الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

35/11/10

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة/ تنبيهات العلم الإجمالي/ الشبهة غير المحصورة
كان الكلام في حرمة المخالفة القطعية،وذكروا بأنّ هذا يختلف باختلاف الوجوه التي نستند إليها لإثبات وجوب الموافقة القطعية. في الدرس السابق ذكرنا بأنّه إذا كان المستند في عدم وجوب الموافقة القطعية وعدم التنجيز للعلم الإجمالي في الشبهات غير المحصورة، إذا كان المستند هو الوجه الأوّل، الذي هو عبارة عن الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرفٍ إذا لوحظ وحده، بناءً على هذا ذُكر بأنّ الارتكاب هنا يكون جائزاً لجميع الأطراف، بمعنى أنّه لا تحرم المخالفة القطعية، كما لا تحرم المخالفة الاحتمالية بارتكاب بعض الأطراف، وهو معنى عدم وجوب الموافقة القطعية، كذلك لا تحرم المخالفة القطعية بارتكاب جميع الأطراف، ويُستند في ذلك إلى الاطمئنان نفسه، بادّعاء أنّ الاطمئنان الذي استُند إليه لإثبات جواز الارتكاب موجود في جميع الأطراف؛ إذ كل طرفٍ إذا لوحظ وحده هناك اطمئنان بعدم الانطباق فيه، سواء كان ذلك قبل ارتكاب أطرافٍ الأخرى، أو كان بعد ارتكاب أطرافٍ أخرى، على كلا التقديرين الطرف إذا لوحظ وحده هناك اطمئنان بعدم الانطباق فيه، فيُستند إلى هذا الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرفٍ، حتّى لو ارتكب أطرافاً أخرى، كل طرفٍ فيه اطمئنان بعدم الانطباق، فيستند إلى ذلك الاطمئنان لإثبات جواز ارتكابه، ولا داعي لملاحظة خصوص الأفراد المتبقية بعد ارتكاب بعض الأفراد، وإنّما يُلاحظ مجموع الأفراد التي ارتكبها والأفراد الباقية، إذا لاحظ هذا الطرف الذي يريد ارتكابه بعد ارتكاب عشرين طرفاً ــــــــــ مثلاً ــــــــــ فأنّ احتمال الانطباق فيه سوف يكون هو عبارة عن واحد بالألف، وهي نفس النسبة التي كانت موجودة في الطرف الأوّل الذي أقدم على ارتكابه، فكما كان هذا الاطمئنان في الطرف الأوّل الذي أقدم على ارتكابه مسوّغاً للإقدام على الارتكاب، كذلك هو موجود في سائر الأطراف، وإن ارتكب بعضاً منها، وإن ارتكب أغلبها، يبقى هذا الاطمئنان موجوداً إلى آخر طرفٍ، وبناءً عليه تجوز المخالفة القطعية.
وذكرنا في الدرس السابق أنّه قد يقال: لا داعي لافتراض زوال الاطمئنان بعد ارتكاب بعض الأطراف، إذا لم نُدخِل في الحساب الأطراف التي ارتكبها، يمكن أن يقال: في الأطراف المتبقيّة تختل النسبة، فقد يزول الاطمئنان بعدم الانطباق إذا لاحظنا خصوص الأطراف المتبقيّة، لكن لا داعي لذلك، يلحظ في هذا الطرف جميع الأطراف الأخرى، أي ما ارتكبه والباقي، وقلنا أنّه سيجد أنّ النسبة هي نفس النسبة، نسبة احتمال الانطباق نفس النسبة، نسبة متدنيّة وضعيفة جدّاً، يوجد على خلافها اطمئنان بعدم الانطباق، وهذا هو الذي يسوّغ الارتكاب.
وقد يقال في المقابل: بأنّ الاطمئنان بعدم الانطباق يزول بعد ارتكاب بعض الأطراف؛ لما تقدّم سابقاً من أنّ منشأ الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرف هو الاطمئنان بالانطباق على مجموع الأطراف الأخرى على سبيل البدل، وهذا هو الذي يكون منشئاً لحصول الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف.
