الموضوع: الأصول العمليّة/ أصالة التخيير
إلى
هنا انتهى الكلام عن أصل المطلب، يبقى أنّ هذا الكلام
المتقدّم كلّه كان في فرض ما إذا لم يكن لأحد الطرفين الذين يدور الإلزام بينهما
مزيّة، بأن كانا متساويين تماماً ولا توجد أيّ مزيّة لأحد الطرفين على الآخر،
وأمّا إذا فرضنا وجود مزيّة لأحد الطرفين تعييناً، يعني أحد الطرفين بعينه كانت له
مزيّة، ولنفترض أنّ الوجوب كانت له مزيّة، المزيّة إمّا أن تتمثّل بأنّ احتماله
يكون أقوى من احتمال الآخر، فهي مزيّة في الاحتمال، درجة احتمال الوجوب أكبر من
درجة احتمال التحريم، وإمّا أن تكون المزيّة في المحتمل نفسه، باعتبار أهمية
الوجوب لو فرضنا أنّ الوجوب أهم عند الشارع من التحريم، أو محتمل الأهمية، لكن
بالنتيجة لا أقوائية في الاحتمال، وإنّما هناك أقوائية وأهمية في نفس المحتمل.
الكلام يقع في أنّه في حالة وجود مزيّة احتمالاً، أو محتملاً، هل يجري الكلام
السابق نفسه، كل ما قلناه في فرض التساوي بين الطرفين يجري فيما إذا كان لأحدهما
مزية، أو لا ؟ بأن يقال في مقابل ذلك أنّه يتعين الأخذ بذي المزية احتمالاً، أو
محتملاً، أو أنْ يقال أنّ ذلك يختلف باختلاف ما هو المختار في الفرض الأوّل، يعني
فرض التساوي بين الطرفين وعدم وجود مزيّة لأحدهما في مقابل الآخر، أنّ الحكم في
فرض وجود مزيّة يختلف باختلاف ما نختاره في فرض عدم وجود مزيّة.
الظاهر
أنّ الأخير هو الصحيح، بمعنى أنّ الحكم في محل الكلام يختلف
باختلاف ما يقال ويُختار هناك في الفرض الأوّل، والمقصود بهذا الكلام هو أنّه إذا
قلنا بجريان البراءة، أو الاستصحاب، الأصول المؤمّنة بشكل عام، إذا قلنا بجريان
الأصول الشرعية المؤمّنة في الطرفين في الفرض الأوّل فيما إذا لم تكن هناك مزيّة،
الظاهر أنّ نفس الكلام السابق يجري في محل الكلام ووجود المزية في أحد الطرفين
احتمالاً، أو محتملاً لا يصنع شيئاً، بمعنى أنّه لا يلزمنا بالأخذ بذي المزية؛ بل
إذا قلنا بجريان البراءة، فتجري البراءة هنا أيضاً في الطرفين في ذي المزيّة وفي
غير ذي المزيّة، وإذا قلنا بالاستصحاب، فالاستصحاب أيضاً يجري في الطرفين، أيّ أصل
من الأصول النافية إذا قلنا بجريانه في فرض التساوي هو يجري في فرض وجود المزيّة،
والسرّ في ذلك أنّ موضوع هذه الأصول المؤمّنة متحقق بالنسبة إلى كل واحد من
الطرفين، الأصل المؤمّن موضوعه عدم العلم والشك، وهو متحقق بالنسبة إلى كل واحدٍ
من الطرفين، سواء كانا متساويين، أو كان لأحدهما مزية في الاحتمال، أو في المحتمل،
باعتبار أنّ قوة الاحتمال، أو قوة المحتمل إذا كانت موجودة في أحدهما بعينه لا
تمنع من جريان البراءة ـــــــــــ مثلاً ــــــــــ ولا من سائر الأصول المؤمّنة،
باعتبار أنّ هذه المزيّة ليست حجّة مانعة من جريان هذه الأصول المؤمّنة ولا توجب
ارتفاع موضوع هذه الأصول المؤمّنة عن الطرف الواجد للمزيّة، فلا تمنع من جريان
البراءة حتّى لو كان واجداً للمزية، البراءة كما تجري في الطرف الأضعف كذلك تجري
في الطرف ذي المزيّة لتحقق موضوع البراءة فيه؛ لأنّه لا يوجد في قبال ذلك إلاّ
المزيّة الموجودة في هذا الطرف، هذه المزيّة هل تمنع من جريان البراءة ؟ هل توجب
ارتفاع موضوع البراءة ؟ بحيث لا تجري البراءة فيه، ويتعيّن العمل به والأخذ بصاحب
المزيّة ؟ كلا، نقول أنّ هذه المزيّة بعد افتراض أنّها ليست حجّة في حدّ نفسها،
فهي لا تمنع من جريان البراءة في الطرف الواجد للمزيّة، فتجري البراءة فيه كما
تجري في الطرف الآخر.
