الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

35/07/06

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة/ منجّزية العلم الإجمالي
ذكرنا في الدرس السابق أنّه لابدّ من اختيار أحد أمور لتجاوز شبهة التخيير في محل الكلام.
الأمر الثاني كان هو ما ذكرناه من أنّه يُلتزم بالاقتضاء، لكن مع الالتزام بمنع شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالي على أساس وجود محذور إثباتي، وقلنا أنّه من قبيل أن يقال أنّ الترخيص المستفاد من أدلّة الأصل العملي المؤمّن هو ترخيص حيثي، ترخيص يثبت لهذا الطرف من حيث كونه مشكوك الحكم وهذا لا ينافي عدم التأمين وعدم الترخيص من حيث كونه طرفاً لعلمٍ إجمالي، وهذا معناه أنّ دليل الأصل لا ينفع للتأمين في محل الكلام؛ لأننا لا نريد أن نؤمّن من ارتكاب هذا الطرف من حيث كونه مشكوك الحكم، وإنّما نريد أن نؤمّن من ارتكاب هذا الطرف من حيث كونه طرفاً للعلم الإجمالي، والأصل لا ينفع لذلك؛ لأنّ الأصل يثبت الترخيص من حيث كونه مشكوك التكليف فقط، هذا باعتبار أنّك تشك في حرمته هناك تأمين من ناحية كونه مشكوكاً في حرمته، أمّا من ناحية كونه طرفاً لعلم إجمالي بالتكليف المنجّز فالأصل ليس فيه قابلية التأمين من ناحيته، فنمنع من شمول الأصل لأطراف العلم الإجمالي، وبهذا ترتفع الشبهة؛ لأنّ الشبهة مبنية على جريان الأصول في الطرفين وعدم إمكان الالتزام بجريان الأصول في الطرفين مطلقاً؛ لأنّه يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية فيُصار إلى التقييد، يعني جريان الأصل في الطرفين مع تقييد كل واحدٍ منهما بعدم ارتكاب الطرف الآخر، فيؤدي إلى التخيير وتجويز المخالفة الاحتمالية. أمّا إذا قلنا بأنّ المحذور ليس هذا، وأننا نمنع من جريان الأصل في الطرفين لوجود محذور إثباتي؛ فحينئذٍ ترتفع هذه الشبهة.
هنا قد يقال: أنّ حمل الترخيص على الترخيص الحيثي، وحمل دليل الأصل على أنّه في مقام جعل التأمين الحيثي، يعني من حيث كون هذا مشكوك التكليف لا مطلقاً هو خلاف الظاهر؛ لأنّ الظاهر من دليل الترخيص في المقام وفي غير المقام، حتّى في مسألة(الجبن حلال)، في محل الكلام وفي غيره، الظاهر منه هو الترخيص الفعلي، بمعنى أنّ الدليل يثبت التأمين والترخيص الفعليين، وأنّه عندما يجري في الطرف يثبت الترخيص الفعلي والتأمين الفعلي في هذا الطرف وفي ذاك الطرف، فإذا كان الترخيص فعلياً في هذا الطرف عندما يجري فيه الأصل، فهذا معناه ثبوت الترخيص من جميع الجهات لا من حيث كونه فقط مشكوك التكليف؛ لأنّ الترخيص الجهتي كأنّه ينافي الترخيص الفعلي، الترخيص الفعلي يقتضي أن يكون هذا الطرف الذي يجري فيه الأصل ويثبت فيه الترخيص والتأمين يقتضي أن يكون مرخّصاً فيه فعلاً، بينما إذا قلنا أنّه لا يكون مرخّصاً فيه من حيث كونه طرفاً للعلم الإجمالي كأنّه هذا ينافي الترخيص الفعلي في هذا الطرف، أو ذاك الطرف، فيكون حمل الترخيص والتأمين على التأمين والترخيص الحيثيين خلاف الظاهر، فلا يُصار إليه .
