الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

35/07/05

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة/ منجّزية العلم الإجمالي
ذكرنا الجواب الأخير عن شبهة التخيير: هذا الجواب من الواضح أنّه لا يتم عندما لا يلتزم بهذا التفسير الخاص للأحكام الظاهرية، وأنّ تمام الملاك في الأحكام الظاهرية هو درجة الاهتمام من قبل المولى(سبحانه وتعالى)، من لا يلتزم بهذا المبنى ويفسّر الأحكام الظاهرية بتفسيرٍ آخر حيث هناك رأي يلتزم به الكثير من المحققين بأنّ الحكم الظاهري ينشأ من مصلحة نوعية تقتضي إطلاق العنان للمكلّف وعدم إلزامه بالاحتياط، وهي التي يُعبّر عنها بمصلحة التسهيل وهي مصلحة نوعية وليست مصلحة شخصية؛ بل هي مصلحة نوعية تُلاحظ من قبل الشارع وهذه المصلحة النوعية في الترخيص الظاهري تكون هي الملاك في الترخيص الظاهري.
الأحكام الظاهرية بشكلٍ عام تنشأ من ملاكات من هذا القبيل لا أنّها تنشأ من تزاحم حفظي ودرجة الاهتمام الشرعي ببعض الأغراض عندما تتزاحم مع بعضها في مقام الحفظ، وإنّما هي تنشأ من مصلحة خاصّة وهي مصلحة التسهيل في الأحكام الترخيصية، مصلحة إطلاق العنان، ومصلحة أخرى في الأحكام الظاهرية الإلزامية من قبيل وجوب الاحتياط وغيرها. فإذن: إذا لم نلتزم بهذا المبنى الذي ذُكر؛ حينئذٍ لا مانع من الالتزام بترخيصين مشروطين؛ لأنّ الالتزام بالترخيصين المشروطين في الطرفين في هذا الجواب كان محذوره هو أنّه لا معنى لافتراض الترخيص الظاهري بنحوٍ يكون مشروطاً ومنوطاً بفعل المكلّف وتركه؛ لأنّ تمام ملاك الترخيص الظاهري هو الاهتمام في مقام الحفظ التشريعي للأغراض عندما تتزاحم لا كملاك، وفي ذلك العالم لا معنى لأن يكون الترخيص منوطاً ومشروطاً بترك المكلّف، أو فعله خارجاً، هذا كان هو الإشكال، فإذا تجاوزنا هذا المبنى ولم نلتزم به؛ حينئذٍ لا  مشكلة في افتراض أنّ الترخيص الذي ينشأ من مصلحة التسهيل النوعية وينشأ من مصلحة إطلاق العنان النوعية أن يكون منوطاً ومشروطاً بترك المكلّف للطرف الآخر، التسهيل بهذا المقدار يقتضي أن يُرخّص للمكلّف بهذا الطرف إذا ترك الطرف الآخر، أمّا إذا فعل المكلّف الطرف الآخر، فأنّ التسهيل لا يقتضي حينئذٍ الترخيص له في هذا الطرف، مصلحة التسهيل بمقدار ما إذا ترك المكلّف الطرف الآخر هي تقتضي الترخيص في هذا الطرف، هذا لا مشكلة في فرضه ولا يوجد محذور في فرض مثل هذين الترخيصين المشروطين.
إذن: أوّل شيء هو أنّ هذا يبتني على هذا التفسير للأحكام الظاهرية، ومن لا يقبل بهذا التفسير؛ حينئذٍ لا يوجد محذور من الالتزام بالترخيصين المشروطين. هذا من جهة.