وبعبارة
أخرى: أنّ ما يرفع هذه الأصول المؤمّنة ويمنع من جريانها هو العلم، أو ما
يقوم مقامه، وفي محل الكلام لا يوجد علم، أنا لا أعلم بهذا الطرف صاحب المزيّة،
كما لم تقم حجّة على تعيينه، وإنّما هو فقط له مزيّة، فلا يوجد علم يمنع من جريان
البراءة فيه ولا يوجد ما يقوم مقام العلم يمنع من جريان البراءة فيه، وموضوع
البراءة متحقق فتجري البراءة كما تجري في الطرف الآخر. وهذا معناه أنّ نفس الكلام
السابق الذي قيل في فرض عدم وجود المزيّة يجري أيضاً في فرض وجود المزيّة. هذا إذا
قلنا بجريان الأصول المؤمّنة في الطرفين في الفرض السابق، وإمّا إذا قلنا بعدم
جريانها في الطرفين في الفرض السابق وأنّ الحكم في الفرض السابق هو التخيير بين الفعل
والترك عقلاً، أو اللاحرجية العقلية كما يقول المحقق النائيني(قدّس سرّه) حينئذٍ
ينفتح المجال للكلام عن أنّ العقل الحاكم بالتخيير بين الطرفين، أي الحاكم
بالتخيير بين الفعل والترك في فرض عدم المزيّة، هل يحكم بالتعيين في فرض وجود المزيّة
ولزوم الأخذ بما فيه مزيّة احتمالاً، أو محتملاً، أو أنّ العقل لا يحكم بالتعيين؛
بل يبقى مصرّاً على الحكم بالتخيير بينهما، وإن كان أحدهما واجداً للمزيّة
احتمالاً، أو محتملاً.
هنا
تارةً نتكلّم في أنّ العقل الحاكم بالتخيير في فرض عدم وجود مزيّةٍ، هل يحكم
بالتعيين في فرض وجود المزيّة ؟ تارةً نتكلّم بناءً على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا
بيان، بناءً على البراءة العقلية التي تعني في روحها عدم منجّزية الاحتمال،
الاحتمال ليس منجّزاً، إنّما المنجّز هو العلم فقط، أو ما يقوم مقامه. وأخرى نتكلّم
بناءً على المسلك الآخر الذي يرى أنّ الاحتمال بما هو احتمال هو منجّز كالعلم، كل
درجات الانكشاف تنجّز، مسلك حق الطاعة الذي يعني منجّزية الاحتمال.
