النكتة التي ذُكرت مراراً ضمن هذه البحوث، وهي مسألة أنّ المعلوم بالإجمال هل هو مقيّد بخصوصية يحتمل أن تمنع من انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل، أنّ الجامع بهذه الخصوصية يأبى عن  الانطباق على المعلوم بالتفصيل، ويُحتمل انطباقه على الطرف الآخر، مقيّد بخصوصية، أو غير مقيّد بخصوصية، فإذا كان مقيّداً بخصوصيةٍ، فليس هناك انطباق ولا سريان، وبالتالي لا يوجد سريان؛ بل يكون العلم الإجمالي باقياً. أمّا إذا لم يكن مقيّداً بخصوصية، فالسريان يكون قهرياً، والانطباق أيضاً يكون قهرياً، ويكون الانحلال قهرياً. هذه النكتة لابدّ من بحثها.
الوجه الثاني: قالوا أنّه لا إشكال في الانحلال فيما لو كان العلم التفصيلي ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال، على ما تقدّم في بداية هذا البحث، حيث قلنا أنّ هذا خارج عن محل النزاع، وهو ما إذا كان العلم التفصيلي ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال، هذا لا إشكال فيه في انحلال العلم الإجمالي انحلالاً حقيقياً، ومثاله هو ما إذا علمنا بموت(ابن زيد)، وترددّ(ابن زيد) بين (عمرو) وبين(خالد)، ثمّ بعد ذلك علمنا تفصيلاً ان(ابن زيد) الذي علمنا إجمالاً بموته هو(عمر)، هذا العلم التفصيلي يكون ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال، هنا لا إشكال في الانحلال، وقلنا أنّ هذا خارج عن محل النزاع. الوجه الثاني يقول: لو قلنا بالانحلال في محل الكلام الذي فُرض فيه أن لا يكون العلم التفصيلي ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال، إذن، لم يبقَ فرقٌ بين الحالتين، الحالة الأولى هي ما إذا كان ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال، والحالة الثانية هي ما إذا لم يكن ناظراً إلى تعيين المعلوم بالإجمال؛ لأنّه في كلٍ منهما نقول بالانحلال، والحال أنّه من الناحية النفسية، الفرق بينهما ثابت بالوجدان، ولا يمكن إنكاره، ومن ثبوت الفرق بينهما بهذا الشكل الواضح والوجداني نستكشف عدم الانحلال في محل الكلام، وإلاّ لكان محل الكلام مساوياً للحالة الأولى مع أنّه ليس مساوياً له قطعاً.