الموضوع: الأصول العمليّة/ تنبيهات العلم الإجمالي/ الشبهة غير المحصورة
كان
الكلام في الدليل الخامس المستفاد من كلمات المحقق العراقي(قدّس
سرّه). هذا الدليل يريد أن يقول: لا فرق بين الشبهة المحصورة وبين الشبهة غير
المحصورة في أنّ العلم الإجمالي فيهما ينجّز وجوب الموافقة القطعية، وإنّما
يفترقان في أنّ احتمال ثبوت التكليف في هذا الطرف في الشبهة غير المحصورة احتمال
ضعيف، وضعف هذا الاحتمال يلازم قوة احتمال ثبوت التكليف في غير هذا الطرف، وهذا
يكون سبباً لبناء العقلاء على مسألة جعل البدل، بأن يكون ما عدا هذا الطرف، أي،
سائر الأطراف الأخرى بدلاً عن الحرام الواقعي على سبيل التخيير، بينما في الشبهة
المحصورة لا يوجد ضعف في احتمال ثبوت التكليف في هذا الطرف؛ ولذا لا مجال لمسألة
جعل البدل في الشبهة المحصورة. هذا خلاصة رأيه على ما تقدّم.
الذي
يمكن أن يُلاحظ على هذا الدليل هو، أنّ هذا الدليل كما أشرنا في الدرس
السابق يشبه الدليل الأوّل المتقدّم التام ظاهراً، غاية الأمر أنّ كلاً منهما
يشتركان في ضعف احتمال الانطباق في كل طرفٍ إذا لوحظ وحده. الدليل الأوّل كان
يُلاحظ أنّ ضعف الاحتمال في ذلك الطرف يلازم الاطمئنان بعدم الانطباق في ذلك الطرف،
إذا كان احتمال الانطباق في ألف من أطراف العلم الإجمالي ضعيف، ونسبته واحد بالألف
ـــــــــــ مثلاً ــــــــــ بلا شكٍّ يكون احتمال عدم الانطباق احتمالاً قوياً
ويصل إلى درجة الاطمئنان، ومن هنا يحصل اطمئنان بعدم الانطباق، وعدم ثبوت التكليف
في هذا الطرف إذا لوحظ وحده، وفي ذاك الطرف إذا لوحظ وحده؛ لأنّ ضعف احتمال
الانطباق في هذا الطرف يلازم قوة احتمال عدم الانطباق فيه بحيث تصل قوة الاحتمال
إلى درجة الاطمئنان، ويكون الاطمئنان بعدم الانطباق وعدم ثبوت التكليف في هذا
الطرف هو المستند والمجوّز لارتكابه، فيُستند إلى الاطمئنان باعتباره حجّة عقلائية
وشرعية ـــــــــــ ولو باعتبار عدم الردع كما تقدّم ــــــــــــ في مقام إثبات جواز
ارتكابه، وبالتالي عدم وجوب الموافقة القطعية. فالدليل الأوّل يستند إلى الاطمئنان
بعدم الانطباق في نفس الطرف، باعتباره لازماً للاطمئنان لضعف احتمال الانطباق فيه.
بينما المحقق العراقي(قدّس سرّه) لاحظ ضعف احتمال الانطباق في كلّ طرفٍ إذا لوحظ
وحده، ولاحظ ما يلازم ضعف الاحتمال فيه بالنسبة إلى سائر الأفراد لا بالنسبة إلى
نفس الفرد فقط، فقال: أنّ ضعف احتمال الانطباق في كلّ طرفٍ يُلازم قوة احتمال
الانطباق في الباقي على سبيل البدل، وجعل قوة احتمال الانطباق في الباقي منشئاً
لبناء العقلاء على مسألة جعل البدل. فالفرق بينهما هو أنّ الأوّل يقول: أنّ كلّ
طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي، إذا لوحظ وحده، احتمال ثبوت التكليف فيه ضعيف،
واحتمال عدم ثبوت التكليف فيه قوي جدّاً بحيث يصل إلى درجة الاطمئنان بعدم ثبوت
التكليف فيه، وهذا الاطمئنان بعدم ثبوت التكليف حجّة بمثابة العلم بعدم ثبوت
التكليف فيه، ويكون هو المبرر والمدرك لجواز الارتكاب. بينما المحقق العراقي(قدّس
سرّه) لم يذكر ذلك، وإنّما لاحظ أنّ ضعف احتمال الانطباق في كل طرفٍ إذا لوحظ
وحده، يلازم قوة احتمال الانطباق في الباقي على سبيل البدل، وقلنا أنّه جعل هذا
منشئاً لبناء العقلاء ــــــــــــ ولو على مستوى الاحتمال ـــــــــــــ على
مسألة جعل البدل.