أمّا
بناءً على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان،
هنا تارةً نفترض المزيّة في الاحتمال، وأخرى نفترض المزيّة في المحتمل ونفرّق
بينهما. إذا كانت المزيّة في الاحتمال بأن كان احتمال الوجوب ــــــــــــ مثلاً
ــــــــــــ أقوى وأكبر من احتمال التحريم، في هذه الحالة واضح جدّاً بأنّه لا
يمكن أن نلتزم بتعيين الأخذ بالمزيّة لمجرّد صرف الاحتمال؛ لأنّ هذا احتماله
ـــــــــــ مثلاً ـــــــــــ بمقدار 60% بينما احتمال الآخر أقل من ذلك، لمجرّد
الاحتمال لا يمكن أن نحكم بتعيين الأخذ به بناءً على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا
بيان؛ لأنّ مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يرى الاحتمال منجّزاً لشيء،
والمنجّز هو العلم، أمّا الاحتمال فليس منجّزاً. إذن، كيف يتعيّن الأخذ بذي المزيّة
بحيث يتنجّز على المكلّف لمجرّد الاحتمال، هذا خُلف؛ لأننّا نتكلّم بحسب الفرض
بناءً على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان الذي يعني أنّ الاحتمال ليس منجّزاً،
فإذن، لا يمكن أن نثبت التنجيز في المقام وتعيين الأخذ بذي المزيّة في قبال
الاحتمال الآخر لمجرّد الاحتمال، ولو كان درجته أكبر من احتمال الطرف الآخر. إذن،
لابدّ أن يكون المنجّز على تقدير القول به في المقام المُلزم للأخذ بذي المزية أن
يكون شيئاً آخراً غير الاحتمال بما هو احتمال؛ ولذا لابدّ أن نفتش عن المنجّز في
المقام، ما هو الذي ينجّز الأخذ بذي المزيّة ؟ لا يوجد عندنا شيء آخر بعد الاحتمال
غير العلم الإجمالي، فلابدّ أن نرجع إلى العلم الإجمالي الموجود والمفروض في محل
الكلام وهو العلم الإجمالي بالإلزام المرددّ بين الوجوب والتحريم، هذا العلم
الإجمالي الموجود في المقام هل ينجّز بنظر العقل التعيين والأخذ بذي المزيّة إذا
كان له مزيّة، كلامنا فعلاً في المزيّة بلحاظ الاحتمال، احتمال الوجوب أكبر من
احتمال التحريم، هل يستفاد التنجيز من العلم الإجمالي بهذا المعنى، هل يمكن أن
يكون هو المُلزم بالأخذ بذي المزيّة، يعني ما كان احتماله أكبر من احتمال الآخر،
أو لا ؟ هنا في الحقيقة لابدّ أن نرجع إلى المسالك المعروفة في العلم الإجمالي
وكيفية تنجيزه، ونحن نعرف أنّ هناك مسلكين في منجّزية العلم الإجمالي، المسلك
الأوّل يرى أنّ العلم الإجمالي ابتداءً لا ينجّز إلاّ الجامع، وهذا معناه أنّه لا يدخل
في عهدة المكلّف بالعلم الإجمالي إلاّ الجامع بحدّه، الجامع على جامعيته، هذا هو
الذي يدخل في العهدة، يعني أنّ العلم الإجمالي ينجّز حرمة المخالفة القطعيّة لا
وجوب الموافقة القطعية، إذا قلنا أنّ العلم الإجمالي لا ينجّز إلاّ الجامع؛ لأنّه
ليس بياناً إلاّ على الجامع، فهو ينجّز حرمة المخالفة القطعية ولا ينجّز وجوب
الموافقة القطعية؛ لوضوح أنّ الموافقة القطعية لا يمكن إثباتها بمنجّزية العلم
الإجمالي للجامع؛ لأنّ الجامع بين الطرفين يتحقق بأحد الطرفين، فلماذا يُلزم
المكلّف بالإتيان بكلا الطرفين في الشبهات الوجوبية، أو ترك كلا الطرفين في
الشبهات التحريمية، والحال أنّه لم يتنجّز عليه إلاّ الجامع. نعم، العلم الإجمالي
ينجّز عليه حرمة المخالفة القطعية؛ لأنّ المخالفة القطعية بترك الطرفين في
