الموضوع: الأصول العمليّة/ منجّزية العلم الإجمالي
ذكرنا في
الدرس السابق بأنّه يمكن أن يُلتزَم بما يقوله
المحقق العراقي(قدّ سرّه)، بمعنى أنّ نلتزم بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع المعيّن،
بالفرد بحدّه الشخصي المعيّن واقعاً، لكنّه مردد لدى المكلّف؛ لأنّ الظاهر أنّ
المحقق العراقي(قدّ سرّه)، لا يمانع من تفسير كلامه بهذا التفسير أنّه يقول أنّ
العلم يتعلّق بالواقع، يتعلّق بالفرد بحدّه الشخصي المعيّن، والتردد لدى المكلّف
لا يمكن إنكاره؛ إذ لا إشكال في أنّ هناك تشويشاً وعدم وضوح في الصورة، وهذا يعني
ويلازم افتراض التردد لدى المكلّف لا في الواقع، هذا التفسير إذا التزمنا به
وفسّرنا به أيضاً ما ذهب إليه المحقق الخراساني(قدّ سرّه) من تعلّق العلم بالفرد
المردد، بأن نقلنا الترديد من كونه ترديداً في الواقع إلى كونه ترديداً لدى
المكلّف، والفرد المردد يعني الفرد المردد لدى المكلّف، فيمكن أن يكون هذا تفسيراً
لذاك.
يبقى فقط
شيء واحد وهو أنّه مع افتراض تعلّق العلم
بالواقع؛ حينئذٍ يأتي هذا الإشكال وهو أنّ هذا الحدّ الذي يتعلّق به العلم بحسب
الفرض، الحدّ الشخصي للفرد إن كان حدّاً شخصياً معيّناً يلزم انقلاب العلم
الإجمالي إلى العلم التفصيلي، وإن كان حدّاً شخصياً مردداً؛ حينئذٍ رجعنا إلى
الفرد المردد. هذا كان الإشكال الذي يرد على المحقق العراقي(قدّ سرّه) أو على
الرأي الثالث، أنّه عندما نقول أنّ الحدّ الشخصي داخل في دائرة العلم وممّا يتعلّق
به العلم، هذا الحدّ الشخصي المعيّن إن كان داخلاً في دائرة العلم، يلزم الانقلاب،
وإن كان الحدّ الشخصي المردد داخلاً في دائرة العلم، فهذا يعني تعلّق العلم بالفرد
المردد وقد فرغنا عن بطلانه وعدم معقوليته.
أقول:
يمكن دفع هذا الإشكال بأن يُلتزم بالشق الأوّل من الإشكال، بأن يُلتزم بأنّ الداخل
في دائرة العلم هو الحدّ الشخصي المعيّن للفرد، لكن مع ذلك لا يلزم انقلاب العلم
الإجمالي إلى علم تفصيلي؛ لأنّ المحقق العراقي(قدّ سرّه)، فرّق بين العلم التفصيلي
والعلم الإجمالي على أساس أنّ الانكشاف في باب العلم التفصيلي يكون تامّاً وليس
فيه تشويش بينما الانكشاف في باب العلم الإجمالي فيه تشويش وغمو ض، فلا يلزم
من مجرّد افتراض أنّ العلم يتعلّق بالفرد بحدّه الشخصي المعيّن انقلاب العلم
الإجمالي إلى العلم التفصيلي؛ بل يبقى هو علم إجمالي يختلف عن العلم التفصيلي؛
لأنّ الصورة مشوّشة وغير واضحة وهذا هو الذي يبررّ الترديد لدى المكلّف؛ لأنّ
الصورة في الواقع ليست صورة واضحة ينكشف بها تمام الواقع، وإنّما هي صورة فيها
تشويش، وهذا التشويش هو الذي يوجب تردد المكلّف بين الفردين، لكن هذا لا يعني أن العلم
لا يتعلّق بالواقع كما هو؛ بل يتعلّق بالواقع كما هو ويتعلّق بالفرد بحدّه الشخصي
المعيّن واقعاً، لكن المردد واقعاً وهذا الترديد هو الذي ينشأ من عدم وضوح الصورة
التي تنشأ لدى هذا العالم، فإذن لا يلزم من افتراض تعلّق العلم بالفرد بحدّه
الشخصي المعيّن انقلاب العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي إذا التزمنا بمقالة
المحقق العراقي(قدّس سرّه)؛ بل يبقى هذا علم إجمالي وإن تعلّق العلم بالفرد بحدّه
