الموضوع: الأصول العمليّة/ منجّزية العلم الإجمالي
انتهى
الكلام عن الجواب الثاني عن شبهة التخيير:
وكان الجواب هو أنّ الحكم الظاهري إنّما يكون فيه محذور عندما يصطدم مع الحكم
الواقعي المعلوم بالإجمال، وقد ذكر السيد الخوئي(قدّس سرّه) نفسه أنّ الحكم
الظاهري لا يصطدم مع الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال ولا ينافيه، لا في مرتبة
الجعل ولا في مرتبة المبادئ ولا في مرتبة ما يترتب على الجعل من أحكام عقلية وقد
بيّنّا ذلك مفصلاً.
إذن: لماذا
تُدّعى المنافاة ؟ ولماذا يقول السيد الخوئي(قدّس سرّه) في كلامه السابق كيف يُعقل
الترخيص في كلٍ من الطرفين ولو على نحو مشروط مع الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال ؟
هذه المنافاة التي استدل بها وذكر الدليل عليها الوجدان هذه لا منشأ لها، يعني لا
وجه لافتراض المنافاة بينهما بعد ما تقدّم إلاّ أن يقال بأنّ الحكم الظاهري في محل
الكلام في حدّ نفسه لا محذور فيه، وإنّما يكون فيه محذور عندما يطلع المكلّف عليه،
عندما يبلغه الترخيص من قبل الشارع بهذا الشكل يكون هذا الترخيص ممّا فيه المحذور،
فكأنّ المحذور ينشأ من علم المكلّف به واطلاعه عليه،
[1]
فيكون هذا محذوراً في الترخيص، لكنّه ليس محذوراً في الترخيص في نفسه، وإنّما يكون
فيه محذور عندما يعلم به المكلّف ويطّلع عليه، وهذه الدعوى عهدتها على مدّعيها،
كيف والحال أنّ هناك قضية متّفق عليها وهي أنّ الحكم الظاهري في حدّ نفسه لا مشكلة
فيه، وإنّما المشكلة تنشأ من منافاته للحكم الظاهري في أحدى مراتب الحكم الظاهري،
إمّا في مرتبة الجعل، او ما يترتب على الجعل من آثار عقلية.
الجواب
الثالث عن الشبهة: وقد ذكره السيد الخوئي(قدّس
سرّه) في تقريرات بحثه وهو: أننا في محل الكلام إذا فرضنا أننا علمنا بحرمة أحد
الأناءين وأنّ فيهما خمر معلوم بالإجمال، علمنا أن أحدهما حرام فيه خمر والآخر
مباح، فكل فردٍ منهما يحتمل أنّه الحرام الواقعي ويُحتمل أنّه المباح الواقعي،
وهذا معناه أنّ الحرمة المعلومة بالإجمال هي حرمة مطلقة ليست مقيّدة، كحرمة واقعية
محتملة ليست مقيدة بترك الطرف الآخر المباح، كما أنّ الإباحة المحتملة في كلٍ من
الطرفين أيضاً هي إباحة مطلقة وليست مقيدة بترك الطرف الآخر الحرام الواقعي، ما
نعلمه هو إمّا حرمة مطلقة، أو إباحة مطلقة؛ حينئذٍ الترخيص المدعى في شبهة التخيير
هو حكم ظاهري لا يُحتمل مطابقته للواقع؛ لأنّ الواقع يدور بين حرمة مطلقة وبين
إباحة مطلقة. هذا الطرف إمّا حرام مطلقاً، إذا كان فيه خمر يكون حرام مطلقاً؛ لأنّ
حرمة الخمر ليست مقيدة بترك المباح، وإمّا مباح واقعاً، مطلقاً أيضاً؛ لأنّه على
تقدير أن لا يكون فيه خمر، فهو مباح مطلقاً وليست إباحته مقيدة بترك الحرام
الواقعي، فجعل الترخيص فيه بالنحو المذكور في الشبهة ليس فيه احتمال المطابقة
جزماً.
