الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

35/03/23

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العمليّة/ البراءة/ تنبيهات البراءة/ التنبيه الرابع
الطبيعة عندما تقع متعلّقاً للتكليف يمكن أنْ نتصوّر أنحاء متعددّة لكيفية وقوع الطبيعة متعلّقاً للتكليف:
النحو الأوّل: أنْ نفترض أنّ المتعلّق هو ذات الطبيعة، إمّا بمعنى صرف الوجود، بحيث يكون المطلوب هو صرف وجود الطبيعة، وإمّا بمعنى الوجود الأوّل منها بحيث يكون المطلوب هو الوجود الأوّل من الطبيعة. قالوا: على كلا التقديرين، سواء كانت الطبيعة بمعنى صرف وجود الطبيعة، أو كانت بمعنى الوجود الأوّل للطبيعة تكون متعلّقة للتكليف، إذا شُكّ في انطباق العنوان على فردٍ بنحو الشبهة الموضوعية على كلا التقديرين تجري البراءة، إذا كان الحكم نهياً والشبهة شبهة تحريمية تجري البراءة، وقالوا: لا تجري البراءة؛ بل يتعيّن الاشتغال إذا كان الحكم  أمراً والشبهة شبهة وجوبية، ففرّقوا بين الشبهة التحريمية، وقالوا: بجريان البراءة فيها، سواء كان نحو التعلّق هو النحو الأوّل، بأنْ كان تعلّق بها على نحو صرف الوجود، أو كان تعلّق بها بأنْ كان المتعلّق هو الوجود الأوّل للطبيعة، وإذا كان الحكم المتعلّق للطبيعة أمراً ووجوباً وكانت الشبهة وجوبية هنا لا تجري البراءة؛ بل يتعيّن الاشتغال أيضاً بلا فرقٍ بين التقديرين السابقين، على كلا التقديرين لا تجري البراءة، فلا فرق بين التقديرين من حيث النتيجة، بمعنى إنْ كان نهيّاً، فالبراءة تجري على كلا التقديرين، وإن كان الحكم أمراً ووجوباً، فالبراءة لا تجري على كلا التقديرين. تعلّق الحكم بصرف وجود الطبيعة، أو بالوجود الأوّلي للطبيعة الفرق بينهما بالرغم من أنّهما يشتركان في أنّ الأمر بالطبيعة على نحو صرف الوجود يقتضي الإتيان بفردٍ واحدٍ لا أزيد؛ لوضوح أنّ صرف الوجود يتحققّ بالفرد الأوّل الذي يأتي به، فالأمر بالطبيعة على نحو صرف الوجود لا يقتضي إلاّ الإتيان بفردٍ واحد، كما أنّ الأمر بالطبيعة بمعنى أنْ يكون المتعلّق هو الوجود الأوّل أيضاً لا يقتضي إلاّ فردٍاً واحداً من الطبيعة لا أزيد من ذلك، باعتبار أنّ صرف الوجود يتحققّ بالفرد الأوّل، كما أنّ الوجود الأوّل للطبيعة يتحقق أيضاً بالفرد الأوّل، فالمكلّف إذا جاء بالفرد الأوّل فقد تحقق الامتثال وسقط الأمر وسقط التكليف؛ لأنّ المأمور به هو صرف الوجود وقد تحقق، أو المأمور به هو الوجود الأوّل للطبيعة وقد تحقق أيضاً بالإتيان بفردٍ واحد، لكن عندما يتعلّق النهي بالطبيعة، فالنهي يقتضي ترك جميع الأفراد، باعتبار أنّ ترك الطبيعة لا يتحقق، إلاّ بترك جميع أفرادها، هما يشتركان في ذلك، ولا فرق بينهما من هذه الجهة، في أنّ الأمر عندما يتعلّق بالطبيعة، فعلى كلا التقديرين يتحقق امتثاله بالإتيان بفردٍ واحد ولا يحتاج إلى أزيد من ذلك، كما أنّ النهي إذا تعلّق بالطبيعة على نحو صرف الوجود، أو