الموضوع: الأصول العمليّة/ البراءة/ تنبيهات
البراءة/ قاعدة التسامح في أدلّة السنن
ثمّ
أنّه يمكن توجيه فتوى المشهور بالاستحباب مطلقاً بناءً على استفادة
الاستحباب النفسي للفعل بعنوان البلوغ إنْ قلنا بأنّه محل إشكال؛ إذ لا يمكن الجمع
بين الفتوى بالاستحباب مطلقاً وبين البناء على استفادة الاستحباب النفسي للفعل
بعنوان البلوغ. قيل بإمكان توجيه ذلك بافتراض حصول بلوغ الاستحباب بالنسبة إلى
المقلّد بنفس وصول الإفتاء إليه، فالمشكلة كانت في أنّ المقلّد لم يبلغه الثواب
على العمل، فكيف يثبت في حقّه الاستحباب والمفروض أنّ الاستحباب ثابت بعنوان
البلوغ، من بلغه ثواب على عمل يكون العمل مستحبّاً في حقّه، والعامّي المقلّد لم
يبلغه الثواب على العمل، فكيف يكون مستحبّاً في حقّه كما هو مقتضى الإفتاء بالاستحباب
مطلقاً، هذه كانت المشكلة.
التوجيه
يقول:
نستطيع أنْ نفترض تحققّ البلوغ بالنسبة إلى المقلّد؛ وذلك لأنّ بلوغ الثواب، أو
بلوغ الاستحباب بالنسبة إلى المقلّد يحصل بنفس وصول الإفتاء إليه، فإذا حصل بلوغ
الثواب بالنسبة إلى المقلّد يرتفع الإشكال؛ إذ لا مشكلة حينئذٍ في ثبوت الاستحباب
بالنسبة إلى المقلّد؛ لأنّ المقلّد تحققّ الشرط بالنسبة إليه؛ لأنّ الشرط كان هو
بلوغ الاستحباب إليه، والمفروض أنّه بوصول الإفتاء إليه يبلغه الاستحباب، فإذا
بلغه الاستحباب يكون ثبوت الاستحباب في حقّه بلا محذور.
قد
يُفسّر هذا التوجيه بأنّه في إفتاء الفقيه باستحباب العمل مطلقاً يوجد
أمران، ولو بالتحليل:
الأمر
الأوّل:
الفتوى بالكبرى الكلّية، بمعنى استحباب كل عملٍ على تقدير بلوغ الثواب عليه، قضيّة
كلّية حقيقيّة. هذه الفتوى لا إشكال في جوازها، على القاعدة بلا محذور كما تقدّم
سابقاً أنّ هذه الكبرى الكلّية مستنبطة من أخبار(من بلغ)، فيفتي باستحباب كل عملٍ
على تقدير بلوغ الثواب عليه.
الأمر
الثاني:
أنْ نفهم من الفتوى إخبار المقلّد بأنّ العمل الفلاني قد ورد ثواب عليه، وبذلك
يتحققّ البلوغ بالنسبة إلى المقلّد، فيثبت الاستحباب في حقّه.
لكن
يمكن التأمّل في هذا التوجيه، باعتبار أنّ المفروض أنّ المشهور
يفتي باستحباب العمل مطلقاً، في حقّ من بلغه الثواب ومن لم يبلغه الثواب لا أنّه
يفتي باستحباب العمل على تقدير البلوغ، ما يصل إلى المقلّد بحسب الفرض هو الفتوى
باستحباب العمل من دون تقييده بالبلوغ، ومن الواضح أنّ هذه الفتوى من دون تقييدٍ
بالبلوغ لا تنحلّ إلى هذين الأمرين المذكورين في الكلام السابق؛ لأنّه من جهةٍ ليس
فتوى بكبرى كلّية، ومن جهةٍ أخرى هو ليس إخباراً بتحققّ صغرى هذه الكبرى بالنسبة
إلى عملٍ معيّن، ليس إخباراً ببلوغ الثواب على هذا العمل بحيث يصدق البلوغ في حقّ
المقلّد؛ لأنّه يفتي بالاستحباب مطلقاً، إذا افترضنا أنّ الفتوى هي فتوى بالكبرى
الكلّية؛ فحينئذٍ لا تنسجم مع كونها إخباراً بتحققّ البلوغ؛ لأنّ الكبرى الكلّية
مرجعها إلى قضية شرطيّة، شرطها بلوغ الثواب وجزاؤها الاستحباب على تقدير البلوغ، ومن
الواضح أنّ القضية الشرطية لا تحققّ شرطها ولا تتعرّض إلى شرطها، ولا تكون إخباراً
عن تحققّه، وإنّما يؤخذ الشرط فيها على نحو الفرض والتقدير، على تقدير بلوغ الثواب
يثبت الاستحباب، فكيف تكون الفتوى بالكبرى الكلّية تستبطن الإخبار بتحققّ موضوعها،
يعني تساهم في تحققّ البلوغ وتكون إخباراً عن ترتب الثواب على العمل حتّى يتحققّ
البلوغ في حقّ المقلّد؛ لأنّ القضايا الشرطية لا تتعرّض إطلاقاً إلى تحققّ شرطها،
وإنّما يؤخذ الشرط فيها على نحو الفرض والتقدير لا أنّها تكون محققّة لشرطها،
فالفتوى إنْ كانت فتوى بالكبرى الكلّية؛ فحينئذٍ لا يمكن أنْ يقال أنّها تستبطن
الإخبار عن ترتّب الثواب على ذلك العمل، وبذلك تحققّ موضوعها الذي هو البلوغ.