[2]
نعم، جعل الترخيص فيه يحتمل المطابقة؛ لأنّ أحد المحتملين فيه هو الإباحة المطلقة،
فإذا كان هذا مباح مطلقاً، فيمكن جعل الترخيص الظاهري مطلقاً، لكن المُدعى في
الشبهة هو جعل الترخيص المقيد، الترخيص المقيد لا يحتمل مطابقته للواقع؛ لأنّ
الواقع يدور إمّا بين الحرمة المطلقة، أو الإباحة المطلقة.
هذا
الإشكال وهو الذي يبتني على فكرة أنّ الحكم
الظاهري إنّما يُعقل جعله حينما يكون محتمل المطابقة للواقع، وأمّا إذا كان لا
يُحتمل مطابقته للواقع، فكأنّه لا يمكن جعله. الجواب الثالث مبني على هذه الفكرة، لابدّ
في إمكان جعل الحكم الظاهري وصحّته أن يكون فيه احتمال المطابقة للواقع، فيه
احتمال المطابقة للحكم الواقعي المعلوم، وإلاّ، فلا يمكن جعله، وحيث أنّ الترخيص
المشروط ليس فيه احتمال المطابقة للواقع، فلا يصح جعله، فتسقط شبهة التخيير، لكن
أصل هذه الفكرة ليست تامّة، وقد ذُكرت هذه الفكرة وهذه الشبهة نفسها في مباحث
دوران الأمر بين المحذورين، هناك أيضاً ذُكر أنّه كيف يُعقل جعل الترخيص الشرعي
الظاهري في موارد دوران الأمر بين المحذورين؛ لأننّا لا نحتمل مطابقة الترخيص
الظاهري المجعول في تلك الموارد للواقع؛ لأنّ المفروض أنّ الواقع هناك يدور بين
الوجوب وبين التحريم في دوران الأمر بين المحذورين، فجعل الترخيص الظاهري لا
يُحتمل مطابقته للواقع؛ ولذا مُنع من الالتزام بالترخيص الظاهري في موارد دوران
الأمر بين المحذورين، باعتبار أنّه لا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية؛ لأنّ
المكلّف لا يقدر على المخالفة القطعية في تلك الموارد، مُنع منه بالرغم من أنّه لا
يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية على أساس هذه الشبهة، على أساس أنّ الترخيص
هناك لا يُحتمل مطابقته للواقع.
وتقدّم
الجواب عن ذلك، والجواب هو الجواب نفسه في المقام
وحاصل الجواب هو ما تقدّم من أنّ الأحكام الظاهرية هي في الحقيقة تعبير عن تقديم
بعض الأغراض على البعض الآخر عندما يقع التزاحم الحفظي فيما بينها، عندما تتزاحم
الأغراض في مقام التشريع، بمعنى أنّ أحد الغرضين يُحفظ تشريعاً بما يوجب فوات
الغرض الآخر، وكذلك الغرض الآخر يُحفظ تشريعاً بما يوجب فوات الغرض الأوّل، هذا
معنى التزاحم بين الأغراض في مقام التشريع، أي التزاحم الحفظي، بمعنى أنّ حفظ غرضٍ
لا يتم إلاّ على حساب غرضٍ آخر عندما تختلط الأمور على المكلّف، عندما يكون المكلّف
شاكاً وجاهلاً وتختلط عليه الأغراض وتشتبه عليه؛ حينئذٍ المشرّع عندما يريد أن
يحفظ، إذا كان يهتم بهذا الغرض، فسوف يجعل حكماً ظاهرياً يناسب اهتمامه بهذا الغرض،
فيحفظ به هذا الغرض الأهم وإن كان هذا يوجب فوات الغرض الآخر المحتمل، وهكذا
بالعكس إذا كان يهتم بذاك أيضاً يجعل حكماً ظاهرياً يحفظ به ذاك الغرض، وإن كان
يوجب فوات الغرض الآخر، هذه هي فكرة الحكم الظاهري، الأغراض الترخيصية تُحفظ بجعل
البراءة كحكم ظاهري بجعل الترخيص بجعل الإباحة بإجراء الاستصحاب النافي للتكليف وأمثال
