الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

35/07/11

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة/ تنبيهات العلم الإجمالي
 الصورة الثالثة التي يقع الكلام فيها في أنّ الثمرة هل تظهر فيها أو لا ؟ بين القول بالعلّية والقول بالاقتضاء هي ما إذا كان الاختصاص من جهة وجود أصل ترخيصي طولي في أحد الطرفين مع وجود أصلين ترخيصيين  في الطرفين، فهناك ثلاثة أصول ترخيصية، أحد الطرفين يوجد فيه أصلان ترخيصيان طوليان كاستصحاب الطهارة وقاعدة الطهارة، بينما الطرف الآخر يختص بقاعدة الطهارة ولا يجري فيه الاستصحاب.
هنا قد يقال: بأنّ استصحاب الطهارة في هذا الطرف يتعارض مع قاعدة الطهارة في الطرف الآخر وبعد التعارض والتساقط تصل النوبة إلى قاعدة الطهارة في هذا الطرف، مستصحب الطهارة نجري فيه قاعدة الطهارة، فتظهر الثمرة، أنّه بناءً على الاقتضاء لا مانع من جريان قاعدة الطهارة في هذا الطرف؛ لأنّه ليس له معارض، وأمّا بناءً على القول بالعلّية، فلا تجري قاعدة الطهارة في هذا الطرف وإن لم يكن لها معارض، فتظهر الثمرة في ذلك.
والوجه في ذلك واضح: لأنّ قاعدة الطهارة في مرتبتها لا معارض لها التي هي مرتبة ما بعد سقوط استصحاب الأصل الحاكم؛ لأنّها في طول استصحاب الطهارة، بعد سقوط استصحاب الطهارة بالمعارضة مع قاعدة الطهارة في الطرف الآخر، قاعدة الطهارة في هذا الطرف لا معارض لها، في ظرف جريانها وفي مرتبتها لا معارض لها، وفي المرتبة السابقة لا وجود لقاعدة الطهارة في هذا الطرف حتّى تسقط، لا وجود لها أصلاً؛ لأنّها إنّما توجد بعد سقوط الأصل الحاكم الذي هو عبارة عن استصحاب الطهارة.
المحقق العراقي(قدّس سرّه) ركّز كلامه على هذه الصورة واعتبرها نقضاً على القول بالاقتضاء، قال بأن القائل بالاقتضاء ماذا يقول في المقام ؟ مقتضى القول بالاقتضاء هو الالتزام بجواز التمسّك بقاعدة الطهارة في هذا الطرف لعدم المعارض، وبالتالي لا تجب الموافقة القطعية حينئذٍ، وهذا نقض على القائل بالاقتضاء؛ لأنّ المحقق العراقي(قدّس سرّه)  يقول من البعيد جدّاً أن يلتزم أحد بعدم وجوب الموافقة القطعية في محل الكلام، فبعد استبعاد الالتزام بعدم وجوب الموافقة القطعية وجواز المخالفة الاحتمالية في محل الكلام؛ حينئذٍ يكون هذا نقضاً على القائل بالاقتضاء؛ لأنّك لا تلتزم بعدم وجوب الموافقة القطعية، بينما القول بالاقتضاء يقتضي الالتزام بعدم وجوب الموافقة القطعية وجواز المخالفة الاحتمالية، فماذا تصنع في المقام ؟ فجعله نقضاً على القول بالاقتضاء.
ومن هنا تصدّى القائلون بالاقتضاء للجواب عن هذا النقض وبيان أنّ الثمرة لا تظهر في المقام، على كلا التقديرين لا يجري هذا الأصل المؤمّن في هذا الطرف سواء قلنا بالعلّية، أو قلنا بالاقتضاء، فلا تظهر الثمرة ولا يكون هذا نقضاً علينا.