توجيه
المحقق العراقي(قدّس سرّه) لجواز الارتكاب في الشبهة غير المحصورة
ــــــــــ إذا ثبت ـــــــــــ مع أنّ مبناه هو على العلّية التامّة، فهو يرى أنّ
العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، دليل يدلّ على جواز الارتكاب
كإجماعٍ ـــــــــــ مثلاً ـــــــــــ، من جهةٍ هو يرى أنّ العلم الإجمالي علّة
تامّة لوجوب الموافقة القطعية التي تمنع من ارتكاب حتّى طرف واحد، توجيه هذا على
هذه المباني ينحصر بمسألة جعل البدل؛ لأنّه بناءً على مسألة جعل البدل سوف نحافظ
على كل هذه الأمور، يعني نلتزم بالعلّية التامّة، ونقول أنّ العلم الإجمالي ينجّز وجوب
الموافقة القطعية، غاية الأمر أنّ الشارع اكتفى في مقام الامتثال ببدله، وإذا
اكتفى بالبدل؛ فالإتيان بالبدل حينئذٍ يكون موافقة قطعية للشارع، فإذن، هو لا يخرج
عن حدود الموافقة القطعية، وإنّما وافقه قطعاً، لكن الشارع جعل هذا بدل هذا، فإذا
ترك هذا؛ فحينئذٍ يكون قد وافق الشارع قطعاً، لكن انحصار توجيه جواز الارتكاب
ــــــــــــــ إذا ثبت بدليل ــــــــــــــ بمسألة جعل البدل، على مبنى المحقق
العراقي (قدّس سرّه) الذي هو العلّية التامّة، قد يكون مقبولاً، لكن أساس المبنى
هو محل مناقشة على ما تقدّم؛ لأنّ العلم الإجمالي ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة
القطعية.
المسألة
الثانية،
مسألة ثبوت جواز الارتكاب، وعدم وجوب الموافقة القطعية بإجماعٍ ونحوه، هذه أيضاً
مسألة تحتاج إلى إثبات؛ ولذا ذُكر في كلماتهم أنّ أحد الأدلّة على عدم وجوب
الموافقة القطعية في الشبهة غير المحصورة هو الإجماع، قالوا: هناك إجماع على عدم وجوب
الموافقة القطعية في الشبهة غير المحصورة، إذا تمّ هذا، لكن كما قلنا أنّ المبنى
غير تام، لا ينحصر توجيه جواز الارتكاب ــــــــــــ إذا ثبت ــــــــــــ بذلك؛
بل يمكن توجيهه بما تقدّم من الوجوه السابقة؛ بل إذا تمّ ما تقدّم من الوجوه
السابقة، أو بعض الوجوه السابقة، يمكن الاستناد إليها في إثبات جواز الارتكاب بلا
حاجة إلى إجماعٍ . يعني إذا ناقشنا في تحقق الإجماع، فيمكن الاستناد إلى بعض
الوجوه السابقة لإثبات جواز الارتكاب.