ذلك، هذه تُحفظ بها الأغراض الترخيصية، لكن تُحفظ بها الأغراض الترخيصية هذا يؤدي
إلى فوات الغرض اللّزومي عندما يتزاحم الغرض اللّزومي مع الغرض الترخيصي، كما أنّ
الأغراض الترخيصية تُحفظ بجعل الاحتياط وإن كان يفوت به الغرض الترخيصي، التسهيل
على المكلّفين يفوت عندما يجعل الشارع الحكم الظاهري هو الاحتياط، فالحكم الظاهري
هو في الحقيقة تعبير عن أهمية الغرض الذي يكون الحكم الظاهري حافظاً لذلك الغرض عندما
يكون ذلك الغرض أهم في نظر المشرّع، فالأحكام الظاهرية هي تعبّر عن اهتمام الشارع
بالملاكات التي تُحفظ بهذه الأحكام الظاهرية. هذه هي فكرة الحكم الظاهري.
هذا الحكم
الظاهري واضح بأنّه أصلاً ملاك التزاحم الحفظي
بين الأحكام التي يقع بينها الاختلاط والاشتباه، ملاك افتراض وقوع تزاحم في مقام
الحفظ التشريعي لهذه الأغراض، ومن الواضح أنّ الشرط في هذا هو أن يشك المكلّف في
الحكم الواقعي؛ ولذا الشرط الأساسي في تصوّر وتعقّل الحكم الظاهري هو افتراض شك
المكلّف في الحكم الواقعي، يعني يحتمل أنّ هذا حرام ويحتمل أنّه مباح، أو يحتمل
أنّه واجب ويحتمل أنّه مباح، فلابدّ من افتراض الشك في إمكان جعل الحكم الظاهري،
فإذا شك المكلّف في الحكم الواقعي واختلطت عليه الأغراض الترخيصية بالأغراض
اللّزومية، ولم يستطع التمييز بينها؛ لأنّه شاك؛ لأنّه جاهل بالحكم الواقعي، في
حالة الجهل وفي حالة الشك الشارع يريد أن يجعل له حكماً ظاهرياً يعمل به في حالة
الشك والجهل، هذا الحكم الظاهري دائماً يراعى فيه اهتمام الشارع بالغرض الواقعي
إذا كان يهتم بغرض التسهيل وإطلاق العنان، هذه هي المصلحة الترخيصية والملاك
والغرض الترخيصي هو الأهم في نظر الشارع وإن استلزم فوات الغرض اللّزومي، فيجعل
البراءة كحكم ظاهري وبذلك يصل إلى هذا الغرض الأهم وإن فات عليه الغرض الآخر؛ لأنّ
هذا بنظره أهم، فيجعل الحكم البراءة، وهكذا بالعكس يجعل الاحتياط، الشرط الأساسي
في الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي، متى ما تحقق الشك في الحكم الواقعي،
أمكن تعقّل جعل الحكم الظاهري بشرط أن يؤدي إذا كان منجّزاً، أو معذّراً، يعني
مسألة التأمين والتنجيز على اختلاف موارد الحكم الظاهري لابدّ من فرضها، الشرط
الأساسي هو الشك في الحكم الواقعي، لكن هل يُعتبر في تصوّر الحكم الظاهري وتعقّل
جعله أن نحتمل مطابقة الحكم الظاهري للحكم الواقعي ؟ كلا، لا دليل على ذلك، يكفي
وقوع التزاحم، يكفي جهل المكلّف بالواقع في تعقّل الحكم الظاهري، سواء كان هذا
الحكم الظاهري يُحتمل مطابقته للواقع، أو لا يُحتمل مطابقته للواقع، المهم أن يقع
تزاحم في مقام الحفظ بين الأغراض، بين غرض التسهيل والغرض الإلزامي المحتمل، حتّى
إذا فرضنا أنّ الحكم الظاهري الذي يُجعل لكي يصل المكلّف إلى غرض التسهيل وإطلاق
العنان على العباد، وإن كان هذا الحكم الظاهري لا نحتمل مطابقته للواقع كما هو