الوجوبات، والإتيان بكلا الطرفين في المحرّمات يعني ترك الجامع، يعني مخالفة قطعية
لما تنجّز عليه بالعلم الإجمالي، فالذي يتنجّز عليه بناءً على هذا المسلك هو فقط
حرمة المخالفة القطعية. بناءً على هذا واضح جدّاً أنّه لا يتنجّز على المكلّف إلاّ
الجامع، وأمّا الفرد، أو الطرف، فهو لا يتنجّز بمثل هذا العلم الإجمالي، هذا العلم
الإجمالي لا أثر له في المقام، لا بلحاظ الجامع ولا بلحاظ الفرد، أمّا بلحاظ
الجامع، فباعتبار أنّ الجامع يعني أنّ أحد الطرفين ضروري الثبوت في محل كلامنا، هو
ينجّز الجامع في موارد أخرى كالشبهات الوجوبية في غير محل الكلام، أو التحريمية في
غير محل الكلام، فينجّز حرمة المخالفة القطعية، وأمّا في محل الكلام، فالجامع
ضروري الثبوت، الجامع هو عبارة عن الجامع بين الفعل والترك، وأحد الأمرين من الفعل
والترك هو أمر ضروري التحقق، طلبه طلب الحاصل، فلا معنى لأن يكون منجّزاً بالعلم
الإجمالي، والمفروض في محل الكلام أنّ العلم الإجمالي لا ينجّز ما عدا الجامع،
والجامع لا أثر له في التنجيز؛ بل حتى لو فرضنا أنّ الجامع كان قابلاً للتنجيز،
لكن هذا العلم الإجمالي لا ينجّز الفرد ولو كان له مزيّة، وإنّما ينجّز الجامع على
تقدير وفرض من باب فرض المحال ليس بمحال أنّ الجامع قابل للتنجيز، فمثل هذا العلم
الإجمالي لا يكون منجّزاً للفرد وإن كانت له مزيّة؛ لأنّ هذه المزيّة لا تدخل في
الجامع والمفروض أنّ العلم الإجمالي لا ينجّز إلاّ الجامع، وإن كان الصحيح أنّه لا
أثر له حتّى بالنسبة إلى الجامع؛ لما قلناه من أنّ الجامع ضروري التحقق والثبوت،
فلا معنى لأن نقول أنّ العلم الإجمالي ينجّز الجامع، ينجز حرمة المخالفة القطعية،
هو غير قادر على المخالفة القطعية؛ لأنّ الجامع ضروري التحقق، فإذن، لا ينجّز
الفرد وإن كان هذا الفرد ممّا له مزيّة، مثل هذا العلم الإجمالي لا يستطيع أن يكون
هو المنجّز للفرد ذي المزيّة، بمعنى أن يكون لزوم الأخذ بذي المزيّة مستنداً إلى العلم
الإجمالي. إذن، هو لا يمكن أن يستند إلى الاحتمال كاحتمال؛ لأنّ هذا خُلف البناء
على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، كما أنّه لا يمكن أن يستند إلى العلم الإجمالي؛
لأنّ العلم الإجمالي في محل الكلام يتعلّق بالجامع؛ لأنّه هو الذي تمّ عليه البيان
وفي المقام الجامع غير قابلٍ للتنجيز، فالفرد أيضاً لا يكون قابلاً للتنجيز بهذا العلم
الإجمالي، ولو قلنا أنّه قابل للتنجيز، فالفرد باعتبار أنّ المزيّة الموجودة فيه
ليست داخلة في الجامع، فهي لا تتنجّز بهذا العلم الإجمالي، فلا يمكن الالتزام
بتعيين الأخذ بذي المزيّة بناءً على هذا المسلك في العلم الإجمالي، يعني بناءً على
المسلكين، أوّلاً مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ثمّ مسلك أنّ العلم الإجمالي لا
ينجّز إلاّ الجامع فقط، فهو لا ينجّز إلاّ حرمة المخالفة القطعية.
وأمّا
على المسلك الثاني في العلم الإجمالي الذي يقول أنّ العلم
الإجمالي ينجّز الواقع لا الجامع، اي بعبارةٍ اخرى، يُنجّز وجوب الموافقة القطعية؛
لأنّه ينجّز الواقع، وإذا تنجّز الواقع على المكلّف، فلابدّ من الاحتياط، لابدّ من
الموافقة القطعية؛ لأنّ المكلّف لا يستطيع أن يحرز الإتيان بالواقع إلاّ بواسطة
