الموضوع: الأصول العمليّة/ أصالة التخيير
كان
الكلام في القول الذي ذهب إليه صاحب الكفاية(قدّس سرّه) في المقام وهو
التخيير بين الفعل والترك عقلاً والحكم بالإباحة الظاهرية شرعاً.
قلنا
أنّه اعترض عليه باعتراضات ثلاثة ذكرناها، وقلنا أنّ الاعتراض
الأوّل وارد ظاهراً، بمعنى أنّ دليل أصالة الحل يختص بالشبهات التحريمية ولا يشمل
الشبهات الوجوبية.
وأمّا
الاعتراض الثاني وهو أنّ أدلّة الحل تختص بالشبهات الموضوعية ولا
تشمل الشبهات الحكمية، وبناءً عليه لا يمكن التمسّك بأدلّة الحل في دوران الأمر
بين المحذورين إذا كانت على نحو الشبهة الحكمية كما هو المقصود في محل الكلام،
المقصود أولاً وبالذات في هذه المباحث هو الشبهة الحكمية، فدوران الأمر بين
المحذورين إذا كان بنحو الشبهة الحكمية كما هو المقصود؛ فحينئذٍ لا يمكن الاستدلال
عليه بأدلّة الحل لاختصاصها بالشبهات الموضوعية. وقد تقدّم الحديث عن هذا الاعتراض
مفصلاً في أدلّة البراءة، وكان واحداً من أدلّة البراءة هو روايات الحل، واستعرضنا
هناك ثلاث روايات بعضها ضعيف السند ويعضها تام سنداً، وهناك مناقشات كثيرة في ما
هو تام سنداً منها، لكن الظاهر أننا انتهينا إلى أنّ ما هو تام سندا وهو موثقة
مسعدة بن صدقة، هذه الرواية كانت عامّة تشمل الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية،
على كل حال، كلام كثير تقدّم سابقاً.
أمّا
الاعتراض الثالث، فقد بينّا ما هو المقصود به، وخلاصته: أنّ جعل
الإباحة الظاهرية مع العلم بالإلزام غير ممكن، باعتبار أنّ أصالة الإباحة بمدلولها
المطابقي تنافي العلم بالإلزام، باعتبار أنّ مفادها هو الرخصة في الفعل والترك،
والمفروض أننا نعلم بعدم وجود رخصة في الفعل والترك؛ لأننا نعلم بالإلزام بأحد
الأمرين، إمّا بالفعل وإمّا بالترك، افتراض الترخيص في كلٍ منهما هو ممّا نعلم
بعدمه؛ لأننا نعلم بالإلزام، إمّا إلزام بالفعل وهو عبارة عن الوجوب، أو إلزام
بالترك الذي هو عبارة عن التحريم، أمّا أنْ يُلتزم بأنّ كلاً منهما مباح، الفعل
مرخّص فيه والترك مرخّص فيه، لكن هذا الحكم ينافي المعلوم بالإجمال؛ وحينئذٍ يقال:
جعل مثل هذه الإباحة الظاهرية المنافية للمعلوم بالإجمال هو أمر غير ممكن، باعتبار
أنّ الحكم الظاهري يُعتبر فيه الجهل بالحكم الواقعي، وأمّا مع العلم بالحكم
الواقعي؛ فحينئذٍ لا يمكن جعل حكم ظاهري يناقض بمدلوله المطابقي كما يقول المحقق
النائيني(قدّس سرّه) يناقض المعلوم بالإجمال،
[1]
ومن هنا يُصر المحقق النائيني(قدّس سرّه) على أنّه بهذا البيان يقول يظهر الفرق
بين أصالة الحل وبين اصالة البراءة، فأصالة البراءة لا مانع ــــــــــ بقطع النظر
عن الموانع الأخرى ـــــــــــ من شمولها لكلٍ من الطرفين، باعتبار أن اصالة
البراءة حينما نريد إجراءها في محل الكلام نجريها في كلا الطرفين، وجريانها في أحد
الطرفين لا يغني عن إجراءها في الطرف الآخر؛ لأنّ اصالة البراءة عندما تجري في طرف
الوجوب هي تريد أن تؤمّن من ناحية احتمال أنّ الشارع نجّز الوجوب على المكلّف بجعل
الاحتياط بالفعل، قلنا أنّ هذا محتمل وممكن، يمكن أنْ يأمر الشارع بالاحتياط