إذن: الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرفٍ هو ناشئ من الاطمئنان بالانطباق في سائر الأطراف الأخرى ما عداه، لكن على سبيل البدل؛ حينئذٍ يقال: كيف يحصل الاطمئنان بعدم الانطباق في الباقي مع أنّا فرضنا الاطمئنان بالانطباق في الباقي فيها ؟ هذا أليس فيه تهافت ؟ قد يقال هذا؛ بل ذُكر في بعض الكلمات.
الجواب عن هذا هو: أنّ الاطمئنان بعدم الانطباق صحيح أنّه ناشئ من الاطمئنان بالانطباق في سائر الأفراد على سبيل البدل، لكن منشأ هذا الاطمئنان موجود في جميع الأطراف ولا يختصّ بخصوص الطرف الأوّل الذي يرتكبه، ولا الثاني، ولا الثالث، لو ارتكب نصف الأطراف يبقى في الأطراف الأخرى أيضاً اطمئنان بعدم الانطباق ناشئ من الاطمئنان بالانطباق في سائر الأطراف، لكن الكلام في أنّ سائر الأطراف ما هي ؟ قلنا بأنّه لا داعي لتخصيص سائر الأطراف بخصوص الأطراف المتبقيّة، وإنّما المقصود بسائر الأطراف هو مجموع ما ارتكبه، وما بقي، إذا جاء إلى هذا الطرف الذي رقمه ــــــــــــ فرضاً ــــــــــــ خمسمائة، هناك اطمئنان بعدم الانطباق فيه، ولا يزول هذا الاطمئنان، ومنشأ هذا الاطمئنان هو الاطمئنان بالانطباق في سائر الأطراف، الأعمّ ممّا ارتكبه وممّا بقي عليه، فلا داعي لزوال هذا الاطمئنان. على أنّه بقطع النظر عن هذا، اساساً الاطمئنان بالانطباق في سائر الأطراف هل ينافي الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرفٍ لو لوحظ وحده، أو لا ؟ هو يريد أن يقول أنّ هذا ينافيه، نحن فرضنا الاطمئنان بالانطباق في سائر الأطراف، فكيف يُدّعى الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرفٍ من الأطراف المتبقيّة ؟ السؤال هو: هل هناك منافاة بينهما ؟ الاطمئنان بالانطباق في سائر الأطراف، هل ينافي الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرفٍ من هذه الأطراف لو لوحظ وحده ؟ لا ينافيه. والسرّ هو أنّ الاطمئنان بالانطباق في سائر الأطراف موجود، لكن على سبيل البدل، وهذا موجود في محل الكلام، يعني يعلم بالانطباق في سائر الأطراف، لكن مع ما ذكرناه، أنّ المقصود بسائر الأطراف هو مجموع ما ارتكبه والأطراف المتبقيّة، هناك اطمئنان بالانطباق في سائر الأطراف غير هذا الطرف الذي رقمه ــــــــــــ مثلاً ــــــــــ خمسمائة وواحد، هناك اطمئنان بالانطباق في ما عداه من الأفراد، وهذا يكون منشئاً لحصول الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف، فالاطمئنان بعدم الانطباق موجود في هذا الطرف حتّى بعد فرض ارتكاب مجموعة كبيرة من الأطراف.