الشخصي المعيّن؛ بل يمكن أن نلتزم بالشق الثاني من الإشكال، أن نقول أنّ العلم
الإجمالي يتعلّق بالفرد بحدّه الشخصي المردد، لكن نفترض أنّ الترديد ترديد عند
المكلّف لا ترديد بلحاظ الواقع حتّى يقال أنّ العلم الإجمالي إذا تعلّق بالفرد
بحدّه الشخصي المردد يلزم إشكال الفرد المردد المتقدم، هذا مبني على أنّ الترديد
ترديد في الواقع، أن يكون الواقع المعلوم مردداً واقعاً، كلا ليس هذا هو المقصود،
ما يتعلّق به العلم معيّن واقعاً، لكنّه مردد عند المكلّف، إذا قلنا بذلك لا يلزم
منه دخوله في الفرد المردد بالمعنى المطروح الذي يرد عليه إشكال عدم معقولية الفرد
المردد وعدم معقولية تعلّق العلم بالفرد المردد، فإذن، على كلا التقديرين يمكن دفع
هذا الإشكال، إمّا أن نقول بأنّه إذا كان العلم الإجمالي يتعلّق بالفرد بعنوانه
بحدّه الشخصي المعيّن ولا يلزم إشكال، ونقول أيضاً في نفس الوقت كل منهما يمكن أن
يتعلّق بالفرد بحدّه الشخصي المردد، لكن الترديد يكون عند المكلّف لا بلحاظ الواقع
حتّى يلزم إشكال، إذا التزمنا بهذا الالتزام؛ حينئذٍ يندفع الاعتراض الموجّه على
الرأي الأوّل وهو إشكال الفرد المردد، كما أنّه يندفع الإشكال الذي يرد على المحقق
العراقي(قدّس سرّه) كما ذكرناه قبل قليل.
يبقى مسألة
ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني والمحقق
النائيني(قدّس سرّهما) من أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع، هذا يمكن الجواب عنه
بوجدانية أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بشيءٍ أزيد من الجامع، لا يقف العلم على
الجامع وإنّما هو يتعلّق بشيء أزيد من الجامع، فادّعاء أنّ العلم الإجمالي يتعلّق
بالجامع فقط ولا يتعدّى من الجامع إلى ما هو أزيد منه، لعلّ هذا خلاف ما نفهمه من
العلم الإجمالي، وبهذا يمكن الوصول إلى هذه النتيجة وهي تصحيح ما ذهب إليه المحقق
العراقي(قدّس سرّه) بهذا البيان المتقدّم، لكن هذا هل يحل المشكلة ؟
قد يقال:
أنّ هذا الالتزام لا يحل المشكلة بتمامها، هذا الالتزام قد يصح في بعض الموارد وهي
الموارد التي يكون للمعلوم بالعلم الإجمالي ارتباط وتعلّق بالخارج، عندما يكون
المعلوم بالإجمال بهذا النحو، له ارتباط بالخارج، له مطابق بالخارج المعلوم بالعلم
الإجمالي يصح فيه هذا الكلام، فيقال: أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع، يعني
يتعلّق بالفرد بحدّه الشخصي المعيّن واقعاً وإن كان مردداً لدى المكلّف كما في
حالات كثيرة من موارد العلم الإجمالي، المعلوم بالإجمال له مطابق في الخارج من
قبيل مثال المسجد كما إذا رأى شخص يدخل للمسجد، لكنّه لسببٍ، أو لآخر أو لعدم وضوح
الرؤية تردد عنده هذا الشخص بين أن يكون زيداً، أو عمرو، إذا قلنا أنّ الرؤية
تتعلّق بالواقع الخارجي، تتعلّق بهذا الوجود الخارجي الشخصي والمعلوم بالعلم
الإجمالي هذا له مطابق خارجي، له واقع خارجي يطابقه، لكن عند المكلّف هناك تردد في
هذا الواقع الذي تعلّقت به الرؤية، لكن له ارتباط بالخارج، له ارتباط بواقع معيّن
خارجي؛ ولذا يصحّ لهذا العالم فيما لو انكشف الحال وتبيّن له تفصيلاً أنّ الذي
داخل المسجد هو زيد، له أن يقول بأنّ هذا هو ما علمته إجمالاً، فيُطبّق معلومه