من جهةٍ أخرى: بقطع النظر عن المبنى، حتّى لو التزمنا بهذا المبنى المذكور؛ حينئذٍ يمكن أن يقال: أنّ تعلّق الترخيص والتخيير بالجامع لا يحتاج إلى مؤنة زائدة كما ذُكر في الجواب، هو في الجواب كأنّه رددّ الأمر بين أن يتعلّق الترخيص بالجامع، وبين أن يتعلّق بكلٍ من الطرفين، الثاني فيه محذور؛ لأنّه لا ينسجم مع التفسير المختار للأحكام الظاهرية، أمّا الأوّل، وهو أن يتعلّق الترخيص بالجامع، قال: هذه طفرة لا دليل عليها في مقام الإثبات؛ لأنّ دليل الترخيص هو عبارة عن أدلّة الأصول العمليّة المؤمّنة العامّة، دليل الترخيص هذا ظاهر في إثبات الترخيص في كلٍ طرفٍ يُشك في حكمه بعينه، هذا لا يمكن الالتزام به؛ لاستلزامه الترخيص في المخالفة القطعية؛ حينئذٍ ما هي المشكلة في أن نلتزم بأنّ الترخيص يتوجّه إلى الجامع ؟ قال أنّ تحويل الترخيص من الطرف كما هو ظاهر الدليل إلى الجامع يحتاج إلى مؤنةٍ إثباتيةٍ مفقودةٍ في المقام، لا يوجد دليل على هذا التحويل. هذه كانت المشكلة في المقام، وإلاّ الترخيص المتعلّق بالجامع ليس فيه مشكلة ثبوتية، ليس فيه ترخيص منوط بشيء؛ فحينئذٍ تكون المشكلة إثباتية.
الملاحظة الثانية تقول: يمكن تجاوز هذه المشكلة الإثباتية في محل الكلام، الترخيص في الجامع لا يحتاج إلى مؤنةٍ إثباتيةٍ زائدةٍ غير ما هو الموجود وغير ما هو المفروض من أدلّة، نحن عندنا أمران، عندنا دليل يدلّ على الترخيص عند الشك في حرمة شيءٍ وهو أدلّة الأصول المؤمّنة العامّة. وعندنا من جهةٍ أخرى أننا فرغنا عن أنّه لا يُعقل الترخيص في كلٍ من الطرفين على الإطلاق، هذا أيضاً غير معقول؛ لأنّه يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعية؛ حينئذٍ لماذا لا نلتزم على أساس أنّ المدلول الإنشائي للدليل هو الترخيص في كل طرف، وهو اعترف بأنّ المدلول الإنشائي كمدلولٍ إنشائي لا مانع من تقييد الترخيص في كل طرف بترك الطرف الآخر، إذا المدلول الإنشائي ليس هناك مشكلة في تقييد الترخيص في كلٍ من الطرفين، كما هو ظاهر الدليل؛ لأنّه لا يمكن الأخذ بالترخيصين المطلقين، فنقيّد الترخيص في كلٍ من الطرفين بترك الطرف الآخر، هذا كمدلول إنشائي لا مشكلة فيه، فإذن: من حيث المدلول الإنشائي لا مشكلة في التقييد بترك الطرف الآخر، نأتي إلى المدلول الحكائي التصديقي، المدلول الالتزامي هذا يُعبّر عن ـــــــــــــ على المبنى المتقدّم ـــــــــــــ ترجيح الملاكات الترخيصية على الأغراض اللّزومية، أنّ الشارع يرى أنّ الغرض الترخيصي والملاك الترخيصي أهم من الغرض والملاك اللّزومي، وهذا هو المدلول الالتزامي لدليل الترخيص، يُعبّر عن اهتمام الشارع بالأغراض الترخيصية وترجيحها على الأغراض اللّزومية عندما تتزاحم في مقام الحفظ. هذا المدلول الالتزامي نلتزم به؛ لأنّه ليس فيه محذور، أنّ هذا يُعبّر عن اهتمام الشارع بالأغراض الترخيصية وترجيحها على الأغراض اللّزومية. هذا التعبير، يعني مصلحة إطلاق العنان للمكلّف، اهتمام الشارع بالأغراض اللّزومية، من الواضح أنّه لا يتوقّف على افتراض ترخيصين في الطرفين، إطلاق العنان للمكلّف وعدم إلزامه بالاحتياط الذي هو معنى ترجيح الغرض الترخيصي على الغرض اللّزومي، أنّ الشارع يرى أنّ المصلحة تقتضي إطلاق العنان للمكلّف وعدم إلزامه بالاحتياط في مقابل إلزامه بالاحتياط حتّى يدرك الأغراض اللّزومية، هذا الغرض كما يتحقق بترخيصين مشروطين يتحقق أيضاً بالترخيص المتعلّق بالجامع، فهو أيضاً يحقق هذا الغرض، يعني عندما يقال للمكلّف أنت