بالفعل، كما يمكن أن يحكم الشارع بالاحتياط من طرف الترك، كلٌ منهما ممكن، وضع
الاحتياط في كلا الطرفين ممكن، ورفعه أيضاً ممكن، فالبراءة عندما تجري في أحد
الطرفين هي تريد أن تؤمّن من ناحية الاحتمال الموجود في ذاك الطرف فقط؛ ولذا لا
يكون جريانها مغنياً عن جريانها في الطرف الآخر؛ بل لابدّ من إجرائها أيضاً في
الطرف الآخر؛ لأنّه في الطرف الآخر يوجد احتمال آخر لابدّ من التأمين من ناحيته
بإجراء البراءة، احتمال هنا في طرف الفعل احتمال جعل الاحتياط بالفعل، والبراءة
تجري للتأمين من ناحية هذا الاحتمال، في الطرف الآخر احتمال آخر يأتي وهو احتمال
أنّ الشارع يأمر بالاحتياط بالترك مراعاة للتحريم المحتمل، فنحتاج إلى براءة
للتأمين من ناحية هذا الاحتمال، فنحتاج إلى إجراء براءة في كلا الطرفين، ومن هنا
يقول المحقق النائيني(قدّس سرّه) بأنه عندما نأتي إلى البراءة في كل طرفٍ هذه ليست
منافية للإلزام المعلوم بالإجمال، هي بمدلولها المطابقي لا تنافي المعلوم
بالإجمال؛ لأنّ البراءة نجريها في هذا الطرف، إجراء البراءة في هذا الطرف
والالتزام بالترخيص في هذا الطرف لا ينافي الإلزام المعلوم بالإجمال، وكذلك إجراء
البراءة في الطرف الآخر لا ينافي الإلزام المعلوم بالإجمال. نعم، الجمع بين
البراءتين ينافي الإلزام المعلوم بالإجمال، لكنّه يقول أنّ الجمع بينهما لا يمنع،
يعني هذه المنافاة لا تمنع من إجراء البراءة في الطرفين؛ لأنّ العلم بالإلزام لا
يترتب عليه أي أثر أصلاً، ولا ينجّز أيّ شيءٍ على المكلّف، فيقول لا مشكلة، هذا
ليس هو الغرض، وإنّما الغرض أنّ إجراء البراءة في أحد الطرفين لا يغني عن إجرائها
في الطرف الآخر، وكل براءةٍ في طرف هي ليست منافية بنفسها للإلزام المعلوم
بالإجمال، بينما أصالة الإباحة ليست هكذا، أصالة الإباحة إذا جرت في طرف تكون
منافية للمعلوم بالإجمال. إذن: البراءة عندما تجرى في طرف ليست منافية، فلا مانع
منها، بينما أصالة الإباحة عندما تجري في فعل هي تنافي المعلوم بالإجمال، لماذا؟
يقول: أصالة الإباحة معناها هذا، عندما نجري أصالة الإباحة في الفعل، فأنّ معناها
تساوي الترك والفعل في الإباحة، وكون الفعل مباحاً يعني تساوي الفعل والترك في
الترخيص والإباحة، هي بنفسها تثبت مساواة الترك للفعل في الإباحة، التساوي بين
الفعل والترك هذا أمر تثبته نفس أصالة الإباحة الجارية في الفعل، بمجرّد أن تجري أصالة
الإباحة في الفعل يعني أنّ الفعل مباح، يعني أنّ الفعل والترك يتساويان في الترخيص
والإباحة، ومن هنا تكون أصالة الإباحة الجارية في الفعل بمدلولها المطابقي منافية
للإلزام المعلوم بالإجمال؛ وحينئذٍ يأتي كلامه أنّه في هذه الحالة لا يمكن جعل مثل
هذا الحكم الظاهري؛ لأنّه منافٍ يُعلم بمنافاته للواقع، وبمخالفته للواقع، ويُشترط
في جعل الحكم الظاهري أنْ لا يُعلم بمنافاته للواقع، يعني يشترط احتمال ــــــــــ
كما ذُكر ــــــــــ مطابقته للواقع، في جعل الحكم الظاهري يُشترط احتمال المطابقة
للواقع، البراءة عندما نجعلها في طرفٍ فاحتمال المطابقة موجود، الإباحة عندما
نجعلها في طرفٍ تمسّكاً بأدلّة الإباحة لا نحتمل مطابقتها للواقع؛ لأنّ جعل