وبعبارةٍ أكثر وضوحاً: أنّ الاطمئنان بالانطباق في سائر الأفراد لا يزيد عن العلم الإجمالي بالانطباق، فأساس كلامنا هو أنّ هناك علماً إجمالياً بثبوت التكليف في ضمن هذه الأفراد الكثيرة، وهذا علم إجمالي بالانطباق، وقد تقدّم أنّ هذا لا ينافي الاطمئنان بعدم الانطباق في كلّ طرفٍ لو لوحظ وحده، بعد ارتكاب بعض الأطراف، الاطمئنان بالانطباق في سائر الأفراد لا يزيد عن العلم الإجمالي بالانطباق في مجموع الأفراد، فكما أنّ العلم الإجمالي بالانطباق وثبوت التكليف لم يكن منافياً للاطمئنان بعدم الانطباق في كلّ طرفٍ لو لوحظ وحده، كذلك الاطمئنان بالانطباق وثبوت التكليف في الباقي أيضاً ليس منافياً لافتراض وجود الاطمئنان بعدم الانطباق في كلّ طرفٍ من الباقي لو لوحظ وحده؛ بل بعضهم استدلّ على عدم حرمة المخالفة القطعية بدعوى انحلال العلم الإجمالي، أصلاً جواز ارتكاب كل الأطراف ليس استناداً إلى الاطمئنان بعدم الانطباق كما تقدّم سابقاً، وإنّما قد يُدّعى انحلال العلم الإجمالي في محل الكلام، بمعنى أنّ المكلّف عندما يأتي ببعض الأطراف، قد يكون الإتيان ببعض الأطراف مؤدّياً إلى انحلال العلم الإجمالي، إذا جاء ببعض الأطراف استناداً إلى الاطمئنان بعدم الانطباق ــــــــــ على ما تقدّم، الذي هو الدليل الأوّل ــــــــــ هذا قد يوجب انحلال العلم الإجمالي في الباقي، فيجوز ارتكاب الباقي باعتبار أنّها شبهة بدوية غير مقرونة بالعلم الإجمالي، فجواز ارتكاب الباقي ليس من باب أنّ كل طرفٍ يريد ارتكابه هناك اطمئنان بعدم الانطباق، كلا، نقطع النظر عن هذا، أصلاً ارتكاب بعض الأطراف استناداً إلى الاطمئنان بعدم الانطباق قد يوجب انحلال العلم الإجمالي في الباقي، وإذا انحل العلم الإجمالي في الباقي؛ حينئذٍ نتعامل مع الباقي معاملة الشبهة البدوية، فيجوز ارتكابها، فلا تحرم المخالفة القطعية بدعوى انحلال العلم الإجمالي عند ارتكاب بعض الأطراف.
قد يُشكل على هذا الكلام: بأنّ ارتكاب بعض الأطراف لا يوجب زوال العلم الإجمالي وسقوطه عن المنجّزية، وهل ارتكاب بعض الأطراف إلاّ كتلف بعضها، أو كخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، ومن الواضح أنّ تلف بعض الأطراف لا يُسقِط العلم الإجمالي عن التنجيز، وخروج بعض الأطراف عن العلم الإجمالي لا يوجب خروج العلم الإجمالي عن التنجيز، وإلاّ سوف تكون القضية سهلة، فكل شخصٍ لديه علم إجمالي يُتلِف بعض الأطراف، فيسقط العلم الإجمالي عن التنجيز بلحاظ الباقي ! ارتكاب بعض الأطراف في محل كلامنا حاله حال تلف بعض الأطراف، وحال خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، وهذا لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز.
إذا أُشكل عليه بهذا الإشكال يجيب: بأنّ هذا الكلام صحيح، لكن عندما يُفترض أنّ التلف والخروج عن محل الابتلاء بعد تشكّل العلم الإجمالي، وتنجيزه لأطرافه؛ حينئذٍ هذا التلف لا يُسقِط العلم الإجمالي عن التنجيز. إذا تشكّل العلم الإجمالي، ونجّز أطرافه، وبعد ذلك تلِفت بعض الأطراف، أو بعد ذلك خرجت بعض الأطراف عن محل الابتلاء، لا إشكال في أنّ هذا لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز. وأمّا إذا فرضنا أنّ التلف كان قبل تشكّل العلم الإجمالي، وقبل أنّ ينجّز العلم الإجمالي أطرافه؛ حينئذٍ سوف ينحل هذا العلم الإجمالي، إذا كان العلم الإجمالي حينما حصل كانت بعض أطرافه تالفة، أو حينما حصل كانت بعض الأطراف خارجة عن محل الابتلاء، هذا العلم الإجمالي يسقط عن التنجيز بلا إشكال، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ المكلّف حينما تشكّل عنده العلم الإجمالي كان عنده اطمئنان بعدم الانطباق في كل طرفٍ من الأطراف لو لوحظ وحده، عندما تشكّل لا أنّه حصل بعد تنجيز العلم الإجمالي لأطرافه، بعد أن نجّز العلم الإجمالي جميع الأطراف؛ حينئذٍ حصل اطمئنان بعدم الانطباق في كلّ طرف، كلا، وإنّما عندما تشكّل العلم الإجمالي هناك اطمئنان بعدم الانطباق في هذه الأفراد التي ارتكبها، مثل هذا العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً للباقي، وهو معنى انحلال العلم الإجمالي، باعتبار أنّ ارتكاب بعض الأطراف كأنّه بمثابة التلف قبل تنجيز العلم الإجمالي لأطرافه؛ لأنّ المكلّف حين الارتكاب لديه اطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف، يعني عندما تشكّل عنده العلم الإجمالي هو لديه اطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف، وهذا يمنع من تنجيز العلم الإجمالي بالنسبة إلى الباقي. هكذا قيل.