بنحو الوجود الأوّل منها هذا أيضاً يقتضي ترك جميع أفراد الطبيعة التي تعلّق بها النهي، فلو لم يترك جميع الأفراد لما امتثل النهي، هو نهاه عن إيجاد صرف الطبيعة في الخارج، ولازمه أنْ يترك جميع الأفراد، نهاه عن الوجود الأوّل للطبيعة، ولازمه أنْ يترك كل الأفراد التي يتحققّ بإتيانها الوجود الأوّل للطبيعة، فلا فرق بينهما في هذه الجهة. نعم، قد يفترقان في شيءٍ آخر، يفترقان في أنّ النهي عن الطبيعة بنحو صرف الوجود يقتضي ترك جميع الأفراد العرضية والطولية من دون أنْ يُفرّق بين الأفراد العرضية للطبيعة وبين الطولية، النهي عن كل فرد من أفراد هذه الطبيعة بنحو صرف الوجود يقتضي تركها، وذلك لأنّ كل فردٍ من هذه الأفراد، الأفراد العرضية والأفراد الطولية تحقق صرف وجودٍ للطبيعة، فإذا كان صرف الوجود للطبيعة منهي عنه، باعتبار وجود مفسدة فيه؛ لأنّ النهي ينشأ من مفسدةٍ في المتعلّق؛ فحينئذٍ لابد من ترك كل فرد من أفراد الطبيعة، العرضية والطولية؛ إذ لا فرق في تحقق صرف الطبيعة بوجود الفرد بين أنْ يكون الفرد من الأفراد الطولية، أو يكون الفرد من الأفراد العرضية، كل واحدٍ منها يحقق صرف وجود الطبيعة، والمفروض أنّ صرف وجود الطبيعة منهي عنه، فإذن: لابدّ من ترك جميع الأفراد الطولية والعرضية.
وأمّا إذا فرضنا أنّ النهي يتعلّق بالوجود الأوّل للطبيعة، قالوا: أنّ هذا لا يقتضي إلاّ ترك الأفراد العرضية التي يتحقق فيها الوجود الأوّل للطبيعة، وأمّا الأفراد الطولية التي لا يتحقق فيها الوجود الأوّل للطبيعة، فالنهي عن الوجود الأوّل للطبيعة لا يقتضي تركها، لو بقينا نحن ومجرّد أنّ هذا النهي يتعلّق بالوجود الأوّل للطبيعة، معنى أنّ النهي يتعلّق بالوجود الأوّل يعني أنّ النهي لا يتعلّق بذات الطبيعة من دون قيد، وإنّما يتعلّق بالطبيعة مع قيد، وهذا القيد هو الوجود الأوّل للطبيعة، فعندما يتعلّق النهي بالوجود الأوّل للطبيعة، فلابدّ من ترك الأفراد التي يتحقق في كل واحدٍ منها الوجود الأوّل للطبيعة، ومن هنا اختلف هذا عن النهي المتعلّق بصرف الوجود، فالمنهي عنه هناك هو صرف الوجود، وصرف الوجود يتحقق بكل الأفراد الطولية والعرضية، بينما المنهي عنه هنا هو الوجود الأوّل للطبيعة، فكل ما يحقق الوجود الأوّل للطبيعة يكون منهياً عنه، والذي يحقق الوجود الأوّل للطبيعة هو الأفراد العرضية للطبيعة لا الأفراد الطولية للطبيعة، أمّا أنّه له ثمرة عملية، أو ليس له ثمرة عملية، فهذا بحث لا ندخل في تفاصيله، وإنّما نقتصر على محل الكلام، ومحل الكلام هو أنّ الحكم إذا تعلّق بالطبيعة على النحو الأوّل، أو على النحو الثاني،  وشككنا في مصداقية فردٍ لتلك الطبيعة الذي هو محل كلامنا ــــــــــ الشبهة الموضوعية ــــــــــ  فهل تجري البراءة مطلقاً، أو لا تجري البراءة مطلقاً، أو يفصّل ؟ بينما إذا كان الحكم أمراً ووجوبا فلا تجري البراءة، بينما إذا كان نهياً وتحريماً، فتجري البراءة.
