الموضوع: الأصول العمليّة/ أصالة التخيير
كان الكلام
في الإشكال المتقدّم الذي نتيجته عدم حرمة المخالفة
القطعية في محل الكلام، وبالتالي جواز ارتكاب الطرف
الآخر، وهذه نتيجة لا تخلو من غرابة، أن يُلتزم في المقام ـــــــــــ دوران الأمر
بين المحذورين ــــــــــــ بعدم حرمة المخالفة القطعية، الإشكال كان يتركز
على دعوى أنّه بعد فرض تساوي الاحتمالين وعدم وجود مرجّح للفعل على الترك،
فالمكلّف لا يتمكن من الإتيان بالفعل على نحوٍ قربي؛ لأنّ القربية والعبادية
تتوقّف على افتراض أرجحية ومحبوبية للفعل حتّى يتقرّب به إلى الله سبحانه وتعالى،
أمّا إذا لم تكن فيه أرجحية، وكان احتماله مساوياً لاحتمال الترك، بمعنى أنّ الفعل كما يحتمل وجوبه يحتمل حرمته، وكما تحتمل
محبوبيته تحتمل مبغوضيته، مثل هذا الفعل الذي يحتمل فيه المحبوبية والمبغوضية
بدرجة واحدة للمولى لا يمكن التقرّب به، وبالتالي يكون المكلّف غير قادر على
امتثال الوجوب العبادي الذي هو أحد المحتملين، ومعنى ذلك أنّ المكلّف مضطر إلى
مخالفة هذا المحتمل، وهذا يدخل في باب الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، هو مضطر إلى
مخالفة هذا، فيمكن إجراء البراءة في المحتمل الآخر، وهذا كما قلنا يعني عدم حرمة
المخالفة القطعية.
هذا
الإشكال كما هو واضح لا يختص بما إذا كان
الوجوب المحتمل عبادياً فقط؛ بل يشمل أيضاً ما إذا كانت الحرمة المحتملة عبادية
فقط، أيضاً نفس الكلام يقال، إذا فرضنا أنّ الحرمة كانت عبادية والوجوب كان
توصّلياً أيضاً نفس الكلام، يقال أنّ المكلّف غير قادر على الترك العبادي؛ لأنّ
الترك والفعل يتساويان بالنسبة إلى المولى سبحانه وتعالى، لا يوجد مائز ولا أرجحية
للترك على الفعل حتّى يترك المكلّف بقصد التقرّب، نفس الكلام الذي قيل في جانب
الوجوب يقال بنفسه في جانب الحرمة عندما نفترض أنّ الحرمة عبادية دون الوجوب؛ بل
الظاهر أنّ الإشكال يشمل صورة ما إذا كان كل منهما عبادياً الذي هو داخل في محل
الكلام، يعني داخل في هذا المقام الذي نتكلّم عنه، المقام الأوّل هو ما إذا كان كل
منهما توصلياً مع وحدة الواقعة، والمقام الثاني هو وحدة الواقعة مع كون أحدهما على
الأقل عبادياً حتّى نستطيع أن نتصوّر التمكن من المخالفة القطعية، فإذن، صورة ما
إذا كان كل منهما عبادياً داخل في محل الكلام، والظاهر
أنّ الإشكال أيضاً يأتي فيه، بمعنى أنّه في هذه الصورة
المكلّف عاجز عن التقرّب بكل من الفعل والترك، يعني بعبارةٍ أخر: عاجز عن امتثال
كلا المحتملين، كما لا يمكنه أن يأتي بالفعل بقصد التقرّب؛ لأنّه لا أرجحية للفعل
على الترك، لا يحرز هذه الأرجحية، كذلك لا يمكنه الإتيان بالترك متقرّباً إلى الله
تعالى؛ لأنّه أيضاً لا يحرز أرجحية الترك بالنسبة إلى الفعل، وهذا معناه أنّه غير
قادر على ارتكاب كلا المحتملين، في الصورة السابقة عندما يكون أحدهما عبادياً دون
الآخر، هو يكون غير قادر على امتثال أحد المحتملين، لكنّه قادر على امتثال المحتمل
الآخر؛ ولذا احتجنا إلى إجراء البراءة لنفي المحتمل الآخر، بينما إذا كان كل منهما
عبادياً هو غير قادر على امتثال كلا المحتملين، لا يستطيع أن يمتثل الوجوب
