الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

35/04/09

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة/ أصالة التخيير
تبيّن ممّا تقدّم أنّه لا مانع ثبوتي من جريان البراءة الشرعيةفي محل الكلام في دوران الأمر بين المحذورين. نعم  كان هناك كلام في وجود مانعٍ إثباتي، وتعرّضنا لذلك واستقربنا وجود هذا المانع الإثباتي من جريان البراءة الشرعيةبالتقريب الأخير الذي ذكرناه.
بعد ذلك يجري الكلام في البراءة العقلية، هل تجري البراءة العقلية في محل الكلام ؟الشيخ صاحب الكفاية(قدّس سرّه) استشكل في جريان البراءة العقلية في محل الكلام، باعتبار عدم قصور في المقام من ناحية البيان، باعتبار أنّ العلم الإجمالي بيان، والمفروض أنّ المكلف يعلم علماً إجمالياً بالإلزام، هذا العلم الإجمالي بيان ولا قصور فيه من هذه الناحية، فيرتفع موضوع البراءة العقلية؛ لأنّ موضوعها هو عدم البيان، والبيان في محل الكلام تام ولا قصور فيه، فلا يتحقق موضوع البراءة العقلية؛ ولذا لا تجري البراءة العقلية؛ لأنّ البيان تام في محل الكلام. وأمّا عدم تنجيز التكليف المعلوم بالإجمال، يقول هذا ليس من جهة عدم البيان، وإنّما عدم تنجّز التكليف في محل الكلام إنّما هو باعتبار عدم التمكن من الموافقة القطعية والمخالفة القطعية، فمن هنا يكون عدم التنجّز، لا أنّ عدم التنجّز يكون مسببّاً عن عدم البيان، فالبيان تام ولا قصور فيه؛ ولذا لو أمكن الاحتياط من جهة العلم الإجمالي يجب الاحتياط ولا تجري البراءة، العلم الإجمالي بيان كما لو علم إجمالاً بوجوب شيءٍ، أو حرمة آخر، هنا العلم الإجمالي موجود ويجب الاحتياط فيتنجّز التكليف، يجب الإتيان بمحتمل الوجوب، ويجب ترك الفعل الآخر في غير محل الكلام، وهذا معناه أنّه من ناحية العلم الإجمالي لا قصور في البيان، العلم الإجمالي بيان تام، وإنّما لا يتنجّز التكليف في محل الكلام باعتبار عدم التمكّن من الاحتياط وعدم القدرة على الموافقة القطعية كالمخالفة القطعية. هذا هو المذكور في الكفاية.[1]
أجيب عن هذا الرأي بأنّه ما هو المراد بالبيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؟ هل المراد به مطلق البيان  بحيث أنّ مطلق البيان يكون رافعاً لموضوع القاعدة، مهما كان هذا البيان؟ أو أنّ المراد بالبيان في القاعدة هو البيان المصحح للعقاب على المخالفة ؟ هذا هو المراد من البيان الذي يكون عدمه موضوعاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، موضوع هذه القاعدة ليس هو مطلق عدم البيان، وإنّما عدم هذا البيان الخاص وهو البيان الذي يكون مصححّاً للعقاب على تقدير المخالفة؛ حينئذٍ نأتي إلى محل الكلام لنرى أنّ هذا البيان ــــــــــ العلم الإجمالي ــــــــــــ هل يصحح العقاب على تقدير المخالفة ؟ من الواضح أنّه لا يصحح العقاب، باعتبار أنّ العلم الإجمالي في محل الكلام هو علم بالإلزام المرددّ بين الوجوب والتحريم مع افتراض وحدة الواقعة كما هو محل الكلام فعلاً، من الواضح أنّ مثل هذا البيان لا يكون مصححّاً للعقاب على خصوص أحد المحتملين؛ لما قلناه من أنّ المكلّف أساساً غير متمّكن من المخالفة القطعيّة ولا من الموافقة القطعية، فعلى تقدير أن يختار الفعل، أو الترك البيان الموجود عنده لا يصحح العقاب حتّى لو فرضنا أنّ الفعل كان مخالفاً للواقع، أو أنّ ما اختاره من الترك كان مخالفاً للواقع وهذا البيان الذي عنده لا يكون مصححّاً للتكليف.
