الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

35/05/03

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة/ أصالة التخيير
كان الكلام في المقام الثالث فيما إذا كانت الواقعة متعدّدة، دار الأمر بين المحذورين وكانت الواقعة متعدّدة، الكلام أنصبّ على أنّه هل تجب الموافقة الاحتمالية، أو لا ؟ هل تجب الموافقة الاحتمالية بالإتيان بالفعل في كلا اليومين، أو تركه في كلا اليومين، أو لا تجب الموافقة الاحتمالية؛ يبقى المكلّف مخيّراً بين الفعل والترك في كلٍ من اليومين ؟  كان التقريب لوجوب الموافقة الاحتمالية، أو لما يُسمّى بالتخيير الابتدائي هو أنّ العلم الإجمالي في محل الكلام يتولّد منه علمان إجماليان تدريجيان كما صوّرنا ذلك سابقاً، وهذان العلمان التدريجيان وإن كان لا يمكن موافقتهما قطعاً، لكن يمكن موافقتهما القطعية، يمكن مخالفة كل واحدٍ منهما مخالفة قطعية أيضاً كما وضّحنا ذلك ولا حاجة إلى الإعادة.
حينئذٍ، إذا التزمنا بحرمة المخالفة القطعية لكلٍ من العلمين، كان معنى ذلك في الحقيقة هو وجوب الموافقة الاحتمالية؛ لأنّ المكلّف إذا كانت تحرم عليه المخالفة القطعية للعلم الإجمالي التدريجي الأوّل، وتحرم عليه المخالفة القطعية للعلم الإجمالي التدريجي الثاني، فأنّ معنى ذلك هو أنّه يجب عليه الموافقة الاحتمالية، هذا هو التقريب. في مقابل ذلك ذكرنا كلاماً للمحقق الأصفهاني(قدّس سرّه)، حيث أنّه أنكر منجّزية هذا العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، وذكر بأنّه لا يوجد عندنا في المقام إلاّ تكليفان، وقد فرغنا عن عدم منجزية العلم الإجمالي لحرمة مخالفتهما، الوجوب والتحريم، وكل منهما لا تحرم  مخالفته؛ لعدم القدرة على المخالفة القطعية لكل واحدٍ منهما، ومعنى ذلك أننّا فرغنا عن جواز المخالفة الاحتمالية لكلٍ منهما، فيجوز مخالفة الوجوب، ويجوز مخالفة التحريم، وهو معنى التخيير بين الفعل وبين الترك. يقول، عدم حرمة المخالفة القطعية لكلٍ من التكليفين أمر فرغنا عنه؛ وحينئذ لماذا نلتزم بحرمة المخالفة القطعية في محل الكلام، المخالفة القطعية المتصوّرة في المقام هي عبارة عن مخالفة احتمالية للتكليف الأوّل ومخالفة احتمالية للتكليف الثاني، وقد فرغنا عن جوازهما، فلا مجال حينئذٍ للحديث عن حرمة المخالفة القطعية، لا يحصل نتيجة ما ذكر علم بتكليف ثالث حتّى يُتصور تنجيز حرمة المخالفة القطعية بلحاظه، ليس عندنا إلاّ هذين التكليفين وجوب وحرمة، الوجوب لا تحرم مخالفته قطعاً، والحرمة أيضاً لا تحرم مخالفتها القطعية، الوجوب تجوز مخالفته الاحتمالية، والحرمة أيضاً تجوز مخالفتها الاحتمالية، فمن أين يأتي هذا الكلام، وهو أنّه تتنجّز حرمة المخالفة القطعية لكلا العلمين الإجماليين الذين تولدا من العلم الإجمالي السابق. هذا كلامه.