المعروف والمشهور هو التفصيل ــــــــــ كما نقلنا سابقاً ـــــــــــ في كلٍ من التقديرين، سواء كان الحكم متعلّقاً بنحو صرف الوجود، أو كان متعلّقاً بالوجود الأوّل للطبيعة، إنْ كانت الشبهة وجوبية لا تجري البراءة، وإنْ كانت الشبهة تحريمية تجري البراءة. أمّا إذا كانت الشبهة وجوبية وكان الحكم أمراً ووجوباً وشكّ في مصداقية فرد للطبيعة، قالوا: بأنّ البراءة لا تجري؛ لأنّ الشك في كون هذا مصداقاً للطبيعة الواجبة بنحو صرف الوجود، أو بنحو الوجود الأوّل للطبيعة، أو ليس مصداقاً، هذا الشكّ ليس شكّاً في التكليف، وليس شكّاً في حدود التكليف وقيوده حتّى تجري فيه البراءة؛ لأنّ التكليف الوجوبي متعلّق ــــــــــ بحسب الفرض ــــــــــ بسنخ وجود الطبيعة، أو متعلّق بالوجود الأوّل للطبيعة، وهذا التكليف معلوم بحدوده وقيوده ولاشكّ فيه، مجرّد أنّ المكلّف يشكّ في أنّ هذا مصداق لصرف الوجود، أو مصداق للوجود الأوّل للطبيعة، أو لا بنحو الشبهة الموضوعية، هذا لا يعني الشكّ، ولا يلازم الشكّ في التكليف، وفي حدوده وقيود، التكليف متعلّق بصرف الوجود، أمر واضح لاشكّ فيه، وافتراض أنّ هذا المشكوك من أفراد الطبيعة واقعاً، هذا لا يوجب زيادة في التكليف، أن يثبت هناك تكليف آخر غير ما عُلم، ولا يوجب سعة في حدود هذا التكليف وقيوده؛ بل كما تقدّم سابقاً لا يوجب سعة حتى في دائرة محركية هذا التكليف التي يقتضيها التكليف، المحركية التي يقتضيها التكليف، افتراض أنّ هذا الفرد المشكوك هو مصداق للطبيعة واقعاً لا يوجب زيادة في دائرة هذه المحركية؛ لأنّ التكليف يُحرك نحو متعلقه، ومتعلّقه هو صرف الوجود، ويكفي في هذا التحريك وفعلية هذا التحريك وجود فرد واحد للطبيعة، وافتراض وجود فرد آخر غير ذلك الفرد لا يعني فعلية جديدة ولا يعني تحريكا جديداً، وإنّما يعني كما ذكر المحقق النائيني(قدّس سرّه) سابقاً يعني سعة في دائرة التخيير العقلي بين الأفراد المتساوية، باعتبار نسبتها وعلاقتها بالطبيعة المأمور بها، السعة في دائرة التخيير العقلي يعني أنت مخيّر بين هذا الفرد وذاك الفرد، وإلاّ لا يكون ذلك موجباً لثبوت تكليفٍ آخر يتعلّق بهذا الفرد، ولا تغيير سعة في حدود التكليف ولا سعة في محركيّة التكليف، التكليف يحرّك نحو متعلّقه، ومتعلّقه هو صرف الوجود، أو الوجود الأوّل للطبيعة، فإذا سلّمنا أنّ الشك في أنّ هذا مصداق للطبيعة، أو ليس مصداقاً للطبيعة الواجبة أنّ هذا لا يوجب الشكّ في التكليف، ولا يوجب الشكّ في حدود وقيود التكليف ولا يوجب الشكّ في سعة دائرة محركية التكليف؛ فحينئذٍ لا يكون هذا مورداً لقاعدة البراءة؛ لأنّ الميزان في جريان البراءة هو أنْ يكون الشكّ في الموضوع يستلزم الشكّ إمّا في أصل التكليف، أو الشكّ في حدود التكليف، أو الشكّ في محركية التكليف نحو هذا الفرد، سعة دائرة المحركية، فإذا كان لا يوجب هذا الشك؛ فحينئذٍ لا يكون المورد مورداً لجريان البراءة؛ بل يتعيّن جريان الاشتغال، باعتبار أنّ الشكّ في الواقع وفي الحقيقة إنّما هو في الامتثال، باعتبار أنّ التكليف تعلّق بصرف الوجود، وهذا أمر واضح ولاشكّ فيه، واشتغلت به الذمة، فلابدّ من الخروج عن عهدته يقيناً، ولا يقين بالخروج عن عهدته إلاّ إنْ يقتصر على الأفراد المعلومة، أنْ لا يكتفي في امتثال التكليف بالفرد المشكوك؛ بل لابدّ أنْ يأتي بالأثر بالمعلوم كونه مصداقاً لصرف الوجود، أو كونه مصداقاً للوجود الأوّل للطبيعة؛ فلابدّ من الاحتياط، ولابدّ من ترك الفرد المشكوك وعدم الإتيان به وعدم الاكتفاء به في مقام امتثال التكليف المعلوم. هذا إذا كانت الشبهة وجوبية.