الإباحة في الفعل كما قلنا يعني أنّ الفعل والترك يتساويان في الترخيص، هي تجعل
الترخيص في كلٍ منهما، وهذا منافٍ لما نعلم به إجمالاً من الإلزام بأحد الأمرين،
إمّا الفعل، أو الترك. ومن هنا هو يُفرّق بين اصالة البراءة وبين أصالة الإباحة،
فيمنع من جريان البراءة على هذا الأساس ويلتزم بإمكان جريان البراءة في كلٍ من
الطرفين في محل الكلام، طبعاً أؤكد بقطع النظر عن الملاحظات الأخرى في إجراء اصالة
البراءة. هذا ما يمكن أنْ يُبين في مقام توضيح الاعتراض الثالث.
قلنا
أنّه فُهم من هذا الكلام، السيد الخوئي(قدّس سرّه) وغيره فهموا
منه أنّه يُشترط في إمكان جعل الحكم الظاهري في موردٍ إمكان مطابقته للواقع،
[2]
أمّا مع العلم بمخالفته للواقع؛ فحينئذٍ لا يمكن جعل مثل هذا الحكم الظاهري، وأصالة
الإباحة في هذا الطرف يُعلم بمخالفتها للواقع، واحتمال المطابقة غير موجود، فإذا
لم يكن موجوداً؛ فحينئذٍ لا يمكن جعل مثل هذا الحكم الظاهري بالإباحة.
أجيب عن هذا
الاعتراض، هذا الجواب مبني على ما يذكره السيد الشهيد(قدّس سرّه) من تفسير الأحكام
الظاهرية، من أنّ الأحكام الظاهرية هي أحكام تعبّر عن أهمية الغرض المناسب لذلك الحكم
الظاهري عندما يحصل هناك تزاحم بين هذه الأغراض في مقام الحفظ تزاحماً حفظياً في
مقام التشريع، عندما يحصل هناك تزاحم بين الأغراض المولوية الواقعية تزاحماً
حفظياً؛ حينئذٍ المولى في هكذا مقام، التشريع الذي يُشرّعه يكون على طبق الغرض
الأهم في نظره، المقصود بالتزاحم الحفظي هو ـــــــــــ وقد تقدّم هذا مراراً
ـــــــــــ أنّ حفظ الأغراض يقع فيه تزاحم، بمعنى أنّ الشارع إذا جعل حكماً ظاهرياً
يُحفظ به هذا الغرض الواقعي، فسوف يفوت الغرض الآخر؛ لأنّ كل غرض من الأغراض
المتزاحمة يُحفظ بشيءٍ غير ما يُحفظ به الآخر، الأغراض الترخيصية تُحفظ بجعل
البراءة، لكن هذا قد يُسبب في حالات معينّة تفويت الغرض اللّزومي على المكلّف وعلى
المولى، الأغراض اللّزومية تُحفظ بجعل الاحتياط، وهذا أيضاً قد يُسبب في تفويت
الأغراض الترخيصية ومصلحة إطلاق العنان ومصلحة التسهيل، فالشارع في مقام حفظ هذه
الأغراض اللّزومية، وعندما يقع التزاحم في ما بينها في مقام الحفظ، أي تزاحم حفظي؛
حينئذٍ هو يُلاحظ أيّ غرضٍ أهم عنده، فيجعل الحكم الظاهري على نحوٍ يُحفظ به ذلك
الغرض الأهم، الأحكام الظاهرية هكذا، هي تعبير عن تزاحم حفظي بين الملاكات
الواقعية، بين الأغراض الواقعية وهذا الحكم الظاهري يُعبّر عن أهمّية أغراضٍ
مُعيّنة، أغراض لزومية وأغراض ترخيصية. هذه الفكرة أنّ الأحكام الظاهرية تعبّر عن أهميّة
الأغراض الخاصّة المناسبة لها عندما يقع بينها تزاحم في مقام الحفظ، فالشارع بين
أمرين، إمّا أن يُشرّع براءة عندما تكون الأغراض الترخيصية أهم عنده، وبذلك يوصل
المكلّف إلى الغرض الترخيصي وإلى إطلاق العنان والتسهيل ويحفظ بذلك هذا الغرض،
وإمّا أن يجعل الاحتياط، وبذلك يوصله إلى تحصيل الأغراض اللّزومية، وتنحفظ بذلك
تلك الأغراض اللّزومية الأهم في نظر الشارع. هذه هي فكرة الأحكام الظاهرية وهذا هو
تفسير الحكم الظاهري.