المستفاد من كلمات المحقق النائيني(قدّس سرّه) الذي هو أبرز القائلين بالاقتضاء، أنّه أجاب عن هذا النقض بجوابين مذكورين في تقريراته:
الجواب الأوّل:[1]يلزم من جريان الأصل في محل الكلام، والمقصود بالأصل هو الأصل الترخيصي الطولي الذي يُراد إجراءه في هذا الطرف بعد سقوط الأصل الحاكم عليه في طرفه مع الأصل الترخيصي في الطرف الآخر. يقول: جريان هذا الأصل الترخيصي الطولي ـــــــــــــ قاعدة الطهارة في محل الكلام ــــــــــــــ يلزم منه المحال، يلزم من وجوده عدمه،[2] وكل ما يلزم من وجوده عدمه يكون محالاً، إذن: لا يجري الأصل الترخيصي الطولي في محل الكلام، ولا تظهر الثمرة؛ لأنّ هذا الأصل حتّى على القول بالاقتضاء لا يجري، فضلاً عن القول بالعلّية، كيف يلزم من جريان هذا الأصل الترخيصي الطولي في مورده المحال ويلزم من وجوده عدمه ؟ يبيّن ذلك، يقول: باعتبار أنّ سقوط الأصل الحاكم ووصول النوبة إلى قاعدة الطهارة في طرفه، هذا ينشأ في الحقيقة من العلم الإجمالي ومنجّزيته؛ لأنّ العلم الإجمالي وكونه منجّزاً هذا يوجب سقوط الأصل الحاكم في هذا الطرف، وإلاّ لو لم يكن هناك علم إجمالي ولو لم يكن العلم الإجمالي له تنجيز، فلا موجب لسقوط الأصل الحاكم في هذا الطرف، وكان بالإمكان أن نجري استصحاب الطهارة في هذا الطرف، وإنّما الذي أوجب سقوط الأصل الحاكم هو العلم الإجمالي وكونه منجّزاً، باعتبار أنّ هذا العلم الإجمالي يوجب التعارض بين استصحاب الطهارة في هذا الطرف مع قاعدة الطهارة في الطرف الآخر، يوجب التعارض بينهما والتساقط، فالعلم الإجمالي وكونه منجّزاً هو الذي أوجب سقوط هذا الأصل الحاكم في هذا الطرف وقاعدة الطهارة في ذاك الطرف، إذن: سقوط الأصل الحاكم وهو استصحاب الطهارة في هذا الطرف ووصول النوبة إلى قاعدة الطهارة في هذا الطرف نفسه هو ناشئ من العلم الإجمالي ومنجّزيته، فلو لم يكن العلم الإجمالي منجّزاً لما سقط الأصل الحاكم ولما وصلت النوبة إلى قاعدة الطهارة في نفس الطرف؛ حينئذٍ يقول: إذا فرضنا أنّ الأصل الطولي الترخيصي في هذا الطرف وهو قاعدة الطهارة في مستصحب الطهارة إذا فرضنا أنّها تجري، يعني توجب انحلال العلم الإجمالي ورفع منجزيته، معناه أنّ العلم الإجمالي لا يمنع من جريان الأصول في أطرافه، إذا جرت قاعدة الطهارة في هذا الطرف، فهذا معناه انحلال العلم الإجمالي وعدم منجّزيته وهذا هو معنى أنّ جريان الأصل الترخيصي الطولي يلزم من وجوده عدمه؛ لأنّ انحلال العلم الإجمالي ورفع منجزيته باعتبار جريان الأصل في هذا الطرف يوجب رجوع الأصول النافية التي سقطت سابقاً؛ لأنّه إذا ارتفعت منجّزية العلم الإجمالي وأصبح غير منجّز، فلا مانع حينئذٍ من استصحاب الطهارة في هذا الطرف، فإذا جرى الأصل المؤمّن الطولي في هذا الطرف وحلّ العلم الإجمالي ورفع منجّزيته؛ حينئذٍ هذا يستلزم رجوع الأصول الترخيصية المتعارضة العرضية، وهي عبارة عن استصحاب الطهارة في هذا الطرف وقاعدة الطهارة في الطرف الآخر؛ لأنّ الذي أوجب سقوطها هو العلم الإجمالي ومنجّزيته، فإذا رفعنا منجّزية العلم الإجمالي بجريان الأصل المؤمّن الطولي؛ فحينئذٍ ترجع هذه الأصول المتنافية المتعارضة، وإذا رجعت الأصول المتنافية وبضمنها استصحاب الطهارة؛ حينئذٍ يرتفع موضوع قاعدة الطهارة في هذا الطرف باعتبار الحكومة، فيلزم من جريان هذا الأصل الطولي الترخيصي في هذا الطرف عدم جريانه؛ لأنّ جريانه يبتني على سقوط الأصل الحاكم وسقوط الأصل الحاكم يتوقّف على منجّزية العلم الإجمالي، وإلاّ لماذا يسقط الأصل الحاكم ؟ فإذا جرى الأصل الطولي الترخيصي، فمعنى جريانه أنّه لا تجب الموافقة القطعية، وهذا يعني أنّ العلم الإجمالي غير منجّز لوجوب الموافقة القطعية، فإذا كان جريان الأصل الطولي الترخيصي يوجب رفع منجّزية العلم الإجمالي التي يتوقّف عليها أصل وجوده وأصل جريانه؛ لأنّ أصل جريان هذا الأصل الطولي يتوقّف على منجّزية العلم الإجمالي؛ لأنّه يتوقّف على سقوط الأصل الحاكم حتّى تصل النوبة إليه، وسقوط الأصل الحاكم يتوقّف على منجّزية العلم الإجمالي، فكيف يُعقل أن يكون هذا الأصل الذي يتوقّف في أصل ثبوته وجريانه على منجّزية العلم الإجمالي أن يكون رافعاً لمنجّزية العلم الإجمالي ؟ أن يكون رافعاً لما يقتضيه؛ لأنّ العلم الإجمالي ومنجّزيته هي التي تقتضي وجوده، فكيف يُعقل أن يكون رافعاً لما يقتضيه، وبحسب تعبير المحقق النائيني(قدّس سرّه) يلزم من وجوده عدمه، أي بمجرد أن يجري معناه أنّ العلم الإجمالي قد انحل وارتفعت منجّزيته، وإذا ارتفعت منجّزية العلم الإجمالي يعود الأصل الحاكم؛ لأنّ الرافع للأصل الحاكم هو منجّزية العلم الإجمالي، فإذا قلنا أنّ هذا العلم الإجمالي ليس منجّزاً؛ حينئذٍ يرجع الأصل الحاكم، وإذا رجع الأصل الحاكم لا يجري الأصل الطولي المؤمّن، فيلزم من جريانه عدم جريانه، وهذا محال، ومن هنا لا يجري هذا الأصل الطولي المؤمّن.
الذي يُلاحظ على هذا الجواب الذي ذكره المحقق النائيني(قدّس سرّه): أنّه فيه خلط بين منجّزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية وبين منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، الأصل الطولي الترخيصي، يعني قاعدة الطهارة في هذا الطرف، ماذا يرفع ؟ أيّ منجّزيةٍ من هاتين المنجّزيتين يرفعها الأصل الطولي الترخيصي ؟ قاعدة الطهارة عندما تجري في هذا الطرف هل ترفع منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، أو ترفع منجّزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية ؟ من الواضح أنّ الجواب هو الثاني، هو أصلاً يجري في هذا الطرف ويثبت الترخيص في هذا الطرف، وهذا معناه الترخيص في المخالفة الاحتمالية، معناه رفع المنجّزية بمقدار وجوب الموافقة القطعية وليس أكثر من هذا، أمّا الطرف الآخر فيبقى، فالعلم الإجمالي ينجّزه ويوجب الاحتياط فيه، قاعدة الطهارة تجري في هذا الطرف وتثبت الترخيص فيه، وهذا ترخيص في المخالفة الاحتمالية وليس ترخيصاً في المخالفة القطعية حتّى نقول أنّ هذا الأصل يرفع المنجّزية بمقدار حرمة المخالفة القطعية، كلا هو يرفع التنجيز بمقدار وجوب الموافقة القطعية. إذن: ما يرفعه الأصل الترخيصي الطولي إذا جرى هو عبارة عن المنجّزية بمقدار وجوب الموافقة القطعية لا المنجّزية بمقدار حرمة المخالفة القطعية.