العبادي؛ لأنّه لا يحرز أرجحية الفعل، كما أنّه لا يستطيع أن يمتثل الحرمة
العبادية؛ لأنّه لا يستطيع أن يحرز أرجحية الترك بالنسبة إلى الفعل، وهذا معناه
أنّه يصبح عاجزاً عن امتثال كلا المحتملين، فيسقطان؛ وحينئذٍ لا نحتاج إلى إجراء
أصالة البراءة؛ لأنّ كلا المحتملين يسقط، الوجوب على تقدير ثبوته يسقط لعدم القدرة
على امتثاله، والحرمة على تقدير ثبوتها أيضاً تسقط لعدم القدرة على امتثالها؛
وحينئذٍ لابدّ من الالتزام بأنّه لا تحرم عليه المخالفة القطعية، فيجوز له أن يأتي
بالفعل بلا قصد القربة، أو يترك بلا قصد القربة. فنصل إلى نفس النتيجة وهي أنّ
المخالفة القطعية لا تحرم عليه في كل هذه الصور الثلاثة، سواء كان الوجوب تعبّدياً
دون الحرمة، أو كانت الحرمة تعبّدية دون الوجوب، أو كان كل منهما تعبّدياً.
الجواب
الذي ذكرناه سابقاً قد بينّاه في الدرس
السابق، هذا الجواب يبتني على القول(أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص)
وهذا محل كلام ومناقشة وغير ثابت، ويبتني الجواب المتقدّم أيضاً على أن تكون
الحرمة الغيرية داخلة في العهدة؛ لأنّه في الجواب هكذا قيل، لأنّ الفعل بلا قصد القربة
يعلم المكلّف بحرمته تفصيلاً، إمّا بحرمةٍ نفسية، وإمّا بحرمة غيرية، بحرمة نفسية
على تقدير أن يكون الطرف الواقعي هو الحرمة، فيكون الفعل حراماً نفسياً، الحرمة الغيرية على تقدير ثبوت الوجوب
العبادي؛ لأنّ الأمر بالوجوب العبادي يقتضي النهي عن ضدّه الخاص، وضدّه الخاص هو
الفعل بلا قصد القربة، فيكون منهياً عنه، فيكون حراماً حرمة غيرية. فإذن، هو يكون
حراماً معلوم الحرمة، فكيف نجّوز للمكلّف أن يفعل بلا قصد القربة كما هو مقتضى الإشكال
السابق؛ لأنّ نتيجة الإشكال السابق كما قلنا هو عدم حرمة المخالفة القطعية التي
تعني جواز الفعل بلا قصد القربة؛ لأنّه بها تتحقق المخالقة القطعية. أمّا هذا
الجواب فيقول لا؛ لأنّ الفعل بلا قصد القربة معلوم الحرمة تفصيلاً، إمّا بحرمة
نفسية، وإمّا بحرمة غيرية، غاية ما يمكن أن يقال هو أننا نشك في قدرة المكلّف على
امتثال التكليف، هذه الحرمة المعلومة تفصيلاً، إمّا بحرمة نفسية، وإمّا بحرمة
غيرية يُشك في قدرة المكلّف على امتثالها؛ لأنّه على تقدير أن تكون الحرمة غيرية
هو غير قادر على امتثالها والوصول إلى ملاكها؛ لأنّ ملاك الحرمة الغيرية هو
الإتيان بالفعل الواجب مع قصد القربة؛ لماذا حُرّم الفعل بلا قصد القربة ؟ لأجل
وجوب الفعل مع قصد القربة، وهو عاجز عن الإتيان بالفعل بقصد القربة بحسب الفرض؛
لأنّه لا أرجحية للفعل بالنسبة إلى الترك، فغاية ما يمكن أن يقال في المقام أنّ
هذه الحرمة المعلومة تفصيلاً يُشك في قدرة المكلّف على امتثالها، لا مشكلة، يدخل
في باب الشك في قدرة المكلّف على الامتثال، والرأي المعروف والصحيح هو أنّه مجرىً
للاحتياط لا للبراءة، فإمّا أن نقول أنّ الفعل بلا قصد القربة الذي كان نتيجة
الإشكال هو إثبات جوازه. الجواب يقول: لا يمكن الالتزام بجوازه؛ لأنّه إمّا معلوم
الحرمة تفصيلاً، أو لا أقل أننّا نقول يجب فيه الاحتياط، غاية ما يقال أنّه هناك
شكّ في القدرة، وفي باب الشكّ في القدرة لابدّ من الاحتياط. على كل حال لا يمكن
الالتزام بجوازه، ومن هنا يكون هذا جواب عن الإشكال السابق.
