الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

35/04/03

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة/ أصالة التخيير
الوجه السادس: ما ذكره السيد الشهيد(قدّس سرّه)[1] من منع شمول أدلّة البراءة لمحل الكلام، لكن بنكتةٍ إثباتية لا بنكتةٍ ثبوتية كما في الوجوه السابقة، الوجوه السابقة كانت تمنع من جريان البراءة في محل الكلام لنكات ثبوتية، هذا الوجه يختلف عمّا تقدم، حيث أنّه يمنع من الشمول لنكتة إثباتية في نفس الدليل، الدليل فيه قصور عن الشمول لمحل الكلام، وإلاّ ليس هناك محذور ثبوتي من جريان البراءة في محل الكلام، وحاصل ما ذكره هو: أنّ الذي يُفهم من أدلّة البراءة هو أنّها علاج مولوي شرعي لحالات التزاحم بين الأغراض الترخيصية والأغراض الإلزامية في مقام الحفظ بتقديم الغرض الترخيصي على الغرض الإلزامي. والبراءة تعني تقديم الأغراض الترخيصيّة على الأغراض اللّزومية، ولا يُفهم من أدلّة البراءة أنّها تريد علاج حالات التزاحم بين غرضين إلزاميين، ليست في مقام علاج التعارض بين الأغراض اللّزومية فيما بينها كما في محل الكلام، في محل الكلام هناك تزاحم بين غرضين لزوميين؛ لأنّ الدوران بين الوجوب وبين التحريم، غرضان لزوميان متزاحمان، إذا فرضنا أنّ الشارع قدّم الغرض اللّزومي الوجوبي؛ حينئذٍ يجعل الحكم الظاهري مطابقاً لتقديم الوجوب، فيجعل الاحتياط بالفعل، وهكذا الحال إذا فرضنا أنّ الشارع قدّم الغرض اللّزومي التحريمي، بأن كانت الحرمة عنده أهم، فأنّه سوف يجعل الحكم الظاهري موافقاً ومطابقاً لذلك، كأنْ يجعل الاحتياط بالترك ـــــــــــ مثلاً ـــــــــ وإذا فرضنا تساوي احتمال التحريم واحتمال الوجوب بحيث لا يوجد اهتمام بأحدهما في مقابل الآخر، غرضان متساويان لا ترجيح لأحدهما عند الشارع على الآخر، ففي هذه الحالة المولى لا يُلزِم بالفعل، ولا يُلزِم بالترك؛ بل يرخّص للعبد بالفعل والترك ويطلق عنانه في هذه  القضية؛ لأنّه لا مرجّح لأحدهما على الآخر. هذا الترخيص، والتخيير بين الفعل والترك على تقدير أنْ يكون هو المتحقق فهو ترخيص بملاك تساوي الغرضين في الأهمية، والشارع يُرخّص، لكن هذا الترخيص غير الترخيص الذي يُستفاد من أدلّة البراءة، فالترخيص الذي يُستفاد من أدلّة البراءة بحسب ما هو المنساق منها هو الترخيص الناشئ من تقديم الأغراض الترخيصية على الأغراض اللّزومية عندما يقع التزاحم فيما بينها، بينما الترخيص في محل الكلام ليس من هذا القبيل؛ لأنّه لا توجد بحسب الفرض أغراض ترخيصية داخلة في التزاحم، وإنّما الترخيص الذي قد ينتهي إليه الشارع هو ترخيص بملاك تساوي الغرضين اللّزوميين بلحاظ الأهميّة؛ لأنّه ليس أحدهما أهم من الآخر، جعل الترخيص الظاهري والحكم بإطلاق العنان هذا الترخيص في محل كلامنا شيء و الترخيص الذي يُستفاد من أدلّة البراءة شيء آخر، أدلّة البراءة تشمل موارد التزاحم بين أغراض ترخيصية وأغراض لزومية، فعندما تجري البراءة؛ حينئذٍ نستكشف من ذلك أنّ الأغراض الترخيصية أهم من الأغراض اللّزومية، فيكون ترخيصاً شرعياً ظاهرياً قائم على أساس ترجيح الأغراض الترخيصية على الأغراض اللّزومية، قائم على أساس مصلحة التسهيل كما يسمّوها، مصلحة التسهيل تكون مرجّحة لهذا الجانب على ذلك الجانب، مفاد أدلّة البراءة هذه الترخيص بملاك التسهيل، لكن هذا إنّما يكون عندما يكون هناك تزاحم بين هذا الغرض وبين الغرض الآخر، بين مصلحة التسهيل وبين مصلحة الإلزام كما في الشبهات الوجوبية والشبهات التحريمية في غير محل الكلام، تزاحم بين مصلحة التسهيل التي تقتضي إطلاق العنان وعدم إيقاع المكلّف في الكلفة والضيق وبين غرض الحكم اللّزومي الذي يقتضي إيقاع المكلّف في الكلفة والضيق، مصلحة التسهيل أهم، فالشارع يجعل البراءة، هذا هو مفاد أدلّة البراءة، بينما في محل الكلام لا يوجد ترخيص مجعول بملاك مصلحة التسهيل؛ إذ لا يوجد تسهيل في المقام، وإنّما الموجود تزاحم بين غرضين لزوميين، فإذا لم يكن أحدهما أهمّ من الآخر بنظر الشارع، فالشارع يمكن أنْ يجعل المكلّف مطلق العنان تجاه الفعل وتجاه الترك، هذا ترخيص، لكن هذا الترخيص ليس ثابتاً بملاك مصلحة التسهيل، وإنّما هو ترخيص باعتبار تساوي الغرضين اللّزوميين في الأهمية عند الشارع، فإذن: كيف يمكن أن نتمسّك بأدلّة البراءة ونجريها في محل الكلام، والحال أنّ ظاهر أدلّة البراءة هو أنّها مختصّة بما إذا وقع التزاحم بين مصلحة التسهيل وبين مصلحة الحكم الإلزامي المشكوك ؟!  هذا إشكال إثباتي ناظر إلى أنّ أدلّة البراءة فيها قصور يمنعها من الشمول لمحل الكلام.