الاحتياط والموافقة القطعية، وبهذا يحرز أنّه امتثل التكليف؛ لأنّ التكليف المعلوم
بالإجمال نجّز له الواقع على ما هو عليه، فإذا تنجّز علي الواقع فلابدّ من
الموافقة القطعية، فهو ينجّز الموافقة القطعية لا أنّه ينجّز حرمة المخالفة
القطعية فقط كما في الأوّل؛ حينئذٍ يطرح هذا السؤال بناءً على أنّ العلم الإجمالي ينجّز
الموافقة القطعية والمفروض في محل الكلام أنّ الموافقة القطعية مستحيلة؛ لأنّه
يستحيل عليه أن يأتي بكلا الطرفين، أن يجمع بين الفعل والترك، فإذا استحالت الموافقة
القطعية، قد يقال أنّ النوبة تصل إلى الموافقة الظنّية، يعني تصل النوبة إلى الأخذ
بالاحتمال الأقرب إلى الواقع، والاحتمال الأقرب إلى الواقع هو احتمال الوجوب في
المثال المتقدّم، فالإتيان بالفعل يكون موافقة ظنّية للعلم الإجمالي، موافقة ظنّية
للتكليف المعلوم بالإجمال، باعتبار أنّ هذا العلم الإجمالي في البداية هو ينجّز وجوب
الموافقة القطعية، لكن لمّا تعذّرت الموافقة القطعية في محل الكلام؛ حينئذٍ تصل
النوبة إلى الموافقة الظنيّة، ويوّضح هذا الكلام أكثر، ويقال في مقام توضيحه: في الفرض
الأوّل المتقدّم، فرض التساوي وعدم وجود مزيّة في أحد الطرفين كانت هناك درجتان
للامتثال والطاعة، الأولى درجة الموافقة القطعية والثانية درجة الموافقة
الاحتمالية وليس هناك موافقة ظنيّة، وإنّما موافقة قطعية وموافقة احتمالية،
الموافقة القطعية مستحيلة كما تقدّم والموافقة الاحتمالية متحققة قطعاً وضرورية
الثبوت، فالعلم الإجمالي لا ينجّز شيئاً منهما، لا ينجّز الموافقة القطعية؛ لأنّها
مستحيلة، ولا ينجّز الموافقة الاحتمالية؛ لأنّها متحققة على كل حال؛ لأنّ المكلّف
لا يخلو إمّا من الفعل أو الترك وعلى كلا التقديرين هناك موافقة احتمالية، فالعلم
الإجمالي ليس له أثر بلحاظ كلتا الدرجتين. هذا في فرض التساوي، أمّا في فرض عدم
التساوي، يعني في فرض وجود المزيّة لأحدهما المعيّن؛ حينئذٍ بعد استثناء الموافقة
القطعية؛ لأنّها مستحيلة، يدور الأمر بين درجتين من الامتثال والطاعة، بين موافقة
ظنّية وبين موافقة وهمية، أي بين موافقة ظنّية للتكليف المعلوم بالإجمال وهو أن
يأخذ بالمزية، وبين أن يأخذ بالطرف الآخر الذي هو عبارة عن موافقة وهمية في قبال
ما تورثه المزيّة في الطرف الآخر من ظنّ ومن احتمال أكبر من هذا بحسب الفرض كما
قلنا لأنّ المزيّة موجودة في الاحتمال، احتمال الوجوب أكبر من احتمال التحريم، فبعد
استثناء الموافقة القطعية المستحيلة يدور الأمر بين موافقة ظنّية وبين موافقة
وهمية. هنا قد يقال أنّ العقل يتدخل ويقول بترجيح الموافقة الظنّية على الموافقة
الوهمية، فيعيّن الموافقة الظنّية والأخذ بذي المزية باعتبار أنّه موافقة ظنّية
للتكليف المعلوم بالإجمال والأمر بحسب الفرض يدور بينه وبين موافقة وهمية لهذا
التكليف، فالعقل يتدخّل ويحكم بتعيّن الموافقة الظنّية، فيمكن أن يكون هذا تخريجاً
لحكم العقل بالتعيين في فرض عدم التساوي، لكن بهذه الشروط، بعد البناء على قاعدة
قبح العقاب بلا بيان وبعد البناء على أنّ العلم الإجمالي ينجّز الواقع، وافتراض
أنّ المزية موجودة بلحاظ الاحتمال لا بلحاظ المحتمل، قد يقال حينئذٍ أنّ العقل
يحكم بالتعيين.
