الموضوع: الأصول العمليّة/ تنبيهات العلم الإجمالي
يقع الكلام
في تنبيهات العلم الإجمالي جرت العادة بعد
الفراغ عن أصل منجّزية العلم الإجمالي أن يقع الكلام في بعض التنبيهات المرتبطة
بقاعدة منجّزية العلم الإجمالي، وهي أبحاث مهمّة جدّاً، ولعلّها في بعض النواحي
أهم من البحث عن أصل المنجّزية:
التنبيه
الأوّل: يرتبط بالثمرة العملية بين القول
بعلّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية وبين القول بعدم العلّية وأنّه
مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعية؛ لأنّهم ذكروا أنّ الثمرة تظهر ــــــــــــ كما
تقدّم الإشارة إلى ذلك ــــــــــ أنّ الثمرة تظهر في أنّه على العلّية لا يجري
الأصل في أحد طرفي العلم الإجمالي وإن لم يكن له معارض في الطرف الآخر، بخلافه على
الاقتضاء، فأنّ الأصل يجري في أحد الطرفين إذا لم يكن له معارض في الطرف الآخر،
وهذا كقضية كلّية ومجملة واضح، العلّية تعني أنّها تمنع من جريان الأصل في بعض
الأطراف بقطع النظر عن المعارضة، أمّا الاقتضاء، فلا يمنع من جريان الأصل في بعض
الأطراف إذا لم يكن له معارض، وإنّما الذي يمنع منه على الاقتضاء هو وجود الأصل
المعارض في الطرف الآخر.
يظهر من
كلمات المحقق النائيني(قدّس سرّه) في كلا تقريريه
[1]
الإشكال في هذه الثمرة، وعبارته في(فوائد الأصول) ذكر بأنّ فرض أن يكون في أحد
الطرفين أصل نافٍ للتكليف غير مُعارض بمثله ولم يكن في الطرف الآخر أصل مثبت له هو
فرضٌ بعيدٌ؛ بل الظاهر أنّه غير ممكن. الذي يُفهم من هذه العبارة وكذلك عبارته
في(أجود التقريرات) هو أنّه يريد أن يقول أنّ الثمرة بقطع النظر عن التطبيق
والوجود الخارجي قد تكون صحيحة، على القول بالاقتضاء يجري الأصل في أحد الطرفين
إذا لم يكن له معارض، وعلى القول بالعلّية لا يجري حتّى إذا لم يكن له معارض، لكن
من الصعب جدّاً أن نجد مصداقاً لذلك بحيث نشير إليه ونقول أنّ الثمرة تظهر هنا؛
لأنّه في هذا العلم الإجمالي الأصل المؤمّن يجري في أحد الطرفين بلا معارض مع
افتراض أنّه في الطرف الآخر كما لا يجري الأصل المعارض النافي كذلك لا يجري الأصل
المثبت للتكليف، يقول هذا فرض نادر؛ بل غير واقع.
يمكن أن
يُفسّر كلامه بأنّ فرض انفراد الأصل المؤمّن بأحد
الطرفين من دون أن يجري هذا الأصل المؤمّن في الطرف الآخر، ولا يجري الأصل المثبت للتكليف
في الطرف الآخر، يعني الطرف الآخر لا يجري فيه الأصل المؤمّن ولا الأصل المثبت
للتكليف، فينفرد الأصل المؤمّن في هذا الطرف، حتّى تظهر فيه الثمرة، يقول: هذا فرض
بعيد؛ بل غير واقع، على تقديره تظهر فيه الثمرة، على القول بالاقتضاء يجري هذا
الأصل ولا مانع من جريانه؛ لأنّه ليس له معارض، ولا يجري على القول بالعلّية، لكن
يقول هذا فرضه بعيد، باعتبار أنّه لا موجب لعدم جريان الأصل المؤمّن في الطرف
الآخر إلاّ إذا كان فيه أصل مثبت للتكليف. في الطرف الآخر نقول: الطرف الأوّل يجري
فيه الأصل ولا يعارضه الأصل في الطرف الثاني. المحقق النائيني(قدّس سرّه) يقول: في
الطرف الثاني لا موجب لعدم جريان الأصل المؤمّن إلاّ في حالة واحدة وهي حالة ما
إذا جرى فيه الأصل المثبت للتكليف، في حالة جريان الأصل المثبت للتكليف في الطرف
الثاني لا يجري الأصل المؤمّن فيه كما هو واضح، وفي كلتا الحالتين لا يتحقق ما
ذكروه ولا تظهر الثمرة. إذا لم يكن في الطرف الثاني أصل مثبت للتكليف، فيجري فيه
الأصل المؤمّن؛ إذ لا موجب لعدم جريانه فيه إلاّ الأصل المثبت للتكليف، فإذا لم
يجرِ فيه الأصل المثبت للتكليف جرى فيه الأصل المؤمّن، ومع جريان الأصل المؤمن لا
يجري الأصل المؤمّن في الطرف الأوّل، وحتّى إذا قلنا بالاقتضاء لا يجري الأصل
المؤمّن؛ لوجود المعارض، فهو لا يجري في هذه الحالة سواء قلنا بالاقتضاء، أو
العلّية، فلا ثمرة.