وبعبارةٍ أخرى: أنّ العلم الإجمالي إنّما يكون بياناً رافعاً لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان حينما يكون بياناً منجّزاً للتكليف الذي تعلّق به، قابلاً لتحريك المكلّف وللباعثية، هذا العلم الإجمالي حينئذٍ يكون بياناً، أمّا العلم الإجمالي الذي لا يكون قابلاً للتحريك ولا يكون قابلاً للباعثية ولا منجّزاً للتكليف الذي تعلّق به، مثل هذا العلم الإجمالي لا يكون بياناً ولا يكون عدمه موضوعاً للقاعدة، ولا يكون وجوده رافعاً لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان. والعلم الإجمالي في محل الكلام ليس قابلاً للتحريك والتنجيز والباعثية، العلم الإجمالي بالإلزام المردد بين الوجوب والتحريم يحرك نحو ماذا ؟ هو غير قادر على التحريك نحو الموافقة القطعية، أمّا الموافقة الاحتمالية فهي ضرورية تحصل قهراً، مثل هذا العلم الإجمالي الغير قابل للتحريك والباعثية لا يكون بياناً، فلم يتم البيان في محل الكلام؛ ولذا قالوا لا مانع من جريان البراءة العقلية في محل الكلام لتحقق موضوعها؛ لأنّ موضوعها ليس هو عدم البيان مطلقاً، وإنّما عدم البيان المصحح للعقاب على المخالفة.
وبعبارة أخرى: أنّ العلم الإجمالي الذي يكون رافعاً لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو العلم الإجمالي الصالح للمحركية والباعثية كما هو الحال في المثال الذي ذكرناه سابقاً، إذا علم إجمالاً بوجوب هذا الشيْ، أو حرمة هذا الآخر، مثل هذا العلم الإجمالي قابل للداعوية والباعثية والتحريك، فأنّه يحرك نحو فعل هذا، ويحرك نحو ترك الآخر. في محل كلامنا هو غير قابل لذلك؛ ولذا لا يكون مثل هذا العلم الإجمالي رافعاً لموضوع القاعدة؛ بل يبقى موضوع القاعدة محفوظاً ولا مانع من إجراء البراءة العقلية في محل الكلام.
الظاهر أنّ ما ذكره صاحب الكفاية(قدّس سرّه) من أنّ البيان تام في محل الكلام ولا قصور فيه يمكن الالتزام به، يعني المطلب في حدّ نفسه صحيح، إذا لاحظنا العلم ونظرنا إلى العلم الموجود عند المكلّف، العلم لا قصور فيه، لكنّ هذا العلم الإجمالي غير قابل لأن ينجّز شيئاً على المكلّف، هو علم لكن غير قابل للمنجّزية؛ لأنّه كما مر مراراً أنّ مثل هذا العلم الإجمالي بالإلزام المردد بين الوجوب والتحريم في واقعة واحدة هو غير قادر على تنجيز وجوب الموافقة القطعية على المكلّف، وليس قادراً أيضاً على تنجيز حرمة المخالفة القطعية على المكلّف، أمّا الموافقة الاحتمالية، فتنجيزها بالنسبة إلى أحد الاحتمالين بعينه هو ترجيح بلا مرجّح، أمّا بالنسبة إلى أحدهما غير المعيّن فهي حاصلة قطعاً سواء اختار الفعل، أو اختار الترك، هي أمر قهري ضروري، فلا معنى لأن يقال أنّ العلم الإجمالي في المقام نجّز الموافقة الاحتمالية، هذا معناه أنّ هذا العلم الإجمالي في محل الكلام لا ينجّز شيئاً على المكلّف إطلاقاً، مثل هذا العلم الإجمالي الذي لا ينجّز شيئاً على المكلّف هو محل الكلام، هل هو بيان، أو ليس بياناً ؟ من يقول أنّ البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان ليس هو مطلق البيان، وإنّما هو بيان خاص، هو عبارة عن البيان الصالح للداعوية والتنجيز والمصحح للعقاب على المخالفة، من يقول ذلك حينئذٍ يقول أنّ العلم الإجمالي في محل الكلام وإن كان بياناً ولا قصور في كونه بياناً لما تعلّق به، لكنّه بالبرهان العقلي هو غير قابل لأنْ ينجّز شيئاً، يستحيل ولا يُعقل أنْ يكون منجّزاً لشيٍء؛ لأنّه إمّا باعتبار عدم القدرة، وإمّا باعتبار استحالة الترجيح بلا مرجّح، مثل هذا البيان لا يرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان، والذي يرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو البيان الصالح للتنجيز والمحرّكية والداعوية، الذي ينجّز شيئاً على المكلّف، هذا هو الذي يكون عدمه موضوعاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وفي محل الكلام لا يوجد عندنا مثل هذا البيان؛ لأنّ المراد بالبيان في محل الكلام هو العلم الإجمالي، وهذا العلم الإجمالي ليس صالحاً للتنجيز إطلاقاً؛ فحينئذٍ لا يكون وجوده مانعاً من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ورافعاً لموضوعها؛ بل يبقى موضوعها محفوظاً؛ وحينئذٍ يمكن إجراء البراءة العقلية في محل الكلام.