سابقاً قلنا بانّه إن كان منشأ المنع من منجزية حرمة المخالفة القطعية هو افتراض الطولية بين العلمين الإجماليين، وقلنا بأنّه يمكن أن يقع الحديث فيما إذا كانا عرضيين كما مثّلنا، هو علم ابتداءً بأنّه حَلِف على السفر في يوم الخميس ويوم الجمعة، لكن لا يعلم هل حَلِف على فعل السفر فيهما، أو ترك السفر فيهما، وهذا بالتحليل هو عبارة عن هذه العلوم المتقدّمة وهي تحصل في عرض واحد بلا أن تكون هناك طولية بينهما. يُضاف إلى ذلك أنّ ما ذكره لا يتم حتّى لو فرضنا أنّه كانت هناك طولية في هذه العلوم المُدعاة في المقام، والسر في ذلك هو أنّه في المقام لا يوجد مانع حتّى نفترض أنّ هناك تكليفاً لا يكون منجزاً بلحاظ علم إجمالي، ثمّ بعد ذلك يطرأ عليه علم إجمالي آخر يكون منجزاً بلحاظه، أيّ ضير في ذلك ؟ هذا التكليف بلحاظ علم إجمالي لا يكون منجزاً لسببٍ ما، لكن هذا التكليف بنفسه يكون منجزاً بلحاظ علمٍ إجمالي آخر، هذا ليس فيه محذور، المناط في المنجزية هو عبارة عن التمكّن من المخالفة القطعية، كل تكليفٍ يتمكّن من مخالفته القطعية إذا علم به تفصيلاً، أو إجمالاً؛ حينئذٍ تتنجز عليه حرمة المخالفة القطعية لذلك التكليف، والتكليف في محل الكلام كما فرضنا يمكن مخالفته القطعية، إذن، لا مانع من افتراض أنّه يكون منجّزاً بلحاظ       هذين العلمين الإجماليين التدريجيين، وإن كان غير منجز بلحاظ العلم الإجمالي السابق، أو العلمين الإجماليين السابقين الذين هما عبارة عن العلم إجمالاً بأنّه في يوم الخميس إمّا الفعل واجب، أو حرام، وفي يوم الجمعة الفعل إمّا واجب، أو حرام، هنا نسلّم أنّ هذين العلمين الإجماليين لا ينجزان حرمة المخالفة القطعية؛ لعدم قدرة المكلّف على المخالفة القطعية فيهما، لكن نفس هذا التكليف إذا طرأ عليه علم إجمالي آخر لا مانع من أن يكون منجزاً لحرمة مخالفته؛ إذ لا يعتبر في منجّزية العلم الإجمالي لتكليفٍ أن يكون تكليفاً جديداً لم يكن موجوداً سابقاً، ولم يُفرض عدم منجزيته بلحاظ علم إجمالي آخر، لا يشترط ذلك، الذي يُشترط هو أن يكون هناك علم إجمالي حقيقي واقعي، وهذا ما ندّعيه في المقام، في المقام يوجد علم إجمالي وجداني حقيقي واقعي، وهذا يمكن مخالفته القطعية، مخالفته القطعية أمر ممكن وليس مستحيلاً، فأيّ ضير في أن نلتزم بأنّ هذا العلم الإجمالي يكون منجزاً لحرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال في هذين العلمين الإجماليين التدريجيين، لا مانع من ذلك ولا توجد مشكلة فيه حتّى إذا فرضنا أن العلم الإجمالي الذي قلنا بالتنجيز على أساسه كان طولياً وليس عرضياً، يمكن التمثيل لذلك ببعض مسائل العلم الإجمالي في ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة، قد نفترض أنّ علماً إجمالياً لا يكون منجزاً لحرمة مخالفة التكليف، لكن ّ نفس هذا التكليف يكون منجزاً باعتبار طرو علم إجمالي ثانٍ، هناك لا يكون منجّزاً بالعلم الإجمالي الأوّل لسببٍ ما، بينما بطرو العلم الإجمالي الثاني يكون هذا التكليف منجّزاً وتحرم مخالفته القطعية، لو فرضنا أنّ المكلّف علم  بنجاسة أحد شيئين، إمّا هذا الماء، أو الدرهم الفضي، هنا يمكن أن يقال أنّ هذا العلم الإجمالي ساقط عن التنجيز؛ لأنّه ليس علماً إجمالياً بالتكليف على كل تقدير؛ لأنّه على تقدير أن تكون النجاسة في الدرهم، فلا أثر لهذه النجاسة؛ لأنّه ليس مأكولاً ولا ملبوساً حتّى يكون العلم الإجمالي منجّزاً لحرمة أكله، أو حرمة لبسه، أو حرمة شربه، الدرهم ليس له هذه الحالة؛ فحينئذٍ لا أثر لنجاسته، فلا يكون العلم الإجمالي منجزاً على كل تقدير؛ ولذا لا مانع في هذا المقام إذا بنينا على ذلك من إجراء أصالة الطهارة في الماء؛ لأنّ هذا العلم الإجمالي ليس منجزاً؛ لأنّه لا ينجز التكليف على كل تقدير. هذا العلم الإجمالي الأوّل.