أقول: هذا يمكن دفعه أيضاً، بأن الترخيص الفعلي لا ينافي عدم الترخيص من حيثية أخرى؛ لأننا نقول أنّ الترخيص الفعلي ثابت، لكن من هذه الحيثية، من هذه الحيثية يكون الترخيص فعلياً، من حيث كونه مشكوك التكليف يكون الترخيص فعلياً، وهذا لا ينافي كونه غير مرخّصٍ فيه من حيث كونه طرفاً للعلم الإجمالي، ليس هناك منافاة بين الترخيص الفعلي من هذه الحيثية وبين عدم التأمين وعدم الترخيص من حيثية أخرى وهي حيثية كونه طرفاً في العلم الإجمالي. إذا أخترنا هذا؛ حينئذٍ أيضاً تندفع الشبهة، وإلاّ حينئذٍ لابدّ من اختيار الوجه الثالث الذي ذكرناه، والظاهر أنّ الروايات الخاصّة الدالّة على المنع من ارتكاب أطراف الشبهة، الدالة على وجوب الموافقة القطعية، وعدم الترخيص في المخالفة الاحتمالية، الظاهر أنّها تامّة سنداً وتامّة دلالة؛ فحينئذٍ هذه قد تمنع من الالتزام  بالتخيير وتجويز المخالفة الاحتمالية؛ لأنّها أدلّة تامّة سنداً وتامّة دلالة، وتدل على عدم التخيير وعدم جواز المخالفة الاحتمالية في موارد العلم الإجمالي في الشبهات المحصورة. بالنتيجة نصل إلى نفس النتيجة التي اتفقوا عليها وهي عدم جواز المخالفة الاحتمالية؛ بل تجب الموافقة القطعية، بالرغم من الالتزام بمسلك الاقتضاء في محل الكلام.
هناك تقريب آخر لشبهة التخيير غير ما طرحه المحقق العراقي(قدّس سرّه)،[1] هذا التقريب هل يثبت التخيير، أو ليس له القابلية لإثبات التخيير في محل الكلام ؟ هذا التقريب هو أن يقال: أنّ الأصل يجري في كلٍ من الطرفين، وعندما يجري الأصل في هذا الطرف يكون غرضه هو التأمين من ناحية ارتكاب هذا الطرف بالخصوص، كما أنّه يجري في الطرف الآخر لغرض التأمين من ناحية ارتكاب الطرف الثاني بالخصوص ولا نحتاج إلى تقييد هذا الترخيص الثابت في كلٍ من الطرفين بخصوصه؛ بل نجريه مطلقاً، فلا نرتكب التقييد الذي فيه محاذير سابقة، كلا نحن لابدّ أن نجري الأصل في هذا الطرف بخصوصه مطلقاً، وفي هذا الطرف بخصوصه مطلقاً ولا يلزم من ذلك الترخيص في المخالفة القطعية، باعتبار أنّ الترخيص في هذا الطرف بخصوصه وفي ذاك الطرف بخصوصه، باعتبار أنّ كل واحدٍ منهما بخصوصه ممّا يُشك في حكمه وفي حرمته لا ينافي لزوم الإتيان بالجامع وبأحد الفردين، ليس هناك منافاة بينهما، باعتبار أنّ أحّد الفردين ممّا يُعلّم بتعلّق التكليف به علماً إجمالياً، لكن لا منافاة بين إجراء الترخيص في هذا الطرف بخصوصه بلا تقييد وفي هذا الطرف بخصوصه أيضاً بلا تقييد، لا منافاة بين هذين الترخيصين المطلقين في الفردين وبين الإلزام بالجامع، أي الإلزام بالإتيان بأحد الفردين، لا منافاة بينهما، إلزام بالجامع، لكن ترخيص في كل طرفٍ بخصوصه، فالأصل يجري في هذا الطرف بخصوصه ويجري في ذاك الطرف بخصوصه بلا حاجة إلى التقييد وليس في ذلك مخالفة لعلمنا الإجمالي بلزوم الإتيان بأحد الطرفين، يعني أنّ هذا لا يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية؛ لأنّه لا ينافي الالتزام بالعلم الإجمالي ولزوم الإتيان بأحد الطرفين، ويقال أنّ هذا نظير التخييرات الواقعية في مثل خصال الكفارة ــــــــــــــ مثلاً ــــــــــــــ أيّ ضيرٍ في أن يُلتزم بثبوت الترخيص في كل فرد من أفراد هذه الكفارة وفي كل خصلة من خصال هذه الكفارة، وفي نفس الوقت يُلتزم بوجوب الإتيان بالجامع، بوجوب الإتيان بواحدٍ من هذه الخصال ؟ لزوم الجامع يجتمع مع الترخيص في كل خصلة من الخصال، هذا العتق تعلّق به الترخيص في الترك، وصوم شهرين متتابعين تعلّق به الترخيص في الترك، وفي نفس الوقت نعلم بلزوم الإتيان بالجامع ولزوم الإتيان بواحدٍ من الخصال الثلاثة. ما نحن فيه من هذا القبيل، يُلتزم بلزوم الإتيان بالجامع عملاً بالعلم الإجمالي؛ لأننا نعلم بالعلم الإجمالي بثبوت التكليف، لكن هذا لا ينافي ثبوت الترخيص في هذا الطرف بخصوصه وثبوت الترخيص لذاك الطرف بخصوصه، وهذا يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة الاحتمالية، فوصلنا إلى شبهة التخيير من دون أن نلتزم بالتقريب المذكور في الشبهة وهو تقييد إطلاق الترخيص في كلٍ منهما بعدم الإتيان بالطرف الآخر، لا نلتزم بهذا التقييد، وإنّما نقول أنّ الأصل يجري في هذا الطرف بخصوصه ويجري في ذاك الطرف بخصوصه ولا محذور في ذلك، هذا لا يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية.
