الموضوع: الأصول العمليّة/ البراءة/ تنبيهات
البراءة/ التنبيه الرابع
كان
الكلام في الثمرة بين القول بالاستحباب وبين القول بعدمه، وأنّه أيّ
ثمرةٍ تترتب على ثبوت الاستحباب للعمل ؟ مع أنّ العمل الذي يأتي به المكلّف الذي
بلغه الثواب يترتب عليه الثواب حتماً سواء استفدنا الاستحباب، أو لم نستفده.
قلنا
أنّ الشيخ(قدّس سرّه)[1]ذكر
موردين لهذه الثمرة، المورد الأوّل هو جواز المسح ببلل المسترسل من اللّحية بناءً
على ورود بعضالأخبار الضعيفة الدالة على استحباب غسل
المسترسل في الوضوء، فيُستكشف منه أنّه من أجزاء الوضوء، فإذا كان من أجزاء الوضوء
يجوز المسح ببلّته، وأمّا إذا نستفد الاستحباب ولم نبنِ عليه؛ حينئذٍ لا يمكن أنْ
نستكشف أنّه من أجزاء الوضوء؛ لأننّا استكشفنا كون المسترسل من أجزاء الوضوء
باعتبار استحباب غسله في الوضوء، أمّا إذا لم يدل دليل على استحباب غسله، فلا يمكن
أنْ نستكشف أنّه من أجزاء الوضوء حتّى يكفي المسح ببلله.
ذكر
الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) في مقام الإشكال على هذه الثمرة أنّه
يحتمل قوياً أنْ نمنع من المسح ببلل المسترسل وإن قلنا بصيرورته مستحبّاً شرعيّاً،
يقول لا تظهر الثمرة سواء قلنا بالاستحباب، أو لم نقل بالاستحباب نمنع من المسح
ببلله، حتّى على القول بالاستحباب نمنع من ثمرته، ولم يُفسِّر مقصوده بهذا الكلام،
لكن فُسّر كلامه بأنّه لا دليل على جواز المسح من بلل جميع أجزاء الوضوء، الثمرة
مبنيّة على افتراض جواز المسح ببلل جميع أجزاء الوضوء المستحبّة والواجبة؛ لأنّه
إذا قيل باستحباب غسل المسترسل يكون المسترسل من أجزاء الوضوء، والكبرى تقول بجواز
المسح ببلل جميع أجزاء الوضوء حتّى لو كانت مستحبّة. أمّا إذا منعنا هذه الكبرى،
وقلنا أنّه لم يدل دليل على جواز المسح ببلل تمام أجزاء الوضوء حتّى المستحبّة،
وخصصّنا هذا الجواز فقط بالأجزاء الواجبة؛ حينئذٍ لا تظهر الثمرة، سواء قلنا
باستحباب غسل المسترسل، أو لم نقل به، على كلا التقديرين لا يجوز المسح من بلله.
فُسّر كلام الشيخ(قدّس سرّه) بهذا التفسير، وعليه: لا تكون الثمرة ظاهرة، والظاهر
أنّ هذا التفسير مقبول لدى الفقهاء، بمعنى أنّ الدليل لم يدل على جواز المسح بتمام
أجزاء الوضوء، حتّى المستحبة، وإنّما المتيقّن من الدليل هو جواز المسح من بلل
الأجزاء الأصلية في الوضوء، فلا تظهر الثمرة.