أقول: هذا الجواب يبتني على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاص
حتّى نثبت حرمة الفعل بلا قصد القربة؛ لأنّه ـــــــــــــ على هذا التقدير
ـــــــــــــ أُمر بالفعل مع قصد القربة، والأمر به يقتضي النهي عن ضدّه الخاص
وهو الأمر بالفعل من دون قصد القربة، وهذا محل كلام. ويبتني ثانياً على أن تكون
الحرمة الغيرية داخلة في عهدة المكلّف، وهذا أيضاً محل كلام، فالحرمة الغيرية لا تدخل في عهدة المكلّف؛ بل واقع المطلب هو أنّه في
محل الكلام هناك مطلوبان نفسيان يدور الإلزام بينهما، غرضان نفسيان كل منهما محتمل
المطلوبية وهما عبارة عن الفعل مع قصد القربة، أو الترك؛ لأنّ الأمر يدور بين
الوجوب العبادي وبين الحرمة، وأحدهما يُقطع بسقوطه؛ لعدم قدرة المكلّف على
امتثاله، وهو في مثالنا الوجوب العبادي؛ لأنّ المكلّف لا يحرز أرجحية الفعل
بالنسبة إلى الترك، فيُقطع بسقوطه، والثاني لا يُقطع بسقوطه، وإنّما يُشك في سقوطه،
وهو شك في التكليف، فتجري فيه البراءة، فيعود الإشكال السابق كما كان، وهذا الجواب
لا يصلح أن يكون جواباً عن الإشكال السابق؛ لأنّ الجواب يبتني على أمور لا نلتزم
بها، وبالتالي كما قيل في الإشكال، الأمر يدور بين وجوب عبادي وبين حرمة، والوجوب
العبادي يُقطع بسقوطه لعدم القدرة على امتثاله، ويُشك في الحرمة، فتجري فيها
البراءة، فتجوز المخالفة القطعية.