حينئذٍ
يقال في ما يرتبط بمحل الكلام: أنّ هذه الفكرة إنّما تكون مقبولة
ومعقولة عندما يُفترض الشك في الحكم الواقعي عند المكلّف، عندما يُفترض اختلاط
الأغراض عند المكلّف، فعندما يُفترض الاختلاط والشكّ عند المكلّف تُطبّق هذه
الفكرة؛ حينئذٍ يحصل تزاحم حفظي، عندما تختلط الأغراض على المكلّف بأن يشك ولا
يدري أنّ هذا واجب، أو حرام، أو أنّه واجب، أو مباح، أو أنّه حرام، أو مباح، فإذا
كان واجباً، فهذا يعني أنّ فيه غرض لزومي يجب مراعاته، أمّا إذا كان مباحاً، فيعني
أنّ فيه غرض ترخيصي مرخّص له فيه، عندما يشك في الحكم الواقعي؛ عندئذٍ المشرّع
الحكيم في حال الشكّ من قِبل المكلّف، في حال اختلاط الأغراض الواقعية بالنسبة
إليه بحيث لا يستطيع أن يُميّز أيّ غرض يريد الشارع منه الوصول إليه، هل هو هذا
الغرض، أو ذاك الغرض ؟ في هذه الحالة المشرّع يريد أن يُشرّع حكماً في ظرف الشك،
وهو معنى الحكم الظاهري، يُشرع حكماً في ظرف الشكّ يُلاحظ به الغرض الأهم؛ فحينئذٍ
يأمر المكلّف ظاهرياً بالاحتياط إذا كانت الملاكات اللّزومية عند الشارع أهم،
فيأمره بالاحتياط، وبذلك يحفظ أغراضه اللّزومية، ويوصل المكلّف إلى تلك الأغراض
اللّزومية عن طريق الأمر بالاحتياط. أمّا إذا كانت أغراضه الترخيصية هي الأهم،
فيجعل له البراءة، وبذلك يحافظ على أغراضه الترخيصية مثل مصلحة التسهيل وإطلاق
العنان، وإن كان قد تفوت بذلك بعض الأغراض اللّزومية، فالشارع بين الأمرين، وهذا
معنى التزاحم الحفظي، لكن هذا إنّما يتصوّر عندما يكون هناك شك في الحكم الواقعي
من قِبل المكلّف، أمّا إذا فرضنا أنّ المكلّف كان عالماً بالحكم الواقعي؛ فحينئذٍ
لا معنى لهذا الكلام، أصلاً هذه الفكرة لا موضوع لها عندما يكون المكلّف عالماً
بالحكم الواقعي، فهو قد وصل إليه ذلك الغرض بوصول الحكم الواقعي إليه والشارع
يكتفي بهذا المقدار، هذا الحكم الواقعي سوف يوصله إلى الغرض وإلى تحقيق ذلك الملاك
الموجود في ذلك الحكم الواقعي، فالفكرة أساساً إنّما تُتصوّر عندما يكون هناك شكّ
في الحكم الواقعي. لكن ـــــــــــ من هنا يبدأ الجواب عن الاعتراض الثالث
ـــــــــــ هذا كلّه لا يعني إلاّ أنّ المأخوذ في موضوع الحكم الظاهري هو الشكّ
في الحكم الواقعي، هذا هو المهم، أن يكون المكلّف شاكّاً في الحكم الواقعي في
مقابل أن يكون عالماً به؛ حينئذٍ تأتي هذه الفكرة، لكن هل يؤخذ في موضوع الحكم
الظاهري اعتبار احتمال مطابقة الحكم الظاهري المجعول من قبل الشارع للواقع ؟ هذا
شيء لا يثبت بهذا التفسير، بمعنى أنّه حتّى مع افتراض العلم بمخالفة الحكم الظاهري