لوحظ على هذا الوجه: بأنّه مبني على ادّعاء أنّ التزاحم الموجب للبراءة والذي يُفهم من أدلّة البراءة أنّها واردة لعلاجه، مبني على افتراض أنّ هذا التزاحم هو تزاحم بين الملاكات الإلزامية وبين الملاكات الترخيصية، يعني بين الملاك الإلزامي الموجود في الحكم الإلزامي وبين الملاك الترخيصي الموجود في الحكم الترخيصي، أخبار البراءة تريد علاج هذا التزاحم الحاصل بين ملاكٍ إلزامي قائم في حكم إلزامي وبين ملاكٍ ترخيصي قائم في حكم ترخيصي، ومختص بالحكم الترخيصي، كما أنّ الملاك الإلزامي مختص بالحكم الإلزامي؛ حينئذٍ يصح ما ذُكر؛ لأنّه يقال أنّ أدلّة البراءة لا تشمل المقام لعدم وجود هكذا تزاحم بين ملاكٍ قائم في حكم إلزامي وبين ملاك قائم في حكم ترخيصي؛ إذ ليس لدينا دوران أمر بين حكم إلزامي وبين ترخيص، وإنّما لدينا دوران أمر بين حكمين إلزاميين، ومن هنا لا تكون أدلّة البراءة شاملة لمحل الكلام؛ لأنّها واردة لعلاج حالة التزاحم المذكورة، أي التزاحم بين غرض لزومي قائم في الحكم الّلزومي وغرض ترخيصي قائم في الحكم الترخيصي، إذن: لا تشمل محل الكلام؛ لأنّ الموجود في المقام كما قلنا هو تزاحم بين غرضين لزوميين، والبراءة والترخيص على تقديرها في محل الكلام تكون ثابتة بملاك تساوي بين غرضين في درجة الأهمّية، الترخيص قائم على هذا الأساس وليس على اساس ترجيح الغرض الترخيصي الموجود في الحكم الترخيصي على الغرض الإلزامي الموجود في الحكم الإلزامي، ومن هنا يُمنع من جريان البراءة، أو شمول أدلّة البراءة لمحل الكلام.
وأمّا إذا أنكرنا هذا وقلنا بأنّ الملاكات الترخيصية المتمثّلة بمصلحة التسهيل موجودة في جميع الأمور وليست مختصّة بما إذا كان هناك حكم ترخيصي؛ بل هي موجودة في جميع الموارد، وحتّى في موارد القطع باللّزوم يكون الغرض الترخيصي موجوداً ومصلحة التسهيل موجودة، لماذا نجعل مصلحة التسهيل مختصّة بما إذا شكّ في اللّزوم في مقابل الشكّ في الترخيص والإباحة ؟! بل حتّى إذا قطعنا باللّزوم ولم نحتمل الترخيص، مع ذلك مصلحة التسهيل موجودة، تبقى مصلحة التسهيل في حدِّ نفسها وبقطع النظر عن تقديمها على ملاك الحكم اللّزومي الذي نقطع به، أو عدم تقديمها، لكن هناك مصلحة تسهيل تقتضي إطلاق العنان للمكلّف وعدم التضييق عليه، غاية الأمر أنّ ملاك الحكم اللّزومي الذي نقطع به بحسب الفرض يكون أقوى من مصلحة التسهيل، فيُقدّم ملاك الحكم اللّزومي على مصلحة التسهيل؛ ولذا فأنّ الشارع لا يجعل الترخيص، وإنّما يجعل اللّزوم كحكم واقعي، لكن هذا ليس معناه أنّ مصلحة التسهيل ليست موجودة؛ بل هي موجودة وقائمة حتّى مع القطع باللّزوم، فضلاً عن الشكّ فيه، وإنّما كما قلنا هي مصلحة مغلوبة لمصلحة الحكم اللّزومي، باعتبار أنّه ملاك مقطوع به، للقطع بالحكم اللّزومي بحسب الفرض، فباعتبار أنّ ملاكه ملاك مقطوع به؛ حينئذٍ تكون أرجح من مصلحة التسهيل.