لو فرضنا أنّ ثوباً لاقى الدرهم مع الرطوبة، هنا يتولّد علم إجمالي ثانٍ بأنّ النجاسة إمّا في الثوب، أو في الماء، يعني إمّا الملاقي نجس، أو طرف الملاقى الذي هو الماء؛ لأنّ الملاقى هو الدرهم، وطرف الملاقى هو الماء، فنعلم إجمالاً بأنّ الثوب الملاقي نجس، وإمّا الماء نجس، هذا علم إجمالي بالوجدان نعلم به.
قد يقال هنا: بأنّ هذا العلم الإجمالي ينجز التكليف، وذلك لأنّه علم إجمالي بالتكليف على كل تقدير، نفترض أنّ نجاسة الدرهم لم يكن لها أثر، لكنّ الثوب الذي لاقى الدرهم نجاسته لها أثر، فيكون علماً إجمالياً بالتكليف على كل تقدير، فقد يقال بمنجزية هذا العلم الإجمالي الثاني، وهذا ليس أمراً عجيباً وغريباً، أنّ تكليفاً لا يكون منجزاً لحرمة المخالفة القطعية بلحاظ علم إجمالي، لكنّه يكون منجزاً بلحاظ علم إجمالي آخر، ولو كان هذا العلم الإجمالي في طول العلم الإجمالي الأوّل، فهذه ليست قضية عجيبة، فقد يُدعى ذلك، افترض أنّ العلمين الإجماليين التدريجيين هما في طول العلمين الإجماليين الأساسيين، وأنّ التكليف لا يتنجز بالعلمين الإجماليين الأساسيين لعدم قدرة المكلّف على المخالفة القطعية، لكن في العلمين الإجماليين المتولّدين الطوليين المخالفة القطعية ممكنة، فلا مانع من أن   يكون التكليف منجّزاً بلحاظهما.
على كل حال هذا أصل المطلب، وتبيّن مما تقدم أنّه يظهر أنّ الصحيح هو أنّ كل واحد من هذين العلمين الإجماليين التدريجيين صالح لأن يكون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعية لمعلومه بالإجمال ولا يوجد ما يمنع من صلاحيته لتنجيز حرمة المخالفة القطعية. بناءً على هذا حينئذٍ نُتم المطلب، يقال بأنّ هذا المتقدّم كلّه فيما إذا فرضنا تساوي الاحتمالين، إذا فرضنا أنّ كلاً من الوجوب والحرمة كانا متساويين من دون أن يكون أحدهما أهم، أو محتمل الأهمية بالنسبة إلى الآخر، فيأتي الكلام السابق والنتيجة التي وصلنا إليها وهي أنّ المكلّف يتخيّر بينهما تخييراً ابتدائياً لا استمرارياً؛ لأنّ العلمين الإجماليين التدريجيين نجّزا حرمة المخالفة القطعية، أي بعبارة أخرى: نجّزا وجوب الموافقة القطعية. وأمّا إذا فرضنا أنّ أحد الحكمين كان أهم، أو محتمل الأهمية من الآخر، ولنفترض أنّ الوجوب كان أهم من الحرمة، أو محتمل الأهمية، بينما الحرمة ليست كذلك؛ حينئذٍ يقع الكلام في أنّه هل يبقى الحكم بالتخيير على حاله، يتخيّر المكلّف بين الفعل والترك في اليوم الأوّل بناءً على التخيير الابتدائي، أو يتخيّر بينهما في اليوم الأوّل والثاني بناءً على التخيير الاستمراري، هل يبقى هذا الحكم على حاله بالرغم من أنّ الوجوب أهم، أو محتمل الأهميّة من الحرمة، فيتخير بين أن يمتثل الوجوب ويفعل وبين أن يمتثل التحريم ويترك، أو أنّه يجب عليه تقديم الأهم، أو محتمل الأهمية، يجب عليه أن يمتثل الوجوب بأن يفعل.
إذن: الكلام في هذا: بناءً على أنّ التخيير ابتدائي في اليوم الأوّل قلنا أنّ المكلّف مخيّر يستطيع أن يفعل ويستطيع أن يترك، هل هذا هو الحكم إذا كان أحدهما أهم، أو محتمل الأهمية، أو يتعيّن عليه تقديم الأهم وامتثال التكليف الأهم أو محتمل الأهمية، فيجب عليه أن يفعل، وليس مخيّراً بين الفعل والترك.