مُخيّر في ترك أحد الطرفين وفعل الآخر، تعلّق الترخيص بالجامع، أنت مرخّص بين الطرفين، أنت مخيّر بين أن تترك هذا الطرف أو تترك هذا الطرف، يكون قد أطلق العنان للمكلّف وتحقق الغرض، الغرض هو بهذا المقدار، الأغراض الترخيصية في محل كلامنا مقدّمة على الأغراض اللّزومية في مرحلة الموافقة القطعية فقط، في مرحلة المخالفة القطعية بالعكس كما هو المفروض أنّ الأغراض اللّزومية تتقدّم على الأغراض الترخيصية؛ ولذا لم يجوّز للمكلّف في أن يخالف قطعاً، في أن يرتكب كلا الطرفين، لكن هل يجب عليه أن يترك كلا الطرفين ؟ كلا، هنا جاء الغرض الترخيصي وقال هنا توجد مفسدة في إلزام المكلّف بترك كلا الطرفين في الشبهة التحريمية، وهناك مصلحة تقتضي إطلاق العنان للمكلّف، هذه المصلحة، عدم إلزام المكلّف بالاحتياط وإطلاق العنان له في مرحلة الموافقة القطعية لا تتوقّف على افتراض ترخيصين مشروطين؛ بل يكفي لتحقيق ذلك الترخيص في الجامع أن يرخّص له في فعل أحد الطرفين، وبذلك يطلق العنان للمكلّف ولا يوقعه في مفسدة الاحتياط إذا كان فيه مفسدة، لا يوقعه في ذلك ويطلق العنان له وتحقق غرض الشارع وهو ترجيح الأغراض الترخيصية على الأغراض اللّزومية، إذن: المدلول التصديقي الحكائي الالتزامي لدليل الأصل العملي الذي هو الدليل على الترخيص في محل الكلام لا يتوقّف على افتراض ترخيصين مشروطين حتّى نبقى نصرّ على الترخيصين المشروطين ونقول هذا محال على ضوء المبنى الذي نختاره في الأحكام الظاهرية والانتقال منه إلى الترخيص بالجامع، هذه طفرة تحتاج إلى مؤنة إثباتية، نقول لا تحتاج إلى مؤنة إثباتية؛ لأنّ دليل الأصل العملي يدلّ على ثبوت الترخيص في كلٍ من الطرفين، لكن جريانه مطلقاً في كلٍ من الطرفين محال، وجريانه مقيّداً في كلٍ من الطرفين أيضاً محال بناءً على هذا المبنى؛ لأنّه لا ينسجم مع الترخيص كحكم ظاهري كما فرض، هذا بنفسه يُشكّل قرينة على توجّه الترخيص إلى الجامع، فيكون قد رخّص في الجامع ولم يقع في كلٍ من المحذورين، لا المحذور الأوّل؛ لأنّه لم يُرخّص في الطرفين مطلقاً، ولا المحذور الثاني؛ لأنّه لم نجعل الترخيص معلّقاً ومنوطاً ومشروطاً بفعل المكلّف، أو تركه، وإنّما تعلّق الترخيص بالجامع،  هذا لا يحتاج إلى مؤنة إثباتية أزيد ممّا فُرض وجوده، دليل يدلّ على ثبوت الترخيص في كل من الطرفين، والالتزام بهذا محال، والالتزام به مقيّداً أيضاً محال، وهذا بنفسه يشكّل قرينة على توجّه الترخيص نحو الجامع؛ وحينئذٍ يمكن الالتزام بالترخيص في الجامع، وهذا وإن لم يكن هو نفس التقريب الذي بُيّن في شبهة التخيير، لكنّه يؤدي أيضاً إلى نفس النتيجة وهو التخيير، أنّ المكلّف يكون مُخيّراً في ترك أحد الطرفين وفعل الآخر؛ لأنّ هذا التخيير لا يُفرّق فيه بين أن يكون هناك ترخيصان مشروطان في الطرفين، أو يكون هناك ترخيص في الجامع، كل منهما يؤدي إلى التخيير، كل منهما يؤدي إلى تجويز المخالفة الاحتمالية، فتبقى شبهة التخيير على حالها، نعم بصيغةٍ أخرى غير الصيغة المطروحة في أصل الشبهة، الصيغة المطروحة في أصل الشبهة هي عبارة عن ترخيصين مشروطين في الطرفين، نقول إذا كان هذا محالاً بناءً على هذا التفسير؛ حينئذٍ صيغة أخرى، وهذه لا تحتاج إلى مؤنةٍ إثباتيةٍ زائدةٍ وهي الالتزام بأنّ هناك ترخيصاً في الجامع؛ لأنّ هذا هو الذي يحقق الغرض، تحقيق الغرض من الترخيص لا يتوقّف على افتراض ترخيصين مشروطين في الطرفين؛ إذ يكفي في ذلك كما هو واضح ترخيص في الجامع، فتبقى شبهة التخيير على حالها.