سقوط الأصل الحاكم، وبالتالي جريان الأصل الطولي الترخيصي على ماذا يتوقّف ؟ هل يتوقّف على المنجّزية بمقدار وجوب الموافقة القطعية، أو يتوقف على المنجّزية بمقدار حرمة المخالفة القطعية ؟ الجواب أيضاً واضح، أنّه يتوقّف على منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية لا لوجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ استصحاب الطهارة في هذا الطرف يسقط باعتبار أنّ جريانه مع جريان ما يعارضه في الطرف الآخر وهو قاعدة الطهارة في الطرف الآخر يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية وهو محال. جريانه وحده من دون معارضه ترجيح بلا مرجّح، إذن: حرمة المخالفة القطعية بضميمة استحالة الترجيح بلا مرجّح هو الذي أوجب سقوط الأصل الحاكم، وبالتالي وصول النوبة إلى الأصل المحكوم الذي هو قاعدة الطهارة في هذا الطرف، المنجّزية بمقدار حرمة المخالفة القطعية بضميمة استحالة الترجيح بلا مرجّح، هذا هو السبب في سقوط الأصل الحاكم ووصول النوبة إلى الأصل الترخيصي الطولي المحكوم. إذا كان هذا واضحاً؛ حينئذٍ ينحل الإشكال، الإشكال كان مبنيّاً على أنّ ما يتوقّف عليه جريان الأصل الطولي الترخيصي هو نفس ما يرفعه جريانه، هو يتوقف على المنجّزية وهو يرفع المنجّزية، فيلزم الإشكال، من دون أن ندقق أنّ هذه المنجّزية التي يتوقّف عليها ما هي؟ والمنجّزية التي يرفعها ما هي ؟ هو يتوقّف على المنجّزية وإذا جرى يرفع المنجّزية، وهذا محال، أن يرفع ما يقتضيه، أو بعبارة أخرى: يلزم من وجوده عدمه، بالبيان السابق، لكن هذا عندما تتّحد المنجّزيتان، بأن تكون نفس المنجّزية التي يتوقّف عليها هو إذا جرى يرفعها، أمّا إذا قلنا أنّه يتوقّف على منجّزيةٍ، وما يرفعها هي منجّزية أخرى، هو يتوقف على منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية؛ لأنّه ــــــــــــ جريان الأصل الطولي ـــــــــــــ يتوقّف على سقوط الأصل الحاكم،  وسقوط الأصل الحاكم يتوقف على منجّزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، بينما إذا جرى الأصل الطولي الترخيصي لا يرفع إلاّ المنجّزية بمقدار وجوب الموافقة القطعية، ومن هنا لا يلزم أيّ إشكال، لا يكون حينئذٍ جريان هذا الأصل رافعاً لما يقتضيه ولا يلزم من وجوده عدمه، يجري هذا الأصل في هذا الطرف وما يثبته هو فقط الترخيص في المخالفة الاحتمالية، فلا يكون رافعاً لمقتضيه ولا يلزم من وجوده عدمه وهذا معناه أنّ هذا الجواب لا يتم لإثبات عدم ظهور الثمرة كما قيل؛ بل مقتضى الصناعة هو أن نلتزم إلى هنا أنّ هذه الثمرة تظهر، هذا الأصل في هذا الطرف بعد سقوط الأصل الحاكم عليه بالمعارضة مع الأصل الآخر، هذا على القول بالعلّية لا يجري، بينما يجري على القول بالاقتضاء، ولا يلزم من جريانه المحال، فإذا كان يجري، فلابدّ أن يلتزموا بجريانه، وهم لا يلتزمون بجريانه، فيكون نقضاً عليهم.
((تنبيه))
لابدّ أن ننبّه على أنّ المحقق النائيني(قدّس سرّه) لم يذكر الجواب الأوّل في الصورة الثالثة التي نتكلّم عنها، وإنّما ذكره في الصورة الثانية المتقدّمة، يعني عندما كان الأصل الحاكم الجاري في أحد الطرفين أصلاً مثبتاً للتكليف، في الصورة الثالثة الأصل الحاكم أيضاً أصل ترخيصي، كل الأصول ترخيصية، لكن ليس هناك مانع من أن تكون هناك طولية بين أصلين ترخيصيين يجريان في طرفٍ واحد، ويكون أحدهما حاكماً على الآخر، هذا محل كلامنا. هو ذكر هذا الجواب الأوّل عندما كان هناك في أحد الطرفين أصل مثبت للتكليف وأصل ترخيصي، وكان الأصل الترخيصي في طول الأصل المثبت للتكليف، ويكون الأصل المثبت للتكليف حاكماً عليه. الوجه نفسه يجري، هذا الأصل يعارض ذاك الأصل الآخر، فيسقطان، فتصل النوبة إلى الأصل الترخيصي بعد سقوط الدليل الحاكم، فيأتي هذا الكلام وليس هناك فرق بينهما.