للواقع هذه الفكرة تكون موجودة وقائمة، يقال: في هذه الحالة الشارع رعايةً للأغراض
الترخيصية التي يهتم بها يجعل الإباحة، وإن كان جعل الإباحة منافياً ومخالفاً
للإلزام المعلوم بالإجمال، يعني حتّى مع العلم بالمخالفة، يعني مخالفة الحكم
الظاهري المجعول للواقع، يمكن أن يقال أنّ هذا الحكم الظاهري يمكن جعله بناءً على
هذه الفكرة؛ لأنّ الشارع يلحظ في مقام الواقع، يقول هذا شخص يشكّ في الحكم
الواقعي، هذا صحيح يشك في الحكم الواقعي ويعلم بجنس الإلزام، لكن يشك في أنّ
الإلزام الثابت هل إلزام بالفعل، أو هو إلزام بالترك، هذا المقدار من الشك بالحكم
الواقعي يبررّ جعل الإباحة، وإن كان المكلّف يعلم بأنّ هذه الإباحة مخالفة للإلزام
المعلوم بالإجمال.
بعبارةٍ
أخرى:
لا فرق بين محل الكلام وبين الشك في الشبهات البدوية في الشبهات التحريمية
والشبهات الوجوبية، كما أنّه هناك نقول بأنّ الأغراض الترخيصية إذا كانت أهم تُجعل
البراءة، في محل الكلام أيضاً إذا كانت الأغراض الترخيصية ومصلحة التسهيل تقتضي من
الشارع أن يجعل الإباحة حتّى في موارد دوران الأمر بين المحذورين، يعني حتّى مع
علم المكلّف بالإلزام، حتّى مع علم المكلّف بمخالفة هذا الحكم الظاهري للإلزام
المعلوم بالإجمال كما صوّره، حتّى في هذه الحالة مصلحة التسهيل تقتضي جعل البراءة،
مصلحة الأغراض الترخيصية تقتضي جعل البراءة حتّى في هذا المورد في مقابل الأغراض
الإلزامية الني تقتضي في المقام جعل الاحتياط، لكن الاحتياط في بعض الأطراف؛ لأنّ الاحتياط
في كلا الطرفين غير ممكن، وهو الذي يُسمّى بالتبعيض في الاحتياط، بجعل الاحتياط في
أحد الطرفين. لو كانت الأغراض اللّزومية هي الأهم؛ حينئذٍ يجعل الاحتياط في بعض
الأطراف، أي بعّض في الاحتياط، أمّا إذا كان إطلاق العنان للمكلّف هو الأهم؛ حينئذ
لا مانع من جعل الإباحة حتى مع العلم بمخالفة الإباحة للواقع، المهم أن يكون
شاكّاً في الحكم الواقعي، وهذا الشك في محل الكلام محفوظ بلحاظ كل طرف؛ لأنّ
المكلف وجداناً يشك في أنّه هل أُلزم بالفعل، أو لا ؟ فإذن: عنده شكّ في الحكم
الواقعي في هذا الطرف؛ فحينئذٍ موضوع أصالة الإباحة متحقق ولا مانع من جريانها وإن
كان المكلّف يعلم بأنّ الإباحة التي جُعلت في حقه منافية ومخالفة للإلزام المعلوم
بالإجمال، وقد ذكرنا شيئاً من هذا القبيل سابقاً وقلنا بأنّ فكرة أنّ مصلحة
التسهيل، وفكرة إطلاق العنان الموجودة في موارد الشك في الواقع يمكن تجاوزها،
مصلحة التسهيل موجودة في جميع الموارد حتّى مورد العلم بالواقع، حتّى إذا افترضنا
أنّ المكلّف يعلّم بالوجوب، بقطع النظر عن محل الكلام، مصلحة التسهيل قائمة وتقتضي