هذه هي أهم الأجوبة التي ذُكرت عن شبهة التخيير وإلى هنا لم يتم جواب من هذه الأجوبة المتقدّمة؛ حينئذٍ إمّا أن نلتزم بمسلك العلّية في وجوب الموافقة القطعية كما اختاره المحقق العراقي(قدّس سرّه) وغيره؛ وحينئذٍ تنتفي هذه الشبهة، بمعنى أن نلتزم بأنّ العلم الإجمالي علّة لوجوب الموافقة القطعية وعلّة لحرمة المخالفة القطعية؛ فلا تبقى شبهة التخيير؛ لأنّ العلم الإجمالي حينئذٍ يمنع من التخيير، ويمنع من إجراء الأصل في بعض الأطراف كما يمنع من إجراء الأصل في كلٍ من الطرفين، فترتفع الشبهة.
وإمّا أن لا نلتزم بالعلّية، وإنّما نلتزم بالاقتضاء كما هو الصحيح على ما تقدّم، لكن نلتزم بوجود محذورٍ إثباتي يمنع من إجراء الأصل في أطراف العلم الإجمالي، على هذا التقدير؛ حينئذٍ لا تجري الشبهة؛ لأنّ الأصل ليس قابلاً لأن يجري في أطراف العلم الإجمالي، حيث هناك قصور في مقام الإثبات في دليل الأصل عن الشمول لأطراف العلم الإجمالي، فلا شبهة حينئذٍ؛ لأنّ الشبهة مبنيّة على افتراض جريان الأصل في كلا الطرفين، يجري الأصل في كلٍ من الطرفين، فيقع التعارض بين جريان الأصل في هذا الطرف وبين جريان الأصل في هذا الطرف، فيقع التعارض؛ لأنّ جريان الأصل في كلٍ من الطرفين مستحيل؛ لاستلزامه الترخيص في المخالفة القطعية، هذه الاستحالة توقع التعارض في دليل الأصل بين أن يشمل هذا الطرف وبين أن يشمل ذاك الطرف، فيتعارضان، ولا مرجّح، فيتساقطان، فتجري الشبهة، الشبهة تقول لا داعي للتساقط؛ بل يجري الأصل في كلٍ من الطرفين، لكن بنحوٍ مشروط، وهذا ينتج التخيير، فتجري شبهة التخيير.
أمّا إذا قلنا أنّ الأصل قاصر أساساً عن الجريان في أطراف العلم الإجمالي، أصلاً لا يجري في هذا الطرف ولا في ذاك الطرف، فحينئذٍ تنتفي شبهة التخيير أساساً؛ حينئذٍ إذا آمنا بأنّ هناك مانعاً إثباتياً يمنع من شمول الأصل لأطراف العلم الإجمالي أيضاً ترتفع شبهة التخيير. أمّا إذا آمنا بمسلك الاقتضاء وآمنا بعدم وجود مانع حتّى إثباتي، فضلاً عن الثبوتي يمنع من جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي؛ حينئذٍ تستحكم الشبهة؛ حينئذٍ يأتي المحقق النائيني والسيد الخوئي(قدّس سرّهما) ويقولان بأنّ الأصل يجري في الطرفين، وتحصل حالة التعارض والتساقط، فتجري شبهة التخيير.