وأمّا إذا كانت الشبهة تحريمية، قالوا بالعكس، إذا كانت الشبهة تحريمية، هنا تجري البراءة ولا تصل النوبة إلى الاشتغال، وذلك باعتبار أن الشكّ في فردية فردٍ للطبيعة في الشبهة التحريمية تجري البراءة؛ باعتبار أنّ الحرمة وإنْ كانت واحدة، التكليف والحكم وإن كان واحداً هي حرمة واحدة متعلّقة بصرف وجود الطبيعة، أو حرمة واحدة متعلّقة بالوجود الأوّل للطبيعة، لكن لا إشكال في أنّ هذه الحرمة الواحدة تقتضي ترك جميع أفراد هذه الطبيعة التي يتحقق فيها صرف الوجود، أو تكون محققة للوجود الأوّل للطبيعة المنهي عنه بحسب الفرض، النهي عن الطبيعة يقتضي ترك جميع الأفراد. إذن: هذه حرمة واحدة، لكن تقتضي محركية نحو جميع الأفراد بتركها، فإذا كانت الأفراد المعلومة عشراً، فهي تقتضي التحريك نحو ترك كل فردٍ فرد من هذه الأفراد، هذه المحركية يقتضيها طبيعة التكليف وهو النهي عندما يتعلّق بذات الطبيعة وبالوجود الأوّل للطبيعة، وإذا كانت الأفراد أحد عشر أيضاً تقتضي أن تتسع هذه المحركيات، فالشكّ في أنّ هذا الفرد مصداق للطبيعة، أو ليس مصداقاً للطبيعة يلازم الشكّ في سعة دائرة المحركية، وضيقها، أنّ هذا التكليف هل يقتضي التحريك نحو عشرة أفراد فقط وهي الأفراد المعلوم كونها مصداقاً الطبيعة ؟ أو يقتضي المحركية نحو ما هو أزيد من ذلك ؟ على تقدير أنْ يكون هذا الفرد المشكوك مصداقاً للطبيعة فتتسع دائرة المحركية، وعلى تقدير عدم كونه مصداقاً، فلا تتسع دائرة المحركية. إذن: الشكّ في أنّ هذا مصداق، أو لا، هو شكّ في سعة دائرة المحركية التي يقتضيها التكليف وعدم سعته، وقلنا بأنّ هذا ميزان يكفي لجريان البراءة وإنْ كان التكليف واحداً لا تعدد فيه، وهذا الميزان متحقق حينئذٍ في هذا المورد ولازم ذلك هو جريان البراءة. هذا بالنسبة إلى النحو الأوّل الذي عممّناه إلى ما إذا كان الحكم متعلّق بالطبيعة بنحو صرف الوجود، أو متعلّق بالوجود الأوّل للطبيعة، وقلنا بأنّه قد تكون هناك فوارق حقيقية بين هذين القسمين، لكنّهما بلحاظ محل الكلام لا فرق بينهما، فإن قلنا بجريان البراءة في الشبهة التحريمية؛ فحينئذٍ تجري البراءة في الشبهة التحريمية في كل منهما. وإن قلنا بعدم جريان البراءة في الشبهة التحريمية أيضاً نقول بعدم جريان البراءة في كلٍ منهما.
النحو الثاني: أنْ يُفترض تعلّق الحكم بالطبيعة التي تؤخذ في الحكم بنحو مطلق الوجود، بحيث يكون المتعلّق للحكم هو تمام الأفراد بنحو العموم الاستغراقي. هنا الحكم واضح وهو جريان البراءة، باعتبار أنّ الطبيعة عندما يتعلّق بها الحكم بنحو العموم الاستغراقي لازم ذلك هو انحلال الحكم بعدد أفراد تلك الطبيعة من دون فرق بين أنْ يكون الحكم إيجاباً والشبهة وجوبية، أو يكون تحريماً والشبهة تحريمية، على كلا التقديرين هناك وجوبات متعددة بعدد الأفراد، أو تحريمات متعددة بعدد الأفراد، وبناءً على ذلك إذا شُكّ في كون فردٍ من الأفراد، في كون شيء مصداقاً للطبيعة المأمور بها بنحو مطلق، أو مصداقاً للطبيعة المنهي عنها بنحو مطلق الوجود؛ فحينئذٍ يكون ذلك شكّاً في التكليف، وهذا التكليف على تقدير أنْ يكون المشكوك هو من أفراد الطبيعة، هو تكليف مستقل يتعلّق بهذا الفرد؛ لأننّا فرضنا الانحلال في الحكم، والانحلال يعني أنّ هناك أحكاماً متعددة، وجوبات متعددة بعدد أفراد الطبيعة، فكل حكم له عصيان خاص وله إطاعة خاصّة به ولا يرتبط عصيانه، أو إطاعته بإطاعة، أو عصيان الفرد الآخر، وهذا هو معنى أنّ الحكم مستقل. إذن: كل فردٍ له حكم مستقل، فإذا شُك في فردية فرد، فهذا معناه الشكّ في الحكم المستقل، فالشك يكون في التكليفي، ومعه تجري البراءة بلا إشكال.
النحو الثالث: أنْ يُفترض تعلّق الحكم بتمام أفراد الطبيعة، لكن بنحو الارتباط، بحيث يكون الحكم متعلّق بجميع أفراد الطبيعة بنحو العموم المجموعي، لا بنحو العموم الاستغراقي كما في النحو الثاني. هنا التكليف واحد، ولا يوجد تعدد في التكليف كما في النحو الثاني، التكليف واحد، لكن يتعلق بمجموع الأفعال، سواء كان نهياً، أو كان أمراً، أمر واحد يتعلّق بمجموع الأفعال، نهي واحد يتعلّق بمجموع الأفعال. هنا قالوا: لا إشكال في جريان البراءة إ        ذا كان الحكم وجوباً وكانت الشبهة وجوبية وكان الوجوب متعلّق بتمام أفراد الطبيعة على نحو العموم المجموعي، ومثّلنا له سابقاً بما إذا أوجب أكرام العلماء وكان مقصوده من العلماء مجموع العلماء. هذا تكليف واحد، وليس تكليفاً انحلالياً، وإنّما تكليف واحد لا انحلال فيه يتعلّق بمجموع الأفراد، فإذا شككنا في شخص أنّه عالم حتّى يجب إكرامه، أو ليس عالماً حتّى لا يجب إكرامه، قالوا: تجري البراءة وتؤمّن من ناحية وجوب إكرامه، باعتبار أنّ الشكّ في المقام وإن لم يكن شكّاً في تكليفٍ مستقل، كما في النحو الثاني، لكنّه شكّ في التكليف الضمني الذي يتعلّق بكل فرد من أفراد ذلك المجموع، أو فلنعبّر بالتعبير الذي عبّرنا به سابقاً وهو أنّه شكّ في سعة دائرة المحرّكية وضيقها. على تقدير أنْ يكون هذا الفرد المشكوك ليس عالماً، فذاك التكليف المتعلّق بالمجموع لا يحرّك نحو إكرامه، لكن على تقدير أنْ يكون عالماً في الواقع، فذلك التكليف يحرّك نحو إكرامه؛ لأنّ التكليف الواحد المتعلّق بإكرام مجموع العلماء هو يحرّك نحو إكرام كل واحد واحد من أفراد العلماء، لكنّ هذا التحريك ضمني وليس تكليفاً مستقلاً، فعلى تقدير أنْ يكون هذا المشكوك عالماً، فنفس التكليف يحرّك نحو إكرامه، وإنْ لم يكن عالماً، فلا يحرّك نحو إكرامه. إذن: الشكّ في كونه عالماً يعني الشكّ في وجود تحريك نحوه يقتضيه نفس التكليف، أو عدم وجود تحريك، يعني في سعة دائرة المحرّكية وضيقها، فينطلق الميزان السابق؛ وحينئذٍ تجري البراءة.
هذا في الحقيقة يدخل في كبرى دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين، والظاهر أنّ المتأخرين متّفقون على جريان البراءة في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين إذا كانت الشبهة وجوبية، ونحن فعلاً تكلّمنا في الشبهة الوجوبية. أمّا إذا كانت الشبهة تحريمية، فهناك خلاف في جريان البراءة وعدمه.