وأمّا إذا
قلنا أنّ الأصل المؤمن في الطرف الثاني لا
يجري؛ لأنّ هناك أصلاً مثبتاً للتكليف فيه، يقول: هنا أيضا لا تظهر الثمرة؛ لأنّه
على كلا القولين يمكن إجراء الأصل المؤمن في الطرف الأوّل، فلا تظهر الثمرة.
أمّا على
القول بالاقتضاء، فجريان الأصل المؤمّن في الطرف
الأوّل واضح؛ لأنّه ليس له معارض، إنّما يمنع من جريانه جريان الأصل المؤمن في
الطرف الثاني وقد فرضنا أنّ الأصل المؤمّن لا يجري في الطرف الثاني لوجود الأصل
المنجّز للتكليف فيه، فالأصل المؤمّن يجري في هذا الطرف بلا معارض.
وأمّا على
القول بالعلّية أيضاً يجري الأصل المؤمّن بلا
معارض؛ لأنّ الأصل المثبت للتكليف إذا جرى في أحد أطراف العلم الإجمالي يوجب سقوط
ذلك العلم الإجمالي عن المنجّزية، يوجب انحلال العلم الإجمالي وهو المسمّى
بالانحلال الحكمي، أنّ العلم الإجمالي له انحلال حقيقي وانحلال حكمي، عندما يجري
الأصل المثبت للتكليف في أحد الطرفين، يكون هذا موجباً لانحلال العلم الإجمالي
حكماً وسقوطه عن المنجّزية، ومثل هذا العلم الإجمالي الذي ينحل ويسقط عن
المنجّزية، حتّى من يقول بالعلّية لا يرى مانعاً من جريان الأصل المؤمّن في الطرف
الأوّل.
فإذن: يريد
أن يقول أنّه ليس هناك مورد يمكن أن يجري فيه الأصل المؤمّن في أحد الطرفين من دون
افتراض جريان الأصل المؤمّن في الطرف الآخر وكذا عدم جريان الأصل المثبت للتكليف
في الطرف الآخر، إذا حصّلنا مورداً من هذا القبيل، يقول نعم تظهر فيه الثمرة،
لكنّه لا يوجد عندنا مورد من هذا القبيل؛ لأنّ الطرف الآخر إمّا أن يجري فيه الأصل
المؤمن، أو لا يجري، فإذا جرى فيه الأصل المؤمن؛ حينئذٍ يكون معارضاً للأصل في هذا
الطرف سواء قلنا بالعلّية، أو قلنا بالاقتضاء، وإن لم يجر الأصل المؤمّن في الطرف
الثاني، فهذا يعني وجود منجّز منع من جريانه، وإلاّ لا موجب لجريانه إلاّ وجود
الأصل المنجّز للتكليف فيه، وإذا وجد الأصل المنجّز في الطرف الثاني انحلّ العلم
الإجمالي وسقط عن المنجّزية، ومثل هذا العلم الإجمالي المنحل الساقط عن المنجّزية
حتّى القائل بالعلّية لا يرى مانعاً من جريان الأصل المؤمّن في بعض أطرافه، وإنّما
هو يرى مانعاً من جهة العلم الإجمالي؛ لأنّه علّة لوجوب الموافقة القطعية كما يرى،
أمّا إذا انحلّ العلم الإجمالي وسقط عن المنجّزية، فلا مانع حينئذٍ من جريان الأصل
المؤمّن في أحد الطرفين حتى على القول بالعلّية، ومن هنا أنكر الثمرة بين القولين.