إذا وصلنا إلى هذه النتيجة؛ حينئذٍ يتعيّن أن نجيب عن هذه الشبهة بجوابٍ آخر وهو أن نفتّش في الأدلّة وفي الروايات عن بعض الروايات التي لا تجوّز لنا ذلك، يعني لا تجوّز لنا ارتكاب بعض أطراف الشبهة؛ بل ظاهرها وجوب الموافقة القطعية، وتكون دالّة على وجوب الموافقة القطعية في الشبهات المحصورة، وهناك بعض الروايات الدالّة على ذلك كما ورد في مسألة إذا علم نجاسة أحد الماءين، الإمام(عليه السلام) يقول له:(يهريقهما جميعاً ويتيممّ).[1] هذا واضح في أنّه لا يجوز ارتكاب بعض أطراف الشبهة اعتماداً على الأصل المؤمّن، وإلاّ لو كان يمكن إجراء الأصل والبناء على طهارة أحد الإناءين؛ حينئذٍ لما كانت هناك حالة انتقال إلى التيممّ؛ لأنّه يكون متمكنّاً من الماء ولا تنتقل وظيفته إلى التيممّ، ونفس الكلام ورد في باب الأغنام التي يُعلم بأنّ بعضها موطوء، نهاه الإمام(عليه السلام) عن أكل جميع الأطراف، يعني أوجب عليه الموافقة القطعية، بينما لو كنّا قائلين بالتخيير لجاز له أكل بعض الغنم، أو أكل واحدٍ منها على الأقل، بينما هو أمره بترك واجتناب كل أطراف الشبهة، وهذا معناه أنّ هذه الروايات تدلّ على أنّه في موارد العلم الإجمالي في الشبهات المحصورة تجب الموافقة القطعية ولا تجوز المخالفة الاحتمالية، بينما التخيير يقتضي تجويز المخالفة الاحتمالية، هذه الروايات تمنع من ذلك، لو جازت المخالفة الاحتمالية لجاز أكل بعض الغنم، ولجاز استعمال أحد الإناءين ولا تنتقل وظيفته إلى التيمم، إذا تمّت هذه الروايات سنداً ودلالة، ونحتاج أيضاً إلى مرحلةٍ ثانيةٍ وهي أن نتعدّى من هذه الروايات إلى كل شبهةٍ محصورةٍ بأن نلغي احتمال خصوصية هذين الموردين ولا نحتمل وجود خصوصية لهما، وإنّما المسألة مسألة علم إجمالي وشبهة محصورة، والإمام(عليه السلام) يوجب على المكلّف الموافقة القطعية وينهاه عن المخالفة الاحتمالية في كل شبهةٍ محصورةٍ في باب العلم الإجمالي، إذا استطعنا أن نلغي خصوصية هذين الموردين وننتزع كبرى كلّية مفادها وجوب الموافقة القطعية وعدم جواز المخالفة الاحتمالية في كل شبهةٍ محصورةٍ من موارد العلم الإجمالي؛ حينئذٍ يكون هذا نافعاً في محل الكلام بأن نلتزم عملاً بهذه الروايات بعدم جواز المخالفة الاحتمالية في كل شبهةٍ محصورةٍ في كل علمٍ إجمالي.
هذه حلول ثلاثة:
الحلّ الأوّل: تقدّم سابقاً أنّه غير تام؛ لأنّ العلم الإجمالي ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية.
الحل الثاني: وهو أن يقال بأنّ هناك مانعاً إثباتياً يمنع من شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالي، ليس هناك مانع ثبوتي؛ ولذا قلنا بالاقتضاء ولم نقل بالعلّية، لكن هناك مانعاً إثباتياً يمنع من شمول أدلّة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي، هذا المانع الإثباتي الذي يمنع من الشمول بيّناه سابقاً بتقريب: أنّ أدلّة الترخيص والإباحة التي هي أدلّتنا في محل الكلام يُفهم منها الترخيص والتأمين، لكن يُفهم منها التأمين عُبّر عنه بالتأمين الحيثي والترخيص الحيثي، يعني التأمين من ناحية كون هذا مشكوك الحرمة لا التأمين من جميع الجهات والحيثيات، لا يُفهم منها هذا المقدار، وهذا ليس مختصّاً بأدلّة الترخيص في محل الكلام؛ بل يدّعى حتّى في أدلّة الترخيص في الحكم الواقعي، أيضاً لا يُفهم منها إلاّ الترخيص