هذا كلّه إذا نظرنا إلى العلم بالجامع، أي العلم بالإلزام، هنا نقول أنّ العلم الإجمالي بيان، لكنّه في محل الكلام غير قابل للتنجيز ولا يُعقل أن يكون منجّزاً لشيء على المكلّف، فإذا قلنا أنّ البيان في موضوع القاعدة هو البيان الخاص كما قلنا؛ حينئذٍ يكون موضوع القاعدة متحققاً؛ لأنّ هذا البيان الخاص ليس موجوداً في محل كلامنا، البيان المصحح للعقاب على المخالفة، البيان الذي يكون موجباً للتنجيز والداعوية والتحريك غير موجود في محل كلامنا، فكأنّ عدم البيان محفوظ، كأنّ موضوع القاعدة يكون محفوظاً، فلا مانع من جريان البراءة العقلية في محل الكلام، هذا بالنسبة إلى العلم بالجامع والعلم بالإلزام، باعتبار أنّ بيان العلم بيان مهما كان ولو كان علماً إجمالياً.
وأمّا إذا أتينا إلى الاحتمالين الموجودين في محل الكلام الذين يتردد بينهما الإلزام المعلوم بالإجمال وهما احتمال الوجوب واحتمال التحريم، من الواضح أنّ احتمال التحريم لا ينجّز ما يتعلّق به، واحتمال الوجوب لا ينجّز ما تعلّق به بناءً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان التي تعني بحسب الحقيقة عدم منجّزية الاحتمال وأنّ المنجّز هو العلم وما يقوم مقامه، في محل كلامنا احتمال الوجوب كاحتمالٍ وحده ليس منجّزاً بناءً على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ وحينئذٍ إذا لم يكن الاحتمال بياناً، والعلم بالجامع وإنْ كان بياناً، لكنّه بيان غير صالح للتنجيز والتعذير ومن هنا يكون الفرق بينهما هو أننّا إذا لاحظنا العلم بالإلزام العلم بيان، لكنّه ليس قابلاً لتنجيز متعلّقه بأي شكلٍ من الإشكال، وإذا نزلنا إلى الاحتمال هو ليس بياناً أصلاً، وإن كان قابلاً لأنْ ينجّز متعلّقه، لا مشكلة في أنّ ينجّز احتمال وجوب متعلّقه، فينجّز الوجوب، وكما قلنا سابقاً أنّ الشارع يضع الاحتياط بلحاظ هذا الطرف، فيأمر المكلّف بالفعل احتياطاً، هذا ليس فيه محذور؛ لأنّه بإمكانه أن يرفع وجوب الاحتياط، إذن، بإمكانه أن يضع وجوب الاحتياط، أن ينجّز هذا المحتمل، فلا مشكلة في أن يكون الاحتمال منجزاً لما يتعلّق به، المشكلة كانت في العلم الإجمالي المتعلّق بالإلزام المردد بين الوجوب والتحريم، هذا العلم الإجمالي ليس قابلاً لأن ينجز ما تعلّق به، لكن عندما نلتفت إلى الاحتمال الذي يتعلّق بالوجوب لا مشكلة في أن يكون هذا الاحتمال منجّزاً لما تعلّق به، وهكذا الحال إذا التفتنا إلى احتمال التحريم، لا محذور في أن يكون هذا الاحتمال منجزاً لما تعلّق به، لكن الموجود فعلاً هو أننا نبني على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وكما قلنا أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان تعني أنّ الاحتمال ليس منجزاً لشيء، العلم الإجمالي بيان لكنّه يستحيل أن ينجز ما تعلّق به، احتمال الوجوب هو أصلاً ليس بياناً، بناءً على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وإنْ كان يمكن أن ينجّز ما تعلّق به؛ إذ ليس في تنجيزه لما تعلّق به محذور.