هذا ما يُفهم من كلام المحقق النائيني (قدّس سرّه).
يُفهم من
كلمات المحقق العراقي(قدّس سرّه) في تعليقته على فوائد
الأصول، أنّه لا يرضى بهذا الجواب، ويرى أنّه بالإمكان أن تكون هناك ثمرة بين
القولين تظهر في بعض الموارد، يمكن تصوّر جريان الأصل المؤمّن في أحد الطرفين
وتظهر فيه الثمرة بين القول بالعلّية وبين القول بالاقتضاء وذكر أنّ المقصود من
ذلك هو فيما إذا كان يجري في كلا الطرفين أصل ترخيصي، أصلان ترخيصيان في عرَضٍ
واحدٍ، يجريان في الطرفين وكان هناك أصل ترخيصي يختصّ بأحد الطرفين في طول الترخيص
الأوّل الذي له معارض في الطرف الآخر، لا مانع من تصوّر هذا، في هذه الحالة يمكن
تصوّر ظهور الثمرة؛ لأنّ الأصلين الترخيصيين العرضيين يتعارضان؛ لأنّه لا يمكن أن
يجري الترخيص في هذا الطرف ويجري في الطرف الآخر، فتقع المعارضة بينهما، وبعد
التعارض والتساقط تصل النوبة إلى الأصل الترخيصي الطولي الجاري في أحد الطرفين
وتظهر فيه الثمرة، والثمرة تظهر في هذا الترخيص الطولي الجاري في أحد الطرفين،
فعلى القول بالاقتضاء لا مانع من جريانه، وعلى القول بالعلّية التامّة لا يمكن
جريانه، فتظهر الثمرة في حالةٍ من هذا القبيل؛ ولذا هو أنكر ما ذكره المحقق
النائيني(قدّس سرّه) من عدم وجود موردٍ يمكن أن تجري فيه الثمرة. هذا الذي دعا
البعض إلى أن يجعل هذا هو التنبيه الأوّل من تنبيهات العلم الإجمالي، فيقع الكلام
في أنّه ما هي الموارد التي يمكن افتراض اختصاص الأصل العملي المؤمّن النافي
للتكليف ببعض أطراف العلم الإجمالي من دون أن يجري في الطرف الآخر حتى تظهر فيه
الثمرة بين القول بالعلّية وبين القول بالاقتضاء؟ هل هناك موارد يمكن تصوّرها يختصّ
أحد الطرفين بجريان الأصل المؤمّن دون الطرف الآخر ؟ وما هي هذه الموارد ؟
ذُكرت ثلاث
صور:الصورة
الأولى: أن نفترض أنّ اختصاص الأصل المؤمّن
بأحد الطرفين دون الطرف الآخر، هذا ينشأ من كون أحد الطرفين لا يجري فيه الأصل
المؤمّن في حد نفسه وبقطع النظر عن مسألة الترجيح بلا مرجّح، وليس أنّه لا يجري
فيه كونه ترجيحاً بلا مرجّح الذي معناه أنّه يجري فيه في حدّ نفسه، وإنّما يمنع
منه استحالة الترجيح بلا مرجّح، بقطع النظر عن هذا، وإنّما هذا الطرف أصلاً هو ليس
مورداً للأصل المؤمّن، ومُثّل لذلك بما إذا علم المكلّف علماً إجمالياً بأنّه إمّا
لم يصلِ الصلاة الفريضة الداخل وقتها، أو أنّه لم يأتِ بالدعاء الواجب عند رؤية
الهلال، أو أيّ شيء آخر، هنا في هذه الحالة يحصل عنده علم إجمالي إمّا بوجوب صلاة
الظهر عليه، أو وجوب الدعاء في حالةٍ معيّنةٍ، أحد طرفي هذا العلم الإجمالي ليس
مورداً للأصل المؤمّن، احتمال صلاة الظهر الداخل وقتها ليس مورداً للأصل المؤمّن
ولا تجري فيه البراءة؛ لأنّ الشك فيه ليس شكاً في التكليف حتّى تجري فيه البراءة،