بعبارة أخرى: في المقام هل تتقدّم الموافقة القطعية للتكليف الأهم المعلوم بالإجمال على المخالفة القطعية للتكليف المهم المعلوم بالإجمال أيضاً، أو لا ؟ تقديم الأهم، يعني أنّه يجب عليك الموافقة القطعية لهذا التكليف الأهم المعلوم بالإجمال وإن استلزم ذلك الوقوع في المخالفة القطعية للمهم، هل يمكن إثبات وجوب الموافقة القطعية للتكليف الأهم المعلوم بالإجمال بحيث يتقدّم على حرمة المخالفة القطعية للتكليف المهم المعلوم بالإجمال ؟ إذا قلنا أنّه يتقدّم، فهذا معناه أنّه لابدّ من تقديم الأهم وأنّ التخيير الذي فرغنا عنه في حالة التساوي، في حالة كون أحدهما أهم، أو محتمل الأهمية يرتفع، وعندئذٍ لا يتخيّر بين الفعل والترك؛ لأنّه لابدّ أن يفعل، وبناءً على أنّ التخيير ابتدائي لابدّ أن يفعل في اليوم الثاني أيضاً، فلا يكون مخيّراً بين الفعل والترك؛ لأنّ هذا أهم، أو محتمل الأهمية ولابدّ من تقديمه وموافقته القطعية وإن استلزم ذلك الوقوع في المخالفة القطعية للتكليف المهم المعلوم بالإجمال.
هنا في هذه المسألة المحقق النائيني(قدّس سرّه) له رأيان، عندما تعرّض لهذا الفرع في مسألتنا ـــــــــــ دوران الأمر بين المحذورين ـــــــــــــ أختار القول الأوّل وهو أنّ الحكم الابتدائي يبقى على حاله ولا يتغيّر بمجرّد أهمية أحد المحتملين، أو احتمال الأهمية،[1] يبقى المكلّف مخيّراً بين الفعل والترك ولا تراعى مسألة الأهمية وأمثالها، ولا يجب عليه تقديم الأهم؛ بل يبقى مخيّراً بينهما. هذا ما أختاره في محل الكلام ووافقه عليه السيد الخوئي(قدّس سرّه)، هو أيضاً ذهب إلى ذلك،[2] حيث ذهب إلى أنّه لا يلزم تقديم الأهم؛ بل يبقى المكلّف مخيّراً بين الفعل والترك بين امتثال الأهم وامتثال المهم، بينما المحقق النائيني(قدّس سرّه)أختار القول الثاني وهو لزوم تقديم الأهم، أو محتمل الأهمية عندما تعرّض إلى ذلك في مسألة دوران الأمر بين شرطية شيء ومانعيته،[3] شيء واحد يدور أمره بين أن يكون شرطاً وبين أن يكون مانعاً، هناك ذهب إلى لزوم تقديم الأهم، يعني قدّم الموافقة القطعية للتكليف الأهم المعلوم بالإجمال على المخالفة القطعية للتكليف المهم المعلوم بالإجمال. القول الأوّل، وهو عدم تقديم الأهم، وأنّ التخيير الذي أثبتناه في حالة التساوي بنفسه يبقى موجوداً في حالة العلم بالأهمية واحتمال الأهمية، هذا استدل عليه بدليلين، الدليل الأوّل هو الذي يُفهم من كلمات السيد الخوئي(قدّس سرّه)، أمّا الدليل الثاني، فلا يُفهم من كلماته، قد يستنبط من كلماته، لكنّه لم يذكره بشكلٍ صحيح.
الدليل الأوّل: وهو الذي لم يُذكر في كلمات السيد الخوئي(قدّس سرّه) الذي أختار هذا القول وهو عدم تقديم الأهم هو في الحقيقة مبني على افتراض أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية ومقتضي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، أنّ العلم الإجمالي ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، وإنّما هو مجرّد مقتضٍ، بينما هو علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية، بناءً على هذا المسلك الذي هو يؤمن به أيضاً السيد الخوئي(قدّس سرّه) وكذلك المحقق النائيني(قدّس سرّه) أيضاً يؤمن به، بناءً على هذا المسلك يكون تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية تأثيراً تنجيزيّاً؛ لأنّه علّة تامّة ليس معلّقاً على شيءٍ، وبمجرّد تحقق العلم الإجمالي لابدّ من افتراض تحقق حرمة المخالفة القطعية، فيكون تأثيره فعلياً تنجيزياً وليس معلّقاً، بينما تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية تأثير تعليقي، معلّق؛ لأنّه مقتضي وليس علّة تامّة، في حرمة المخالفة القطعية لا نستطيع أن نتصوّر وجود مانعٍ يمنع من تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية؛ لأنّ هذا خُلف الفرض؛ لأننّا افترضنا أنّه علة تامّة، فافتراض وجود مانع معناه خُلف الفرض، بينما في تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية يمكن افتراض وجود مانع يمنع من تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية، إذن، تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية تأثير تعليقي، معلّق على عدم المانع، بينما تأثيره في حرمة المخالفة القطعية ليس كذلك، وإنّما هو تأثير فعلي؛ حينئذٍ يقال في محل الكلام: بأنّ تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية في محل الكلام تأثير فعلي تنجيزي وليس معلّقاً، وبهذا يكون مانعاً من تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية؛ لأنّ تأثيره كما قلنا تأثير تعليقي، معلّق على عدم المانع، وحرمة المخالفة القطعية تصلح أن تكون مانعاً من تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية، بعد وضوح أنّ الموافقة القطعية لأحد العلمين الإجماليين تستلزم المخالفة القطعية للآخر، أي الموافقة القطعية لأحدهما تستلزم المخالفة القطعية للآخر؛ لأنّهما متعاكسان كما تقدّم، فإذن، الموافقة القطعية تستلزم المخالفة القطعية للآخر، فإذا نجّز العلم الإجمالي حرمة المخالفة القطعية وهذا يكون منافياً لوجوب الموافقة القطعية، وبهذا يكون مانعاً من تأثير العلم الإجمالي الآخر في وجوب الموافقة القطعية.
بعبارة أخرى: أنّ العلم الإجمالي الأوّل التدريجي الذي يقول بأنّ الفعل إمّا واجب في يوم الخميس، أو حرام في يوم الجمعة، الموافقة القطعية له تقتضي أن يأتي بالفعل في يوم الخميس، إتيانه بالفعل في يوم الخميس مخالفة قطعية للعلم الإجمالي الثاني الذي هو أنّه يعلم بأنّ الفعل إمّا حرام في يوم الخميس، أو واجب في يوم الجمعة، فتكون الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال الأهم تستلزم المخالفة القطعية للتكليف المهم  المعلوم بالإجمال، فإذا فرضنا ذلك؛ حينئذٍ يقال بأنّه في المقام الموافقة القطعية للتكليف الأهم المعلوم بالإجمال وُجد له مانع، وُجد مانع من أن يؤثر العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية للتكليف الأهم المعلوم بالإجمال وهذا المانع هو حرمة المخالفة القطعية للعلم الإجمالي الثاني؛ لأنّ تأثير العلم الإجمالي الثاني في حرمة المخالفة القطعية تأثير فعلّي تنجيزي وليس تعليقياً، بينما تأثير هذا العلم في وجوب الموافقة القطعية تأثير تعليقي، وهو معلّق على عدم المانع، فإذا وُجد المانع؛ فحينئذٍ لا يكون مؤثراً، وهذا معناه أننّا لا يمكن أن نثبت وجوب الموافقة القطعية للتكليف الأهم المعلوم بالإجمال كما هو المدّعى لمن يقول لابدّ من تقديم الأهم على المهم، لابدّ من تقديم الأهم على المهم معناه وجوب الموافقة القطعية للتكليف الأهم المعلوم بالإجمال، وإن استلزم ذلك المخالفة القطعية للتكليف المهم المعلوم بالإجمال، وبهذا البيان يتبيّن أنّه لا يمكن إثبات وجوب الموافقة القطعية للتكليف الأهم المعلوم بالإجمال؛ لأنّ إثباته موقوف على عدم وجود مانع يمنع من تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية وهذا المانع موجود؛ لأننّا قلنا أنّ الموافقة القطعية للأهم تستلزم المخالفة القطعية للمهم، والمخالفة القطعية للمهم تنجيزية، والعلم الإجمالي فيها تنجيزي وليس تعليقياً، ويشكّل مانعاً. إذن، العلم الإجمالي لا يؤثر في وجوب الموافقة القطعية حتّى يُلتزم به لإثبات لزوم تقديم الأهم على المهم ولزوم الاعتناء بالأهمية واحتمالها. هذا الوجه الأوّل.



[1] فوائد الأصول، إفادات الميرزا النائيني للشيخ الكاظمي الخراساني، ج 3، ص 454.
[2] دراسات في علم الأصول، تقرير بحث السيد الخوئي للسيد الشاهرودي، ج 3، ص 340.
[3]  فوائد الأصول، إفادات الميرزا النائيني للشيخ الكاظمي الخراساني، ج 3، ص 455.