الحال في دوران الأمر بين المحذورين، وكما هو الحال في محل الكلام، لم يدل دليل
على اشتراط أن يكون الحكم الظاهري محتمل المطابقة للواقع، أيّ ضير في أن نفترض أنّ
الشارع في دوران الأمر بين المحذورين يجعل ترخيصاً ظاهرياً، باعتبار تقديماً
لمصلحة التسهيل وإطلاق العنان، مصلحة التسهيل يراها الشارع مهمة، أن يُسهّل
للمكلّف يجعل ترخيصاً، في محل الكلام يجعل ترخيص في كلا الطرفين، لكن على نحوٍ
مشروط بترك الطرف الآخر في مقابل ما يقوله المحقق النائيني(قدّس سرّه) والسيّد
الخوئي(قدّس سرّه) من لزوم الاحتياط؛ بل قد نفترض أنّ الشارع يقدّم مصلحة التسهيل
فيجعل ترخيصاً في كلٍ من الطرفين، لكن ليس مطلقاً؛ لأنّ هذا فيه محذور، وإنّما
يجعل ترخيصاً في كلٍ من الطرفين مشروطاً بترك الطرف الآخر، لا ضير في ذلك بالرغم
من أننا لا نحتمل مطابقة هذا الحكم الظاهري للحكم الواقعي المحتمل، هذا ليس فيه
مشكلة، ولم يقم دليل على اعتبار أن يكون محتمل المطابقة للواقع، يكفي في الحكم
الظاهري الشك في الحكم الواقعي، ما يجعله الشارع كحكم ظاهري لا يُشترط فيه أن يكون
محتمل المطابقة لهذا الحكم الواقعي المشكوك . هذا هو الجواب المتقدّم في دوران
الأمر بين المحذورين وهو الجواب الذي يُذكر في محل الكلام.
الجواب
الرابع: أن يقال: إذا فرضنا تعذّر إجراء الأصل
في كلا الطرفين مطلقاً؛ لأنّ هذا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، والترخيص
في المعصية وهذا غير معقول؛ وحينئذٍ يتعين ــــــــــــ بناءً على الشبهة التي
يقولها المحقق العراقي(قدّس سرّه) ــــــــــــــ إجراءه في كلا الطرفين مقيّداً،
يقول: لا داعي لمنع شمول دليل الأصل للطرفين الذي هو معنى التساقط الذي يقوله المحقق
النائيني(قدّس سرّه)، يقول لا داعي للتساقط، وإنّما نجري الأصل في كلا الطرفين،
لكن مقيّداً لا مطلقاً. إذا وصلت النوبة إلى التقييد، الجواب الرابع يقول: ما
الدليل على أنّه لابدّ أن نقيّد جريان الأصل في كلا الطرفين بالنحو الذي ذُكر في
الشبهة؛ لأنّه كما يمكن أن نقيّد جريان الأصل في كلا الطرفين بالنحو المذكور في
الشبهة، يعني نقيّد الترخيص في هذا الطرف، وجريان الأصل في هذا الطرف بعدم ارتكاب
الطرف الآخر كما قيل في الشبهة، صاحب هذا الجواب يقول: يمكن أن نتصوّر تقييداً
آخر، أن نقيّد جريان الأصل في كلٍ من الطرفين بأن يكون قبل صاحبه، قبل ارتكاب
الطرف الآخر، يعني أن يكون سابقاً على ارتكاب الطرف الآخر، وإعمال الأصل في الطرف
الآخر، هذا نوع من التقييد؛ بل يمكن افتراض حتى إجراء الأصل مقيّداً بأن يكون بعد
ارتكاب الطرف الآخر، بعد إجراء الأصل في الطرف الآخر، هذا أيضاً نوعٌ من التقييد،
يريد أن يقول في المقام بأنّه ما هو الدليل على تعيّن التقييد بالنحو المذكور في
الشبهة بعد افتراض أنّ المشكلة موجودة في إجراء الأصل في كلا الطرفين مطلقاً ولا
داعي كما قيل للالتزام بعدم شمول الأصل لكلا الطرفين؛ بل يجري الأصل في كلٍ منهما