وإنّما شك في الامتثال؛ لأنّه قد دخل وقتها واشتغلت بها الذمّة بحسب الفرض، إذا شك
في أنّه صلّى الظهر، أو لا، فهذا شك في الامتثال وهو مجرى لقاعدة الاشتغال لا
للبراءة. إذن: هذا الطرف للعلم الإجمالي هو ليس مورداً للأصل العملي في حدّ نفسه،
فيختص الأصل المؤمّن بالطرف الآخر. قالوا بأنّه يمكن أن تظهر الثمرة في هذا الطرف
باعتبار أنّ الطرف الثاني ليس مجرىً للأصل المؤمن في حدّ نفسه. هنا اتّفق الطرفان
على أنّه لا تظهر الثمرة في هذا المورد؛ بل الصحيح هو أنّ الأصل المؤمّن النافي
للتكليف في هذا الطرف الآخر، أي في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، يجري الأصل في
ذاك الطرف حتّى على القول بالعلّية، فلا تظهر الثمرة، لماذا يجري الأصل في ذاك ؟
أمّا على القول بالاقتضاء فواضح، حيث تجري أصالة عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال؛
لأنّه ليس له معارض، فأنّ أصالة البراءة لا تجري في الطرف الآخر حتى تكون معارضة
لها. وأمّا على القول بالعلّية، فلما تقدّمت الإشارة إليه قبل قليل؛ لأنّ المفروض
أنّ أحد الطرفين يجري فيه أصل مثبت للتكليف وهو قاعدة الاشتغال، وقلنا أنّ الأصل
المثبت للتكليف عندهم يكون موجباً لانحلال العلم الإجمالي وسقوطه عن المنجّزية من
دون فرقٍ بين أن يكون الأصل المثبت للتكليف شرعياً كاستصحاب التكليف، أو يكون
أصلاً عقلياً كأصالة الاشتغال، كلٌ منهما مثبت للتكليف في أحد الطرفين، والأصل
المثبت للتكليف في أحد الطرفين يوجب الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي، وقلنا بأنّ
هذا العلم الإجمالي المنحل الذي سقط عن المنجّزية لا يمنع من إجراء الأصل المؤمّن
في الطرف الآخر، فإذن: لا ثمرة؛ لأنّ الأصل المؤمّن في ذاك الطرف يجري على كلا
القولين، فلا تظهر الثمرة.
من الواضح
جدّاً أنّ هذا الكلام يتوقّف على هذه الكبرى،
على الإيمان بأنّ جريان الأصل المثبت للتكليف في أحد أطراف العلم الإجمالي، سواء
كان أصلاً شرعياً، أو كان أصلاً عقلياً، يوجب الانحلال وسقوط العلم الإجمالي عن
المنجّزية وهو المُسمّى كما قلنا بـــــ( الانحلال الحكمي). وأمّا إذا أنكرنا ذلك،
وقلنا بأنّ جريان الأصل المثبت في بعض الأطراف لا يحلّ العلم الإجمالي ولا يسقطه
عن المنجّزية؛ حينئذٍ تظهر الثمرة، ولا يصح الكلام المتقدّم بعدم ظهور الثمرة؛
لأنّه على كلا التقديرين يجري الأصل المؤمّن لنفي وجوب الدعاء عند رؤية الهلال؛ بل
تظهر الثمرة؛ لأنّه على القول بالاقتضاء يجري هذا الأصل المؤمّن لنفي وجوب الدعاء
عند رؤية الهلال؛ لعدم وجود المعارض له. أمّا على القول بالعلّية، فلا يجري هذا
الأصل المؤمّن؛ لأنّ العلم الإجمالي باقٍ على منجزيته، ولم ينحل، والمفروض أنّ العلم
الإجمالي على القول بالعلّية هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية ومنع جريان
الأصول حتّى في بعض الأطراف، فتظهر الثمرة هنا.