نعم، كما في خصال الكفارة إذا ترك كل الخصال، يعني جمع بين الترخيصات؛ حينئذٍ يقع في المخالفة القطعية، لكن جريان الترخيص في هذا الطرف بخصوصه لا ينافي العلم الإجمالي بلزوم الإتيان بإحدى الخصال، وهكذا الأصل في الطرف الآخر، فليجري الأصل في كلٍ من الطرفين مطلقاً، وغير مقيّد، غاية الأمر أنّ المكلّف إذا أعمل كلا الترخيصين وترك كلا الطرفين يقع في محذور المخالفة القطعية، هذا نرفع اليد عنه، لكن بالنتيجة يجوز له ارتكاب أحد الطرفين وهذا ترخيص في المخالفة الاحتمالية وهو معنى التخيير، لكن بتقريب آخر غير التقريب المتقدّم.
قد تُطرح شبهة التخيير بهذا البيان، لكن بهذا الشكل الذي ذُكر، الإشكال عليه واضح، باعتبار أننا نسأل أنّ هذا الترخيص الذي يُراد إثباته في كلٍ من طرفي العلم الإجمالي لا يخلو إمّا أن يكون مطلقاً، وإمّا أن يكون مقيّداً. إمّا أن يكون مطلقاً من ناحية فعل الآخر وتركه، وإمّا أن يكون مقيّداً بترك الآخر في الشبهة التحريمية، أو مقيّداً بفعل الآخر في الشبهة الوجوبية، فإذا كان مقيّداً رجعنا إلى نفس التقريب المذكور في نفس الشبهة، هذا ليس تقريباً آخر؛ لأننا قيّدنا الترخيص في كلٍ من الطرفين بترك الطرف الآخر. وأمّا إذا كان مطلقاً كما هو المفروض في هذا التقريب حتّى يكون تقريباً آخراً غير التقريب المذكور في أصل الشبهة، لابدّ من افتراض أنّ الأصل يجري فيه مطلقاً ويثبت الترخيص فيه مطلقاً لا مقيّداً بترك الآخر، أو فعله. وأمّا إذا كان مطلقاً؛ فحينئذٍ من قال أنه لا ينافي الترخيصين في الطرفين مع فرض إطلاقهما ؟ كيف لا يكون هذا منافياً للإلزام بالجامع ؟ كيف لا يكون منافياً للعلم الإجمالي بثبوت التكليف في أحد الطرفين وأنّه لابد على المكلّف أن يأتي بأحدهما، أو يترك أحدهما على اختلاف الشبهات ؟ المنافاة ثابتة في محل الكلام؛ بل الذي يُفهم عرفاً من ترخيصين مطلقين في الطرفين هو أنّه ترخيص في ترك الجامع، ترخيص مطلق في هذا وترخيص مطلق في هذا، الذي يُفهم من هذين الترخيصين المطلقين في الطرفين هو أنّ هذا ترخيص في الجامع، فيكون منافياً للإلزام بالجامع، فكيف يقال بأنّ الترخيصين المطلقين في محل الكلام لا يكون منافياً للجامع المعلوم بالإجمال، وللإلزام بأحد الطرفين ؟ هو يُرخّص في هذا مطلقاً وفي هذا مطلقاً، وهذا يكون منافياً للإلزام بأحد الطرفين والإلزام بالجامع، فالمنافاة متحققة ولا يمكن إنكار هذه المنافاة، فإذا كانت المنافاة متحققة؛ حينئذٍ يأتي الكلام السابق من أنّه لا يمكن الالتزام بجريان الأصل في كلٍ من الطرفين مطلقاً؛ بل لابدّ من تقييده وإذا وصلنا إلى التقييد؛ حينئذٍ نرجع إلى التقريب السابق المتقدّم في أصل الشبهة، والجواب عنها هو ما تقدّم سابقاً، فلا يكون هذا تقريباً آخراً في قباله، ونفس الكلام يقال في خصال