الجواب
الثاني: أن يقال أنّ الإشكال نشأ
في الحقيقة من مسألة عدم إحراز أرجحية الفعل بالنسبة إلى الترك، أن المكلّف لا
يستطيع أن يُحرز أرجحية الفعل بالنسبة إلى الترك، وبالتالي لا يتمكن من أن يأتي
بالفعل بقصد التقرب إلى المولى سبحانه وتعالى، فيُصبح عاجزاً عن امتثال الوجوب
العبادي المحتمل، لكن يمكن أن يقال أنّه يمكن افتراض التمكن من قصد القربة بالفعل
عن طريق انضمام داعٍ دنيوي إلى الداعي القربي، بمعنى أنّ الداعي القربي هو احتمال
الوجوب بالنسبة إلى الوجوب الذي هو محل كلامنا في أنّ المستشكل يقول بأنّ المكلّف
غير قادر على امتثاله؛ لأنّه لا يحرز أرجحية الفعل. في هذا الفعل يوجد داعٍ قربي
وهو احتمال أن يكون هذا واجب هذا داعٍ الهي، هذا الداعي القربي الإلهي في طرف
الفعل إذا أنظم إليه داعٍ دنيوي؛ حينئذٍ يقال سيترجّح الفعل على الترك، فإذا
المكلّف أوقع الفعل على أساس انضمام الداعي الدنيوي إلى الداعي القربي، يعني اجتمع
على الفعل داعيان أحدهما إلهي قربي والثاني هو داعٍ دنيوي؛ حينئذٍ يترجّح الفعل
على الترك، وهذا المقدار كافٍ في عبادية الفعل وفي قربيته، فيكون الفعل الذي يأتي
به المكلّف في هذه الحالة فعلاً عبادياً، ونحن لا نريد من العبادية واشتراط
التقرّب أكثر من هذا المقدار في حالة اجتماع الداعي القربي، انضمام الداعي الدنيوي
إلى الداعي القربي الإلهي. غاية الأمر أنّ هذا الداعي الإلهي القربي زُوحم بداعٍ
قربيٍ يدعو إلى الترك وهو احتمال الحرمة في الطرف الآخر، احتمال الوجوب في الفعل
مُزاحم باحتمال الحرمة في جانب الترك وهو أيضاً داعٍ إلهي قربي بلا إشكال. هذه
المزاحمة بين داعيين قربيين في هذا الجواب يقال بأنّها لا تضر في المقربية ولا تضر
في العبادية، باعتبار أنّ النقص الحاصل بالنسبة إلى الداعي الإلهي في الفعل نشأ من
مزاحمته بداعٍ قربي مثله، وإلاّ لم ينشأ النقص، فهو في حد نفسه داعٍ كامل ومستقل،
هو علّة تامّ للتحرّك احتمال الوجوب، طرأ عليه النقص باعتبار أنّه زوحم بداعٍ إلهي
قربي يدعو إلى الترك، احتمال الوجوب يدعو إلى الفعل، وفي مقابله احتمال الحرمة
يدعو إلى الترك، وحيث أنّ المكلّف لا يمكن افتراض أنّ كلا الداعيين يؤثران معاً في
آن واحد، هذا غير معقول؛ لأنّ تأثيرهما يعني أنّ المكلّف يجمع بين الفعل والترك،
وهذا غير معقول، ومن هنا صارت المزاحمة بينهما، احتمال التحريم يريد أن يؤثر في
الترك، واحتمال الوجوب يريد أن يؤثّر في الفعل، فيتزاحمان. يطرأ نقص على هذا
الداعي الإلهي وهو احتمال الوجوب في جانب الفعل، لكن باعتبار مزاحمته بداعٍ قربيٍ
مثله، فإذا انضم إلى هذا الداعي ــــــــــ احتمال الوجوب ــــــــــ المُزاحَم
بداعٍ قربيٍ مثله، إذا انضمّ إليه داعٍ دنيوي، فيقال في الجواب أنّ هذا لا يضر في
عبادية العبادة ووقوع الفعل إذا صدر من المكلّف على هذا الأساس، وقوعه عبادياً
قربياً، وبهذا يكون المكلّف متمكن من الإتيان بالفعل على نحوٍ عبادي، فيكون قادراً
على امتثال هذا المحتمل، ولا نقول أنّه غير قادر ويسقط التكليف في هذا الطرف على
تقدير ثبوته؛ لأنّ المكلّف غير قادر على امتثاله؛ بل هو قادر على امتثاله بأن يضم
إلى هذا الداعي الإلهي وهو احتمال الوجوب، يضم إليه داعياً دنيوياً وفي هذه الحالة
هذا الانضمام لا يضر في عبادية العبادة؛ لأنّ الداعي القربي وهو احتمال الوجوب
داعٍ تام، وعلّة تامّة للتحرك وليس هناك نقص في داعويته وفي كونه داعياً إلهياً،
وإنّما طرأ عليه النقص باعتبار المزاحمة بداعٍ قربيٍ مثله، هذا الانضمام لا يضر في
عبادية العبادة وفي كون الفعل فعلاً عبادياً يُقصد به التقرّب إلى الله سبحانه
وتعالى، ومن هنا يقال في هذا الجواب الثاني: لا يمكن قياس هذا الطرف بما إذا فرضنا
أنّ الداعي الإلهي في طرف الفعل زوحم بداعٍ دنيوي يدعو إلى الترك كما إذا فرضنا
أنّ هناك داعياً دنيوياً يدعو المكلّف نحو الترك مراعاة لمصلحة دنيوي في قبال
الداعي الإلهي في جانب الفعل الذي يدعوه إلى الفعل، يتزاحمان بلا إشكال، في هذه
الحالة إذا اقترن الداعي الإلهي للفعل بداعٍ دنيوي، نقول هذا لا يكفي في عبادية
العبادة؛ لأنّه في هذه الحالة النقص ليس من جهة المزاحمة بداعٍ قربي مثله، وإنّما
النقص طرأ على هذا الداعي الإلهي باعتبار مزاحمته بداعٍ دنيوي بحيث أنّ الداعي
الدنيوي المنضم إلى الداعي الإلهي في جانب الفعل هو الذي يكون مؤثراً في صدور
الفعل وبالتالي يكون مؤثراً في عباديته وفي قربيته.