ومن هنا يظهر أنّه بناءً على هذا الكلام لا مانع من إجراء البراءة العقلية         بالنسبة إلى الإلزام إذا التفتنا إلى العلم وما تعلّق به من الإلزام المردد بين الوجوب والتحريم، وبناءً على ما قلناه وما ذكروه من أنّ البيان الذي أُخذ عدمه موضوعاً في القاعدة هو عبارة عن البيان الخاص وهو البيان الذي يكون مصححاً للعقاب على تقدير المخالفة، هنا لا يوجد مثل هذا البيان، فكأنّ العلم الإجمالي في محل الكلام بمنزلة العدم، كأنّ وجوده وعدمه سيّان، فيثبت موضوع القاعدة، فيمكن إجراء قاعدة البراءة العقلية، كما أنّه يمكن إجراء قاعدة البراءة العقلية بلحاظ الاحتمالين الموجودين في محل الكلام؛ لأنّ كل احتمالٍ منهما هو ليس بياناً بناءً على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإذن، احتمال الوجوب لم يتم فيه البيان، فتجري فيه البراءة العقلية، وذلك الاحتمال في حدّ نفسه لم يتم عليه البيان؛ لأنّ الاحتمال ليس بياناً، فتجري فيه القاعدة، موضوع القاعدة في كلٍ من الاحتمالين متحقق وهو عدم البيان، فتجري البراءة فيهما أيضاً.
قد يقال: لا نحتاج إلى إجراء البراءة في كلٍ منهما.
لكن هذه ليست مشكلة، ففي واقع الأمر موضوع البراءة العقلية متحقق بالنسبة إلى كلٍ منهما، أمّا بالنسبة إلى العلم بجامع الإلزام، فباعتبار أنّ هذا العلم لا ينجّز شيئاً على المكلّف، يستحيل أن ينجّز شيئاً على المكلّف، والمفروض أننا نقول أنّ البيان الذي أُخذ عدمه في موضوع القاعدة هو بيان خاص وليس مطلق البيان، وهو غير متحقق في محل الكلام؛ لأنّ البيان علم إجمالي في محل الكلام لا ينجّز شيئاً، فوجود مثل هذا العلم بمنزلة عدم هذا العلم.
نعم، بناءً على مسلك حق الطاعة وإنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان الأمر يختلف، هذا المسلك بحسب الواقع يعني منجّزية الاحتمال، يعني أنّ مطلق درجات الانكشاف مهما كانت هي تنجّز ما تتعلق به، فالاحتمال منجّز، فضلاً عن العلم، فإذا لاحظنا احتمال الوجوب، هذا الاحتمال يكون منجّزاً للوجوب؛ وحينئذٍ لا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّه أساساً لا نؤمن بقاعدة قبح العقاب بلا بيان بحسب الفرض، لكنّ الاحتمال يكون منجّزاً لما تعلّق به، غاية الأمر أنّه يقع هناك تزاحم بين الاحتمالين في مقام التأثير، بمعنى أنّ احتمال الوجوب بناءً على مسلك حقّ الطاعة يقتضي تنجيز الوجوب على المكلّف، احتمال التحريم أيضاً يقتضي تنجيز الحرمة على المكلّف، وحيث أنّ هذين الأمرين لا يمكن الجمع بينهما، فيقع التزاحم بينهما، يقع التزاحم بين المقتضيين للتأثير الذي هو احتمال الوجوب واحتمال التحريم، هذا بناءً على مسلك حق الطاعة، لكن بناءً على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان الظاهر على الأقل لا مانع من إجراء البراءة في احتمال الوجوب وفي احتمال التحريم، ومن هنا قد يقال بأنّ التفريق بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية والالتزام بجريان البراءة الشرعية في محل الكلام، وعدم جريان البراءة العقلية في محل