ولكن بنحوٍ مقيّد، التقييد له أنحاء وله صور، ما هو الموجب لتعيّن التقييد بالنحو
المطروح في الشبهة في قبال سائر ما يمكن تصوّره من تقييدات كما إذا فرضنا أن يقال:
أنّ الأصل يجري في هذا الطرف في حالة كونه قبل إجرائه في الطرف الآخر، في حالة
كونه سابقاً على ارتكاب الطرف الآخر وإجراء الأصل فيه، وهكذا الأصل يجري في الطرف
الآخر أيضاً بشرط كونه قبل إجرائه في الطرف الأوّل، فهو يجري فيهما معاً، لكن فقط
في حالة السبق، في حالة التقدّم، أن يتقدّم على الطرف الآخر، فيجري الأصل فيهما
معاً، لكن مقيّداً بحالة السبق، بحالة أن يكون قبل الطرف الآخر، وهكذا يجري في
الثاني بشرط أن يكون قبل الأوّل، فالأصل يجري فيهما معاً لكن في هذه الحالة، كما
كان يقال في الشبهة بأنّ الأصل يجري فيهما معاً بشرط ترك الطرف الآخر، هنا يقال
يجري فيهماً بشرط أن يكون قبل إجرائه في الطرف الآخر، إذا كان هو الأوّل، إذا كان
هو أوّل ما تبدأ به، يُرخّص لك في ارتكابه، وأمّا أن يكون هو الوجود الثاني، بمعنى
أنّه ترتكب الطرف الآخر ثم تريد أن ترتكب هذا الطرف، هذا الأصل لا يجري فيه،
فالأصل يجري في هذا الطرف ليس مطلقاً بلحاظ الوجود الأوّل والوجود الثاني، يعني حتّى
إذا كان ارتكاب هذا هو الوجود الثاني، لا يجري الأصل فيه، وإنّما يجري فيه بشرط أن
يكون هو الارتكاب الأوّل، أمّا أن يجري فيه الأصل مع تقدّم ارتكاب الثاني، هذا
نقيده ونقول: هذا لا يجري فيه الأصل، وإنّما يجري الأصل فيه إذا كان هو الارتكاب
الأوّل، إذا كان سابقاً على إجراء الأصل في الطرف الآخر، هذا نحو من التقييد.
الإشكال
يقول: لماذا نلتزم بالتقييد المذكور هناك؛ بل
يمكن أن نلتزم بالتقييد المذكور بهذا الشكل ما هو الموجب لترجيح ذاك التقييد على
هذا التقييد ؟
الجواب على
هذا الإشكال هو: أنّ مسألة التقييد وعدمه ترتبط
بالمحذور، فلابد أن نرى أين يوجد المحذور؛ لأنّ القاعدة الأساسية في المقام تقتضي
أنّه يجب الحفاظ على إطلاق الدليل ويجب الأخذ بإطلاق الدليل في كل موردٍ يمكن فيه
الأخذ بإطلاقه، هذه قاعدة لابدّ من الالتزام بها؛ لأنّه لا موجب لرفع اليد عن
الدليل من دون مبرّر، من دون وجود محذور يمنع من الأخذ بظاهر الدليل، دليل
الأصل بحسب الفرض هو أساساً هو يشمل كلا الطرفين باتفاق المتنازعين في المقام، هو
في حدّ نفسه يشمل هذا الطرف ويشمل أيضاً الطرف الآخر، المشكلة نشأت من إطلاق
الدليل في كل طرفٍ لحالة ترك الآخر، كيف يُعقل أن يُجعل الترخيص الظاهري في هذا
الطرف إطلاق الدليل لحالة فعل الآخر وتركه، المشكلة نشأت من هنا؛ لأنّه كيف يُعقل
الترخيص في هذا الطرف مطلقاً، يعني سواء ارتكبت الطرف الآخر، أو لم ترتكبه أرخّص
لك في هذا، وهكذا في الطرف الثاني، هذا فيه مشكلة؛ لأنّه يؤدي إلى الترخيص في
المخالفة القطعية، أنت مرخّص في هذا حتّى إذا ارتكبت الثاني، ومرخّص في الثاني
حتّى إذا ارتكبت الأوّل، هذا معنى الإطلاق، وهو يؤدي إلى الترخيص في المخالفة
القطعية، هذه المشكلة نشأت من هنا.