هذا الجواب
الثاني، ويمكن صياغته بعبارة
أخرى كما قيل، أنّ في المقام يوجد داعيان قربيّان أحدهما الوجوب الذي يدعو إلى
الفعل والآخر الذي يدعو إلى الحرمة والترك، فإذا افترضنا أنّ كلاً من الداعيين
علّة تامّة لنحريك العبد، احتمال الوجوب في حدّ نفسه يحرك العبد نحو الفعل،
واحتمال الحرمة في حد نفسها تحرك العبد نحو الترك، غاية الأمر أنّ احتمال الوجوب
الذي هو علّة تامّة لتحريك العبد ابتُلي بالمزاحمة بداعٍ قربي مثله، وهو احتمال
الحرمة، في هذه الحالة لا يمكن للمكلّف أن يجمع بينهما، يعني لا يمكن لكلا
الداعيين أن يؤثرا معاً في ما يدعوان إليه، مع أنّ هذا غير ممكن، فلابدّ في هذه
الحالة من تحصيل داعٍ دنيوي حتّى يترجح الفعل على الترك، فإذا حصّل على داعٍ دنيوي
نفساني يضمّه إلى الداعي الإلهي الذي لا نقص فيه في حدّ نفسه وإنّما النقص طرأ عليه
من جهة مزاحمته بداعٍ قربي مثله كما قال؛ فحينئذٍ هذا الانضمام لا يؤثر في عبادية
العبادة وقربية الفعل، بخلاف ما إذا زُوحم الداعي في جانب الفعل بداعي دنيوي في
جانب الترك، فأنّه يؤثر، حتّى لو انضم داعٍ دنيوي في جانب الفعل، الفعل لا يقع
عبادة. هذا ما يمكن بيانه من هذا الجواب، أو ما نفهمه على الأقل من هذا الجواب
الثاني، وبناءً على هذا الجواب؛ حينئذٍ يكون المكلّف قادراً على امتثال الوجوب
العبادي، بإمكانه أن يضم داعياً دنيوياً إلى الداعي الإلهي ويأتي بالفعل على نحوٍ
قربي، يكفي هذا في العبادية، إذن هو قادر على امتثاله، إذن، لا يمكن أن نقول أنّه
غير قادر على امتثاله، فيسقط هذا الطرف، فتجري البراءة في الطرف الآخر.
الظاهر أنّ
هذا الجواب لو تمّ فهو لا يحل المشكلة
في جميع الصور الداخلة في محل الكلام، فهو لو تم فأنّه لا يجري في بعض الحالات
الداخلة في محل الكلام، مثلاً قد نفترض عدم وجود داعٍ دنيوي يضمّه المكلّف إلى
الداعي الإلهي، بناءً على هذا الفعل لا يكون مقدوراً حينئذٍ، فيعود الإشكال كما
كان في السابق؛ لأنّ هذا الجواب مبني على افتراض أن يضم المكلّف داعي دنيوي نفساني
إلى الداعي الإلهي القربي في جانب الفعل، فإذا فرضنا أنّه لا يوجد لدينا داعٍ نفسي
يدعوه إلى الفعل، لا شيء من الدواعي الدنيوية يدعوه إلى الفعل، في هذه الحالة يعود
الإشكال كما كان في السابق؛ لأنّ المكلّف يصبح عاجزاً عن امتثال الوجوب العبادي؛
لأنّه غير قادر على الإتيان بالفعل على نحوٍ قربي، في هذه الحالة لا تحل المشكلة.
نعم، فرض عدم وجود داعٍ دنيوي يضمّه المكلّف إلى الداعي الإلهي لا يؤدي إلى
المخالفة القطعية، يعني لا يؤدي إلى الإتيان بالفعل بلا قصد القربة التي هي مخالفة
قطعية، وذلك باعتبار أنّ المكلّف في هذه الحالة يختار الترك حتماً، في حالة عدم
وجود داعٍ دنيوي يُرجح بنظر المكلّف الفعل على الترك، فأنّه سوف يترك ولن يأتي
بالفعل بلا قصد القربة؛ لأنّ الترك يكفي فيه عدم وجود مرجّح للفعل، هذا ينسجم مع
طبيعة الإنسان، هذا صحيح، بمعنى أنّه في فرض عدم وجود داعٍ دنيوي ينضم إلى الداعي
الإلهي ليرجّح الفعل على الترك، هذا الفرض سوف لا يؤدي إلى المخالفة القطعية، لا
يؤدي إلى أن يأتي المكلّف بالفعل بلا قصد القربة، وإنّما هو حتماً يؤدي إلى ترك
الفعل، وترك الفعل ليس فيه مخالفة قطعية، لكن هذا لا يرفع الإشكال، كون هذا الفرض
لا يؤدي إلى المخالفة القطعية؛ لأنّ المكلّف سوف يترك حتماً لا أن يفعل بلا قصد
القربة، هذا لا يرفع الإشكال؛ لأنّه على كل حال يبقى المكلّف عاجزاً عن امتثال هذا
المحتمل، يبقى عاجزاً عن امتثال الوجوب العبادي، وهذا العجز بحسب الفرض يوجب سقوط
هذا التكليف على تقدير ثبوته واقعاً، وإذا سقط هذا التكليف تجري البراءة في الطرف
الآخر. هذه حالة لا يتمّ فيها هذا الجواب
الحالة
الثانية: فيما إذا كان كل منهما
عبادياً، قلنا أنّ هذه الحالة داخلة في محل الكلام، والإشكال جارٍ فيها؛ لأنّ
المكلّف يصبح عاجزاً عن امتثال كلٍ منهما، فهو عاجز عن امتثال الوجوب لعدم وجود
أرجحية في كلٍ منهما، وعاجز عن امتثال الحرمة لعدم وجود أرجحية للترك، ولازم ذلك
هو سقوط كلا التكليفين؛ حينئذٍ في الجواب أي شيءٍ يُفرض في طرف الفعل يُرجّح الفعل
على الترك يمكن فرضه في جانب الترك، فيرجّح الترك على الفعل، فكما قلنا أنّ انضمام
داعٍ دنيوي في طرف الفعل يرجّح الفعل على الترك، أيضاً نقول أنّ انضمام داعٍ دنيوي
للترك يحرك المكلّف نحو الترك إلى الداعي الإلهي القربي الموجود في جانب الترك هذا
أيضاً سوف يُرجّح جانب الترك على الفعل، وبالتالي سوف نفترض وجود داعيين قربيين
للفعل وللترك، وكل منهما انضم إليه داعٍ دنيوي، وفي هذه الحالة لا توجد أرجحية، لا
يتمكن المكلّف من الامتثال، فإن أراد أن يمتثل الفعل، لا توجد فيه أرجحية بالنسبة
إلى الترك، وإن أراد أن يمتثل الترك، لا توجد أرجحية للترك بالنسبة إلى الفعل،
فهنا أيضاً لا يكون هذا الجواب تامّاً.