بالإجمال على هذا المعلوم بالتفصيل، فيقول هذا، يعني زيد هو الذي علمت بدخوله
المسجد إجمالاً، هذا إنّما يصح هذا القول عندما يكون المعلوم بالإجمال له مطابق في
الخارج، عندما يكون له ارتباط بواقع معيّن موجود في الخارج، فيصحّ له حينما ينكشف
الحال ويتبيّن أنّ زيداً هو الداخل في المسجد، أو عمرو هو الداخل في المسجد يصح له
أن يقول بأنّ هذا هو الذي علمته إجمالاً، أو مثال نجاسة أحد الأناءين، العلم
الإجمالي بنجاسة أحد الأناءين الناشئة من سقوط قطرة بول في أحدهما ــــــــــ
مثلاً ــــــــــ لكنّه اشتبه عليه الأناءان، ايّ الأناءين سقطت فيه قطرة البول ؟
هو يعلم أنّ هناك قطرة بول سقطت في أحد الأناءين، للاشتباه حصل له علم إجمالي
بنجاسة أحد الأناءين، هنا أيضاً المعلوم بالعلم الإجمالي له مطابق في الخارج، له
ارتباط بواقع معيّن موجود في الخارج؛ ولذا أيضاً قلنا بأنّه يصح له أن يقول هذا
هو معلومي بالإجمال عندما ينكشف الحال ويتبيّن أنّ قطرة البول سقطت في الأناء
الأيسر، فيقول أنّ هذا هو الذي كنت أعلم به إجمالاً. هذا القول إنّما يصح إذا كان
للمعلوم بالعلم الإجمالي ارتباط بالخارج، بواقع معيّن خارجي، في هذه الموارد يمكن
أن نلتزم بما تقدّم بأن نقول بأنّ العلم الإجمالي في هذه الموارد يتعلّق بالواقع،
يتعلّق بالفرد بحدّه الشخصي المعيّن واقعاً، لكنّه مردد عند المكلّف، يصح هذا
الكلام فيه. وأمّا إذا فرضنا العلم الإجمالي معلومه ليس له ارتباط بالخارج وليس له
مطابق في الخارج إطلاقاً، من قبيل يُمثل لذلك بما إذا علمنا بكذب أحد الخبرين،
هناك شيء معيّن، خبر يدل على حرمته وخبر يدل على إباحته، خبر يقول لا بأس ببيع
العذرة وخبر آخر يقول ثمن العذرة سحت، هنا نحن نعلم إجمالاً بكذب أحد الخبرين بلا
إشكال لاستحالة اجتماع الضدّين، يستحيل أن تجتمع الإباحة والحرمة على شيءٍ واحد،
لاستحالة اجتماع الضدين يحصل لنا العلم إجمالاً بكذب أحد الخبرين أنّ أحد الخبرين
يكون كاذباً، لا واقعية له، المعلوم بهذا العلم الإجمالي ليس له مطابق في الخارج
وليس له ارتباط بواقع معيّن في الخارج، وإنّما نسبته إلى كلٍ منهما نسبة واحدة؛
ولذا لا يصح لهذا المكلّف فيما لو فرضنا بعد ذلك أنّه انكشف له أنّ الخبر الكاذب
هو الخبر الدال على الحرمة مثلاً، لا يستطيع أن يقول أنّ هذا هو معلومي بالإجمال؛
لأنّ معلومه بالإجمال ليس له مطابق في الخارج حتّى يكون تعلّق العلم التفصيلي به
كاشفاً عنه كما هو الحال في الأمثلة السابقة، الأمثلة السابقة كان العلم التفصيلي
إذا تعلّق به يكون كاشفاً عن المعلوم بالإجمال؛ لأنّ المعلوم بالإجمال له مطابق في
الخارج يرتبط بواقع معيّن خارجي، فعندما يتعلّق العلم التفصيلي به يصح أن نقول أنّ
العلم التفصيلي كشف عن ذلك المعلوم بالإجمال وهو الذي يصحح للعالم أن يقول بأنّ
هذا هو معلومي بالإجمال، كيف عرف أنّ هذا هو معلومه بالإجمال ؟ لأنّ العلم
التفصيلي هو الكاشف عن ذلك، لكن في المثال الأخير لا يصح له ذلك؛ لأنّ معلومه
بالإجمال هو اساساً لا يرتبط بواقع معيّن في الخارج، معلومه بالإجمال هو كذب أحد
الخبرين لا أكثر من ذلك، من دون أيّ ارتباط بواقعٍ خارجي معيّن، وإنّما هو يعلم