وبعبارةٍ
أخرى: أنّ شمول الأصل لهذا الطرف في حالة فعل
الآخر يكون معارضاً بشمول الأصل للطرف الثاني في حالة فعل الأوّل، وهذا التعارض
يحصل؛ لأنّ هذان الإطلاقان يؤديان إلى الترخيص في المخالفة القطعية، والمفروض أنّه
محال. إذن: شمول الأصل في هذا الطرف لحالة فعل الآخر، وهكذا بالعكس في الطرف الآخر
هذا لا يشمله الأصل؛ لأنّ شمول الأصل له معارض بشمول الأصل للطرف الاخر في حالة
فعل الأوّل، ولا يمكن شمول الأصل لكلا الطرفين في حالة فعل الآخر؛ لأنّ هذا يؤدي
إلى الترخيص في المخالفة القطعية . إذن: هذا المحذور هو الذي أوجب رفع اليد عن
الإطلاق بهذا المقدار، وأمّا شمول الأصل لهذا الطرف في حالة ترك الثاني، هذا ليس
فيه محذور، وليس له معارض في الطرف الثاني، شمول الأصل لهذا الطرف في حالة ترك
الاخر، هذا لا يعارضه شيء لا يعارضه شمول الأصل للثاني في حالة ترك الأوّل؛
لأنّهما أصلان يمكن أن يجريا معاً ولا تعارض بينهما؛ لأنّ جريانهما لا يؤدي إلى
الترخيص في المخالفة القطعية، أن يجري الأصل في هذا الطرف في حالة ترك ذاك ويجري
في ذاك في حالة ترك الأوّل، لا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية؛ ولذا لا
مانع من جريان الأصل في كلا الطرفين، لكن في حالة ترك الآخر، هذا لا مانع منه، فلا
داعي لرفع اليد عن دليل الأصل في هذه الحالة، لا يوجد موجب، لا يوجد شيء يجبرنا
على رفع اليد عن إطلاق دليل الأصل لكلٍ منهما في حالة ترك الآخر، فيبقى الأصل
شاملاً لذلك، بخلاف حالة فعل الآخر، شمول الأصل لكلٍ من الطرفين في حالة فعل الآخر
فيه محذور؛ لأنّ شمول الأصل لهذا الطرف في حالة فعل هذا معارض بشمول الأصل لهذا في
حالة فعل الأوّل؛ لأنّ جريانهما معاً يؤدي إلى المخالفة القطعية، فيتعارضان؛ فلذا
لابد أن نرفع اليد عن إطلاق الأصل في هذه الحالة، ويبقى إطلاق الأصل في الحالة
الأخرى التي لا يلزم منها محذور، ولا يوجد لجريان الأصل في الطرف معارض يبقى إطلاق
الأصل على حاله وهذا ينتج ما قيل في الشبهة أي الترخيصين المشروطين على ما ذُكر في
الشبهة، هذا هو المبرر لتقييد جريان الأصل في كلٍ من الطرفين بحالة ترك الطرف
الآخر، فيجري الأصل في هذا الطرف في هذه الحالة، ويجري الأصل في الطرف الاخر أيضاً
في هذه الحالة، هذا هو المبرر لهذا التقييد. أمّا إذا جئنا إلى تقييد آخر لا يوجد
فيه هذا المبرر، بمعنى أنّ إجراء الأصل في هذا الطرف في حالة كونه هو الأسبق هو
الأوّل، في حالة كونه هو الارتكاب الأوّل، الاقتراح كان يقول: فلنلتزم بهذا