لكن، الظاهر أنّ العلم الإجمالي في المقام لا ينحل، والسرّ هو أننّا نستند إلى أنّ الذي يحل العلم الإجمالي في الحقيقة ليس هو ارتكاب بعض الأطراف، ليس هذا هو المدّعى، وإنّما الذي يُراد ادّعاءه، أو ما ينبغي أن يكون موجباً لانحلال العلم الإجمالي هو الاطمئنان بعدم الانطباق، أو العلم بعدم الانطباق، أو قيام الإمارة المعتبرة على عدم الانطباق، لو قامت إمارة معتبرة على عدم الانطباق في هذا الطرف الذي يريد ارتكابه، هذا يحل العلم الإجمالي، العلم بعدم ثبوت التكليف في الطرف الذي يريد ارتكابه يحلّ العلم الإجمالي؛ حينئذٍ لا يبقى علم في الباقي، الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف الذي يريد ارتكابه من قبيل العلم بعدم الانطباق، ومن قبيل قيام الإمارة على عدم الانطباق، يعني قيام الإمارة المعتبرة على عدم ثبوت التكليف فيه، لكن نحن ليس لدينا في المقام اطمئنان بعدم الانطباق في خصوص هذا الطرف، وإنّما لدينا اطمئنان بعدم الانطباق في الأطراف على سبيل البدل، الاطمئنان بثبوت التكليف، أو الاطمئنان بعدم ثبوت التكليف لا يختص بطرفٍ معيّن، فهو يختلف عن قيام الإمارة المعتبرة في طرفٍ معيّنٍ على عدم ثبوت التكليف، قيام الإمارة المعتبرة في طرفٍ معيّنٍ على عدم ثبوت التكليف يحلّ العلم الإجمالي، العلم بعدم ثبوت التكليف في طرفٍ معيّنٍ يحلّ العلم الإجمالي، ويكون من قبيل الاضطرار إلى المُعيّن الذي يوجب انحلال العلم الإجمالي. في محل كلامنا الاطمئنان ليس من هذا القبيل، أساس تشكّل الاطمئنان لا يختص بطرفٍ، ونسبته إلى كلّ الأطراف نسبة واحدة، فيكون ما نحن فيه من قبيل الاضطرار إلى غير المعيّن لا من قبيل الاضطرار إلى طرفٍ بعينه حتّى يوجب انحلال العلم الإجمالي، وإنّما هو من قبيل الاضطرار إلى الفرد غير المعيّن، وهذا تقدّم الحديث عنه، والرأي السائد أنّه لا يوجب انحلال العلم الإجمالي. على كل حال، يبدو أنّه إذا كان المستند هو الدليل الأوّل، فالظاهر عدم حرمة المخالفة القطعية.