الكفارة، المثال الذي ذُكر في أصل التقريب، الإلزام المذكور في خصال الكفارة المتعلّق بالجامع بين هذه الخصال الثلاثة، مرّة نفترض أنّ هذا الإلزام يسري من الجامع إلى الأفراد، فيكون هناك إلزام بالعتق، لكنّه إلزام فيه شائبة الترخيص، يعني إلزام به لا يجوز تركه إلاّ إلى بدل، إلزام من هذا القبيل، إلزام مشوب بالترك لكن إلى بدله، إلى الخصلة الأخرى من خصال الكفارة، وهكذا الطرف الآخر أيضاً إلزام يسري إلى الجامع لكن بهذا النحو، إذا فرضنا ذلك في خصال الكفارة؛ حينئذٍ تكون المنافاة جدّاً واضحة بين هذه الترخيصات الموجودة المفروضة في المقام في الأفراد وبين الإلزام المتعلّق بالجامع والساري إلى هذا الطرف، هناك منافاة واضحة بينهما؛ لأنّ مقتضى الإلزام الساري من الجامع إلى الفرد ـــــــــــ فرضاً الإلزام الساري إلى العتق ــــــــــــ هو عدم جواز تركه إذا تركت الخصال الأخرى، إلزام بالعتق في حالة ترك الخصال الأخرى، بينما مقتضى الترخيص المقترح في المقام الذي يجري في العتق أنّ الترخيص فيه مطلقاً هو عدم الإلزام بالعتق حتّى في حالة ترك الخصال الأخرى، بينهما منافاة، فكيف يقال بعدم وجود منافاة بينهما ؟ إذا سرى الإلزام من الجامع إلى هذه الخصلة ولو كان إلزاماً مشوباً بجواز الترك إلى بدل، هذا معناه أنّه في حالة عدم الإتيان بالبدل هو ملزم بالإتيان بالعتق، فكيف يجتمع هذا مع الترخيص في ترك العتق مطلقاً حتى في حالة ترك سائر الخصال، فالمنافاة تكون حينئذٍ منافاة واضحة بينهما، هذا إذا قلنا بالسريان إلى الأفراد. أمّا إذا لم نقل بالسريان إلى الأفراد وأنّ الإلزام يتعلّق بالجامع، فالمنافاة أيضاً ثابتة؛ لما قلناه قبل قليل من أنّ الذي يُستفاد من جعل ترخيصين في هذه الخصال في الأفراد، أو ترخيصات ثلاثة في الأطراف مطلقة من حيث فعل الآخر وتركه، الذي يُفهم منها كما قلنا هو الترخيص في ترك الجامع، يعني ليس هناك إلزام بالجامع، وليس هناك إلزام بالإتيان بإحدى هذه الخصال؛ لأنّ الترخيص في العتق مطلق والترخيص في الإطعام مطلق والترخيص في صيام شهرين متتابعين أيضاً مطلق، وهذا الترخيص المطلق في الخصال أيضاً ينافي الإلزام بالجامع ولا يمكن المصير إليه؛ بل لابدّ من التقييد، في محل الكلام، فإذا التزمنا بالتقييد؛ حينئذٍ يرجع إلى التقريب السابق ولا يكون هذا تقريباً في مقابله؛ بل هو عبارة عن نفس ما تقدّم سابقاً.
الذي يتبيّن من جميع ما ذكرناه هو أنّه في موارد الشك في المكلّف به مع العلم الإجمالي بالتكليف الذي هو محل الكلام تجب الموافقة القطعية، فضلاً عن حرمة المخالفة القطعية، والظاهر أنّ هذا ممّا اتفق عليه الكل ولم يخالف أحد في ثبوت هذين الأمرين في الشبهات المحصورة من موارد العلم الإجمالي، أنّه تحرم المخالفة القطعية وتجب الموافقة القطعية.