الجواب الثاني:[3] الذي ذكره لمنع جريان الأصل الترخيصي في محل الكلام في الصورة الثالثة، أيضاً ذُكر في كلا التقريرين، وهو ما ذكره من أنّ تعارض الأصول إنّما هو باعتبار تعارض مؤدياتها وما هو المجعول فيها، باعتبار أنّ مؤدّى هذا الأصل يعارض مؤدّى ذاك الأصل، المناط على المؤدى، ما هو المجعول في هذا الأصل يعارض ما هو المجعول في ذاك الأصل، يقول: والمؤدّى وما هو المجعول في كلٍ من استصحاب الطهارة وقاعدة الطهارة أمر واحد، وهو عبارة عن طهارة مشكوك الطهارة والنجاسة، الشيء الذي تشك في طهارته ونجاسته هو محكوم بالطهارة، هذا مفاد الاستصحاب وأيضاً مفاد قاعدة الطهارة، إذن: المؤدى في الأصلين الحاكم والمحكوم ـــــــــــــ الذي هو استصحاب الطهارة وقاعدة الطهارة ــــــــــــــ واحد، ما هو المجعول فيهما واحد، وهو طهارة مشكوك الطهارة والنجاسة، هذا هو الذي يُفهم من الدليل، والمفروض في محل الكلام أنّه لا يمكن جعل الطهارة في كلٍ من الطرفين؛ لأنّه يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، فلا يمكن جعل هذا المؤدّى في كلٍ من الطرفين، وهذا معناه أنّ مؤدّى الاستصحاب ومؤدّى قاعدة الطهارة في هذا الطرف تعارض مؤدّى قاعدة الطهارة في الطرف الآخر، وبذلك كل هذه الأصول تدخل في المعارضة، كما أنّ استصحاب الطهارة يعارض قاعدة الطهارة في الطرف الآخر، قاعدة الطهارة في مستصحب الطهارة أيضاً تعارض قاعدة الطهارة في الطرف الآخر؛ لأنّ التعارض بين الأصول بحسب مؤدياتها وبحسب ما هو المجعول فيها، هل يمكن أن يُجمع بين هذا المجعول وذاك المجعول في الطرف الآخر، أو لا ؟ فإذا طرحنا هذا السؤال، فمن الواضح أنّ الجواب هو لا يمكن الجمع بين ما هو المجعول في استصحاب الطهارة وبين ما هو المجعول في قاعدة الطهارة في الطرف الآخر؛ لأنّه يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، ونفس الكلام نقوله في قاعدة الطهارة في هذا الطرف، ما هو المجعول في قاعدة الطهارة ؟ هو نفس المؤدّى، هو طهارة مشكوك الطهارة والنجاسة، هذا أيضاً لا يمكن الالتزام بجعله مع جعل قاعدة الطهارة في الطرف الآخر، وهذا معناه أنّ التعارض لا يقتصر على استصحاب الطهارة مع قاعدة الطهارة في الطرف الآخر، وإنّما قاعدة الطهارة في مستصحب الطهارة تدخل طرفاً في المعارضة وهذا يقتضي سقوط جميع الأصول في عرضٍ واحد. إذن: قاعدة الطهارة في هذا الطرف لا تجري؛ لأنّها تسقط بالمعارضة كما سقط استصحاب الطهارة، فلا تظهر الثمرة، سواء قلنا بالعلّية لا يجري هذا الأصل الطولي المؤمّن، أو قلنا بالاقتضاء أيضاً لا يجري؛ لأنّ مفاد كل هذه الأصول واحد وكلّها تدخل طرفاً في المعارضة، وحيث أنّه لا يمكن إجراءها، فتسقط كل هذه الأصول في عرضٍ واحد كما ذكر.
ثمّ يقول(قدّس سرّه): وأمّا مسألة أنّ الاستصحاب حاكم على قاعدة الطهارة، فلا اثر لها في المقام، وإنّما يظهر أثرها في الشك السببي والشك المسببي، وفي ذيل عبارته يشير إلى أنّه وإن نُقل عن بعض الأعلام خلاف هذا، لكن التحقيق يقتضي أنّ قاعدة الطهارة في هذا الطرف تدخل طرفاً في المعارضة ولا يمكن جعل هذا المؤدى مع مؤدى قاعدة الطهارة في الطرف الآخر. فيكون هذا هو الجواب الثاني عن النقض، وبالتالي يكون إنكاراً للثمرة في محل الكلام.