التقييد، فيجري الأصل في هذا في حالة كونه هو الوجود الأوّل ويجري الأصل في ذاك في
حالة كونه هو الوجود الأوّل، نقول: أنّ هذا التقييد لا يمكن الالتزام به؛ لأنّ فيه
محذور؛ لأنّ إجراء الأصل في هذا الطرف في حالة كونه هو الوجود الأوّل معارض بجريان
الأصل في الطرف الآخر بعده، الأصل يجري في هذا الطرف بشرط أن يكون في حالة كونه
قبل الثاني وهذا يعارضه جريان الأصل في الطرف الآخر في حالة كونه بعد الطرف الأوّل؛
لأنّ إجرائهما معاً يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، أن تجري الأصل في هذا
الطرف في حالة كونه قبل ذاك وتجري الأصل في الطرف الثاني في حالة كونه بعد هذا،
وهذا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعية، يعني يؤدي إلى ارتكابهما معاً، فيقع
التعارض بين هذين الأصلين؛ ولذا لا يمكن الالتزام بجريان الأصل في هذا في حالة
كونه قبل الآخر؛ لأنّ هذا التقييد، إجراء الأصل بهذا الشكل يكون معارض بجريانه في
الطرف الآخر في حالة كونه بعده، بينما في التقييد المقترح لا يوجد هكذا شيء، إجراء
الأصل في هذا الطرف في حالة ترك الآخر لا يُعارض بشيء، لا يعارضه إجراء الأصل في
ذاك الطرف في حالة ترك الأوّل؛ لأنّه فُرض في هذا الأصل إنّما يجري الأصل في هذا
عند ترك الطرف الآخر، عند ترك الطرف الآخر يجوز لك ارتكاب هذا، هذا لا يعارضه
الأصل في الطرف الثاني؛ لأنّ جريانهما معاً لا يؤدي إلى الترخيص في المخالفة
القطعية. نعم المحذور فقط في جريان كلٍ منهما مطلقاً، إجراء الأصل في كلا الطرفين
مطلقاً، يعني سواء ارتكبت الأوّل، أو لم ترتكبه وهكذا في الثاني هذا يؤدي إلى
الترخيص في المخالفة القطعية، أمّا تقييده بحالة ترك الطرف الآخر هذا ليس فيه
محذور، وليس هناك شيء يعارض جريان الأصل في هذا الطرف؛ ولذا لا داعي لرفع اليد عن
إطلاق الدليل بالنسبة إليه، بينما في هذا الذي اقتُرح تقييد جريان الأصل بأن يكون
هذا هو الوجود الأوّل أن يكون قبل صاحبه معارض بإجراء الأصل في الطرف الآخر إذا
كان بعده؛ ولذا لا يجوز في هذه الحالة الالتزام بجريان الأصل في هذا الطرف مقيّداً
بهذا القيد؛ لأنّ جريان الأصل في هذا الطرف في هذه الحالة له معارض في الطرف
الآخر، وإذا كان له معارض، فهذا يمنع من إجراء الأصل في هذا الطرف ولو مقيّداً
بهذه الحالة وهي حالة كونه قبل صاحبه، فإذن: لا يمكن الالتزام بالترخيص المقيّد
بهذا، بينما يمكن الالتزام بالترخيص في هذا الطرف مقيّداً بترك الطرف الآخر.