وأمّا في ما إذا شككنا في الإلزام؛ حينئذٍ ملاك الحكم اللّزومي كونه ملاكاً احتمالياً؛ لأننّا شككنا في الحكم اللّزومي، فنشك في ثبوت ملاكه في المقام، باعتبار أنّه ملاكاً احتمالياً مُزاحَم بملاك ترخيصي قطعي ثابت؛ حينئذٍ تضعف محرّكيته، وإذا ضعفت محرّكيته؛ حينئذٍ يجعل الشارع البراءة على طبق مصلحة التسهيل الموجودة في هذه الحالة، وكون ملاك مصلحة التسهيل موجود قطعاً، فباعتبار ما تقدّم من أنّ مصلحة التسهيل موجودة في كلّ الحالات، لكن عندما يكون في قبالها شيء أهم منها هي تضعف عن إثبات ما تقتضيه، ويكون ذلك الملاك الأرجح هو الذي تكون له محرّكية ويُجعل الحكم على طبقه، لكن عندما يكون في قبالها ملاك لزومي احتمالي ليس إلاّ؛ عندئذٍ تكون مصلحة التسهيل هي الأهم؛ وحينئذٍ يجعل الشارع البراءة. بناءً على هذا الفهم لما يُستفاد من أدلّة البراءة، أنّ أدلّة البراءة لا تختص بعلاج حالة التزاحم بين غرضٍ لزومي قائم في حكم لزومي وبين غرضٍ ترخيصي قائم في حكم ترخيصي، وإنّما هي لعلاج حالات التزاحم بين الأغراض اللّزومية والأغراض الترخيصية، حتّى إذا فرضنا عدم وجود حكم ترخيصي، بناءً على هذا الفهم؛ حينئذٍ يمكن أن يقال: أنّ أدلّة البراءة تشمل محل الكلام؛ لأنّ هذا الكلام السابق يمكن تطبيقه على محل الكلام، في محل الكلام عندنا دوران الأمر بين المحذورين، صحيح نحن نعلم بالإلزام، وأنّ الإلزام معلوم لنا ولا نشك فيه، لكن قلنا أنّ مصلحة التسهيل ثابتة حتّى عند القطع بالإلزام، ودائماً هي تقتضي من الشارع أنْ يُسهّل على المكلّف وأن يطلق عنانه، غاية الأمر قد يزاحمها شيء أهم منها؛ حينئذٍ لا تقتضي جعل ما يناسبها، لكن هي موجودة في كل الحالات، في محل كلامنا عندنا قطع بالإلزام، وهذا لا يضر في أنّ هناك مصلحة تسهيل تقتضي إطلاق العنان، فمصلحة التسهيل موجودة وهي مزاحمة للملاك اللّزومي، وقد تقدّم سابقاً أنّ من يلتزم بجريان البراءة يُجري البراءة في هذا الطرف بخصوصه، يقول لا مانع من جريان البراءة، هذا الطرف احتمال الوجوب هذا نجري فيه البراءة، هذا تزاحم بين الأغراض اللّزومية وبين الأغراض الترخيصية، هنا يوجد تزاحم بين الغرض اللّزومي المحتمل وبين الغرض الترخيصي، الغرض اللّزومي المحتمل يقتضي التحريك نحو الفعل والإلزام بالفعل والاحتياط بالإلزام بالفعل، لكن في نفس الوقت مصلحة التسهيل موجودة وقائمة وهي تدعو إلى إطلاق عنان المكلّف وعدم إيقاعه في الكلفة والضيق، مصلحة التسهيل تقتضي ذلك، تزاحم بين أغراض لزومية وأغراض ترخيصية، لماذا لا تشملها أدلّة البراءة ؟ ولماذا نخصّ جريان أدلّة البراءة بخصوص التزاحم من النوع الأوّل، يعني التزاحم الموجود في الشبهات التحريمية، والتزاحم الموجود في الشبهات الوجوبية في غير محل الكلام ممّا يكون هناك حكم لزومي مشكوك وحكم ترخيصي مشكوك، يُشك في أنّ هذا واجب أو مباح، هذا حرام، أو مباح ؟ هنا تجري البراءة، فلماذا نخصّ البراءة في هذا المورد إذا كان الذي ينساق من أدلّة البراءة هو أنّها لعلاج حالات التزاحم بين الغرض الترخيصي وبين الغرض اللّزومي، هذا التزاحم كما هو موجود في الشبهات الوجوبية في غير محل الكلام هو أيضاً موجود في محل الكلام، لا موجب لأنْ نقول أنّ مصلحة التسهيل عند القطع باللّزوم غير موجودة أصلاً، حتّى عند القطع باللّزوم مصلحة التسهيل موجودة، فالتزاحم يقع بين مصلحة التسهيل وبين الغرض اللّزومي، وحيث أننّا في محل الكلام كما تقدم نجري البراءة في هذا الطرف بعينه، وفي ذلك الطرف بعينه، هنا وقع تزاحم بين الغرض اللّزومي وبين مصلحة التسهيل، فهل نقدّم مصلحة التسهيل على الغرض اللّزومي المحتمل ؟ أو نقدّم الغرض اللّزومي المحتمل على مصلحة التسهيل ؟ هل يجعل الشارع عليّ الاحتياط بالفعل ؟ وقلنا أنّ هذا أمر ممكن للشارع، وضع الاحتياط بلحاظ الوجوب المحتمل أمر ممكن للشارع، يأمرني بالاحتياط بأنّه عند دوران الأمر بين المحذورين يجب عليك الفعل احتياطاً، وهذا معناه أنّ الغرض اللّزومي المحتمل أهم، أو أنّ الشارع عنده الغرض اللّزومي ليس أهم، وإنّما مصلحة التسهيل أهم، وأنْ يسهل على المكلّف، يجعل البراءة وعدم وجوب الاحتياط(لا يجب عليك الاحتياط بلحاظ الوجوب)، فيجعل البراءة، هذا أيضاً ترجيح وعلاج لحالة التزاحم بين الغرض اللّزومي والغرض الترخيصي، ونفس الكلام ننقله في الطرف الآخر، بالنسبة إلى التحريم، جعل الاحتياط بلحاظ الحرمة المحتملة أمر ممكن للشارع بأنْ يجعل وجوب الاحتياط بالترك، فيشك المكلّف في أنّ الشارع هل جعل عليه وجوب الاحتياط بالترك، أو لا ؟ يقع التزاحم بين هذا الغرض اللّزومي الذي يقتضي جعل الاحتياط بالترك ظاهرياً وبين مصلحة التسهيل التي تقتضي إطلاق العنان وعدم تقييد المكلّف بالترك، أدلّة البراءة تكون شاملة له.
الحاصل: أنّه لا موجب لتخصيص أدلّة البراءة، بالرغم من أنّه سلّمنا أنّ المنساق منها هو أنّها واردة لعلاج حالات التزاحم بين الأغراض الترخيصية والأغراض اللّزومية، بالرغم من هذا لا داعي لتخصيصها بحالات التزاحم الموجودة في الشبهات التحريمية والشبهات الوجوبية في غير محل الكلام، لا داعي لتخصيصها بذلك؛ لأنّ التزاحم بين الغرض الترخيصي وبين الغرض اللّزومي يمكن تصوّره حتّى في محل الكلام، وحتّى مع القطع بالإلزام؛ لأنّ مصلحة التسهيل موجودة ولا داعي لتخصيص مصلحة التسهيل بخصوص ما إذا كان هناك حكم ترخيصي محتمل، مصلحة التسهيل ثابتة في كل الموارد، هناك مصلحة تقتضي إطلاق العنان للمكلّف، غاية الأمر أنّ هذه المصلحة في بعض الأحيان تضعف ولا تؤثّر في أنْ تُجعَل البراءة على طبقها، ويُجعل الترخيص الظاهري على طبقها إذا كان في مقابلها شيء أهم كما إذا قطعنا بالوجوب، إذا قطعنا بالوجوب تضعف مصلحة التسهيل، لكن عند الشك في الوجوب وعند الشكّ في التحريم كما في محل كلامنا ليس هناك مشكلة في أنْ نقول، وإنْ كان المكلّف عالماً بالإلزام، لكن عند الشك في الوجوب، وعند الشكّ في التحريم لا مانع من جريان أدلّة البراءة في محل الكلام، ونحافظ على ما ذُكر من أنّ المنساق منها هو أنّها لعلاج حالات التزاحم بين الأغراض الترخيصية والأغراض اللّزومية. هذه هي أهم الوجوه التي ذُكرت لمنع جريان البراءة في محل الكلام.   
 






[1] بحوث في علم الأصول، تقرير بحث السيد محمد باقر الصدر للسيد محمود الشاهرودي، ج 5، ص 156.