لكن
هناك كلاماً في هذا المطلب، أنّ العقل هل يحكم هنا
بالتعيين في حالة من هذا القبيل، أو لا ؟ وذلك باعتبار أنّ المفروض في محل كلامنا
أنّ العلم الإجمالي ينجّز الواقع لا أنّه ينجّز الجامع، فيكون العلم الإجمالي علّة
لوجوب الموافق القطعية كما أنّ المفروض في محل كلامنا أنّ الموافقة القطعية تكون
مستحيلة، بمعنى أنّ الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال محال وغير ممكنة
أصلاً، وقد يقال: أنّ هذا يلزم منه سقوط التكليف رأساً، هذا التكليف الذي هو علّة
لوجوب الموافقة القطعية إذا استحالت الموافقة القطعية له هذا يعني سقوط التكليف
رأساً، باعتبار أنّ بقاء هذا التكليف يعني التكليف بغير المقدور؛ لأنّه بحسب الفرض
علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، والموافقة القطعية مستحيلة، فبقاء هذا التكليف
يعني أنّه تكليف بغير المقدور، فلابدّ من الالتزام بسقوط التكليف رأساً، وإذا سقط
التكليف رأساً بهذا الاعتبار؛ حينئذٍ لا يبقى ما ينجّز الموافقة الظنّية في محل
الكلام؛ بل قد يُدّعى باستحالة ذلك، استحالة أن يكون شيء منجّزاً للموافقة الظنّية
في محل الكلام بنظر العقل، وذلك باعتبار أنّ هذا يستلزم ما يسمونه بالتوسط في
التكليف، أو التبعيض في التكليف، بمعنى أنّ التكليف يسقط بلحاظ الموافقة القطعية
ويبقى منجّزاً للموافقة الظنّية، والتوسط في التكليف محل إشكالٍ، أنّه ممكن، أو
غير ممكن، التكليف إمّا أن يكون باقياً، وإمّا أن يسقط، أمّا أن يسقط بلحاظ جهة
ويبقى بلحاظ جهة هذا محل كلام وبعضهم يراه غير معقول، نظير ما يُدعى في باب العلم
الإجمالي في ما إذا كان أحد الطرفين في محل كلامنا دوران الأمر بين محذورين، إذا
كان أحدهما تعبّدياً كما سيأتي والذي هو المقام الثاني لهذا البحث، لنفترض أنّ
الوجوب تعبّدي، هنا الموافقة القطعية غير ممكنة كما في السابق فيما إذا كانا
توصّليين، لكن المخالفة القطعية ممكنة بأن يفعل لا بقصد القربة، هذه مخالفة قطعية
للتكليف؛ لأنّ التكليف بحسب الفرض دائر بين وجوبٍ تعبّدي وبين حرمة توصلية، فإذا
فعل لا بقصد القربة هو خالف التكليف على كل حال، سواء كان وجوباً تعبّدياً خالفه؛
لأنّه لم يأتِ به بقصد القربة، أو كان هو تحريماً فقد خالفه بالفعل، فالمخالفة
القطعية ممكنة والموافقة القطعية غير ممكنة بخلاف ما نحن فيه، فأنّ كلاً منهما غير
ممكن، هناك أيضاً يُطرح هذا الشيء، أنّه ليكن الموافقة القطعية مستحيلة في محل
الكلام، لكن لماذا لا نقول بأنّ العلم الإجمالي يُنجّز حرمة المخالفة القطعية،
فيُلتزم بهذا التبعيض، بأنّ العلم الإجمالي وإن سقط عن التنجيز بلحاظ الموافقة
القطعية، لكنّه يبقى منجزاً لحرمة المخالفة القطعية، هناك أيضاً اعترض عليه بهذا
الاعتراض، بأنّ مرجع ذلك إلى التوسط في التكليف، هذا التكليف الواحد المعلوم
بالإجمال إذا كان هو علّة لوجوب الموافقة القطعية واستحالت الموافقة القطعية يسقط
هذا التكليف رأساً، فلا معنى للتبعيض فيه بأن يقال أنّ هذا التكليف يبقى بلحاظ
حرمة المخالفة القطعية ويسقط بلحاظ وجوب الموافقة القطعية. ما نحن فيه كأنّه من
هذا القبيل، غاية الأمر أنّه في المقام تنزّل من الموافقة القطعية المستحيلة في
محل الكلام إلى الموافقة الظنّية، قد يقال بأنّ هذا الشيء المطروح يلزم منه
التبعيض في التكليف والمفروض أنّ التكليف يسقط رأساً، فلا يبقى ما يكون منجزاً للموافقة
الظنّية، يعني بالإتيان بالطرف الواجد للمزيّة. هذا كلّه بناءً على أن تكون
المزيّة في الاحتمال لا في المحتمل، أمّا إذا كانت المزيّة في المحتمل، فلها كلام
آخر يأتي إن شاء الله تعالى