نعم، اختلفوا في أنّ حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية الذي يعني أنّ الأصل لا يجري في جميع الأطراف ولا يجري في بعض الأطراف، اختلفوا في أنّ المانع من إجراء الأصل ما هو ؟ هنا يقع الاختلاف، والكل يسلّمون بأنّ الأصل لا يجري في جميع الأطراف، فتحرم المخالفة القطعية ولا يجري في بعض الأطراف، فتجب الموافقة القطعية، لكن لماذا لا يجري الأصل في جميع الأطراف ؟ ولماذا لا يجري في بعض الأطراف ؟ هذا اختلفوا فيه، هناك من يرى بأنّ المانع من جريان الأصل في جميع الأطراف وفي بعضها مانع ثبوتي، هناك مانع عقلي يلزم من جريان الأصل في جميع الأطراف؛ بل في بعض الأطراف كالمحقق العراقي(قدّس سرّه)؛ ولذا اختار أنّ العلم الإجمالي علّة تامة لحرمة المخالفة القطعية كما هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، الآخرون بعّضوا بينهما، فالتزموا بأنّ المانع من جريان الأصل في جميع الأطراف مانع ثبوتي، يعني هناك مانع عقلي يمنع من جريان الأصل في جميع الأطراف، لكنّ المحذور من جريان الأصل في بعض الأطراف ليس محذوراً ثبوتياً، وإنّما هو محذور إثباتي، أو ما يشبهه؛ ولذا فرّقوا بين حرمة المخالفة القطعية، فالتزموا بأنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية، وبين وجوب الموافقة القطعية، فالتزموا بأنّ العلم الإجمالي ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، وإنّما فقط هو مقتضٍ يقتضي وجوب الموافقة القطعية، اختلفوا في ذلك.
نعم، الذي يُخالف في ذلك، يعني يخالف كلا الفريقين في ذلك ويرى بأنّ المانع في كلٍ منهما مانع إثباتي، يعني تمامّاً عكس ما يقوله المحقق العراقي(قدّس سرّه) الذي يرى أنّ المانع في كلٍ منهما مانع ثبوتي والمحذور محذور عقلي، الذي خالف في ذلك هو السيد الشهيد(قدّس سرّه) فيما نعلم، فهو يرى أنّ المانع إثباتي في كلٍ منهما حتّى في حرمة المخالفة القطعية؛[2] لعدم وجود محذور عقلي من جريان الأصل في جميع أطراف العلم الإجمالي، وإنّما المحذور إثباتي، ويقول أنّ ارتكاز العقلاء لا يساعد على ذلك، فهو يرى أنّ المانع إثباتي في كلٍ منهما على عكس الآخرين الذين يرون أنّ المانع ثبوتي إمّا مطلقاً، أو على الأقل بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية.
ذكر السيد الشيد(قدّس سرّه) بعض الثمرات التي تترتب على هذين المسلكين، المسلك الذي يقول أنّ المانع ثبوتي والمسلك الذي يقول أنّ المانع إثباتي، ذكر بعض الثمرات المهمّة:
منها: [3]ما إذا ورد دليل تام سنداً ودلالة يدل على الترخيص في المخالفة القطعية في موردٍ خاص كما يُدّعى في بعض الموارد من قبيل جوائز السلطان حيث ذكر الشيخ في كلامٍ له أنّ هناك أدلّة ظاهرها الترخيص في المخالفة القطعية، فهنا تظهر الثمرة، بناءً على أنّ المانع ثبوتي كما يراه الجماعة كلّهم، على الأقل بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية؛ حينئذٍ لابدّ من طرح الرواية، أو تأويلها؛ إذ لا يمكن الأخذ بظاهرها لوجود مانعٍ عقلي يمنع من الترخيص في المخالفة القطعية، المانع الثبوتي يعني استحالة الترخيص في المخالفة القطعية؛ حينئذٍ أي دليل يدل على الترخيص المحال بحسب الفرض لا يمكن الأخذ به مهمّا كان هذا الدليل، سواء كان هذا الدليل أصل