بكذب أحد الخبرين، وعلمه إجمالاً بكذب أحد الخبرين ناشئ من استحالة اجتماع الضدّين
وليس أكثر من هذا، وهذا نسبته إلى كلٍ من الخبرين نسبة واحدة وهذا يعني أنّ أحد
الخبرين هو معلوم لدى هذا الشخص بأنّه كاذب، فيكون في هذه الحالة متعلّق العلم ليس
هو الواقع، متعلّق العلم هو عبارة عن هذا الجامع، هو عنوان(أحد الخبرين) وليس أكثر
من هذا؛ ولذا في هذه الموارد يأتي هذا الإشكال، فيقال: أنّ الكلام السابق لا يصح
في هذه الموارد؛ لأنّه في هذه الموارد لا يصح لنا أن نقول بأنّ العلم الإجمالي
تعلّق بالواقع، تعلّق بالفرد المعيّن واقعاً بحدّه الشخصي المعيّن واقعاً، كلا
العلم الإجمالي في هذه الموارد لم يتعلّق بالفرد بحدّه الشخصي المعيّن واقعاً؛
لأنّ المعلوم بالعلم الإجمالي هذا ليس له ارتباط بالواقع، فلا معنى لأنّ نقول أنّ
العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع، يتعلّق بالفرد بحدّه الشخصي المعيّن، ليس هكذا،
الإشكال يقول الكلام السابق لا يمكن إسرائه إلى أمثال هذه الموارد، فلا يمكن أن
نلتزم بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالواقع وبالفرد بحدّه الشخصي المعيّن واقعاً،
إذن، لابدّ أن نلتزم في هذه الموارد بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق بالجامع، يعني
يتعلّق بعنوان(أحدهما)، فيُلتزم في هذه الموارد بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق
بعنوان(أحدهما) لا بالواقع، ولا بالفرد بحدّه الشخصي المعيّن واقعاً، هذا الإشكال
الذي يورد على ما تقدّم بأنّ هذا الذي تقدّم لا يجري في جميع الموارد، يصح في بعض
الموارد، موارد العلم الإجمالي ولا يصح في موارد أخرى، وليس مهماً الواقع في
الخارج من موارد العلم الإجمالي أيّهما أكثر، فليكن تلك الموارد هي الأكثر وقوعاً،
لكن هذا لا ينافي وقوع علم إجمالي من هذا القبيل ينشأ من استحالة اجتماع الضدين
واستحالة اجتماع النقيضين وأمثال ذلك، ينشأ علم إجمالي من هذا القبيل ولا يمكن
تطبيق تلك الفكرة المتقدّمة على هذه الموارد؛ فحينئذٍ في مقام الجواب عن ذلك نحن
بين أمرين: إمّا أن نلتزم في هذه الموارد بالخصوص بأنّ العلم الإجمالي يتعلّق فيها
بالجامع، لكنّ المقصود بالجامع ليس هو ما قد يُفهم من الجامع عندما يُطرح، ليس
المقصود به في محل الكلام هو الجامع الذاتي الذي هو جزء تحليلي من حقيقة كل فردٍ
من هذه الأفراد، وإنّما هو جامع انتزاعي يُنتزَع من هذين الفردين، أو الطرفين،
وليس جامعاً حقيقياً ذاتياً، وإنّما هو جامع انتزاعي وهو عنوان(أحد الخبرين) ولا
إشكال في أنّ هذا العنوان ينطبق على كل واحدٍ من الخبرين، ينطبق على هذا الخبر
وينطبق على هذا الخبر ويكون العلم متعلّقاً بهذا الجامع الانتزاعي لا الجامع
الحقيقي، هذا الجامع الانتزاعي يتعلّق به العلم الإجمالي في هذه الموارد؛ وحينئذٍ
يصح أن يقال أنّ العلم الإجمالي في هذه الموارد لا يتعلّق بالفرد بحدّه الشخصي
المعيّن ولا يتعلّق بالواقع، وإنّما يتعلّق بالجامع الانتزاعي الذي هو عبارة عن
عنوان أحد الفردين. هل يمكن الالتزام بهذا بأن نفصّل بين موارد العلم الإجمالي ؟
فنلتزم في تلك الموارد بتعلّقه بالواقع وفي هذه الموارد نلتزم بتعلّقه بالجامع.