الدليل
السادس: هو
عبارة عن رواية، قالوا أنّ فيها دلالة على عدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهات
غير المحصورة، وهي رواية أبي الجارود، قال:
(سألت أبا
جعفر "عليه السلام" عن الجبن، فقلت له: أخبرني من رأى أنّه يُجعل فيه
الميتة، فقال: أمن أجل مكانٍ واحد يُجعل فيه الميتة حرُم في جميع الأرضين ؟ ........والله،
أنّي لأعترض السوق، فأشتري بها اللّحم، والسمن، والجبن، والله، ما أظنّ كلّهم
يسمّون، هذه البربر وهذه السودان).[1]
الاستدلال
بالرواية بدعوى
أنّ الرواية ظاهرة في عدم تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية في ما إذا
كانت الشبهة غير محصورة.
اعترض
على الاستدلال بالرواية، وسيأتي في مناقشة الاعتراضات بيان
الوجه الصحيح لتقريب دلالتها على عدم وجوب الموافقة القطعية:
أولاً:
بضعف
السند؛ لأنّ الرواية فيها محمد بن سنان، وهو محل كلام معروف.
ثانياً:
بضعف
الدلالة. والمعترض هو الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)،
[2]
ولو ذكره بعنوان الاحتمال، الشيخ كأنّه يريد أن يقول: يُحتمل أن تكون الرواية
أجنبية عن محل الكلام، وليست ناظرة إلى الشبهة غير المحصورة، وإنّما هي ناظرة إلى
أنّه مع العلم بوجود الحرام في مكانٍ معيّن، هذا لا يصير موجباً لترك كل جبنٍ
موجود في العالم لمجرّد احتمال أن يكون في ذلك الجبن ميتة، العلم بوضع الميتة في
الجبن المعيّن غايته أنّه يصير منشئاً لاحتمال أن يكون الجبن في موضع آخر أيضاً
وضعت فيه الميتة، لكن هذا ليس بابه باب العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة،
فالإمام (عليه السلام) يقول له:
(أمن أجل مكان واحد
يُجعل في الميتة حرُم جميع ما في الأرض)، فلم يفترض شبهة غير محصورة، ولم
يفترض بأنّه يعلم بأنّ بعض الجبن مما يُجعل فيه الميتة، وإنّما هو علم بلا تردد
ولا اشتباه كما يتطلّبه العلم الإجمالي، فلم يفترض الاشتباه والتردد والإجمال، هو
علم بوضع الميتة في جبنٍ معيّن، هذا صار منشئاً لاحتمال أنّ جبناً آخر في مكان آخر
أيضاً وضعت فيه الميتة، لكن هذا الاحتمال لا يُعتنى به، ولا معنى للاعتناء بهذا
الاحتمال من أجل أنّه رأى جبناً في موضعٍ معيّن يوضع فيه الميتة، الرواية ناظرة
إلى هذا وليست ناظرة إلى مسألة الاشتباه و العلم الإجمالي، والشبهات غير المحصورة،
فتكون أجنبية عن محل الكلام.