إذن: إنكار
الثمرة في هذه الصورة يبتني على بحث سيأتي التعرض له إن شاء الله تعالى في بحث
الانحلال الذي هو أحد تنبيهات العلم الإجمالي، أنّ جريان الأصل المثبت للتكليف يوجب
الانحلال الحكمي كما ذكروا، يعني يجوّز للمكلّف ولا يلزمه بوجوب الموافقة القطعية،
أو لا ؟
الصورة
الثانية: أن يكون هذا الاختصاص ليس من الجهة
الأولى بأن يكون الطرف في حدّ نفسه ليس مورداً للأصل المؤمّن، وإنّما يكون
الاختصاص ناشئاً من جهة أنّ الأصل الترخيصي في أحد الطرفين لا يجري لوجود أصلٍ
مثبت للتكليف حاكم عليه، فلا يجري فيه الأصل المؤمّن، فيختص الأصل المؤّمن بالطرف
الآخر. نفترض أنّ الطرف الأوّل يجري فيه الأصل المؤمّن، الطرف الثاني فيه أصل
مؤمّن وهو في نفسه مورد للأصل المؤمّن، لكن الطرف الثاني الأصل الترخيصي فيه محكوم
بأصل تنجيزي مثبت للتكليف يكون حاكماً على الأصل الترخيصي في مورده؛ فحينئذٍ هذا الأصل
الترخيصي الموجود في الطرف الآخر ليس له معارض، ليس هناك أصل مؤمّن في الطرف الآخر
يكون معارضاً له، فيكون الأصل الترخيصي مختصّاً ببعض الأطراف. من قبيل ما إذا
فرضنا أنّ أصالة الحل تجري في الطرفين، هذا مشكوك الحرمة وهذا أيضاً مشكوك الحرمة،
كلٌ منهما مورد لأصالة الحل في حدّ نفسه، لكن كان أحد الطرفين يجري فيه استصحاب
المثبت للحرمة بأن نفترض أنّ الحالة السابقة لهذا الطرف كانت هي الحرمة، فإذا
شككنا في بقاء الحرمة نستصحب الحرمة. إذن، هذا الطرف، ولنفترضه الثاني هو مورد
لأصالة الحل، لكنّ أصالة الحل فيه محكومة لاستصحاب الحرمة الثابتة سابقاً. هنا
أيضاً قالوا بأنّه حتّى في هذه الصورة لا تظهر الثمرة بين القول بالعلّية والقول
بالاقتضاء؛ لأنّه على كلا التقديرين أصالة الحل تجري في الطرف الآخر، أمّا على
القول بالاقتضاء، فواضح؛ لأنّ أصالة الحل في هذا الطرف ليس لها معارض؛ لأنّ
معارضها وهي أصالة الحل في الطرف الثاني سقطت باعتبار أنّ استصحاب الحرمة كان
حاكماً عليها. إذن، أصالة الحل في الطرف الآخر ليس لها معارض، فتجري بلا معارض
بناءً على القول بالاقتضاء.
وأمّا
بناءً على القول بالعلّية: أيضاً تجري أصالة
الحل في هذا الطرف؛ لما تقدّم من أنّ العلم الإجمالي يسقط عن التنجيز وينحل
انحلالاً حكمياً عندما يجري في أحد الطرفين أصل مثبت للتكليف، والأصل في هذا
المثال في هذا المقام هو أصل شرعي مثبت للتكليف وهو استصحاب الحرمة المتيقنة
سابقاً، فإذا جرى هذا الأصل المثبت للتكليف في أحد الطرفين انحل العلم الإجمالي
وسقط عن المنجّزية وإذا سقط عن المنجزية لا مانع من الرجوع إلى أصالة الحل في
الطرف الأوّل؛ لأنّ المنع من ذلك مبني على افتراض وجود علم إجمالي منجّز، فيكون
علّة للمنع من المخالفة الاحتمالية، فضلاً عن المخالفة القطعية، أمّا إذا سقط عن
التنجيز؛ فحينئذٍ لا اثر له.