المورد
الثاني:
ترتب الآثار الشرعية المترتبة على المستحبّات الشرعية، ومثّل للآثار بارتفاع الحدث
المترتب على الوضوء المأمور به شرعاً، فهذا أثر يترتب على الوضوء المستحب شرعاً، فإذا
دلّ خبر ضعيف على استحباب الوضوء لغايةٍ معيّنة، كما لو فرضنا أنّه دلّ دليل على
استحباب الوضوء للنوم، أو لقراءة القرآن، قيل بأنّه تظهر الثمرة حينئذٍ؛ لأنّه
بناءً على استفادة الاستحباب من أخبار(من بلغ)؛ حينئذٍ يترتب هذا الأثر، وهو
ارتفاع الحدث على الوضوء الذي يأتي به المكلّف لتلك الغاية؛ لأنّه ثبت استحبابه
بناءً على استفادة الاستحباب من أخبار(من بلغ)، فيكون الوضوء مستحبّاً مأمور به
شرعاً، وكل وضوء مأمور به شرعاً يكون رافعاً للحدث. وأمّا إذا لم نستفد الاستحباب،
وحملنا الروايات على مجرّد الإرشاد إلى حسن الانقياد والاحتياط؛ فحينئذٍ لا يمكن
الالتزام بترتب هذا الأثر، هذا الوضوء الذي يتوضأه الإنسان لغايةٍ معينةٍ لا يكون
رافعاً للحدث؛ لأنّه لم يثبت استحبابه شرعاً حتّى يترتب عليه ذلك الأثر، فكأنّ
الأثر يترتب على الوضوء المأمور به شرعاً، ولو أمراً استحبابياً، وهذا يتوقف على
إثبات استحبابه، فيكون رافعاً للحدث، وإلاّ فلا يكون رافعاً للحدث، فتظهر الثمرة
هنا في هذا المورد.
الشيخ(قدّس
سرّه) بعد
أنْ ذكر هذا المورد، ذكر(فتأمّل)، قيل في تفسير التأمّل: أنّ مراد الشيخ بالتأمّل
هو أنّ التأمّل إشارة إلى عدم ثبوت كون كل وضوءٍ مستحبٍ رافعاً للحدث، فأنّه أوّل
الكلام، الثمرة مبنية على كبرى كلّية، وهي أنّ كل وضوء مأمور به شرعاً ولو على نحو
الاستحباب يكون رافعاً للحدث، فتظهر الثمرة؛ فإنْ قلنا بالاستحباب يكون هذا الوضوء
الخاص رافعاً للحدث، وإلاّ فلا يكون رافعاً للحدث، لكنّ هذا مبني على هذه الكبرى،
فقوله(فتأمّل) لعلّه إشارة إلى المناقشة في هذه الكبرى؛ إذ لم يدل دليل على أنّ كل
وضوء مستحب يكون رافعاً للحدث، بدليل أنّ هناك بعض الوضوء والذي ثبت استحبابه، ومع
ذلك هو لا يكون رافعاً للحدث، ويمثّل لذلك بوضوء الحائض ووضوء الجنب يستحب لهما الوضوء،
وثبت استحباب الوضوء لهما، لكنّه لا يكون رافعاً للحدث، ويُمثّل لذلك أيضاً
بالوضوء التجديدي، فهو وضوء ثبت استحبابه، لكنّه ليس رافعاً للحدث؛ لأنّ الحدث
أساساً مرتفع بالوضوء الأوّل، فهذا الوضوء التجديدي لا يكون له أثر ولا يكون
رافعاً للحدث.
إذن:
بهذا نستطيع أنْ نرفع اليد عن الكبرى الكلّية؛ لأنّه لا دليل على أنّ كلّ وضوء
مستحب يكون رافعاً للحدث.
لكنّ
هذا التفسير للتأمّل
الذي ذكره الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) قابلٌ للتأمل، باعتبار أنّ الوضوء إنّما
يرتفع به الحدث الأصغر لا الحدث الأكبر، ومن هنا النقض على من يدّعي الكبرى(كل
وضوء يكون رافعاً للحدث) ينبغي أنْ يكون النقض بموردٍ قابل لرفع الحدث الأصغر، في
الموارد التي يكون الوضوء فيها قابلاً لرفع الحدث الأصغر، إذا دل دليل على أنّ هذا
وضوء حاله حال سائر الوضوءات وفيه قابلية رفع الحدث الأصغر هذا يكون نقضاً للكبرى
الكلّية. وأمّا النقض بموارد أصلاً لا يكون المورد قابلاً فيه لرفع الحدث الأصغر،
فهذا ليس نقضاً على القاعدة الكلّية، ويقال أنّ الوضوء في هذين الموردين الذين
ذُكر النقض فيهما ليس قابلاً لرفع الحدث الأصغر. أمّا المورد الأوّل، فباعتبار أنّ
الشخص محدث بالأكبر، فهو مجنب، أو هي حائض، هذا ليس قابلاً لأنْ يرتفع به الحدث
الأصغر؛ لأنّه محدث بالحدث الأكبر، وهكذا في الوضوء التجديدي حيث ليس هناك قابلية
في المحل لرفع الحدث الأصغر، فلا تنتقض الكبرى في هذه الموارد، وإنّما تنتقض في
موارد يمكن أنْ يكون الوضوء فيها رافعاً للحدث، فيأتي دليل يقول بأنّ هذا الوضوء
ليس رافعاً للحدث، هذا يتحقق فيه النقض. وأمّا في هذه الموارد، فقد يستشكل في تحقق
النقض للكبرى الكلّية بذلك.