المحقق العراقي(قدّس سرّه) أهتم بهذا الجواب الثاني،[4]وأجاب عنه بأنّه لو سلّمنا بأنّ المجعول والمؤدّى في استصحاب الطهارة وقاعدة الطهارة أمر واحد كما ذكر، هو ينكر هذا ويرى أنّهما أمران متغايران، المجعول في استصحاب الطهارة غير المجعول في قاعدة الطهارة، حتّى لو سلّمنا أنّ التعارض بين الأصول إنّما هو باعتبار مؤدّياتها وما هو المجعول فيها، يقول: المجعول متعدد في استصحاب الطهارة وقاعدة الطهارة. يقول: لو سلّمنا أنّ مؤداهما أمر واحد، وما هو المجعول فيهما أمر واحد، لكن لا يمكن إنكار أنّ الشارع جعل طريقين لهذا المؤدّى الواحد والمجعول الواحد، واحد يُسمّى بالاستصحاب وواحد يُسمّى بقاعدة الطهارة، وجعل أحدهما في طول الآخر بحيث أنّ النوبة لا تصل إلى أحدهما إلاّ بعد سقوط الآخر، وهذا واضح بالنسبة إلى الاستصحاب وبالنسبة إلى قاعدة الطهارة، ليكن مؤداهما واحداً غير متعدد، لكن هناك طريقان لإثبات هذا المؤدّى مجعولان من قبل الشارع، الشارع هو جعل الاستصحاب وجعل قاعدة الطهارة لإثبات مؤدى واحد، وكان بين هذين الطريقين طولية، يقول: حينئذٍ أيّ مانعٍ يمنع من التمسّك بقاعدة الطهارة والأخذ بعمومها في محل الكلام في ظرف سقوط الاستصحاب عن الحجّية بالتعارض ؟ لأنّه يسقط بالمعارضة مع قاعدة الطهارة في الطرف الآخر، وفي ظرف سقوط الاستصحاب عن الحجّية ما هو المانع من أنّ نأخذ بقاعدة الطهارة في طرفه، وإن أتّحد مفادها مع مفاد الاستصحاب، الشارع جعل لهذا المفاد الواحد طريقان أحدهما في طول الآخر، فإذا سقط الأوّل بالمعارضة مع شيءٍ في الطرف الآخر، أيّ محذورٍ في أن نأخذ بالطريق الثاني، بقاعدة الطهارة لإثبات نفس المفاد الواحد ؟ باعتبار أنّ الأصل الذي يجري في هذا الطرف ـــــــــــــ الأصل المؤمّن الطولي، قاعدة الطهارة ــــــــــــ إنّما نأخذ به بعد سقوط الأصل الحاكم بالمعارضة مع قاعدة الطهارة في الطرف الآخر. يقول: لا محذور في هذا؛ لأنّه مقتضى الصناعة تقتضي ذلك بعد فرض الطولية في طريقين، في باب الدلالة، دلالة الاستصحاب سقطت عن الحجّية بالمعارضة، ما هو المحذور في أن نأخذ بالدلالة الثانية ؟! أن نأخذ بعموم قاعدة الطهارة ونلتزم بها لإثبات عمومها لمحل الكلام، وإن كان مفادهما واحداً، وإن كان مؤداهما واحداً، لكنهما طريقان بينهما طولية، فلا مانع حينئذٍ من الرجوع إلى قاعدة الطهارة في مستصحب الطهارة.




[1] فوائد الأصول، إفادات الميرزا النائيني للشيخ الكاظمي الخراساني، ج 4، ص 46.
[2] أجود التقريرات، تقرير بحث النائيني للسيد الخوئي، ج 2، ص 246.
[3] فوائد الأصول، إفادات الميرزا النائيني للشيخ الكاظمي الخراساني، ج 4، ص 48.
[4] نهاية الأفكار، تقرير بحث المحقق العراقي للبروجردي، ج 3، ص 320.