عملي، أو رواية خاصّة تدل على الترخيص في المخالفة القطعية، لا يمكن الأخذ بهذه الرواية والالتزام بها؛ لوجود محذور عقلي يمنع من الترخيص في المخالفة القطعية. وأمّا إذا كان المحذور إثباتي كما هو يرى، أنّ المحذور حتّى بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية هو محذور إثباتي، بناءً على هذا؛ حينئذٍ لا مانع من الأخذ بظاهر هذه الرواية والالتزام بالترخيص في المخالفة؛ بل لعلّه يتعيّن ذلك، يجب العمل بهذه الرواية بعد فرض أنّها تامّة سنداً ودلالة، وذلك باعتبار أنّ المحذور الإثباتي يعني أنّه لا دليل على الترخيص في هذا المورد، هناك محذور وقصور من ناحية الدليل من أن يثبت الترخيص في الطرفين، وإلاّ هو في حدّ نفسه لا مشكلة فيه، الترخيص في الطرفين ليس فيه محذور عقلي، وإنّما هناك قصور في الدليل، فإذا جاء دليل ليس فيه قصور يدل على الترخيص في المخالفة القطعية لا مانع من العمل به؛ لذلك كما قلنا يتعيّن العمل به؛ ولذا الذي يقول أنّ المحذور ثبوتي هو الذي يحتاج إلى تأويل مثل هذه الروايات التي ظاهرها  الترخيص في المخالفة القطعية، أو طرحها إذا لم يتمكّن من تأويلها.
ومنها: إذا فرضنا أنّ كل واحدٍ من الطرفين كان مورداً لأصلٍ غير الأصل الذي يجري في الطرف الآخر، أنّ هذا الطرف ــــــــــــ فرضاً ــــــــــــ مورد لأصالة البراءة، والطرف الآخر مورد لاستصحاب عدم التكليف ــــــــــــ مثلاً ــــــــــــ أنّ كلٍ من الطرفين يجري فيه أصل غير مسانخ للأصل الذي يجري في الطرف الآخر. هنا بناءً على أنّ المحذور ثبوتي؛ حينئذٍ يتساقط الأصلان ولا يجريان في الطرفين حتّى إذا كانا غير متسانخين، إذا كانا من سنخ واحد كالبراءة، فتسقط البراءة؛ لأنّها تبتلى بالتعارض الداخلي فيها وتسقط، فلا تشمل كلاً من الطرفين، إذا كانا غير متسانخين أيضاً يسقط الأصلان؛ لعدم إمكان جريانهما معاً في الطرفين، فتتساقط الأصول؛ وحينئذٍ لا يبقى أصل في محل الكلام، والوجه في هذا هو أنّ المحذور العقلي يمنع من الترخيص في المخالفة القطعية مهما كان دليل الترخيص، سواء كان عبارة عن أصلين متسانخين، أو كان عبارة عن أصلين غير متسانخين، النتيجة واحدة، فكل واحدٍ منهما يؤدّي إلى الترخيص في المخالفة القطعية والمفروض أنّ المخالفة القطعية فيها محذور عقلي ومحذور ثبوتي يمنع من ذلك؛ فحينئذٍ يتساقط الأصلان.
وأمّا إذا قلنا أنّ المحذور إثباتي وليس محذوراً ثبوتياً؛ حينئذٍ خصوصاً إذا كان المحذور الإثباتي هو كما يقول السيد الشهيد(قدّس سرّه) أنّ المحذور الإثباتي هو عبارة عن ارتكاز المناقضة بين الترخيص في جريان الأصل في الطرفين وبين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال بنظر العرف والذي سمّاه(الارتكاز العقلائي)، ويقول هذا هو الذي يمنع من جريان الأصول في الأطراف، بناءً على هذا، إذا كان المحذور إثباتياً وقائماً على أساس المناقضة التي ذكرناها؛ حينئذٍ نقول لا وجه لتساقط هذين الأصلين في المقام.







[1] مباحث الأصول، تقرير بحث السيد محمد باقر الصدر للسيد كاظم الحائري، ج 4، ص 98.
[2] مباحث الأصول، تقرير بحث السيد محمد باقر الصدر للسيد كاظم الحائري، ج 4، ص 59.
[3]  مباحث الأصول، تقرير بحث السيد محمد باقر الصدر للسيد كاظم الحائري، ج 4، ص 56.