وأمّا إذا كان المستند لعدم تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية هو قاعدة لا حرج، فالظاهر أنّ المخالفة القطعية تبقى محرّمة؛ لأنّ مقتضى قاعدة لا حرج هو تجويز ارتكاب الأطراف بالمقدار الذي يرتفع به الحرج، لماذا نجوّز له ارتكاب جميع الأطراف الذي يعني المخالفة القطعية ؟ وإنّما نجوّز له ارتكاب أطرافٍ بحيث يرتفع بذلك حرجه ولا يقع في الحرج، ومن الواضح أنّ دفع الحرج بالنسبة للمكلّف لا يتوقّف على أن نجوّز له ارتكاب جميع هذه الأطراف الكثيرة، ليس هكذا، يندفع حرجه بأن نجوّز له ارتكاب الأطراف التي هي محل ابتلائه، أمّا أن نجوّز له ارتكاب جميع الأطراف، حتّى الأطراف الأخرى التي عددها ألف ــــــــــ مثلاً ـــــــــ هذا بلا وجه، ولا تقتضيه القاعدة، القاعدة تقتضي أن نجوّز له ارتكاب الأطراف بالمقدار الذي يرتفع به حرجه، ولا يتوقّف دفع حرجه على أن نجوّز له ارتكاب جميع الأطراف، هذا لا داعي له، فتبقى حرمة المخالفة القطعية على حالها؛ وحينئذٍ يمكن أيضاً إدخال هذه المسألة في مسألة الاضطرار إلى بعضٍ غير معيّن، حرجه يندفع بارتكاب بعض الأطراف بلا تعيين، ولا نقول له هذه الأطراف يرتفع بها الحرج، فتكون هي الجائزة، وإنّما اختيار هذا يُترَك إلى المكلّف نفسه، فهو مضطرٌ إلى ارتكاب بعض الأطراف، لكن لا بعينه، وليس مضطراً إلى ارتكاب أفرادٍ معيّنةٍ حتّى يندفع حرجه، وإنّما هو من باب الاضطرار إلى ارتكاب أطرافٍ لا بعينها، وقد تقدّم سابقاً أنّه في هذه الحالة العلم الإجمالي يبقى منجّزاً لحرمة المخالفة القطعية. هذا بالنسبة إلى ما إذا كان المستند هو قاعدة لا حرج.
أمّا إذا كان المستند في ذلك هو ما ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) من جعل البدل؛ حينئذٍ يتعيّن الالتزام بحرمة المخالفة القطعية؛ لأنّ المفروض بناءً على هذا المسلك هو أنّ الشارع جعل البدل عن الحرام الواقعي في سائر الأطراف، فبالنتيجة: الحرام الواقعي موجود في بعض هذه الأطراف لا على سبيل التعيين، فلا يجوز له ارتكاب الجميع؛ لأنّ ارتكاب الجميع يعني ارتكاب ما جعله الشارع بدلاً عن الحرام الواقعي.
بعبارة أخرى: أنّ العلم الإجمالي كما أنّه ينجّز الحرام الواقعي المعلوم بالإجمال، مسألة جعل البدل أيضاً توجب تنجيز حرمة المخالفة القطعية؛ لأنّ الشارع سوّغ للمكلّف ارتكاب هذا الطرف، لكن جعل الباقي على سبيل البدل بدلاً عن الحرام الواقعي، فالحرام الواقعي موجود في الباقي، فلا يجوز ارتكاب الباقي بتمام أطرافه.
وإذا كان المستند هو ما تقدّم من الدليل الثالث، مسألة عدم التنافي بين الترخيص الظاهري المستفاد من أدلّة الأصول، وبين الحكم الواقعي الإلزامي المعلوم بالإجمال؛ حينئذٍ الظاهر أنّه يتعيّن الالتزام بجواز المخالفة القطعية، وجواز ارتكاب الجميع، باعتبار أنّ المقتضي الذي سوّغ لنا بناءً على هذا الدليل ارتكاب الطرف الأوّل الذي هو دليل الأصل، الذي هو المقتضي الذي يثبت الترخيص فيه، وأنّ هذا الترخيص لا ينافي الحكم الإلزامي المعلوم بالإجمال، هذا المقتضي الذي سوّغ لنا ارتكاب الطرف الآخر موجود في جميع الأطراف، كل طرفٍ هو مشمول لدليل الأصل، وهو مقتضٍ لجواز ارتكابه، والمفروض أنّه لا مانع من الالتزام بجواز الارتكاب، وبعبارةٍ أخرى: لا مانع من الالتزام بالترخيص وجواز الارتكاب الذي هو مدلول دليل الأصل؛ لأنّه لا مناقضة ولا منافاة ــــــــــــ بحسب هذا الوجه الثالث ــــــــــ بينه ــــــــــ أي بين الترخيص ــــــــــــ وبين الحكم الإلزامي المعلوم بالإجمال، فإذن: المقتضي للترخيص ولجواز الارتكاب موجود، وهو دليل الأصل، والمانع منه مفقود؛ لأنّ المانع هو كون الترخيص منافياً للحكم الإلزامي المعلوم بالإجمال، وهذا الدليل الثالث مبتنٍ على إنكار المنافاة والمناقضة.
هذا تمام الكلام في حرمة المخالفة القطعية، وبعد ذلك يقع الكلام في أمور ترتبط بالبحث، يأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى.