الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

35/08/11

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة/ تنبيهات العلم الإجمالي/ الشبهة غير المحصورة
كان الكلام في الاعتراض الثاني عن الدليل الأوّل الذي ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، وكان خلاصته المنع من حصول الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرف؛ بل يستحيل حصول هذا الاطمئنان؛ لأنّ افتراض حصول هذا الاطمئنان بعدم الانطباق في جميع الأطراف يعني الاطمئنان بعدم الانطباق في الجميع، وهذه سالبة كلّية تنافي الموجبة الجزئية المستفادة من نفس العلم الإجمالي بالانطباق في بعض الأطراف، فيستحيل افتراض حصول الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرف من أطراف العلم الإجمالي. أورد عليه بالنقض وتقدّم الكلام فيه.
 وأجيب عنه بالحل، ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) في مقالاته،[1] وحاصل ما يمكن أن يُذكر في مقام الحل هو أن يقال: أنّ هذه القضية إنّما تكون متحققة حينما نفترض أنّ الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرفٍ ثابت على نحو الإطلاق، بمعنى أنّ الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرفٍ ثابت حتّى على تقدير عدم الانطباق في الأطراف الأخرى؛ حينئذٍ لا إشكال في أنّ الاطمئنان الموجود في هذا الطرف والاطمئنان الموجود في ذاك الطرف بعد فرض أنّ كل واحدٍ منها ثابت بالإطلاق وحتّى على تقدير عدم الانطباق في الأطراف الأخرى، لا إشكال أنّ مجموع هذه الاطمئنانات في الأطراف يوّلد الاطمئنان بعدم الانطباق في الجميع، والاطمئنان بعدم الانطباق في الجميع هو عبارة عن السالبة الكلّية التي لا تجتمع مع الموجبة الجزئية.
وأمّا إذا فرضنا أنّ الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرفٍ ليس ثابتاً بنحو الإطلاق، وإنّما هو ثابت، لكن على تقدير الانطباق في الأطراف الأخرى، في مثل هذه الحالة لا يصح الكلام السابق؛ لأنّ مجموع هذه الاطمئنانات الموجودة في كل طرف وجوداً فعلياً لا يؤدي إلى الاطمئنان بعدم الانطباق في الجميع، حتّى يحصل الاطمئنان بالسالبة الكلّية المنافية للموجبة الجزئية؛ لأنّ كل اطمئنانٍ من هذه الاطمئنانات هو اطمئنان مقيّد، اطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف على تقدير الانطباق في الأطراف الأخرى وليس ثابتاً ثبوتاً مطلقاً، ومن الواضح أنّ الاطمئنان المقيد الموجود في هذا الطرف زائداً الاطمئنان المقيد الموجود في الطرف الثاني وفي الطرف الثالث وفي الرابع وفي الخامس..... وهكذا، لا يكاد ينتج حصول الاطمئنان عند المكلّف بعدم الانطباق في الجميع، أي لا ينتج الاطمئنان في السالبة الكلّية؛ لأنّ المفروض أنّ الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف إنّما حصل ونشأ مع افتراض الانطباق في الأطراف الأخرى، فهذا اطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف، لكن هو توّلد نتيجة افتراض الانطباق في غيره، الاطمئنان في الطرف الآخر أيضاً اطمئنان بعدم الانطباق موجود فعلياً فيه، لكنّه اطمئنان توّلد بافتراض الانطباق في الأطراف الأخرى، وهكذا في كل طرفٍ من الأطراف، مجموع هذه الاطمئنانات المقيّدة والثابتة على تقدير الانطباق في الأطراف الأخرى، لا ينتج بالضرورة حصول الاطمئنان عند الإنسان بعدم الانطباق في الجميع، لا يستطيع الإنسان أن يقول بأنّي مطمئن بعدم الانطباق في الجميع؛ لأنّ الاطمئنان ليس ثابتاً في كل طرفٍ على نحو الإطلاق، وإنّما هو ثابت في كل طرفٍ بنحو التقييد، في موارد الشبهة المحصورة، مورد النقض السابق المسألة واضحة، كان النقض هو أنّه عندما يكون هناك طرفان للعلم الإجمالي لا إشكال في أنّ احتمال عدم الانطباق في هذا الطرف ثابت بالوجدان، واحتمال عدم الانطباق في هذا الطرف أيضاً، احتمال عدم الانطباق في هذا الطرف إنّما يكون ثابتاً على تقدير الانطباق في الطرف الآخر، إذن احتمال عدم الانطباق في هذا الطرف ليس ثابتاً ثبوتاً مطلقاً، يعني لا يثبت احتمال عدم الانطباق حتّى على تقدير عدم الانطباق في الطرف الآخر؛ بل احتمال الانطباق في الطرف الآخر هو الذي يوّلد احتمال عدم الانطباق في هذا الطرف، إذن: احتمال عدم الانطباق في هذا الطرف ثابت ثبوتاً مقيداً كما أنّ احتمال عدم الانطباق في الطرف الآخر أيضاً ثابت ثبوتاً مقيداً، الجمع بين مثل هذين الاحتمالين لا ينتج احتمال عدم الانطباق في الجميع حتّى يقال أنّ هذا احتمال للسلب الكلّي وهو ينافي الموجبة الجزئية؛ لأننا قلنا أنّ الموجبة الجزئية ينافيها ليس فقط الاطمئنان بالسلب الكلّي؛ بل الاطمئنان بالسلب الكلّي والظن بالسلب الكلّي واحتمال السلب الكلّي أيضاً ينافي الموجبة الجزئية، لكنّ ضمّ هذين الاحتمالين المقيّدين بعضهما إلى بعض لا ينتج عدم الانطباق في كلٍ من الطرفين على نحوٍ يكون منافياً للإيجاب الجزئي، وإنّما الاحتمال الثابت في كل واحدٍ منهما ثابت على نحو التقييد لا على نحو الإطلاق.
وبعبارةٍ أخرى: في محل كلامنا الاطمئنان بعدم الانطباق في كل طرف لا يمكن إنكاره، وهو ثابت ثبوتاً فعلياً بالوجدان، لكن الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف إنّما حصل في الحقيقة نتيجة اتّفاق احتمال الانطباق الموجود في الأطراف الأخرى على نفي الانطباق في هذا الطرف، يعني حصل الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف؛ لأنّه يوجد احتمال الانطباق في هذا الطرف وفي ذاك الطرف وفي ذاك الطرف .......وهكذا 999 طرف إذا كانت الأطراف 1000، مجموع احتمالات الانطباق في كل هذه الأطراف الكثيرة هي التي تنفي احتمال الانطباق في هذا الطرف وتوصل احتمال عدم الانطباق إلى درجة الاطمئنان في هذا الطرف. إذن: الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف توّلد نتيجة الجمع بين احتمال الانطباق في الطرف الثاني واحتمال الانطباق في الطرف الثالث واحتمال الانطباق في الرابع ........وهكذا، مجموع هذه الاحتمالات هو الذي ينفي احتمال الانطباق في هذا الطرف ويوصله إلى درجة الاطمئنان بعدم الانطباق. إذن: هذا الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف توّلد من احتمال الانطباق في الأطراف الأخرى؛ حينئذٍ كيف يُعقل أن يكون الجمع بين هذا الاطمئنان بهذا النحو وبهذه الكيفية، وبين الاطمئنان الموجود في الطرف الآخر أيضاً بهذا النحو وبهذه الكيفية، والاطمئنان الموجود في الطرف الثالث....... وهكذا، كيف يكون هذا موجباً لحصول الاطمئنان بالسالبة الكلّية ؟! يعني كيف يكون هذا موجباً لحصول الاطمئنان بعدم الانطباق في جميع الأطراف على نحوٍ يكون منافياً للموجبة الجزئية كما ذكرنا ؟! وإنّما مثل هذا يصح عندما يكون الإحراز، مهما كانت درجة الإحراز، سواء كان الإحراز على نحو الاطمئنان، أو على نحو الظن، أو على نحو الاحتمال، إذا كان إحراز المتعلّق ثابتاً في كل طرف مطلقاً، هو ثابت في هذا الطرف حتّى على تقدير عدم ثبوته في الطرف الآخر؛ حينئذٍ يمكن أن يحصل نتيجة ذلك إحراز عدم الانطباق في الجميع، يعني إحراز السالبة الكلّية المنافية للموجبة الجزئية، كما لو فرضنا قامت إمارة على عدم الانطباق في هذا الطرف، وقامت إمارة على عدم الانطباق في هذا الطرف أيضاً بلا افتراض علم إجمالي، نستطيع أن نقول حينئذٍ حصل الاطمئنان بقيام إمارة بعدم النجاسة في هذا الإناء، وقامت إمارة أخرى على عدم النجاسة في الإناء الآخر من دون افتراض علم إجمالي، لا إشكال في أنّ مجموع الاطمئنانين يوجب الاطمئنان بعدم النجاسة في كلٍ منهما؛ لأنّ الاطمئنان بعدم النجاسة في هذا ثابت ثبوتاً مطلقاً، يعني ثابت حتّى على تقدير عدم النجاسة في الطرف الآخر، وهكذا الطرف الآخر، الاطمئنان بعدم النجاسة فيه ثابت حتّى على تقدير عدم ثبوت النجاسة في الطرف الأوّل، فهنا اطمئنان بعدم النجاسة وهنا أيضاً اطمئنان بعدم النجاسة، فيستطيع أن يقول المكلّف بأني مطمئن بعدم النجاسة في الجميع، فيحصل الاطمئنان بالسالبة الكلّية، فإذا فرض فرضاً وجود موجبة جزئية؛ حينئذٍ تكون منافية ومعارضة لها. في محل الكلام الأمر يختلف، الاطمئنان بعدم النجاسة في هذا الطرف هو وليد وجود النجاسة في الطرف الآخر، يعني هو ثابت على تقدير وجود النجاسة في الطرف الآخر، هذا هو الثابت في محل كلامنا، الاطمئنان بعدم الانطباق في أطراف العلم الإجمالي الكثيرة هو وليد افتراض الانطباق في غيره من الأطراف، وهذا هو معنى الكلام الذي قلناه من أنّ هذا الاطمئنان ينشأ ويتوّلد نتيجة الاحتمالات المتعدّدة للانطباق في الأطراف الأخرى، فأنّ هذه الاحتمالات المتعددّة للانطباق في الأطراف الأخرى هي التي توّلد هذا الاطمئنان وتنفي احتمال الانطباق في هذا الطرف، ونفس الكلام يقال في أيّ طرف نضع يدنا عليه، أيّ طرفٍ من الأطراف يوجد فيه اطمئنان بعدم الانطباق عندما تكون الأطراف كثيرة، وهذا الاطمئنان بعدم الانطباق يتوّلد نتيجة احتمال الانطباق الموجود في باقي الأطراف، فأنّه يوّلد هذا الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف. مثل هذا الاطمئنان بهذا الشكل في هذا الطرف وهذا الاطمئنان بهذا الشكل في الطرف الثاني، والثالث، والرابع....وهكذا، هذا لا ينتج الاطمئنان بالسالبة الكلّية.
هذا الجواب الحلّي ذكره السيد الشهيد(قدّس سرّه) في تقريرات بحثه[2] لكن ذكره المحقق العراقي(قدّس سرّه) قبله ليس بهذا البيان، لكن يمكن أن يستفاد منه هذا البيان، المحقق العراقي(قدّس سرّه) بعد أن ذكر أصل الاعتراض بعنوان(التوهّم) ذكر توهّم اقتضاء ضعف كل طرف وجود الاطمئنان بالعدم فيه، واضح أنّ ضعف احتمال الانطباق في هذا الطرف يوجب حصول الاطمئنان بعدم الانطباق فيه، ضعف كل طرف يستلزم وجود الاطمئنان بالعدم فيه، وهو مستلزم للاطمئنان بعدم التكليف في جميع الموارد ـــــــــــــ الذي هو السالبة الكلّية ـــــــــــــ وهو مع وجود العلم الإجمالي بوجوده ــــــــــــ أي بوجود التكليف ـــــــــــــ في بعضها مستحيل، باعتبار المناقضة بين السالبة الكلّية والموجبة الجزئية. بعد أن ذكر هذا التوهّم أجاب عنه بما نصّه، قال:
(مدفوع ــــــــــ هذا التوهّم ــــــــــ بأنّه كذلك ـــــــــــــ يعني يوجب الاطمئنان بعدم التكليف في جميع الموارد، يعني الاطمئنان بالسالبة الكلّية المنافي للعلم الإجمالي ـــــــــــــ لو كان ضعف الاحتمال في كل واحدٍ ملازماً للاطمئنان بعدمه في هذا المورد تعييناً، وأمّا لو كان ملازماً للاطمئنان بوجوده في غيره ــــــــــــ أي بوجود التكليف في غيره ـــــــــــ فلا يكون لازم الاحتمال المزبور إلاّ الاطمئنان بالعدم في كل طرفٍ بنحو التبادل ــــــــــ لا الاطمئنان بعدم التكليف في  جميع الموارد الذي هو الاطمئنان بالسالبة الكلّية ـــــــــــــ ولا بأس حينئذٍ بالجمع بين هذا النحو من الاطمئنان بالعدم بالنسبة إلى جميع الأطراف مع العلم المزبور ـــــــــــــ يعني مع العلم الإجمالي، أي مع العلم بالموجبة الجزئية ـــــــــــــ).[3]
هذا في الحقيقة هو نفس البيان السابق؛ لأنّ مراده من أنّ ضعف الاحتمال في كل طرف لو كان ملازماً للاطمئنان بعدم الانطباق في ذلك الطرف بقطع النظر عن الانطباق، أو عدمه في الأطراف الأخرى، يكون التوهّم في محلّه، لو كان ضعف الاحتمال في هذا الطرف فقط يثبت الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف بقطع النظر عن الانطباق وعدم الانطباق في الأطراف الأخرى، نقول: هذا التوهّم يكون في محلّه، وهو معنى ما تقدّم من أنّ الاطمئنان بعدم الانطباق إذا كان ثابتاً بنحو الإطلاق، يعني أنّه ثابت حتّى على تقدير عدم الانطباق في الأطراف الأخرى، لكنّ الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف المتولّد من ضعف الانطباق في هذا الطرف يستلزم الاطمئنان بوجود التكليف في غيره، وهذا معنى أنّ الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف ليس ثابتاً على نحو الإطلاق، وإنّما هو ثابت على تقدير افتراض ثبوت التكليف في الأطراف الأخرى، ومثل هذا الاطمئنان الثابت ثبوتاً مقيّداً بهذا النحو لا ينتج الاطمئنان بالسالبة الكلّية، فلا مانع من أن يجتمع مع الموجبة الجزئية، ظاهراً أنّه يمكن تفسير كلامه بهذا الشيء الذي ذكرناه سابقاً.
الاعتراض الثالث على ما ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه): أننّا حتّى لو سلّمنا حصول الاطمئنان بعدم الانطباق في كل أطراف العلم الإجمالي، لكن من قال بأنّ هذا الاطمئنان حجّة ؟ الظاهر أنّ هذا الاطمئنان لا اعتبار به، ليس من جهة التشكيك بأنّ الاطمئنان حجّة عند العقلاء ولم يردع عنه الشارع، فيكون حجّة شرعاً، ليس من هذه الجهة؛ بل نسلّم هذه الجهة، أنّ الاطمئنان حجّة ومؤمّن عند العقلاء، وأنّ الشارع لم يردع عن ذلك، فيكون حجّة شرعاً أيضاً، لكن، إنّما يقال في المقام بعدم حجّية الاطمئنان باعتبار التعارض، على غرار الأصول المتعارضة في أطراف العلم الإجمالي، فكما يقال هناك أنّ الأصل يسقط في كل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي ولا يكون حجّة؛ لأنّ الأصل في هذا الطرف معارض بالأصل في الأطراف الأخرى، ولا يمكن إجراء الأصول في جميع الأطراف؛ لأنّه على خلاف العلم الإجمالي، ولا يمكن إجراء الأصول في بعض الأطراف دون البعض الآخر؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح، وهذا يحقق حالة التعارض بين الأصول؛ وحينئذٍ لابدّ من افتراض التساقط فيها.
نفس هذا الكلام يقال في الاطمئنانات الموجودة في محل الكلام؛ لأننّا فرضنا سابقاً أنّ نسبة هذا الاطمئنان إلى كل الأطراف نسبة واحدة تستحقه كل الأطراف. إذن: الاطمئنان موجود في هذا الطرف وهذا الطرف وذاك الطرف، وذاك ........وهكذا إلى آخر الأطراف الكثيرة، هل يمكن الالتزام بحجّية هذه الاطمئنانات في جميع الأطراف ؟ كلا؛ لأنّه ينافي العلم الإجمالي؛ لأننا نعلم إجمالاً بثبوت التكليف في بعض هذه الأطراف، كيف يمكن الجمع بين العلم الإجمالي بثبوت التكليف في بعض هذه الأطراف وبين إجراء حجّية الاطمئنان في هذا الطرف وفي ذاك الطرف وذاك الطرف .... وهكذا كل الأطراف ؟ هذا لا يمكن الالتزام به، الالتزام بحجّية الاطمئنان لا أصل تكوّن الاطمئنان كما كنّا نتكلّم عنه سابقاً، الالتزام بحجّية هذا الاطمئنان في جميع الأطراف على خلاف العلم الإجمالي، والالتزام بحجّية الاطمئنان في بعض الأطراف دون بعضٍ ترجيح بلا مرجّح، فيحصل التعارض بين هذه الاطمئنانات وتتساقط، فلا يبقى هناك اطمئنان معتبر يمكن الاستناد إليه لتجويز الإقدام على ذلك الفرد.
أجيب عن هذا الاعتراض: بأنّ تساقط الأدلّة في صورة العلم بكذب بعضها، أصولاً كانت، أو أدلّة، أو اطمئنانات، عندما نعلم بأنّ بعضها كاذب؛ لأننا نعلم بوجود التكليف في بعض هذه الأطراف، إذن: بعض هذه الاطمئنانات كاذب وليس حجّة، ولكن لا نستطيع أن نشخّص أيّ اطمئنان منها هو كاذب ويسقط عن الحجّية؛ فحينئذٍ تحصل حالة التعارض ويسقط الجميع. سقوط الأدلّة المتعارضة في موارد العلم الإجمالي له سببان:
السبب الأوّل: أن تحصل حالة التكاذب نتيجة جريان تلك الأدلّة في جميع الأطراف؛ وحينئذ يقال لا يمكن الالتزام بحجّية الأدلّة المتكاذبة مع افتراض أنّها متكاذبة، كما لو فرضنا قيام الدليل على وجوب صلاة الجمعة، وقام دليل آخر على وجوب صلاة الظهر في زمان الغيبة ونحن نعلم بأنّ أحد الوجوبين كاذب؛ لأنّ الواجب في زمان الغيبة هو أحد الأمرين، إمّا صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، إذن: أحد الوجوبين الذين قام عليهما الدليل هو غير مطابق للواقع، نعلم بذلك إجمالاً، في هذه الحالة يتعارض الدليلان ويتساقطان؛ لأنّ هناك حالة تكاذب بينهما؛ لأنّ هذا الدليل الذي يدلّ على وجوب صلاة الجمعة يدلّ بالدلالة الالتزامية على عدم وجوب صلاة الظهر، يعني هو يكذّب الدليل الآخر، كما أنّ الدليل الآخر الدال على وجوب صلاة الظهر يكذّب وينفي وجوب صلاة الجمعة بالدلالة الالتزامية، إذن: الدليلان بينهما تكاذب ولا يمكن جعل الحجّية لكليهما، ولا يمكن أن يكون كل منهما حجّة؛ لأنّهما متكاذبان، ولا يمكن جعل الحجّية لأمرين متكاذبين، فلابدّ من افتراض تساقطهما فتتحقق حالة التساقط، هذا سبب للتساقط.
السبب الثاني: هو أنّه يلزم من البناء على حجّية كلا الدليلين الترخيص في المخالفة القطعية، إجراء هذا الدليل في هذا الطرف، وهذا الدليل في هذا الطرف يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، والترخيص في المخالفة القطعية ممنوع ومحال، فيقع التعارض بين الدليلين، أو بين الأصلين.
بالنسبة إلى السبب الأوّل وهو مسألة حصول حالة التكاذب، هذه ليست متحققة في محل الكلام، يعني لا يمكن أن نلتزم بسقوط الاطمئنانات الموجودة في أطراف العلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة، أنّ نلتزم بتساقط هذه الاطمئنانات على اساس التكاذب؛ لأنّه أيّ اطمئنان من هذه الاطمئنانات الموجودة في الأطراف، الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف( أ ) هذا إذا أخذناه مع الاطمئنان بعدم الانطباق في الطرف الثاني ( ب ) أو مع الاطمئنان في الطرف الثالث، ليس بينهما تكاذب؛ إذ بالإمكان أن يكون كل منهما صادقاً، لا مشكلة في أن يكون الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف صادقاً، بأن لا يكون هناك نجاسة في هذا الطرف، وهذا الاطمئنان بعدم الانطباق أيضاً صادق، بأن لا يكون هناك تكليف ولا نجاسة في الطرف الثاني، فمع افتراض إمكان أن يكون كل منهما صادقاً، فهذا معناه أنّه ليس بينهما حالة تكاذب، وهذا واضح. وأمّا إذا أخذنا الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف مع الاطمئنانات بعدم الانطباق الموجودة في سائر الأطراف، هل يوجد بينهما تكاذب ومنافاة،      أو لا ؟ المُدّعى في المقام عدم وجود تكاذب بينهما؛ باعتبار أنّ هذه الاطمئنانات بعدم الانطباق الموجودة في سائر الأطراف المفروض ـــــــــــــ على ضوء ما تقدّم في الجواب الحلّي ــــــــــــ أنّها لا تؤدّي إلى الاطمئنان بعدم الانطباق في جميع هذه الموارد؛ لأننا قلنا أنّه أيّ اطمئنانين يكونان ثابتين ثبوتاً مقيّداً لا مطلقاً، هذان الاطمئنانان لا ينتجان الاطمئنان بعدم الانطباق في الجميع؛ لأنّهما ثابتان ثبوتاً مقيّداً لا ثبوتاً مطلقاً، الاطمئنان في سائر الأطراف هو من هذا القبيل، هو اطمئنان بعدم الانطباق ولا فرق بينه وبين الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف، إذن: مجموعة الاطمئنانات في سائر الأطراف لا تؤدّي إلى الاطمئنان بعدم الانطباق في جميع سائر الأطراف؛ لأنّ ثبوتها ثبوتاً مقيداً وليس ثبوتاً مطلقاً، وعليه: فلا يحصل هناك تكاذب بين الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف وبين مجموعة الاطمئنانات بعدم الانطباق في سائر الأطراف التي لا تؤدّي إلى الاطمئنان بعدم الانطباق في جميع سائر الأطراف، لا يوجد بينهما تكاذب؛ بل من الممكن أن يكون كل منهما صادقاً، ولا محذور في ذلك؛ لأنّ هذا لا يؤدّي إلى الاطمئنان بعدم الانطباق في جميع الباقي، لو كان يؤدّي إلى الاطمئنان بعدم الانطباق في جميع الباقي، هذا ينافي الاطمئنان بعدم الانطباق في هذا الطرف.





[1] مقالات الأصول، المحقق العراقي، ج 2، ص 242.
[2] بحوث في علم الأصول، تقرير بحث السيد محمد باقر الصدر للسيد محمود الشاهرودي، ج 5، ص 231.
[3] مقالات الأصول، المحقق العراقي، ج 2، ص 242.