بحدّ نفسها إطلاق العنان للمكلّف حتى مع العلم بالوجوب، غاية الأمر أنّه مع العلم بالوجوب
ومع العلم بالملاك الإلزامي، هنا يكون الملاك الإلزامي أقوى، فيقدّم على مصلحة
التسهيل، لا يشترط في التراحم بين المصالح الواقعية الترخيصية، أو الإلزامية أن
يكون كل منهما محتملاً كحكم واقعي، بأن يكون هناك احتمال تحريم ـــــــــــ مثلاً
ــــــــــــ واحتمال إباحة، حتّى يحصل تزاحم بين الأغراض الترخيصية وبين الأغراض
اللّزومية؛ بل حتّى لو فرضنا أنّه ليس هناك احتمال إباحة، هناك قطع باللّزوم كما
في محل كلامنا، مصلحة التسهيل قائمة وتقتضي من الشارع أن يجعل الإباحة، كما أنّ
المصالح والأغراض اللّزوميّة تقتضي منه أنْ يجعل الاحتياط في أحد الطرفين مثلاً،
فهي موجودة حتّى مع العلم باللّزوم مادام هناك شك في الحكم الواقعي كما هو موجود
في محل الكلام، وقلنا أنّه حّتى مع العلم بالحكم الواقعي مصلحة التسهيل موجودة،
مصلحة التسهيل تعني أنّ هناك مصلحة واقعية ثبوتية تقتضي إطلاق العنان للمكلّف، وأن
لا يُقيّد بشيءٍ، غاية الأمر أنّه مع العلم بالحكم الواقعي تضعف مصلحة التسهيل ولا
تؤثّر شيئاً، لكن عندما يكون هناك شك في الحكم الواقعي، موضوع الحكم الظاهري يكون
محفوظاً ومتحققاً سواء كان المكلّف شاكاً بمخالفة هذا الحكم الظاهري وهو الإباحة
للواقع، أو كان عالماً بمخالفته، في كلٍ منهما هذا أمر ممكن ويمكن تصوّر جعل
الإباحة الظاهرية حتى في محل الكلام. وهذا هو الجواب عن الاعتراض الثالث. ومن هنا
يتبين أنّ هذا القول لصاحب الكفاية(قدّس سرّه) الظاهر أنّه ليس تاماً، على الأقل للاعتراض
الأوّل المتقدّم، وهو أنّ هذه الروايات مختصّة بالشبهات التحريمية، ونحن في المقام
نحتاج إلى إجراء الإباحة ليس فقط في جانب الحرمة، وإنّما نحتاج إلى إجرائها في كلا
الجانبين، في جانب الحرمة وفي جانب الوجوب، هذه الروايات عاجزة عن إثبات الإباحة
في جانب الوجوب؛ لأنّها مختصة كما قلنا بالشبهات التحريمية، على الأقل هذا
الاعتراض، والاعتراض الثاني مبني على اختصاص روايات الحل بالشبهات الموضوعية، أو
أنّ العام منها للشبهات الحكمية مثلاً هناك إشكال في دلالته، أو في سنده على ما
تقدّم. كلام صاحب الكفاية(قدّس سرّه) انتهى. يبقى القول الأخير وهو الحكم بالتخيير
بينهما عقلاً من دون أن يكون المورد محكوماً بأيّ حكم ظاهري شرعي، كل حكم ظاهري
شرعي غير موجود فقط هناك تخيير عقلي بين الفعل والترك، وهو الذي اختاره المحقق
النائيني(قدّس سرّه) ويأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى.