الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

35/03/25

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة/ البراءة/ تنبيهات البراءة/ التنبيه الرابع
كان الكلام في ما إذا فرضنا تعلّق الحكم بأفراد الطبيعة على نحو العموم المجموعي، كما إذا فرضنا أنّه أوجب إكرام مجموع العلماء، أو حرّم إكرام مجموع العلماء، هنا في ما إذا كانت الشبهة وجوبية وكان الحكم إيجاباً قلنا هنا اتفق المتأخرون على جريان البراءة عند الشكّ في فردٍ أنّه من هذه الأفراد التي أوجب إكرام المجموع فيها، أو ليس من هذه الأفراد، كما لوشكّ في فردٍ أنّه عالم، أو لا ؟ هنا اتفقوا على جريان البراءة.
وأمّا في الشبهة التحريمية إذا كان الحكم نهياً، هنا اختلفوا، ونقلنا رأيين:
الرأي الأوّل: يقول بجريان البراءة، والمقصود هو جريان البراءة لنفي حرمة الأقل، ونتيجة جريان البراءة هو جواز ارتكاب الأفراد المعلوم كونها من أفراد العالم وترك الفرد المشكوك كونه عالماً، أو لا؛ وهذا معناه أنّه لا يحرم عليك ارتكاب الأقل، والأقل هو عبارة عن مجموع الأفراد المعلومة، فيجوز له ارتكابها والاكتفاء بترك المشكوك.
الرأي الثاني: يقول أنّ المورد من موارد قاعدة الاشتغال لا البراءة، وبيّنّا في الدرس السابق ما هو الوجه في كلٍ منهما، وذكرنا في الدرس السابق ملاحظة على الرأي الأوّل. الآن نذكر ملاحظة على الرأي الثاني الذي يقول أنّ المورد هو من موارد قاعدة الاشتغال، باعتبار أنّه لا علم بحرمة الأكثر بما هو أكثر، كما لا علم بحرمة الأقل، فتكون البراءة الجارية في أحدهما معارَضة بالبراءة الجارية في الآخر.
الملاحظة على الرأي الثاني: أنّ الأكثر وإنْ كان لا علم بحرمته بما هو أكثر؛ لأنّه على تقدير أنْ يكون الفرد المشكوك ليس عالماً، فلا حرمة للأكثر، يعني لا حرمة لارتكاب مجموع الأفراد المعلومة والفرد المشكوك، هذا المجموع لا حرمة لفعله على تقدير أنْ يكون هذا عالماً. نعم، على تقدير أنْ لا يكون عالماً لا حرمة للفعل الأكثر، وإنّما الحرمة تكون لخصوص الأقلّ، فعل الأقل يكون حراماً إذا لم يكن هذا الفرد المشكوك عالماً. نعم، إذا كان عالماً؛ حينئذٍ يحرم الأكثر، فصحيح أنّ الأكثر بما هو أكثر لا علم بحرمته، لكن من الواضح أنّ البراءة إنّما تجري في موردٍ لأجل التأمين من ناحية العقاب وإثبات السعة، وإطلاق العنان، وهذا يعني أنّ البراءة لا يمكن أنْ تجري في الأكثر الذي هو محل الكلام، وإنَ كان الأكثر لا علم بحرمته بما هو أكثر، لكننا نعلم يقيناً وعلى وجه الجزم بأنّ هناك استحقاق العقاب على تقدير الفعل الأكثر على كل حال، وعلى كل تقدير، سواء كان الفرد المشكوك عالماً في الواقع، أو لم يكن عالماً، على كلا التقديرين ارتكاب الأكثر يكون موجباً لاستحقاق العقاب جزماً، يعني بلا إشكال إذا ارتكب الأفراد المعلومة، أكرم العلماء المعلوم كونهم علماء، وأكرم الفرد الذي يشك في كونه عالماً، معناه أنّ هذه مخالفة قطعية للتكليف، أي للنهي عن إكرام مجموع العلماء؛ لأنّه قطعاً خالف هذا التكليف، هذه مخالفة قطعية للتكليف، فكيف يمكن أنْ يقال بجريان البراءة فيها لمجرّد أننّا لا نعلم بأنّ الأكثر بما هو أكثر حرام، فنجري البراة في الأكثر كما نجريها في الأقل مع أنّ الأكثر يُعلم بترتب استحقاق العقاب على فعله،  على كل التقادير، وعلى كل حال ارتكاب الأكثر موجب لاستحقاق العقاب، ومع العلم والجزم بأنّ هذا الفعل ارتكابه يوجب استحقاق العقاب، كيف يمكن إجراء البراءة والتأمين من ناحية العقاب ؟! جريان البراءة في الأكثر يعني تجويز المخالفة القطعية للتكليف، بعكس الأقل، جريان البراءة في الأقل وتجويز ارتكاب الأقل ليس فيه مخالفة قطعية للتكليف؛ لأنّ التكليف من المحتمل أنْ يكون متعلّقاً بالأكثر، والحرمة متعلّقة بالأكثر، ومعه يجوز ارتكاب الأقل، أي يجوز إكرام مجموع العلماء المعلوم كونهم علماء والاكتفاء بترك ذلك الفرد، فارتكاب الأقل لا يُعلم بترتب العقاب عليه، ولا يُعلم بكونه مخالفة قطعية للتكليف؛ فلذا لا مانع من جريان البراءة فيه، بينما الأكثر يُعلم بأنّ ارتكابه يترتب عليه استحقاق العقاب، وأنّ ارتكابه مخالفة قطعية للتكليف مهما كان التكليف، يشمل الفرد المشكوك، أو لا يشمل الفرد المشكوك، على كل حالٍ ارتكاب الأكثر مخالفة قطعية للتكليف، خالف التكليف قطعاً، هو نهاه عن إكرام مجموع العلماء، فترددّ في أنّ مجموع العلماء هل يشمل هذا الفرد المشكوك، أو لا يشمله ؟ لكن إذا أكرم كل العلماء حتّى الأفراد المشكوكة، يكون قد خالف النهي قطعاً، فكيف يعقل أنْ تكون البراءة جارية لتجويز هذه المخالفة القطعية للتكليف ؟! صحيح أنّ الأكثر بما هو أكثر لا يُعلم حرمته، لكنّه يُعلم بأنّ ارتكاب الأكثر مخالفة قطعية للتكليف ويترتب عليه استحقاق العقاب، فكيف تجري البراءة للتأمين من ناحية هذا الأكثر الذي نعلم بأنّه يترتب عليه استحقاق العقاب، البراءة تجري في مورد احتمال المؤاخذة والعقاب، عندما يكون الإقدام على الفعل فيه احتمال المؤاخذة تجري البراءة وتؤمّن من ناحية هذا الاحتمال، أمّا عندما يُعلم بترتّب المؤاخذة، ويُعلم بترتب استحقاق العقاب؛ حينئذٍ تكون البراءة عاجزة وقاصرة عن الجريان في هذا المورد، وهذا في الحقيقة معناه أنّه لا مانع من  جريان البراءة في الأقل، ولا تُعارَض هذه البراءة بالبراءة في الأكثر.
وأمّا ما ذُكر ـــــــــــ في الملاحظة الأولى ـــــــــــ من أنّ الأقل معلوم الحرمة، فكيف تجري فيه البراءة، فنحن نعلم بأنّ الأقل حرام قطعاً، إمّا بحرمة استقلالية، وإمّا بحرمة ضمنية، والملاحظة كانت تقول: أيّ فرق بين الأقل في المحرّمات وبين الأقل في الواجبات ؟ الأقل في الواجبات قالوا هو معلوم الوجوب، فتجري البراءة لنفي وجوب الأكثر، ونحن نعلم بوجوب الأقل إمّا لنفسه، وإمّا بوجوب ضمني، على تقدير أنْ يكون الأكثر واجباً فوجوب الأقل يكون وجوباً ضمنياً، على تقدير أنْ لا يكون الزائد واجباً، فوجوب الأقل يكون وجوباً استقلالياً. إذن، الأقل معلوم الوجوب على كل حال، فلا تجري فيه البراءة، فتجري البراءة في الأكثر، الملاحظة كانت تقول: أنّ هذا في المحرمات أيضاً كذلك، الأقل في المحرّمات في محل الكلام أيضاً ممّا يُعلم بحرمته على كل حال، إمّا بحرمةٍ استقلالية على تقدير كون الفرد المشكوك ليس عالماً، وإمّا بحرمة ضمنية على تقدير أنْ يكون الفرد المشكوك عالماً، فأيضاً هو معلوم الحرمة.
أقول: في مقام دفع هذا، أننا إلى هنا أثبتنا أنّ الأكثر لا تجري فيه البراءة، والأقل تجري فيه البراءة، في مقام دفع هذا يمكن الجواب عنه بأنّ هناك فرق بين باب الواجبات وبين باب المحرّمات، الواجبات يمكن أنْ نلتزم بأنّ الأقل واجب بالوجوب الضمني على تقدير أنْ تكون السورة واجبة، لا مانع أنْ نلتزم بالوجوب الضمني للأقل، ومن هنا يصحّ أنْ نقول أنّ الأقل معلوم الوجوب على كل حال، إمّا بوجوب استقلالي، وإمّا بوجوب ضمني؛ لأنّ فكرة الوجوب الضمني في الواجبات فكرة مقبولة ومعقولة، ويساعد عليها الاعتبار، وأمّا فكرة الحرمة الضمنية لأجزاء المركّب المجموع، فهي فكرة غير مقبولة وليس لها أساس، فنفرّق بينهما على هذا الأساس.
توضيح هذا المطلب على ما ذكره السيد الشهيد(قدّس سرّه) [1]هو: في باب الواجبات عندما يتعلّق الوجوب بالمركّب من مجموع أفراد الوجوب ومبادئه من الحب والشوق والإرادة تنبسط على كلّ جزءٍ جزءٍ من أفراد ذلك المركّب، الذي يحب مركّباً من أجزاء، قهراً حبّه سينبسط على كل جزءٍ جزءٍ من أفراد ذلك المركّب، شوقه إلى المركّب يعني شوقه إلى كلّ جزءٍ جزءٍ من ذلك المركب، إذن: مبادئ الوجوب لا تقف على المركب؛ بل هي تنبسط على كل جزءٍ جزءٍ من ذلك المركّب، بينما الحرمة عندما تتعلّق بمركّب من أجزاء، لا الحرمة، ولا مبادئ الحرمة تنبسط على أجزاء ذلك المركّب، الحرمة بما لها من مبادئ من بغضٍ وكراهةٍ لا تنبسط على كل جزءٍ جزءٍ من ذلك المركّب الذي يكره المجموع المركب لا يستلزم كراهة كل جزءٍ جزءٍ من أجزاء ذلك المركّب، بغضه لا ينبسط على أجزاء ذلك المركّب كما هو الحال في باب الوجوب، وإنّما بغضه يتعلّق بواحد من الأفراد على سبيل البدل؛ لأنّ واحداً من هذه الأفراد على سبيل البدل يحققّ مكروه المولى ومبغوضه، الذي يكرهه المولى هو المجموع، كراهة المجموع لا تعني كراهة كل فردٍ فرد، وإلاّ لما كان عامّاً مجموعياً، ولما كان مثالاً لما نحن فيه، الكراهة تقف على المجموع وعلى المركب، المركّب مكروه للمولى، هو لا يريد إكرام المجموع، ولا يريد الجمع في المثال التوضيحي الذي ذكرناه، لا يريد الجمع بين أكل السمك وبين شرب اللّبن، وهذا ليس معناه أنّه يكره أكل السمك، ويكره شرب اللّبن، البغض لا ينبسط على أجزاء المركّب، بينما الحب والشوق والإرادة التي هي مبادئ الوجوب تنبسط على أجزاء المجموع المركّب، فيكون كل جزء من الأجزاء، ليس على سبيل البدل، هو محبوب للمولى ومورد شوق المولى، ومراد للمولى؛ ولذا التحريك المولوي الضمني في باب الواجبات يتعلّق بكل جزءٍ جزءٍ من أجزاء المركّب، بينما في باب المحرّمات لا يكون هناك تحريك ضمني لكل جزءٍ جزءٍ من أجزاء المركّب، وإنّما في باب المحرّمات النهي الذي يتعلّق بالمجموع يحرّك نحو أحد الأجزاء على سبيل البدل ويطلب من المكلّف تركه، النهي يحرّك نحو ترك واحدٍ من الأجزاء على سبيل البدل؛ لأنّه بذلك يتحقق امتثال النهي، فهو يحرّك نحو واحدٍ من الأجزاء على سبيل البدل، لا أنّ هناك تحريكات ضمنيّة ومبادئ ضمنية تتعلّق بكل فردٍ فردٍ من أفراد هذا المجموع في باب المحرّمات، الاعتبار يساعد على تعقّل وقبول الوجوب الضمني في باب الواجبات، لكنّه لا يساعد على تعقّل وتقبّل الحرمة الضمنيّة، ما معنى أن يكون الحرام متعلّقاً بالمجموع المركّب ؟ فعلى تقدير أنْ تكون الأفراد المشكوكة من أفراد العالم، الأقل يكون حراماً بحرمةٍ ضمنية، وهذا هو معنى الكلام السابق الذي ذكرناه في الملاحظة السابقة، الأقل يكون حراماً بحرمةٍ ضمنية، ومن هنا صحّ أنْ نقول وننقض على كلامهم أنّ الأقل في المحرّمات أيضاً معلوم الحرمة على كل حال، إمّا بحرمةٍ استقلالية، أو بحرمةٍ ضمنية على تقدير أنْ يكون الفرد المشكوك(عالم)، فيكون الأقل حراماً بحرمةٍ ضمنية. هذا هو الذي نقول أننّا لا نتعقّله، حرمة ضمنية لأجزاء المركب غير موجودة؛ لما قلناه من أنّه لا الحرمة ولا مبادئ الحرمة تنبسط على كل جزءٍ جزءٍ من أجزاء المركّب، بينما في باب الواجبات نستطيع أنْ نقول أنّ هذا الوجوب الضمني ينبسط على أجزاء المركب الواجب، فصحّ أنْ نقول هناك أنّ الأقل معلوم الوجوب على كل حال، إمّا بوجوبٍ استقلالي، أو بوجوبٍ ضمني، بينما هنا لا يصحّ أنْ نقول ذلك، ومن هنا نصل إلى هذه النتيجة، وهي أنّه لا مانع من إجراء البراءة في الأقل، وهناك مانع ومحذور من إجراء البراءة في الأكثر، وبهذا يصحّ الرأي الأوّل وهو لا مانع في محل الكلام من إجراء البراءة لنفي حرمة الأقل، باعتبار أنّه يُشكّ في حرمته، يُشكّ في جواز ارتكابه على تقدير أنْ يكون المشكوك عالماً يجوز ارتكاب الأقل؛ لأنّ النهي المتعلّق بالمجموع المركّب من عشرة أجزاء يكفي في امتثاله ترك جزءٍ واحدٍ منه، فيكتفي بترك هذا المشكوك، فيجوز ارتكاب الأقل، على تقدير أنْ يكون الفرد المشكوك ليس عالماً، لا يجوز ارتكاب المجموع. إذن: يشكّ في جواز ارتكاب الأقل وعدم جواز ارتكابه، فتجري البراءة لإثبات جواز ارتكابه. نعم، إذا ارتكب الأقل يجب أنْ يترك الفرد المشكوك. هذا ما يرتبط بالنحو الثالث الذي هو عبارة عن أنْ يكون متعلّق الحكم هو المجموع، يعني أفراد الطبيعة المأخوذة على نحو العام المجموعي، وتبيّن أنّه لا فرق بين أنْ يكون الحكم وجوباً، وبين أنْ يكون تحريماً في أنّ البراءة في كلٍ منهما تكون جارية.
النحو الرابع: أنْ يكون متعلّق التكليف أمراً مسببّاً ونتيجة حاصلة من الطبيعة، إمّا من مجموع أفراد الطبيعة، مجموع أفراد الطبيعة تحقق هذه النتيجة، تكون سبباً في حصول هذا المسبّب، وهذا المسبّب هو الذي يتعلّق به الحكم أمراً، أو نهياً. أو يكون حاصلاً من فردٍ واحدٍ من مجموع أفراد الطبيعة، ولا يشترط أنْ يكون حاصلاً من مجموع أفراد الطبيعة؛ بل يكفي في حصول هذا المسببّ وجود فردٍ واحدٍ من أفراد تلك الطبيعة. الطهارة أمر مسببّ، يتعلّق به الحكم، وهو أمر مسبّب من فردٍ واحد من أفراد طبيعة ــــــــــ فرضاً ـــــــــــ الوضوء، في هذا النحو عندما يكون الحكم متعلّق بالمسببّ لا بمجموع الأفراد، أو صرف الوجود، واحد من الأفراد على سبيل البدل، الحكم لا يتعلّق بالأفراد، لا يتعلّق الحكم بالوضوء، وإنّما يتعلّق بالطهارة، أي بالمسبّب، أمراً كان، أو نهياً في هذه الصورة يتعيّن إجراء الاشتغال ولا تجري البراءة في المقام لوضوح أنّ المفروض في المقام هو ثبوت التكليف، وأنّه متعلّق بالمسبب، وهذا لا شكّ فيه، ولاشكّ في حدوده ولاشكّ في قيوده، ولاشكّ في دائرة محركيته، هو يُحرك نحو المسبب، يجب عليك أنْ توجد هذا المسبب، يعني يجب عليك أنْ تكون طاهراً حتّى تصلي، فإذن: المسببّ تعلّق به التكليف، واشتغلت به الذمّة؛ فحينئذٍ يكون الشكّ في فردٍ أنّه من أفراد تلك الطبيعة، شكاً في المحصل، إذا شككنا في أنّ هذا الفرد هل هو وضوء، أو لا ؟ هل هو من الأفراد التي يحصل بها المسببّ، أو لا ؟ بنحو الشبهة الموضوعية؛ حينئذ يكون هذا شكّاً في المحصل، ولا إشكال في أنّه عند الشكّ في المحصل قاعدة الاشتغال هي التي تكون جارية، سواء كان وجوباً، أو كان تحريماً، إذا كان وجوباً، فهو مسئول عن أنْ يكون متطهراً قبل الدخول في الصلاة؛ وحينئذٍ لابدّ أنْ يحتاط بأنْ يأتي بهذا الفرد الذي يشكّ في كونه وضوءً؛ إذ لا يحرز كونه وضوءً محقّقاً للمسبب؛ لأنّ الاشتغال اليقيني بالمسببّ يستدعي الفراغ اليقيني، ولا يقين بالفراغ إذا اكتفى بالفرد المشكوك. إذن: لابدّ أنْ يأتي بما يعلم كونه سبباً في حصول ذلك المسببّ. وكذلك الحال في الشبهة التحريمية، عندما يكون النهي متعلّق بالمسبّب الذي يحصل من مجموع أفراد طبيعة، أو من فردٍ من أفراد طبيعة، هذا معناه أنّ الذمّة اشتغلت بترك ذلك المسبب والابتعاد عنه وعدم تحقيقه في الخارج، هذا أيضاً يستدعي الفراغ اليقيني، ولا يقين بالفراغ إذا جاء بما يشك  في كونه سبباً لحصول ذلك المسبّب، هو نُهي عن القتل، ولنفترض أنّ القتل أمر مسبّب عن الضرب بالسهم ـــــــــ مثلاً ــــــــــ فإذا شكّ في أنّ هذا سبب يحصل به القتل، أو لا، لا يجوز له ارتكابه؛ لأنّه عندما يرتكبه هو يشكّ في حصول ذلك المسبّب المنهي عنه بحسب الفرض، فالمنهي عنه بحسب الفرض يشكّ في حصوله وليس أنّه يشك في حرمته، ليس لدينا شكّ في الحرمة، ولا في حدود الحرمة، ولا في قيود الحرمة نهائياً، وإنّما يشكّ في حصول الحرام بهذا السبب، هل يحصل الحرام بهذا السبب، أو لا يحصل ؟ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، ويستدعي من المكلّف ترك هذا الفرد الذي يشكّ في حصول السبب به. إذن: القاعدة تقتضي الاشتغال من دون فرق بين الشبهة الوجوبية والشبهة التحريمية.
نعم، ذكروا أنّه في بعض الأحيان يتعلّق الحكم بالمسبّب، لكنّ هذا المسبّب أمر اعتباري ينطبق على نفس الأفراد، ليس هو شيئاً آخر غير الأفراد تكون علاقته بالأفراد علاقة المسبّب بالسبب الذي كنّا نتكلّم عنه، وإنّما المسبّب هو عبارة عن أمرٍ ينطبق على  نفس الأفراد، إذا فرضنا ذلك؛ حينئذٍ يخرج هذا الفرض عن محل كلامنا، يعني يخرج عن النحو الرابع، وإنّما يدخل في الأقسام السابقة، وهذا معناه أنّ الحكم تعلّق بأفراد الطبيعة؛ فحينئذٍ نقول تعلّق بها بنحو مطلق الوجود، أو بنحو صرف الوجود، أو أول الوجود، أو مجموع الوجودات، فتأتي التقسيمات السابقة كلّها، وما نختاره هناك نختاره هنا، هذا ليس قسماً ونحواً مستقلاًّ عن ما تقدّم إذا كان المسبّب هو عبارة أخرى عن نفس الأفراد التي تحققّ ذلك المسبب، وأنّ هذا العنوان ينطبق على هذه الأفراد، إذا فرضنا أنّ المسبب شيء آخر غير الأفراد لا ينطبق عليها، وإنّما هو يحصل وهو نتيجة لتحقق تلك الأفراد؛ حينئذٍ يجري فيه الكلام السابق أنّ الشكّ يكون شكّاً في المحصل ولابدّ فيه من الاحتياط. هذا تمام الكلام في التنبيه الرابع، يعني في جريان البراءة في الشبهة الموضوعية، وقد تبيّن أنّ البراءة تجري في الشبهات الموضوعية في جميع الأنحاء السابقة، باستثناء حالة واحدة، فقط هذه الحالة الواحدة لا تجري فيها البراءة وهي حالة ما إذا كان التكليف وجوباً ويتعلّق بالطبيعة بنحو صرف الوجود. هذه الحالة ليست من موارد البراءة وإنّما هي من موارد الاشتغال؛ لأنّ الشكّ في فردٍ في أنّه مصداق للطبيعة، أو عدم كونه مصداقاً للطبيعة ليس شكّاً في التكليف، ولا في قيود التكليف، وليس شكّاً في دائرة المحرّكية؛ لأنّ التكليف يحرك نحو صرف الوجود، وإنّما هو شكّ في الامتثال، اشتغلت الذمّة بصرف الوجود للطبيعة، عليه أنْ يحقق ذلك؛ وحينئذٍ عليه أنْ لا يكتفي في مقام امتثال التكليف المتعلّق بصرف وجود الطبيعة، أنْ لا يكتفي بالفرد المشكوك؛ بل عليه أنْ يأتي بالفرد المعلوم كونه من أفراد الطبيعة.









[1] بحوث في علم الأصول، تقرير بحث السيد محمد باقر الصدر للسيد محمود الشاهرودي، ج5، ص 363.