لكن
على كل حال،
يمكن دفع أصل الثمرة بما ذكره السيّد الخوئي(قدّس سرّه)
[2]
من أنّه إذا التزمنا بالاستحباب النفسي للوضوء، أي أنّ هذه الغسلات والمستحبّات في
حدِّ نفسها مستحبّة، يعني أنّها تحقق غاية أخرى ـــــــــ مثلاُ ـــــــــ حتّى
إذا لم يكن الوضوء لغايةٍ هو في حدّ نفسه مستحب استحباباً نفسياً، إذا التزمنا
بذلك؛ حينئذٍ يكون كل وضوءٍ مستحبّاً، سواء كان لغاية، أو لم يكن لغاية، فيثبت
استحباب الوضوء في نفسه، ويكون رافعاً للحدث، سواء قلنا باستحبابه لتلك الغاية، أو
لم نقل باستحبابه لتلك الغاية، فلا تظهر الثمرة، الخبر الضعيف دلّ على استحباب
الوضوء إذا جاء به المكلّف لغاية قراءة القرآن ــــــــــ مثلاً ــــــــــ فكان
يقال لبيان الثمرة أنّه: إنْ قلنا باستفادة الاستحباب من أخبار(من بلغ) فيثبت أنّ
هذا مستحب، فيترتب عليه الأثر، وهو أنْ يكون رافعاً للحدث، وإنْ لم نقل باستفادة
الاستحباب، فلا يكون مستحبّاً، فلا يكون رافعاً للحدث.
الجواب
هو:
أنّ هذا الوضوء مستحب على كل حال؛ لأنّ الوضوء مستحب في حدّ نفسه استحباباً
نفسياً. إذن: هذا الوضوء مستحب في نفسه، أي نفس الغسلات والمسحات هي مستحبّة
استحباباً شرعياً، فيكون رافعاً للحدث، سواء قلنا باستحبابه لتلك الغاية، كما دلّ
عليه الخبر الضعيف، أو لم نقل باستحبابه لتلك الغاية، هو في حدّ نفسه مستحب، فإذا كان
الوضوء في حدّ نفسه مستحب؛ حينئذٍ يترتّب عليه الأثر الذي هو ارتفاع الحدث من دون
فرق بين أنْ نستفيد الاستحباب النفسي من أخبار(من بلغ) أو نحملها على الإرشاد. ومن
هنا يظهر أنّ هذه الثمرات التي ذُكرت لا تترتب على هذين القولين. هذا تمام الكلام
في التنبيه الثالث من تنبيهات البراءة، أي في ما يُسمّى بقاعدة التسامح في أدلّة
السنن.
التنبيه
الرابع:
ذكرنا التنبيه الأوّل الذي هو مسألة اشتراط جريان البراءة بأنْ لا يكون هناك أصل
موضوعي منجّز، فأنّه يكون مانعاً من إجراء البراءة، ومنه انطلق البحث إلى استصحاب
عدم التذكية في اللّحم الذي يُشكّ في تذكيته. التنبيه الثاني كان في حُسن
الاحتياط، هل الاحتياط حسن بالرغم من جريان البراءة، أو لا ؟ عقلاً، أو شرعاً ؟
التنبيه الثالث في قاعدة التسامح في أدلّة السنن. التنبيه الرابع الذي يقع الكلام
فيه في مبحث مهم جدّاً، وهو جريان البراءة في الشبهات الموضوعية. كان القدر
المتيقّن من الكلام السابق هو الشبهات الحكمية، وهو المقصود الأصلي في هذه البحوث
في علم الأصول، هذا هو القدر المتيقّن من أدلّة البراءة، فهي تجري في الشبهات
الحكمية، وإنّما الكلام يقع في أنّ أدلّة البراءة هل تجري في الشبهات الموضوعية
كما تجري في الشبهات الحكمية، أو لا ؟ هذا التنبيه معقود لبحث هذا المطلب.
الشيخ
الأنصاري(قدّس سرّه) حكى عن بعضهم دعوى أنّ أدلّة البراءة لا تجري في الشبهات
الموضوعية، وإنْ اعترض بجريانها في الشبهات الحكمية، لكنّه منع من جريانها في الشبهات
الموضوعية وناقشه الشيخ(قدّس سرّه) في ذلك، لكن
يبدو أنّه، يعني إذا استثنينا هذا الشخص الذي ينقل عنه الشيخ(قدّس سرّه) يبدو أنّ
هناك اتّفاقاً على جريان البراءة في الشبهات الموضوعية في الجملة، وحتّى ممّن ينكر
جريان البراءة في الشبهات الحكمية يعترف بجريانها في الشبهات الموضوعية كعلمائنا
الأخباريين(رضوان الله عليهم)، هؤلاء ينكرون جريان البراءة في الشبهات الحكمية في
الجملة، ولو في الشبهة التحريمية مثلاً، لكنّهم يعترفون بجريانها في الشبهات
الموضوعية، ومن هنا الأمر لا يخلو من اتفاق، أو شبه اتفاق على جريان البراءة
الشبهات الموضوعية. الشبهة التي جعلت هذا الشخص الذي ينقل عنه الشيخ الأنصاري(قدّس
سرّه) أنّه يشككّ، أو يجزم بعدم جريان البراءة في الشبهات الموضوعية هي شبهة أنّ
الشكّ في الشبهات الموضوعية هو ليس في التكليف الشرعي، ليس في جعل الحكم، فأنّ
الشكّ في أصل الحكم وفي جعله يجعل الشبهة شبهة حكمية، فالشك ليس في أصل التكليف،
فأنّه واضح ومعلوم ولا شكّ فيه، والجعل الشرعي معلوم ولا شكّ فيه، وإنّما الشكّ في
مرحلة الانطباق، الشكّ في الموضوع الخارجي، هل هذا خمر، أو خل ؟ هذا بول أو ماء.
عندما نشكّ أنّ هذا خمر أو خل ؟ الحكم معلوم، يعني إذا كان خمراً فهو معلوم
الحرمة، وإذا كان خلاً فالحكم هو الحلّية، ليس لدينا شكّ في هذا، وإنّما الشكّ في
الموضوع الخارجي، ودخول الموضوع الخارجي في هذا الموضوع المعلوم حكمه، أو ذاك
الموضوع المعلوم حكمه أيضاً، هل هو خمر حتّى يكون حراماً، أو هو خل حتّى يكون حلالاً،
فالشكّ في انطباق الموضوع المعلوم حكمه على هذا الفرد والموضوع الخارجي، وإلاّ لا
شكّ في الجعل، ولا في أصل التكليف، وعلى هذا الأساس بنى هذا الشخص على عدم جريان
أدلّة البراءة في الشبهات الموضوعية؛ لأنّ الشكّ فيها ليس شكّاً في أصل التكليف،
ولا في جعل الحكم الشرعي؛ ولذا لا تجري البراءة في الشبهات الموضوعية.
هذه
الشبهة كأنّها تستبطن تحديد الميزان في جريان البراءة، حيث
أنّه يفترض أنّ الميزان في جريان البراءة هو الشك في أصل التكليف، وهذا متحقق في الشبهات
الحكمية؛ ولذا لا إشكال في جريان البراءة فيها، وغير متحققّ في الشبهات الموضوعية؛
ولذا يقول أنّ أدلّة البراءة لا تشمل الشبهات الموضوعية، فكأنّ هذا الكلام يستبطن
تحديد ميزان جريان البراءة في مورد، وأنّ الميزان هو كون الشكّ في أصل التكليف،
وفي جعل الحكم من قبل الشارع، فإذا اختلّ هذا الميزان كما هو مختل كما يدّعي هو في
الشبهات الموضوعية، فلا تجري البراءة.
البحث
ينبغي أنْ يقع أوّلاً
في ما يدّعيه هذا الشخص من عدم جريان البراءة في الشبهات الموضوعية، وقلنا أنّه
يبدو أنّه لا إشكال في جريانها وبالاتفاق لا إشكال في جريان البراءة في الشبهات
الموضوعية في الجملة، ولا ينبغي إطالة البحث في هذا كما سيتّضح من خلال البحثين
القادمين. الكلام المهم ينبغي أنْ يقع في جهتين:
الجهة
الأولى:
أنّ أدلّة البراءة هل تشمل الشبهات الموضوعية بجميع أقسامها، أو أنّ ما يجري في الشبهات
الموضوعية هو بعض أقسام أدلّة البراءة ؟ بعد الفراغ عن أنّ أدلّة البراءة بجميع
أقسامها تجري في الشبهات الحكمية. هذه البراءة التي تجري بجميع أقسامها في الشبهات
الحكمية، هل تجري بجميع أقسامها أيضاً في الشبهات الموضوعية، أو لا ؟ أنّ الشبهات
الموضوعية تختص ببعض أدلّة البراءة، وإلاّ كما قلنا أنّ جريان البراءة في الجملة،
ولو بلحاظ بعض أقسامها ممّا لا ينبغي أنْ يقع فيه الإشكال، وإنّما نتكلّم في أنّ
هذا الدليل هل يجري في الشبهة الموضوعية، أو لا يجري ؟
الجهة
الثانية:
في تحديد الضابط للشبهة الموضوعية التي تجري فيها البراءة، ما هو الضابط الذي على
أساسه تجري البراءة في الشبهات الموضوعية.
وبعبارة
أخرى:
أنّ أدلّة البراءة هل تجري في جميع موارد الشبهات الموضوعية، أي أنّه هل تجري
البراءة في كل شبهة موضوعية، أو أنّ هناك ضابطاً لجريان البراءة في الشبهات
الموضوعية، إذا توفّر هذا الضابط في شبهة موضوعية التزمنا بجريان البراءة فيه،
إمّا جميع أقسام أدلّة البراءة، أو بعض أقسام أدلّة البراءة حسب النتيجة التي
ننتهي إليها في البحث الأوّل. فيقع الكلام في مقامين:
المقام
الأوّل:
أنّ أدلّة البراءة هل تجري بجميع أقسامها في الشبهات الموضوعية كما هو الحال في الشبهات
الحكمية، أو لا ؟
للجواب
عن هذا السؤال:
أوّلاً تكلّموا عن البراءة الشرعية ثمّ تكلّموا عن البراءة العقلية. أمّا البراءة
الشرعية، فقالوا أنّه لا إشكال في أنّه على الأقل بعض أدلتها فيها من الإطلاق
والشمول ما يجعلها صالحة لإثبات البراءة في الشبهات الموضوعية كما هي صالحة لإثبات
البراءة في الشبهات الحكمية، ومثّلوا لذلك بحديث الرفع، وبقوله تعالى
:﴿لا يكلّف الله نفساً إلاّ ما آتاها﴾.
[3]
حديث الرفع
(رفع عن أمتي ما لا يعلمون).
[4]
لا داعي لتخصيصه بخصوص الشبهات الحكمية، في الشبهات الموضوعية المكلّف أيضاً لا
يعلم ما هو حكمه، وإنْ كان المشكوك هو الحكم الجزئي كما يعبرون عنه، يعني لا يعلم
ما حكم هذا المايع، يترددّ عنده بين أنْ يكون خمراً، أو يكون خلاً، بالنتيجة هو لا
يعلم حكم هذا المايع، صحيح حكم هذا المايع الخارجي ليس حكماً كلّياً، لا نتوقع أنْ
يصدر فيه جعل، لكن بالنتيجة هو حكم مشكوك، فالحديث يقول: رفع ما لا يعلمون، فالحكم
الذي لا تعلم به مرفوع عنك، فيقال: أنّ هذا الحديث بإطلاقه كما يشمل الشبهات الحكمية
يشمل أيضاً الشبهات الموضوعية، لا يكلّف الله نفسا إلاّ ما آتاها، بناءً على إمكان
الاستدلال بها على البراءة، مئالها إلى أنّ الله(سبحانه وتعالى) لا يكلّف نفساً
إلاّ بما أعلمها، قالوا أنّ هذا أيضاً لا داعي لتخصيصه بخصوص الشبهات الحكميّة؛ بل
يشمل حتّى الشبهات الموضوعية. أضافوا إلى ذلك أنّ هناك بعض أدلة البراءة ممّا هو
مختص بالشبهات الموضوعية، أو أدُعي فيه الاختصاص بالشبهات الموضوعية، وإذا ناقشنا
في هذا فهو يشمل بإطلاقه الشبهات الموضوعية من قبيل الحديث المعروف وهو رواية عبد
الله بن سنان التي يقول فيها:
(كل شيء فيه حلال وحرام،
فهو لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه، فتدعه).
[5]
الشيخ الأنصاري(قدّس سرّه) في الرسائل
[6]
ذكر جملة من القرائن على اختصاص هذا الحديث بالشبهات الموضوعية، من هذه القرائن
تقسيمه إلى أنّ الشيء المشكوك فيه حلال وحرام، وذكر أنّ الذي يظهر من الحديث أنّ
منشأ الاشتباه والشك والتردد هو وجود هذين القسمين وتحققّهما في الخارج، وهذا لا
يكون إلاّ في الشبهات الموضوعية، وجود قسمين في الشبهات الموضوعية أحدهما حلال
والآخر حرام هو الذي دعاني إلى الاشتباه في هذا، بأنْ لا أعلم هل أنّه يدخل في
هذا، أو في ذاك، كما أنّ منشأ الشكّ في الشبهات الحكمية ليس هو وجود قسمين للشيء
أحدهما حلال والآخر حرام، فشكك في لحم الأرنب حلال، أو حرام لا علاقة له بوجود
حرام آخر، أو وجود حلال آخر، أنت تشك في أنّ لحم الأرنب حلال، أو حرام، لعدم النص،
أو لتعارض النصّين، أو إجمال النص. هذه الرواية وأمثالها من الروايات إمّا أنْ
يُدّعى أنّها مختصّة بالشبهات الموضوعية، أو أننّا إذا تنزلنا عن ذلك فهي بإطلاقها
تشمل الشبهات الموضوعية حتماً . ومن هنا لا ينبغي إطالة الكلام في أنّ بعض أدلّة
البراءة تشمل الشبهات الموضوعية.
نعم،
قد يستشكل في استفادة البراءة من هذه الأخبار(كل شيء فيه حلال وفيه حرام) مع
الاعتراف بأنّ موردها هو الشبهات الموضوعية، ووجه الإشكال هو دعوى أنّ هذه الأخبار
وإن كانت واردة في الشبهات الموضوعية، لكنّ موردها هو صورة العلم الإجمالي بقرينة
قوله في الرواية(فيه حلال وحرام، حتّى تعرف أنّه حرام) فيستفاد من الرواية
اختصاصها بموارد العلم الإجمالي، عندما تعلم إجمالاً بأنّ هذا أمره مردد بين
الحرام وبين الحلال، هذه الرواية تكون ناظرة إلى موارد العلم الإجمالي؛ حينئذٍ
يقال: هذه الرواية على تقدير الالتزام بمضمونها، وإنْ كانت تدل على جريان البراءة
في الشبهات الموضوعية البدوية غير المقرونة بالعلم الإجمالي، تدل على جريان
البراءة في محل الكلام بالأولوية؛ لأنّ البراءة إذا جرت مع العلم الإجمالي، فمن
بابٍ أولى أنْ تجري من دون العلم الإجمالي، إذا جرت في موارد الشكّ المقرون
بالعلم، فمن باب أولى أنْ تجري في موارد الشكّ الخالي، الشكّ غير المقرون بالعلم
الذي هو محل الكلام، لكن أصل جريانها في موارد العلم الإجمالي ممنوع؛ لما سيأتي
وما تقدّم أيضاً من أنّ البراءة لا تجري في موارد العلم الإجمالي. إذن: المدلول
المطابقي لهذا الخبر لا يمكن الالتزام به وهو جريان البراءة في موارد العلم
الإجمال، فإذا كان المدلول المطابقي لهذه الأخبار لا يمكن الالتزام به لا يمكننا
أنْ نثبت بالأولوية جريان البراءة في موارد الشكّ البدوي على نحو الشبهة الموضوعية
الذي هو محل الكلام.