وأمّا إذا كانت الفتوى ليست بالكبرى الكلّية كما هو المفروض في محل كلامنا،
المفروض أنّ الفتوى باستحباب العمل مطلقاً من دون تقييد بالبلوغ، وهذا كيف ينحل
إلى فتوى بالكبرى الكلّية، وإلى إخبار بترتّب الثواب على العمل الذي يكون هو
المحققّ للبلوغ بالنسبة إلى المقلّد؟
توضيح
في
المقام يوجد عندنا استحبابان، استحباب لا إشكال في ثبوته، وهو
الاستحباب المستفاد من أخبار(من بلغ) بناءً على استفادة الاستحباب النفسي من
أخبار(من بلغ) كما هو المفروض في محل الكلام بناءً على رأي المشهور الذي ذهب إلى
استفادة الاستحباب النفسي من أخبار(من بلغ)، بناءً على هذه الاستفادة يكون
الاستحباب ثابتاً وتدلّ عليه الأخبار المعتبرة التي هي عبارة عن أخبار(من بلغ).
وهناك استحباب مشكوك وغير ثابت وهو الاستحباب الذي يدلّ عليه الخبر الضعيف؛ لأنّ
الخبر الضعيف عندما يدلّ على ترتب الثواب على العمل يعني يدلّ على استحبابه بناءً
على الملازمة بين ترتّب الثواب على العمل وبين استحبابه ورجحانه، هذا استحباب للعمل
دلّ عليه الخبر الضعيف، هذا الاستحباب غير ثابت؛ لأنّ ما يدلّ عليه هو الخبر
الضعيف، والمفروض أننّا لا نستفيد من أخبار(من بلغ) حجّية الخبر الضعيف، وإنّما ما
نستفيده من أخبار(من بلغ) هو الاستحباب النفسي بعنوان البلوغ لا حجّية الخبر
الضعيف، فإذن: الاستحباب الذي هو مدلول الخبر الضعيف هو استحباب مشكوك فيه وغير
ثابت؛ لأنّ الخبر الضعيف هو الذي دلّ عليه.
وحينئذٍ
نقول:
تارةً نفترض أنّ المجتهد يفتي بالاستحباب الأوّل، يعني الاستحباب الذي دلّت عليه
أخبار(من بلغ) بناءً على استفادة الاستحباب منها كما هو المفروض، فهو يفتي
بالاستحباب الأوّل، يعني يفتي بالاستحباب الذي هو مدلول أخبار(من بلغ) التي هي
أخبار معتبرة، فهذه الفتوى جائزة بلا إشكال؛ لأنّ المفروض أنّ أخبار(من بلغ) حجّة
ومعتبرة، فإذا كان هو قد استنبط أنّ مفادها هو هذا، فبإمكانه أنْ يفتي باستحبابها
وهو أمر جائز بلا إشكال، لكن الإفتاء بمضمون أخبار(من بلغ) بناءً على رأي المشهور،
إنْ كانت ظاهراً ترجع إلى القضية الشرطية كما قلنا من أنّ مضمون أخبار(من بلغ) هو الاستحباب
النفسي على تقدير البلوغ، فمفادها ثبوت الاستحباب على نهج القضية الشرطية، فإذا
كان هذا مفادها حينئذٍ ترد الملاحظة السابقة وهي أنّ مثل هذا الإفتاء لهذه القضية
الشرطية، بهذه الكبرى الكلّية لا يمكن أنْ يكون محققّاً لموضوعه، أي للبلوغ
بالنسبة إلى المقلّد حتّى نتجاوز الإشكال السابق ونقول يثبت الاستحباب في حقّ
المقلّد؛ لأنّه بلغه الثواب على العمل بإفتاء المجتهد، بوصول الإفتاء إليه بلغه
الثواب، مع أننّا افترضنا أنّ ما يفتي به المجتهد هو القضية الشرطية، والقضية
الشرطية لا تحقق شرطها، أصلاً هي ليست ناظرة إلى تحققّ شرطها. وأمّا إذا فُرض أنّ
المجتهد يفتي بالاستحباب الثاني الذي هو مفاد الخبر الضعيف، فهذه الفتوى اساساً
غير جائزة، إذ كيف يفتي بمفاد خبرٍ لم تثبت حجّيته بحسب الفرض ؟ لأنّ المفروض أنّ
المشهور لا يستفيد جعل الحجّية للخبر الضعيف الدال على الاستحباب، فيبقى هذا الخبر
ضعيفاً، فكيف يفتي بمفاده مع عدم قيام دليلٍ معتبرٍ عليه.
قد
يقال:
في مقام تصحيح التوجيه لفتوى المشهور، نفترض في المقام أنّ ما يفتي به المجتهد هو
الاستحباب الأوّل، يعني الاستحباب المستفاد من أخبار(من بلغ) حتّى تكون فتواه
بدليلٍ معتبر؛ لأنّ أخبار(من بلغ) معتبرة بحسب الفرض، فهو يفتي بالاستحباب الأوّل،
لكن لا على نهج القضية الحقيقية، وإنّما يفتي بالاستحباب الفعلي للعمل، فهو لا
يفتي بالاستحباب الثاني حتّى لا نقع في محذور أنّها فتوى بلا دليل، ولا يفتي
بالاستحباب الأوّل على نهج القضية الحقيقية حتّى لا نقع في محذور أنّ القضية لا
تثبت شرطها، وإنّما يفتي بالاستحباب الفعلي للعمل؛ وحينئذٍ يقال: أنّ هذا الإفتاء
بالاستحباب الفعلي يحققّ البلوغ، بنكتة أنّ المقلّد يعرف أنّ المجتهد لا يفتي
بالاستحباب الفعلي للعمل إلاّ إذا ورده خبر على الاستحباب، أو دليل يدلّ على
الاستحباب، وإلاّ إذا لم يرده أي خبرٍ على الاستحباب هو لا يفتي بالاستحباب، بهذا
الاعتبار يكون إفتاء المجتهد بالاستحباب الفعلي للعمل محققّاً للبلوغ بالنسبة إلى
المقلّد؛ لأنّ المقلّد يعلم أنّ المجتهد لا يفتي بالاستحباب الفعلي إلاّ إذا ورده
خبر على الاستحباب وترتب الثواب؛ وحينئذٍ يتحققّ البلوغ بالنسبة إلى المقلّد بهذا
الاعتبار ونتخلّص من إشكال الفتوى بدليلٍ معتبر؛ لأنّه ليس الاستحباب الثاني،
وإنّما الاستحباب الأوّل يستفاد من أخبار(من بلغ) غاية الأمر أنّه لا يفتي
بالاستحباب على نهج القضية الشرطية، وإنّما يفتي بالاستحباب الفعلي للعمل، وهذا
الاستحباب الفعلي للعمل عند المقلّد لا يكون إلاّ إذا بلغ المجتهد خبر يدلّ على
استحباب الفعل، أو على ترتب الثواب عليه، وبوصول الإفتاء إلى المقلّد يصدق في حقّه
البلوغ، أي أنّ المقلّد قد بلغه ثواب على العمل؛ لأنّه يستكشف من الإفتاء وصول خبر
إلى المجتهد يدلّ على استحباب العمل وترتب الثواب عليه. هذا كأنّه يحقق البلوغ
بالنسبة إلى المقلّد، فيكون المقلّد قد بلغه استحباب العمل، أو ترتّب الثواب عليه،
فيثبت في حقّه الاستحباب بمجرّد وصول الإفتاء إليه. نعم، من لم يصله الإفتاء لا
يتحققّ البلوغ في حقّه، وبالتالي لا يثبت الاستحباب في حقّه.
هذا
التوجيه أيضاً قابل للملاحظة والتأمّل: باعتبار أنّه حتّى إذا فسّرنا
الفتوى بما ذُكر، يعني فتوى بالاستحباب الفعلي المستفاد من أخبار(من بلغ) لكن لا
يفتي بالاستحباب على نهج القضية الشرطية؛ بل يفتي بالاستحباب الفعلي، حتّى لو
فسّرناه بذلك، فهو لا يحققّ البلوغ بالنسبة إلى المقلّد، وذلك لوضوح أنّ المقلّد
من أين يعرف أنّ مدرك ومستند هذه الفتوى بالاستحباب الفعلي هو وصول خبر إلى
المجتهد يدلّ على ترتب الثواب على ذلك العمل، وبالتالي استحباب ذلك العمل ؟ إذا
كان المقلّد من أهل الإطّلاع، فينبغي أنْ يحتمل إلى جانب ذلك احتمال أنْ يكون مدرك
هذه الفتوى هو ــــــ فرضاً ــــــ الشهرة، أو شيء آخر محتمل؛ بل هناك احتمالات
أخرى يستند إليها المجتهد لإثبات الاستحباب.