هذا
الاعتراض لعلّه ركّز على صدر الرواية، إنصافاً، صدر الرواية فيه هذا
الظهور(أخبرني من رأى أنّه يُجعل فيه الميتة)، هذا يصير منشئاً لاحتمال أن كل جبن
فيه الميتة، لكن هذا احتمال مجرّد، فقال:
(أمن أجل مكانٍ
واحد يُجعل فيه الميتة حرُم جميع ما في الأرض)،صدر الرواية لعلّه يؤيّد هذا الفهم، لكن ذيل الرواية
لعلّه لا يؤيّد هذا الفهم. يقول
(والله، أني لأعترض
السوق، فأشتري اللّحم والسمن والجبن. والله، ما أظنّ كلّهم يسمّون). ظاهر
العبارة عرفاً أنّ المراد بها هو الاطمئنان بأنّ بعضهم لا يُسمّي(ما أظنّ كلّهم
يسمّون) عرفاً يُفهم منها أنّ بعض هؤلاء السودان، وبعض هؤلاء البربر لا يسمّون،
على الإجمال، ولم يشخّص بعضاً معيّناً لا يسمّي، يعني أنا أعلم، أو أطمئن أنّ
بعضهم، على الإجمال لا يُسمّي، فصار علماً إجمالياً، أنّ بعض اللّحم، أو السمن، أو
الجبن المُشترى من السوق هو طرف لعلم إجمالي بأنّ هناك علماً بأنّ بعض من يبيعها
لا يسمّون، فيكون كل لحم يُشترى من السوق هو طرف لعلم إجمالي، أي، احتمال أن يكون
هذا مأخوذ من الشخص الذي لا يُسمّي، المعلوم بالإجمال، أو بالاطمئنان، احتمال أن
يكون هذا الشخص الذي نعلم إجمالاً بأنّه لا يُسمّي، لعلّه يكون هو هذا الذي اشترى
منه اللّحم، أو السمن، أو الجبن، هذا علم إجمالي، والظاهر أنّ الأفراد كثيرة، فلعلّ
الرواية، أو ذيل الرواية على الأقل، ناظر إلى مسألة العلم الإجمالي في الشبهات غير
المحصورة، والرواية فيها ظهور في أنّه لا يجب الاجتناب عن الجبن، يعني لا تجب الموافقة
القطعية. لعلّ من استدل بالرواية استدلّ بها على هذا الأساس، أي، استدلّ بذيلها
على ذلك، ولعلّه يجعل الذيل مفسّراً للصدر، ويحمل الصدر على هذا المعنى، ومن يناقش
في الاستدلال بها يلاحظ الصدر، باعتبار أنّ الصدر وحده إذا جُرّد عن الذيل ليس فيه
دلالة على افتراض علمٍ إجمالي واشتباه وتردد حتّى تكون الرواية ناظرة إلى محل
الكلام. وعلى كل حال، الرواية فيها مناقشة سندية.
هذه
هي أهم الأدلّة التي استدلّ بها على عدم وجوب الموافقة القطعية في
محل الكلام، والظاهر أنّ الدليل الأوّل منها ــــــــــ على الأقل ـــــــــ تام،
فيمكن الاستناد إليه لإثبات عدم وجوب الموافقة القطعية. ويؤيّد هذا الشيء الإجماع،
مسألة الإجماع أيضاً ينبغي أن تُذكر باعتبار أنّ هذا الكلام نُقل في كلمات الفقهاء
وكأنّه من الأمور المسلّمة، أنّ الشبهات غير المحصورة لا تجب فيها الموافقة
القطعية. هذا بالنسبة إلى أصل المطلب.
بعد
الفراغ عن عدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهات غير المحصورة، الذي
يعني جواز ترك الموافقة القطعية بارتكاب بعض أطراف الشبهة، فيجوز للمكلّف ارتكاب
بعض الأطراف. هذا فرغنا منه. الآن يقع الكلام في جواز المخالفة القطعية التي تعني
ارتكاب الجميع. وفرض مسألتنا في الشبهات التحريمية، المرحلة الأولى هي جواز ارتكاب
البعض، وقلنا أنّ هذا يجوز؛ لعدم وجوب الموافقة القطعية. الآن نتكلّم عن أنّه هل
يجوز ارتكاب جميع أطراف الشبهة التي ارتكبها، إذا قلنا بالجواز، وأنّ المخالفة
القطعية ليست حراماً؛ لأنّ ارتكاب الجميع يعني المخالفة القطعية للتكليف المعلوم
بالإجمال. وإذا قلنا بالحرمة؛ فحينئذٍ تكون المخالفة القطعية محرّمة.