هذا الكلام
أيضاً يرد عليه نفس التعليق السابق وأنّ هذا مبني
على هذه الكبرى، أنّ جريان الأصل المثبت للتكليف في أحد الطرفين يوجب سقوط العلم
الإجمالي عن التنجيز ويوجب الانحلال الحكمي، وإلاّ إذا أنكرنا ذلك تظهر الثمرة، فعلى
القول بالاقتضاء يمكن الرجوع إلى أصالة الحلّية في هذا الطرف؛ لأنّها ليس لها
معارض؛ لأنّ معارضها سقط بالأصل الحاكم. أمّا على القول بالعلّية لا يجوز إجرائها
في هذا الطرف؛ لأنّ العلم الإجمالي باقٍ على منجّزيته، لم ينحل وهو علّة تامّة
بحسب الفرض للمنع من إجراء الأصول حتّى في بعض أطرافه، فتظهر الثمرة. فإذن: عدم
ظهور الثمرة في هذه الصور أيضاَ يكون مبنياً على تلك المسألة التي سيأتي التعرّض
لها إن شاء الله تعالى.
الصورة
الثالثة: أن يكون اختصاص الأصل المؤمّن ببعض
الأطراف هو من جهة أخرى غير ما تقدّم، من جهة وجود أصل ترخيصي طولي في أحد الطرفين
مع افتراض وجود أصلين ترخيصيين في عرض واحد في كلٍ من الطرفين. أصلان ترخيصيان
عرضيان يجريان في الطرفين، لكن أحد الطرفين فيه أصل ترخيصي أيضاً، لكنّه في طول
الأصل الجاري في مورده، من قبيل ما إذا علمنا بنجاسة أحد إناءين وكان أحدهما معلوم
الطهارة سابقاً، في هذه الحالة كلٌ منهما مورد لقاعدة الطهارة، هذا الطرف مشكوك
النجاسة تجري فيه قاعدة الطهارة، وهذا أيضاً مشكوك النجاسة تجري فيه قاعدة الطهارة،
كلٌ منهما مورد للأصل الترخيصي المؤمّن، لكن أحدهما حيث أنّ حالته السابقة هي
الطهارة يكون مورداً لقاعدة الطهارة وهو أصل ترخيصي أيضاً. هنا أيضاً يقال في هذه
الحالة استصحاب الطهارة في أحد الإناءين في مورده يعارض أصالة الطهارة في الطرف
الآخر؛ لأنّهما لا يمكن أن يجريان معاً؛ لأننا نعلم بأنّ أحد الإناءين نجس،
استصحاب الطهارة في هذا يعارض أصالة الطهارة في الطرف الآخر فيتساقطان، تصل النوبة
إلى أصالة الطهارة في مورد الاستصحاب؛ لأنّ أصالة الطهارة في طول الاستصحاب وليست
في مرتبته، أصالة الطهارة تبقى سالمة ولا تدخل طرفاً في المعارضة؛ لأنّ رتبتها
متأخرة عن رتبة الاستصحاب.
وبعبارةٍ
أخرى: هي حين التعارض بين الاستصحاب في هذا
الطرف وقاعدة الطهارة في هذا الطرف ليس لها وجود؛ لأنّ رتبتها متأخّرة عن
الاستصحاب، بعد سقوط الاستصحاب بالتعارض هي تكون موجودة، فيمكن الرجوع إليها
حينئذٍ، ويختصّ الأصل المؤمّن بهذا الطرف؛ حينئذٍ قد يقال بأنّ الثمرة هنا أيضاً
تظهر. هل يمكن الرجوع إلى أصالة الطهارة في هذا الطرف بعد سقوط الاستصحاب الجاري
في مورده، مع أصالة الطهارة في الطرف الآخر، أو لا يمكن ؟ على الاقتضاء قالوا
بأنّه يمكن الرجوع، وعلى القول بالعلّية لا يمكن الرجوع. وسيأتي الكلام هن هذه
الصورة إن شاء الله تعالى.