الحيثي ومُثّل لذلك بمسألة(الجبن حلال) لو دلّ دليل على أنّ الجبن حلال، لا يُفهم منه أكثر من أنّ الجبن من حيث كونه جبناً حلال؛ ولذا لا يرون حصول تعارض بينه وبين ما دلّ على حرمة الغصب وحرمة استعمال ما هو مغصوب فيما لو كان هذا الجبن مغصوباً، لا تعارض بينهما؛ لأنّ دليل(الجبن حلال) يثبت الحلّية للجبن بما هو جبن وليس من جميع الجهات والحيثيات حتّى يعارض الدليل الدال على الحرمة من جهة الغصبية، ليس هناك تعارض بينهما، فيؤخذ بكلٍ منهما، هذا لا ينافي ذاك إطلاقاً، لو كان دليل(الجبن حلال) يُفهم منه حلّية الجبن من جميع الجهات والحيثيات لكان معارضاً لتحريم الجبن باعتباره مغصوباً، بينما لا يُرى وجود تعارض بين هذين الدليلين بنحوٍ لابدّ من إعمال قواعد باب التعارض بين هذين الدليلين. نفس هذا الكلام يُقال في أدلّة الترخيص والبراءة، الترخيص الثابت بأدلّة الأصول العملية المؤمّنة ترخيص حيثي(رُفع ما لا يعلمون) ترخيص في ما لا يعلمون من حيث كونه لا يعلمون، من حيث كونه مشكوك الحرمة، هناك تأمين في هذا الطرف من حيث كونه مشكوك الحرمة وليس تأميناً في هذا الطرف من جميع الجهات والحيثيات، هو يؤمّن في هذا الطرف من حيث كونه مشكوك الحرمة، وهذا لا ينافي أن يكون هذا الطرف لا تأمين فيه من حيث كونه طرفاً لعلمٍ إجمالي، هذا الطرف من حيث كونه مشكوك الحرمة أدلّة الأصول تدلّ على التأمين من جهته، لكن من حيث كونه طرفاً لعلمٍ إجمالي أدلّة الأصول لا تدل على التأمين من هذه الجهة، أصلاً لا تؤمّن من هذه الجهة، وهذه الجهة هي التي نريد إثباتها في محل الكلام، نحن نريد أن نثبت ترخيصاً في هذا الطرف باعتبار كونه طرفاً لعلمٍ إجمالي تمسّكاً بأدلّة الأصول، أدلّة الأصول عاجزة عن إثبات التأمين والترخيص في هذا الطرف باعتباره طرفاً لعلمٍ إجمالي، وإنّما هي تثبت التأمين والترخيص فيه من حيث كونه لا يُعلَم حُكمه، من حيث كونه مشكوك التحريم لا من جميع الجهات. وعليه: دليل الترخيص يكون قاصراً عن الشمول لأطراف العلم الإجمالي.
ويُذكر كشاهدٍ على ذلك أنّ أدلّة الأصول العملية لا تختصّ بموارد العلم الإجمالي، أدلّة الأصول العملية كما تشمل موارد العلم الإجمالي تشمل أيضاً الشبهات البدوية، وعمدتها هي الشبهات البدوية، فإذن: لا مانع من أن تكون هذه الأدلّة ناظرة إلى حيثية كون هذا الطرف طرفاً لعلمٍ إجمالي، هي لا تختص به؛ بل تشمل جميع الموارد حتّى التي في الشبهات غير المقرونة بالعلم الإجمالي، فإذن: لا يمكن أن نقول أنّ هذه الأدلّة عندما تثبت الحلّية ناظرة إلى كون الفرد وما تشمله طرفاً لعلمٍ إجمالي؛ لأنّ لازم هذا هو أنّها تكون ناظرة إلى موارد العلم الإجمالي ومختصّة بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، بينما هي غير مختصّة بذلك، فهي كما تشمل ذلك تشمل ــــــــــــ كما يُدّعى ــــــــــــ الشبهات البدوية.
فإذن: لا معنى لأن نقول هي ناظرة إلى الترخيص وجعل الترخيص بلحاظ كون ما تشمله طرفاً للعلم الإجمالي، وإنّما هي ناظرة إلى إثبات الترخيص في ما تجري فيه بلحاظ كونه مشكوك الحرمة، وبلحاظ كونه لا يُعلم حكمه، من دون فرقٍ بين الشبهات البدوية وبين الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.          




[1] وسائل الشيعة(آل البيت)، الحر العاملي، ج 1، ص 151، باب 8 من أبواب الماء المطلق، ح 2.