هذه
المسألة إنّما تُطرح حينما يُفترض تمكّن المكلّف من المخالفة القطعية،
فإذا كان المكلّف متمكّناً من المخالفة القطعية؛ حينئذٍ نبحث، أنّ هذه المخالفة
القطعية بالنسبة له هل هي جائزة، أو حرام عليه ؟ أمّا إذا فرضنا أنّه غير قادر،
كما هو مبنى المحقق النائيني(قدّس سرّه)، حيث أنّه يعتبر أنّ الميزان في الشبهة
غير المحصورة هو عدم القدرة على المخالفة القطعية، يعني هو يفترض في كل شبهة غير
محصورة عدم التمكّن من المخالفة القطعية، ويستند إلى عدم التمكّن من المخالفة
القطعية لإثبات عدم منجّزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية؛ لأنّه يرى أنّ
وجوب الموافقة القطعية تابع لحرمة المخالفة القطعية. إذا فرضنا ذلك بناءً على هذا
المسلك للمحقق النائيني(قدّس سرّه) حينئذٍ تكون هذه المسألة سالبة بانتفاء الموضوع،
نحن نتكلّم عن جواز المخالفة القطعية وحرمتها عندما يفترض تمكّن المكلّف من المخالفة
القطعية، فنقول له يجوز لك ذلك، أو يحرم عليك ذلك. أمّا عندما نفترض في نفس عنوان
المسألة، أي في نفس افتراض الشبهة غير المحصورة عدم تمكّن المكلّف من المخالفة
القطعية؛ فحينئذٍ لا معنى للبحث عن أنّ المخالفة القطعية جائزة، أو حرام؛ ولذا هذه
المسألة لا تُطرح بناءً على مسلك المحقق النائيني(قدّس سرّه) المطروح سابقاً. نعم،
على المسالك الأخرى في الميزان في الشبهة غير المحصورة يمكن طرح هذه المسألة،
فيقال: بعد الفراغ عن جواز ارتكاب بعض أطراف الشبهة يقع الكلام في جواز ارتكاب
تمام أطراف الشبهة، لو فُرض أنّ المكلّف كان متمكّناً من ارتكاب جميع أطراف
الشبهة، هل المخالفة القطعية جائزة، أو لا ؟
قالوا:
أنّ
الجواب عن هذا السؤال يختلف باختلاف المباني في الميزان في الشبهة غير المحصورة،
ويختلف باختلاف ما يُستند إليه لإثبات عدم وجوب الموافقة القطعية، فلابدّ من
مراجعة هذه المباني، أو الأدلّة المتقدّمة حتّى نعرف أنّه متى نلتزم بحرمة المخالفة
القطعية، ومتّى نلتزم بجوازها ؟
المبنى
الأوّل: وهو
المبنى الذي يرى أنّه في كل شبهة غير محصورة هناك اطمئنان بعدم الانطباق في كلّ
طرفٍ من أطراف ذلك العلم الإجمالي إذا لوحظ وحده. على هذا المبنى الجواب العام عن
السؤال المطروح في هذه المسألة هو أنّ كل طرف ما دام هذا الاطمئنان الذي استُند
إليه في جواز الارتكاب موجوداً فيه، فيجوز ارتكابه؛ لأنّ المدرك لتجويز الارتكاب
هو الاطمئنان بعدم ثبوت التكليف في هذا الطرف. فإذا ارتكب الطرف الأوّل،
فالاطمئنان موجود فيه، وكذلك الطرف الثاني، والثالث...وهكذا، فإذا فُرض وجود
الاطمئنان حتّى في الفرد الأخير يجوز له ارتكابه؛ لأنّ المدرك على هذا المبنى هو الاطمئنان
بعدم الانطباق في كل طرفٍ إذا لوحظ وحده، فما دام الاطمئنان موجوداً يجوز الارتكاب،
ولو أدّى ذلك إلى المخالفة القطعية. هذا بشكلٍ عام.