الكلام ليس واضحاً؛ لأننّا قلنا سابقاً، على الأقل بلحاظ المحاذير الثبوتية وليس الإثباتية بأنّ إجراء البراءة ممكن بلحاظ الطرفين الذين يدور الإلزام بينهما، تصوّرنا كيف تجري البراءة الشرعية في احتمال الوجوب، وكيف تجري البراءة الشرعية في احتمال التحريم، باعتبار أنّه إذا كان مستندنا هو حديث الرفع، فالرفع يقابل الوضع، والوضع في كل طرفٍ أمر ممكن، فيكون رفعه أيضاً أمراً ممكناً، نفس هذا البيان يجري بلحاظ البراءة العقلية، لو قصرنا النظر على احتمال الوجوب، وهذا مجرّد احتمال، بناءً على البراءة العقلية هذا الاحتمال ليس منجّزاً لما يتعلّق به، فإذن، هو قابل لأن تجري فيه البراءة العقلية؛ لأنّ البيان ليس تاماً؛ لأنّ الاحتمال ليس بياناً، البيان هو العلم وما يُلحق به، فإذن، موضوع القاعدة محفوظ هنا كما هو محفوظ هناك، نفس الكلام الذي قيل في البراءة الشرعية يقال في محل الكلام أيضاً، موضوع البراءة الشرعية هو الجهل(ما لا يعلمون) وهو محفوظ في كلٍ من الطرفين على حدة، محفوظ هنا ومحفوظ هنا، فأيّ مانعٍ من أن نجري البراءة الشرعية في هذا الطرف ؟ مع انحفاظ موضوع البراءة الشرعية فيه بحسب الفرض، نفس هذا الكلام يُقال في البراءة العقلية، موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان، وعدم البيان في المقام موجود، فتجري البراءة في احتمال الوجوب للتأمين من ناحية الوجوب المحتمل؛ لأننا قلنا أنّ احتمال الوجوب يمكن أن يكون منجّزاً لما يتعلّق به، ليس هناك محذور في أنْ يكون منجّزاً لما تعلّق به، أن ينجّز الوجوب بجعل الاحتياط بالفعل، تجري البراءة العقلية للتأمين من ناحية هذا الاحتمال، هذا لا محذور فيه، وموضوع البراءة متحقق، ويترتّب عليها الأثر وهو التأمين من ناحية الوجوب المحتمل، فالتفريق بينهما ليس واضحاً.
نعم، في البراءة الشرعية كان المحذور إثباتي، وهذا المحذور الإثباتي الموجود في البراءة الشرعية ليس موجوداً في محل الكلام، هذا هو الفارق بينهما، في المقام نتكلّم عن براءةٍ عقلية ليس لها إلاّ مقام ثبوت، بينما في البراءة الشرعية هناك ألسنة وأدلّة تدل على البراءة الشرعية، فإذا لاحظنا تلك الألسنة والأدلة فقد نقول أنّ هذه الألسنة منصرفة عن حالةٍ من هذا القبيل لا تشمل دوران الأمر بين المحذورين بأحد الوجوه المتقدّمة لبيان المحذور الإثباتي من جريان البراءة الشرعية في محل الكلام.
من هنا يظهر أنّه إلى هنا، ونؤكّد على كلمة إلى هنا أنّه لا يوجد مانع من إجراء البراءة العقلية في محل الكلام وأنّ هناك مانعاً ثبوتياً من إجراء البراءة الشرعية في محل الكلام. بعد ذلك ننتقل إلى الأقوال الأخرى؛ لأننا قلنا أنّ الأقوال التي ذكروها في محل الكلام خمسة، والقول الثاني الذي نتعرّض له إن شاء الله تعالى هو مسألة تقديم جانب التحريم، بأنّ التحريم محتمل والوجوب محتمل، قالوا بأنّه يقدّم جانب التحريم، المكلّف يلزم بالترك في هذه الحالة ولا يجوز له الفعل، باعتبار أنّ ترك المفسدة أولى من جلب المصلحة.



[1] كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص 356.