الموضوع: الأصول العمليّة/ أصالة التخيير
كان الكلام
في أنّ الترخيص الذي فرغنا عنه في مخالفة التكليف في
أحد الطرفين هل هو ترخيص تخييري، بمعنى أنّ المكلّف مخيّر في تطبيق الترخيص على كل
من الطرفين، فبإمكانه أن يخالف الطرف الأوّل ويوافق الطرف الثاني، وبإمكانه أن
يعكس، فيطبق الترخيص على المحتمل الثاني بعد فرض موافقة الأوّل، أو هو ترخيص
تعييني، بمعنى أنّه لابدّ أن يطبق ترخيصه على المحتمل الفاقد للمزية، أمّا المحتمل
الواجد للمزية، فلابدّ من موافقته، هذا ترخيص تعييني، يرخّص له في المخالفة، لكن
مع فرض وجود المزية، ويطبّق الترخيص على المحتمل الفاقد للمزية، فيخالف ذلك
المحتمل الفاقد للمزية.
الذي يقال
في هذا المقام : الظاهر أنّ الترخيص في المقام تعييني
وليس تخييرياً، باعتبار أنّ الترخيص في المحتمل الفاقد للمزية مع فرض موافقة
المحتمل الواجد للمزية هذا أمر معلوم ومسلّم ولا إشكال فيه، وإنّما الكلام في
العكس، أي في أنّه هل هناك ترخيص في مخالفة المحتمل الواجد للمزية مع موافقة
المحتمل الآخر الفاقد للمزية، أو لا يوجد مثل هذا الترخيص ؟ إذن، الترخيص في
مخالفة المحتمل الفاقد للمزية مع موافقة المحتمل الواجد للمزية هذا متيقن ومعلوم
على كل حال، هذا الترخيص ثابت قطعاً، وإنّما نشكّ في الترخيص في مخالفة المحتمل
الواجد للمزية مع موافقة المحتمل الآخر الفاقد للمزية، هل يوجد مثل هذا الترخيص،
أو لا يوجد ؟ إذا فرضنا أنّ الوجوب هو الواجد للمزية، قطعاً هو مرخّص في مخالفة
الحرمة الفاقدة للمزية وموافقة الوجوب، هو مرخّص في ذلك حتماً، لكن هل هو مرخّص في
مخالفة الوجوب وموافقة الحرمة، أو ليس مرخّصاً في ذلك ؟ هنا يقول أنّ الترخيص
الأوّل معلوم ومتيقن، وإنّما يُشك في الترخيص الثاني، أنّه هل يكون مثل هذا
الترخيص ثابتاً، أو لا يكون ثابتاً ؟ وفي مثل هذه الحالة يُرجع إلى قانون منجّزية
الاحتمال، بمعنى أنّ الاحتمال في المقام، احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على هذا
المحتمل يمنع من هذا الترخيص فيه، وذلك باعتبار أننا نتكلّم بناءً على أنّ العلم
الإجمالي ليس علّة تامة لوجوب الموافقة القطعية، وإنّما هو مقتضٍ لوجوب الموافقة
القطعية، بناءً على هذا؛ حينئذٍ العلم الإجمالي في حدّ نفسه في المقام يقتضي تنجيز
حرمة المخالفة القطعية، ولو بنحو الاقتضاء؛ لأنّ المخالفة القطعية بحسب الفرض في
المقام ممكنة وليس فيها محذور؛ فحينئذٍ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة
القطعية، وهذا معناه أنّ الأصول الجارية في الأطراف تكون متعارضة ومتساقطة، الأصل
الجاري في هذا الطرف يتعارض مع الأصل الجاري في الطرف الآخر، فتتساقط الأصول في
الأطراف؛ وحينئذٍ تأتي فكرة منجزية الاحتمال، بمعنى أنّ احتمال انطباق المعلوم
بالإجمال على كل طرف هو ينجّز ذلك الطرف، بقطع النظر عن الاضطرار، قبل فرض
الاضطرار، علم إجمالي بناءً على مسلك الاقتضاء، مسلك الاقتضاء يقتضي أن تكون
الأصول المؤمّنة في الأطراف متساقطة، فيكون احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل
طرف احتمالاً فاقداً للمؤمّن، احتمال ليس له مؤمّن؛ لأنّ الأصول تساقطت في
الأطراف، هذا الاحتمال عندما يكون في هذا الطرف ينجّز هذا الطرف، وعندما يكون في
الطرف الآخر أيضاً ينجز هذا الطرف؛ لأنّه احتمال للتكليف من دون مؤمّن، يحتمل
انطباق التكليف على هذا الطرف بلا مؤمّن يكون هذا الاحتمال منجّزاً، يحتمل انطباق
التكليف على الطرف الآخر بلا مؤمّن، فيكون هذا الاحتمال منجّزاً لذلك الطرف، لكن
جاءت مسألة الاضطرار، هو مضطر إلى مخالفة أحد المحتملين، وهذا الاضطرار يقتضي
الترخيص، والمتيقن من الترخيص الذي يقتضيه الاضطرار هو الترخيص في مخالفة المحتمل
الفاقد للمزية، وأمّا الترخيص في مخالفة المحتمل الواجد للمزية، فلا دليل عليه،
ولا يقتضيه الاضطرار؛ لأنّ المتيقن منه هو هذا؛ فحينئذٍ يقال بأنّ احتمال انطباق
المعلوم بالإجمال على هذا الطرف الواجد للمزية يكون احتمالاً منجّزاً ولا يكون
الترخيص شاملاً له؛ لأنّه كما قلنا أنّ هذا متيقن وغيره غير معلوم، الترخيص في هذا
الطرف غير معلوم، بينما الترخيص في هذا الطرف متيقن بلا إشكال، وهذا أشبه بدوران
الأمر بين التعيين والتخيير، قطعاً الترخيص هنا ثابت على كل تقدير، فالطرف الفاقد
للمزية قطعاً يرخّص في مخالفته على كل التقادير، لكن هل يرخّص في مخالفة الطرف
الواجد للمزية وموافقة الطرف الآخر ؟ هذا ليس معلوماً؛ فحينئذٍ مقتضى القاعدة أنّ
الاحتمال الموجود في هذا الطرف يكون منجّزاً بعد فرض تساقط الأصول، وهذا هو معنى
أنّه لابدّ على المكلّف أن يأتي بالمحتمل الواجد للمزية ويخالف التكليف في الطرف
الفاقد للمزية، فيكون الترخيص تعيينياً لا تخييرياً.
ومن هنا
يظهر الفرق بين المقام وبين المقام الأوّل، حيث
أنّه تقدّم هناك في المقام الأوّل أنّه عندما تكون هناك مزية في الاحتمال، أو في
المحتمل في أحد الطرفين دون الآخر هناك هذه المزية لا تؤثّر، بمعنى أنّ التخيير
الذي يحكم به العقل هناك يبقى على حاله لا يتغيّر ولا يتحوّل إلى التعيين بالرغم
من افتراض وجود مزية في أحد المحتملين، بينما هنا يُحكم بالتعيين، بمعنى أنّه
لابدّ من موافقة التكليف الواجد للمزية ومخالفة التكليف الفاقد للمزية، الفرق
بينهما هو أنّه هناك كان العلم الإجمالي ساقطاً عن المنجزية تماماً، العلم
الإجمالي في المقام الأوّل ساقط عن المنجّزية رأساً حتّى بمقدار حرمة المخالفة القطعية،
ومع سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية حتّى لحرمة المخالفة القطعية لا تصل النوبة
إلى هذا الحديث الذي ذكرناه وهو أنّه تتعارض الأصول في الأطراف وتتساقط، فاحتمال
التكليف على كل طرف منجزاً له.....إلى آخر الكلام السابق، هذا إنّما يجري عندما
تكون حرمة المخالفة القطعية ثابتة على أساس العلم الإجمالي بحيث يكون العلم
الإجمالي منجزاً لها، هذا غير موجود هناك، بينما في محل الكلام موجود؛ لأنّ
المفروض أنّ المكلّف يتمكن من المخالفة القطعية في محل الكلام، وقلنا أنّ العلم
الإجمالي يكون منجزاً لحرمة المخالفة القطعية، فيحرم على المكلّف أن يخالف قطعاً.
على هذا
الأساس حينئذٍ يقال: على مسلك الاقتضاء العلم
الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة في كل طرف، لكن حيث أنّ الأصول تكون متعارضة فتتعارض
الأصول في الأطراف؛ فحينئذ بقطع النظر عن الاضطرار يكون الاحتمال منجّزاً، نخرج عن
هذه القاعدة(منجّزية الاحتمال في كل طرف) بمقدار الاضطرار؛ لأنّ الاضطرار يعني الترخيص
في أحد الطرفين يستلزم الترخيص في أحد الطرفين، المتيقن من الترخيص هو الترخيص في
مخالفة التكليف في الطرف الفاقد للمزية، أمّا الترخيص في الطرف الواجد للمزية،
فهذا غير معلوم، فيكون احتمال الانطباق فيه منجّزاً له ولابدّ من موافقته. هذا
تمام الكلام في المقام الثاني.
الآن ننتقل
إلى المقام الثالث
وهو فيما
إذا فرضنا تعدد الواقعة، في المقام الأوّل
والمقام الثاني كنّا نفترض وحدة الواقعة، أي واقعة واحدة يدور أمرها بين الوجوب والتحريم،
إمّا مع كون كل منهما توصّلياً الذي هو المقام الأوّل، أو مع كون أحدهما تعبّدياً
على الأقل الذي هو المقام الثاني. هنا نفترض تعدد الواقعة، ونفترض في المقام أيضاً
أنّ كلاً منهما توصّلي، كما إذا فرضنا أنّه علم بوجوب فعلٍ ما في يوم الجمعة ويوم
السبت، أو بحرمته فيهما، يعلم بأنّ الفعل المعيّن إمّا واجب في اليومين، أو حرام
في هذين اليومين، كما إذا فرضنا أنّه حلف إمّا على السفر في هذين اليومين ــــــــ
مثلاً ـــــــــ وإمّا على ترك السفر، فيكون السفر إمّا واجباً في يوم الجمعة ويوم
السبت، أو محرّما في يوم الجمعة ويوم السبت. هنا فرضنا واقعتين وفرضنا أيضاً أنّ
كلاً من الوجوب والحرمة توصّليين، في الحقيقة معنى هذا الكلام هو أنّ المكلّف في
كل يوم وفي كل واقعة إذا لوحظت في حدّ نفسها؛ حينئذٍ هو يعلم بأنّ الفعل فيها إمّا
واجب، أو حرام، إن كان حلف على السفر، فالسفر في يوم الجمعة يكون واجباً، أمّا إذا
حلف على ترك السفر، فالسفر يوم الجمعة يكون حراماً، وهكذا الحال في يوم السبت،
أيضاً عندما نلتفت إلى هذه الواقعة في يوم السبت هو يعلم علماً إجمالياً بأنّ
السفر فيها إمّا واجب، وإمّا حرام. هذا العلم الإجمالي في كل واقعة بحيالها إذا
أُخذت بشكلٍ مستقل، هذا العلم الإجمالي لا يختلف عن العلم الإجمالي في المقام
الأوّل، دوران الأمر بين المحذورين، السفر وهو فعل واحد يدور أمره في يوم الجمعة
بين أن يكون واجباً وبين أن يكون حراماً، مع كونهما توصّليين بحسب الفرض، فهو لا
يختلف عن المقام الأوّل، وهذا معناه أنّه لا يتمكن المكلّف من الموافقة القطعية،
فلا يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل في آنٍ واحد، كما أنّه لا يمكنه المخالفة القطعية،
فيكون حاله حال العلم الإجمالي في المقام الأوّل الذي فرضنا فيه أنّ المكلّف لا
يتمكن من الموافقة القطعية ولا من المخالفة القطعية، وهذا معناه أنّ العلم
الإجمالي لا ينجّز حتّى على مستوى حرمة المخالفة القطعية؛ لعدم تمكن المكلّف من المخالفة
القطعية كالموافقة القطعية، وهكذا إذا لاحظنا الواقعة الثانية، أيضاً نفس الكلام
يقال فيها، دوران الأمر بين الوجوب والتحريم مع كون كل منهما توصّلياً، المكلّف لا
يتمكن لا من الموافقة القطعية ولا من المخالفة القطعية، ونتيجة ما تقدّم أيضاً
يمكن أن يُلتزم بها في المقام وهو أنّ المكلّف يكون مخيّر بين الفعل وبين الترك؛
لأنّه لا يخلو من أحدهما، هذا التخيير الذي تقدّم أنّه يسمّى (باللاحرجية العقلية)،
فهو مخيّر بالنتيجة، وواقع المطلب يفرض عليه ذلك؛ لأنّه لا يخلو من الفعل أو
الترك، فيكون مخيّراً بين الفعل والترك، يمكنه أن يفعل ويمكنه أن يترك. هذا إذا
لاحظنا الواقعة في حدّ نفسها، الكلام الذي يُطرح في المقام أنّ هذا التخيير بين
الفعل والترك، هل هو تخيير ابتدائي، أو أنّه تخيير استمراري ؟ والمقصود من التخيير
الابتدائي هو أنّه إذا اختار أحد الأمرين في الواقعة الأولى لابدّ أن يختار في
الواقعة الثانية نفس ما أختار في الواقعة الأولى، يعني في يوم السبت هو مخيّر
بينهما، فإذا اختار الفعل، فلابدّ أن يختار في يوم الجمعة الفعل أيضاً، وإذا اختار
في يوم الجمعة الترك، فلابد أن يختار في يوم السبت الترك أيضاً، لا أن يختار في
اليوم الثاني خلاف ما اختاره في اليوم الأوّل، هذا هو معنى التخيير الابتدائي، هو
مخيّر بينهما فقط في أول واقعة يواجهها، أمّا الواقعة الثانية فلابدّ أن يعمل فيها
ما عمل في الواقعة الأولى ؟ أو أنّ التخيير استمراري، بمعنى أنّه كلما واجه واقعة
هو يخيّر بين الفعل وبين الترك، وهذا معناه أنّه يمكنه أن يختار في الواقعة
الثانية خلاف ما اختاره في الواقعة الأولى، فبإمكانه أن يفعل في اليوم الأوّل،
ويترك في اليوم الثاني، وهذا هو ما يسمّى (بالتخيير الاستمراري)، وفي الحقيقة
الكلام يقع في أنّ التخيير في المقام هل هو استمراري، أو أنّه ليس استمرارياً ؟
المشكلة في التخيير الاستمراري هي أنّه يمكن أن يقال بأنّه قد يكون مستلزماً
للمخالفة القطعية للتكليف الشرعي؛ لأنّ المكلّف إذا خالف بين ما يختاره بأن اختار
في الواقعة الثانية خلاف ما اختاره في الواقعة الأولى، فأنّه يكون قد خالف التكليف
قطعاً؛ لأنّه هو في الواقع إن حلف على الإتيان بالفعل فقد خالفه؛ لأنّه ترك في
الواقعة الثانية، وإذا حلف على ترك الفعل في اليومين هو خالفه بالفعل في أحداهما،
فإذا فعل في أحدى الواقعتين وترك في الأخرى فأنّه يكون قد ارتكب مخالفة قطعية
للتكليف، فمن هنا يُستشكل في التخيير الاستمراري، بينما في التخيير الابتدائي لا
توجد مخالفة قطعية إذا التزم المكلّف بالتخيير الابتدائي، فأنّه لا يكون قد ارتكب
مخالفة قطعية؛ لأنّه في التخيير الابتدائي هو دائماً في الوقائع كلّها هو يفعل، أو
يترك، إذا فعل في اليوم الأوّل وفعل في اليوم الثاني لا توجد مخالفة قطعية؛ لأنّ
هناك احتمال أن يكون قد حلف على الفعل في اليومين وقد امتثله.