الكلام
في أنّ هذا الاطمئنان الذي استندنا إليه لإثبات جواز
الارتكاب وعدم وجوب الموافقة القطعية، هل يزول بالارتكاب التدريجي للأطراف ؟ إذا
زال الاطمئنان؛ حينئذٍ يسقط المدرك والمستند لتجويز الارتكاب، فرضاً ارتكب مقداراً
لا بأس به من الأطراف، ووصل إلى أطراف أخرى، وفرضنا أنّ في هذه الأطراف الأخرى
يزول الاطمئنان بعدم الانطباق، فإذا زال الاطمئنان يزول المستند الذي نستند إليه
لإثبات جواز الارتكاب، فلا يجوز الارتكاب، وهذا معناه أنّ المخالفة القطعية حرام،
فلا نجوّز له المخالفة القطعية. وأمّا إذا فرضنا عدم زوال الاطمئنان بالارتكاب
التدريجي للأطراف، وإنّما يبقى على حاله، فكما أنّ هناك اطمئناناً في الطرف الأوّل
الذي ارتكبه، كذلك الاطمئنان باقٍ في هذا الطرف الذي يريد ارتكابه بعد اقتحام
أطراف أخرى، فإذا كان الاطمئنان باقياً؛ فحينئذٍ يجوز الاستناد إليه لإثبات جواز
الاقتحام. هل الاطمئنان يزول بارتكاب بعض أطراف الشبهة، أو لا يزول ؟
قد
يقال: لا
يزول، فيجوز الاستناد إليه في اقتحام باقي الأطراف، باعتبار أنّ أيّ طرفٍ من أطراف
هذا العلم الإجمالي من المقدار الباقي بعد ارتكاب البعض تكون نسبة الانطباق فيه هي
نفس نسبة الانطباق في الفرد الأوّل الذي ارتكبه، إذا كانت نسبة الانطباق في الفرد
الأوّل الذي ارتكبه هي نسبة واحد بالألف، إذا افترضنا أنّ عدد الأطراف ألف طرف،
كذلك هذه النسبة نفسها تبقى محفوظة في هذا الفرد الذي يريد ارتكابه بعد ارتكاب
جملة من أطراف العلم الإجمالي، باعتبار أنّ احتمال الانطباق في هذا الطرف، ولنفترض
أنّه الطرف العشرين، بعد ارتكاب الباقي هو واحد بالألف؛ لأنّه يحتمل ثبوت التكليف
في هذا الطرف، ويحتمل أيضاً ثبوت التكليف في غيره من الأطراف الأعم من الأطراف
التي ارتكبها ومن الأطراف الباقية، فحتّى لو فرضنا أنّه ارتكب الطرف الأوّل، لكن
الآن عندما يريد أن يقدم على الطرف العشرين، ألا يحتمل أنّ المعلوم بالإجمال ينطبق
على ذاك الطرف الذي ارتكبه ؟ بالوجدان يحتمل هذا، وهذا معناه أنّه عند احتمال
الانطباق في هذا الطرف العشرين، هو أيضاً واحد من ألف، بينما احتمال الانطباق في
الباقي الأعم الذي هو عبارة عن مجموع ما ارتكبه وما بقي، احتمال الانطباق في ما
عدا هذه العشرين هو احتمال كبير جدّاً واصل إلى درجة الاطمئنان، فإذن: يكون هناك
ضعف الاحتمال في هذا الطرف، وضعف الاحتمال في هذا الطرف يستلزم الاطمئنان بعدم
ثبوت التكليف فيه، وهذا معناه بقاء الاطمئنان في هذا الطرف بالرغم من ارتكاب بعض
الأطراف، وهذا معناه أنّ الاطمئنان لا يزول بارتكاب البعض؛ بل يبقى على حاله، غاية
الأمر أنّه في الطرف الأوّل الذي يرتكبه يكون هناك اطمئنان بثبوت التكليف في
الباقي الذي لم يرتكبه، بينما في الطرف العشرين يكون هناك اطمئنان بثبوت التكليف
في مجموع ما ارتكبه والباقي، هناك اطمئنان بثبوت التكليف في هذا، وهذا يلازم
الاطمئنان بعدم ثبوت التكليف في هذا الطرف، وإذا كان هناك اطمئنان يكون حجّة،
ويُستند إليه لإثبات جواز الارتكاب.